yasmeen
06-26-2011, 10:42 PM
http://s.alriyadh.com/2011/06/26/img/754239013835.jpg
د. إبراهيم المطرودي*
لفحت وجهي السموم، كأني في الدهنا مقيم، حين التقطت عيناي حكاية المرأة المقيمة في مكة، تلك المرأة التي وجدت بفقر تلك الأخوات فرصا استثمارية، تمنحها الثراء، لقد عاشت تلك المرأة على فرص، خلقتها حاجات تلك الأخوات، حاجات صنعها الفقر، الفقر الذي طالما عرّى قيم الإنسان، وأذهله عن مبادئه ومثله، الفقر الذي تعوّذ منه الحبيب عليه الصلاة والسلام ، ورُوي في الأثر عنه:" كاد الفقر أن يكون كفرا".
حين قرأت الخبر قفز في ذاكرتي رجلٌ من دولة، ليست ببعيدة عنا، فقد كنّا في زيارة لمدينته، فرابنا شيء، فقلنا له، فقال ولم يُبدِ غرابة : ما تفعله هذه المرأة خير من السرقة، عشتُ وعاشت في نفسي مقولته، عشتُ مثاليا، لا أصدق أن يقع الإنسان فريسة فقره؛ لكن شاء الله تعالى أن تنهض قولته من جديد في بالي، وأنا أقرأ خبر تلك الأخوات في مكة، فقلت في نفسي: أظنهن آثرن بيع أعراضهن وهن المطلقات على أن يسرقن لحاجاتهن الضرورية!
إنه مشهد رهيب، أن ترى الإنسان يضحي بمبادئه وقيمه؛ ليعيش حياة كريمة!، مشهد تختلط فيه دفقة الرحمة بغضبة الضمير؛ لكنه الواقع الذي نسمعه عن نساء أخريات في هذا العالم، وحدّثتنا به الأحداث هذه الأيام عن أخواتنا، نحن الذين من بضاعتنا العزيزة على قلوبنا "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" نحن الذين من ثقافتنا النظرية " ما يؤمن من بات شبعان، وجاره طاوٍ إلى جنبه".
ما أكثر كلامنا! ما أعظم تنظيرنا! ها هي أخواتنا لم يبتن في ليلة جياعا، إنما بِتن يبعن أعراضهن، رجاء أن يظفرن وهن أمهات الأولاد بمائتي ريال أوثلاثمائة، إنهن أمهات، يتعرضن لأخطار شتّى في تلك السبيل الموحلة، ومع ذلك ينقدن إلى حيث سمعنا، أيها الأخوة، من هي تلك المرأة التي تبيع عرضها بثمن بخس كهذا؟ أترون تلك الأخوات لو ملكن حاجاتهن يقعن طرائد بشرية لذوي القلوب الخربة؟ حسن ظني بالإنسان وليس بالمسلم يمنع عن خاطري التفكير في سبب آخر غير الفقر، قادهن إلى شيء تأباه جبلة الإنسان.
في الإعلام صحبت قصةَ نساء مكة حكايةٌ أخرى، إنها حكاية صبايا جدة، ولا أخفي عليكم شيئا، فلم تقلقني قصة رجل جدة مثلما أزعجتني قصة تلك المقيمة في مكة، وليس ذلك قلة رحمة فيّ لتلك الفتيات، لكني نظرت في الحادثتين نظر من يبحث عن دوره في حدوثهما، فأما حكاية مكة، فأيقنت أن لي دورا كبيرا، سأسأل عنه، وأما في قصة جدة لم أجد خيطا في الحادثة
يقودني إلى نفسي، وهذا في نظري الفرق بين من تتملكه العاطفة، ومن يتملكه في النظر العقل، من ينظر بعاطفته ستزعجه إزعاجا رهيبا حادثة جدة، حادثة تلك الفتيات البريئات، وربما لن يحفل بقصة مكة، فتلك نسوة بلغن من العمر عتيا، مما يجعل بعضنا ينظر إليهن نظرة احتقار وامتهان، كيف يبلغ بهن الأمر إهدار أعراضهن؟ إنّ صبايا جدة لم يندفعن لحاجة، ظهرت منهن لم يقم المجتمع بدوره في سدّها، لا يجد الناظر في حادثة هؤلاء الطفلات شيئا، يعزو به البلاء إلى المجتمع، فالمجتمع تقريبا بريء في تلك الجريمة؛ لكننا حين ننظر إلى مأساة الأخوات في مكة تختلف الصورة الماثلة، فثمة نقص دفعن بهن إلى ذلكم النفق المظلم، نقص كان في مقدور المجتمع أن يجبره، نقص كان المجتمع مسؤولا عنه فتركه، هكذا يجمل بنا أن ننظر إلى قضايا الناس في مجتمعنا.
إنّ هذه المشكلة التي وقعت عليها يد الهيئة تُظهر لنا أسئلة مهمة حول الدور الذي تقوم به الجمعيات الخيرية والمبرات، أسئلة تدفعنا ونحن الحريصون على الإصلاح إلى التقصي وراء الدوافع التي رمت بتلك الأخوات إلى تلك المزالق، أهنّ اندفعن هوى وفسادا أم قادتهن الحاجات التي لم يجدن من يُعينهن عليها؟
ما زلت أذكر رجلا مقداما قدم من الخرج في جمعة من جمع الصيف، جاء من الخرج حتى يعرض في مسجد من مساجد الرياض على المصلين التبرع لمكتب من مكاتب الدعوة والإرشاد هناك، حين تمر بنفسي تلك الحادثة، أتساءل أين العاملون في الجمعيات الخيرية عن مثل ذلك؟ لماذا ينتظرون المتبرعين في مكاتبهم؟
لماذا يضع بعضهم الإعلانات، ولا يفكر في المجيء إلى الناس في المساجد مثلا؟ لماذا يبحث عنهم الفقير والمحتاج ولا يبحثون عنه؟ أليس من مهام الجمعيات البحث عن المستهدف من وراء قيامها؟ الباحثون عن تجميع رأسمال المال اخترعوا فكرة: اتصل نصل، فأين الجمعيات والمبرات عن هذه الدرب، وهم الذين يسعون لحماية رأس المال الديني والأخلاقي؟ إنّ الجمعيات والمبرات تشارك بدور كبير في تنفيذ المقالة الشهيرة: درهم وقاية خير من قنطار علاج.
وإذا كان تفعيل دور الجمعيات الخيرية يساعد في حل مثل تلك الظواهر التي نأباها، فإن تفعيل العقل الفقهي يساعد في تلافي مثل هذه التحديات الاجتماعية، وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فقد تعرضت في مقال سابق للقاعدة الشرعية في سد الذرائع، والسؤال الذي يقوم في نفسي ولا يقعد: أين هذه القاعدة الشرعية في سد الذرائع عن مواجهة مثل هذه المشكلات الاجتماعية؟ لماذا يكثر توظيف هذه القاعدة في المنع دون العمل وإيجابه على الناس؟
إن الفقر سبب لكل بلاء، إنه سبب لبلاء محقق، وليس متوهما، بلاء كشفته الدراسات العالمية، فأين العقل الفقهي عن اتخاذ إجراءات فقهية، تساعد في حل هذه المعضلات الاجتماعية؟
إنّ الدولة تسعى جاهدة لمحاربة الفقر، يسعى قادتها السياسيون إلى مدافعة أضراره وأخطاره عن الناس، أفلا يتحرك قادتها من الفقهاء إلى مثل ذلك، مستندين إلى هذه القاعدة الشرعية وإلى النصوص التي كان منها " ما يؤمن من بات شبعان، وجاره طاوٍ إلى جنبه"؟ حينها يظهر العقل الفقهي عونا للإنسان على حياته الكريمة، حينها يظهر الفقه الإسلامي إنسانيا، وليس فقط مجموعة من الطلبات والأوامر والزواجر، التي أجادت الثقافة نقلها، ولم تستطع أن تضيف إليها شيئا، حينها يتقارب العقلان في خدمة الإنسان؛ العقل السياسي والعقل الفقهي.
إنّ من فنون الدعوة أن يتقرب المرء إلى المدعو بما يستطيع، أفلا يستحق المسلم أصالة أن يُظهر له من الدين الجانب الذي يوضح حدب الدين عليه دنيويا؟ من الجميل أن نرحم الإنسان الذي لا يعرف الإسلام، فنتحنن إليه؛ لكن المسلم الأصلي أولى بذلك كله، إذا تاهت به الدروب في هذه الحياة، إنّ من يتكلم عن فنون الدعوة مع الآخرين، ويدع الأقربين، كمن يستصلح جيرانه، ويذر أولاده!
* كلية اللغة العربية - جامعة الإمام
http://s.alriyadh.com/2011/06/26/img/945957145472.jpg
د. إبراهيم المطرودي
د. إبراهيم المطرودي*
لفحت وجهي السموم، كأني في الدهنا مقيم، حين التقطت عيناي حكاية المرأة المقيمة في مكة، تلك المرأة التي وجدت بفقر تلك الأخوات فرصا استثمارية، تمنحها الثراء، لقد عاشت تلك المرأة على فرص، خلقتها حاجات تلك الأخوات، حاجات صنعها الفقر، الفقر الذي طالما عرّى قيم الإنسان، وأذهله عن مبادئه ومثله، الفقر الذي تعوّذ منه الحبيب عليه الصلاة والسلام ، ورُوي في الأثر عنه:" كاد الفقر أن يكون كفرا".
حين قرأت الخبر قفز في ذاكرتي رجلٌ من دولة، ليست ببعيدة عنا، فقد كنّا في زيارة لمدينته، فرابنا شيء، فقلنا له، فقال ولم يُبدِ غرابة : ما تفعله هذه المرأة خير من السرقة، عشتُ وعاشت في نفسي مقولته، عشتُ مثاليا، لا أصدق أن يقع الإنسان فريسة فقره؛ لكن شاء الله تعالى أن تنهض قولته من جديد في بالي، وأنا أقرأ خبر تلك الأخوات في مكة، فقلت في نفسي: أظنهن آثرن بيع أعراضهن وهن المطلقات على أن يسرقن لحاجاتهن الضرورية!
إنه مشهد رهيب، أن ترى الإنسان يضحي بمبادئه وقيمه؛ ليعيش حياة كريمة!، مشهد تختلط فيه دفقة الرحمة بغضبة الضمير؛ لكنه الواقع الذي نسمعه عن نساء أخريات في هذا العالم، وحدّثتنا به الأحداث هذه الأيام عن أخواتنا، نحن الذين من بضاعتنا العزيزة على قلوبنا "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" نحن الذين من ثقافتنا النظرية " ما يؤمن من بات شبعان، وجاره طاوٍ إلى جنبه".
ما أكثر كلامنا! ما أعظم تنظيرنا! ها هي أخواتنا لم يبتن في ليلة جياعا، إنما بِتن يبعن أعراضهن، رجاء أن يظفرن وهن أمهات الأولاد بمائتي ريال أوثلاثمائة، إنهن أمهات، يتعرضن لأخطار شتّى في تلك السبيل الموحلة، ومع ذلك ينقدن إلى حيث سمعنا، أيها الأخوة، من هي تلك المرأة التي تبيع عرضها بثمن بخس كهذا؟ أترون تلك الأخوات لو ملكن حاجاتهن يقعن طرائد بشرية لذوي القلوب الخربة؟ حسن ظني بالإنسان وليس بالمسلم يمنع عن خاطري التفكير في سبب آخر غير الفقر، قادهن إلى شيء تأباه جبلة الإنسان.
في الإعلام صحبت قصةَ نساء مكة حكايةٌ أخرى، إنها حكاية صبايا جدة، ولا أخفي عليكم شيئا، فلم تقلقني قصة رجل جدة مثلما أزعجتني قصة تلك المقيمة في مكة، وليس ذلك قلة رحمة فيّ لتلك الفتيات، لكني نظرت في الحادثتين نظر من يبحث عن دوره في حدوثهما، فأما حكاية مكة، فأيقنت أن لي دورا كبيرا، سأسأل عنه، وأما في قصة جدة لم أجد خيطا في الحادثة
يقودني إلى نفسي، وهذا في نظري الفرق بين من تتملكه العاطفة، ومن يتملكه في النظر العقل، من ينظر بعاطفته ستزعجه إزعاجا رهيبا حادثة جدة، حادثة تلك الفتيات البريئات، وربما لن يحفل بقصة مكة، فتلك نسوة بلغن من العمر عتيا، مما يجعل بعضنا ينظر إليهن نظرة احتقار وامتهان، كيف يبلغ بهن الأمر إهدار أعراضهن؟ إنّ صبايا جدة لم يندفعن لحاجة، ظهرت منهن لم يقم المجتمع بدوره في سدّها، لا يجد الناظر في حادثة هؤلاء الطفلات شيئا، يعزو به البلاء إلى المجتمع، فالمجتمع تقريبا بريء في تلك الجريمة؛ لكننا حين ننظر إلى مأساة الأخوات في مكة تختلف الصورة الماثلة، فثمة نقص دفعن بهن إلى ذلكم النفق المظلم، نقص كان في مقدور المجتمع أن يجبره، نقص كان المجتمع مسؤولا عنه فتركه، هكذا يجمل بنا أن ننظر إلى قضايا الناس في مجتمعنا.
إنّ هذه المشكلة التي وقعت عليها يد الهيئة تُظهر لنا أسئلة مهمة حول الدور الذي تقوم به الجمعيات الخيرية والمبرات، أسئلة تدفعنا ونحن الحريصون على الإصلاح إلى التقصي وراء الدوافع التي رمت بتلك الأخوات إلى تلك المزالق، أهنّ اندفعن هوى وفسادا أم قادتهن الحاجات التي لم يجدن من يُعينهن عليها؟
ما زلت أذكر رجلا مقداما قدم من الخرج في جمعة من جمع الصيف، جاء من الخرج حتى يعرض في مسجد من مساجد الرياض على المصلين التبرع لمكتب من مكاتب الدعوة والإرشاد هناك، حين تمر بنفسي تلك الحادثة، أتساءل أين العاملون في الجمعيات الخيرية عن مثل ذلك؟ لماذا ينتظرون المتبرعين في مكاتبهم؟
لماذا يضع بعضهم الإعلانات، ولا يفكر في المجيء إلى الناس في المساجد مثلا؟ لماذا يبحث عنهم الفقير والمحتاج ولا يبحثون عنه؟ أليس من مهام الجمعيات البحث عن المستهدف من وراء قيامها؟ الباحثون عن تجميع رأسمال المال اخترعوا فكرة: اتصل نصل، فأين الجمعيات والمبرات عن هذه الدرب، وهم الذين يسعون لحماية رأس المال الديني والأخلاقي؟ إنّ الجمعيات والمبرات تشارك بدور كبير في تنفيذ المقالة الشهيرة: درهم وقاية خير من قنطار علاج.
وإذا كان تفعيل دور الجمعيات الخيرية يساعد في حل مثل تلك الظواهر التي نأباها، فإن تفعيل العقل الفقهي يساعد في تلافي مثل هذه التحديات الاجتماعية، وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فقد تعرضت في مقال سابق للقاعدة الشرعية في سد الذرائع، والسؤال الذي يقوم في نفسي ولا يقعد: أين هذه القاعدة الشرعية في سد الذرائع عن مواجهة مثل هذه المشكلات الاجتماعية؟ لماذا يكثر توظيف هذه القاعدة في المنع دون العمل وإيجابه على الناس؟
إن الفقر سبب لكل بلاء، إنه سبب لبلاء محقق، وليس متوهما، بلاء كشفته الدراسات العالمية، فأين العقل الفقهي عن اتخاذ إجراءات فقهية، تساعد في حل هذه المعضلات الاجتماعية؟
إنّ الدولة تسعى جاهدة لمحاربة الفقر، يسعى قادتها السياسيون إلى مدافعة أضراره وأخطاره عن الناس، أفلا يتحرك قادتها من الفقهاء إلى مثل ذلك، مستندين إلى هذه القاعدة الشرعية وإلى النصوص التي كان منها " ما يؤمن من بات شبعان، وجاره طاوٍ إلى جنبه"؟ حينها يظهر العقل الفقهي عونا للإنسان على حياته الكريمة، حينها يظهر الفقه الإسلامي إنسانيا، وليس فقط مجموعة من الطلبات والأوامر والزواجر، التي أجادت الثقافة نقلها، ولم تستطع أن تضيف إليها شيئا، حينها يتقارب العقلان في خدمة الإنسان؛ العقل السياسي والعقل الفقهي.
إنّ من فنون الدعوة أن يتقرب المرء إلى المدعو بما يستطيع، أفلا يستحق المسلم أصالة أن يُظهر له من الدين الجانب الذي يوضح حدب الدين عليه دنيويا؟ من الجميل أن نرحم الإنسان الذي لا يعرف الإسلام، فنتحنن إليه؛ لكن المسلم الأصلي أولى بذلك كله، إذا تاهت به الدروب في هذه الحياة، إنّ من يتكلم عن فنون الدعوة مع الآخرين، ويدع الأقربين، كمن يستصلح جيرانه، ويذر أولاده!
* كلية اللغة العربية - جامعة الإمام
http://s.alriyadh.com/2011/06/26/img/945957145472.jpg
د. إبراهيم المطرودي