مجاهدون
11-12-2004, 08:10 AM
أمير طاهري
مات عرفات، ولم يكن الرئيس الوحيد الذي يستغرق وقتا طويلا للوداع الأخير. فالإمبراطور أوغسطس، الذي حكم سبعين سنة، استغرق عاما كاملا ليستسلم للموت، والملكة فكتوريا جعلت رعاياها في كل القارات الخمس، يعضون بنان الحيرة، لمدة 4 أشهر قبل أن تعبر نهر أستيكس المرعب.
وإذا تقدمنا قليلا في الزمن، نجد أن جوزيف ستالين، القيصر الأحمر، ترك الناس كلهم يخمنون لمدة 11 أسبوعا، قبل أن يرسل أحد أعوانه المخلصين، غريغوري مالنكوف، الإشارة للبروليتاريا العالمية لتتحد في البكاء. أما الجنرال فرانسيسكو فرانكو، الدكتاتور الإسباني، فقد استغرق 4 أشهر ليسلم الروح، مما أخر مقدم الديمقراطية فصلا كاملا. وكان شقيقه في الطغيان، الدكتاتور البرتغالي سلازار، مبطئا أيضا في مصافحة الموت، الذي طواه بعد عام كامل من المراوغة.
وفي الثمانينات، قضى المتخصصون في شؤون الكرملين زمنا طويلا وهم يخمنون من من القيادة السوفياتية الطاعنة في السن والمتأرجحة على حافة الموت، سيودع قبل الآخرين. قضى ليونيد بريجنيف 5 سنوات في حالة الاحتضار، مع أن البعض كان يعتقد أنه ولد ميتا. وكان خلفه، قسطنطين شيرننكو مشرفا فعلا على الموت عندما استولى على دفة السفينة الروسية الغارقة. ولم تكن الفترة التي قضاها في الحكم سوى وداع طويل ورتيب. وقد حكم خليفته يوري أندروبوف، 3 سنوات، قضى 18 شهرا منها، يحمل في جسده أجهزة لعلاج الكلى.
ويبدو أن عملية الموت تستغرق وقتا أطول في المجتمعات المغلقة. فقد أعلن موت الطاغية الصيني ماو تسي دونغ، وخليفته الإصلاحي دينغ زياوبنغ، اكثر من 10 مرات، خلال عدة سنوات. ولا يوجد حتى الآن من يعرف متى ماتا بالضبط، أو كما يعتقد بعض الصينيين، أنهما ما يزالان موجودين حتى اليوم، مع إلفيس بريسلي، ربما. وأنباء موت آية الله الخميني، الثيوقراطي الإيراني، كتمت لمدة 76 ساعة، لإعطاء الملالي الوقت الذي يحتاجونه للاتفاق على الخلف.
أما في المجتمعات المفتوحة فإن كتم موت الزعماء يعتبر أمرا مستحيلا، كما أنه ليس ضروريا. هو مستحيل لأنه يوجد دائما من يسرب الأخبار، وهو يعرف أنه، إذ يفعل ذلك، لن يذهب إلى الغولاق أو المشنقة. وهو ليس ضروريا لأن الفرد، مهما كان قدره وعظمته، لا يكون الإستغناء عنه بهذه الصعوبة. فهذه المجتمعات توصلت إلى قوانين معروفة للإحلال السياسي. فقد مات الرئيس فرانكلين روزفيلت، أثناء الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك فإن موته أذيع بعد دقائق معدودة من وفاته، بفضل المذيع إيد مارو. وقد شاهد الأميركيون الرئيس جون كيندي وهو يتعرض الى الإغتيال في صور حية على التلفزيون.
الذين يبطئون في الموت يمكن أن يشغلوا العناوين العريضة لعدة أسابيع، بل لعدة شهور. وباستثناء عدد ضئيل منهم، فإن أغلبهم يطويهم النسيان. وعلى سبيل المثال هل سمعت بميخائيل سفردلوف؟ لا. حسنا كان هذا الرجل رئيسا للاتحاد السوفياتي ومات موتا بطيئا. وربما سمعت بفرانسوا دوفالير، أو بابا دوك، الساحر الشرير، الذي كان رئيسا لجزيرة هايتي، وقد كان من المبطئين في الموت، وكان حكمه مزيجا من السحر الاسود ومناهج المافيا وأساليبها.
ثمة حقيقة واحدة لا شك فيها: الواقعة الوحيدة التي لا يمكن إخفاؤها هي الموت. ومع أن الموت أمر صعب، إلا أن الدفن يكون في بعض الأحيان أكثر صعوبة. ويفيض التاريخ بحوادث الموتى الذين لم يجدوا إذنا بالدفن، والجثث التي نبشت من الأرض، والموتى الذين كان عليهم أن ينتظروا أعواما طويلة حتى يجدوا مأوى نهائيا لأجسادهم.
وإذا اخترنا التعميم فإننا يمكن أن نقسم الحضارة إلى نوعين: أولئك الذين يثيرون المعارك حول موت الزعيم، وأولئك الذين يتركونه لمصيره الأخروي. كان المصريون القدماء من مثيري الزوابع الكبيرة عند موت الزعماء، وهذا ما تشهد به الإهرامات التي بنيت لإقامة الفراعنة، دون أن يتنبأوا بأن هذه الإهرامات ستتحول مع الزمن إلى مخابئ للصوص وحفاري القبور، وأخيرا، لسارقي الآثار من الغربيين.
ولكن الفرس القدماء كانوا على العكس من ذلك، فالملك الذي يموت، لا تثار ضجة كبيرة حول مصيره. وكانت جثته توضع وتعرض على تلة تسمى داكسماه، وتترك هناك لتنهشها الجوارح والوحوش. وكانت الفكرة وراء ذلك أن الأرض يجب ألا تتعرض للتلوث من قبل الموتى. الطريقة الأخرى للموت هي التعرض للزوابع الرعدية. وهذا ما فعله كاي-خسرو، عندما شعر أن أوان الفراق قد أزف. فقد دعا النخبة الإيرانية وسار معهم تجاه قمة جبل دامافاند. وعندما وصلوا إلى نقطة معينة طلب منهم التوقف وواصل وحده نحو القمة، وهو يدفن خطاياه، المفترض أنها سوداء، في أعماق الثلوج البيضاء.
وعلى عكس ما يدعيه الوزراء الإسرائيليون، فإن اليهود أيضا كانوا متساهلين إزاء الدفن. فالمقبرة التي دفن فيها الأنبياء والملوك الذين وردت أسماؤهم في العهد القديم، ظلت مجهولة حتى الآن. وحتى الأماكن التي قيل أنها كانت مقابر، نشب حولها جدل استمر قرونا، ومع افتقار الأطراف جميعا للدليل الذي يسند حججها. وقد نبش جسد النبي دانيال أثناء الليل، من بابل وأحضر إلى سوزا، في الجنوب الغربي من إيران، حيث يرقد تحت قبة أسطوانية عجيبة. وباعتبار اليهود موحدين متعصبين، فإنهم كانوا ينظرون إلى بناء المعابد كإساءة للواحد المتعالي.
مات الإسكندر في غيدروسيا، أي بلوشستان الحالية، وربما تكون الدسنطاريا هي سبب الوفاة، ولكن جنرالاته احتفظوا بنبأ موته سرا حتى وصلوا إلى بابل حيث دفن هناك. ولكن بعد عدة سنوات، عندما نشبت النزاعات بين جنرالاته، سرقت جثته من القبر واختفت في ظروف مجهولة. وقد ظهر منذ ذلك الوقت، أكثر من اثني عشر موقعا، من وسط آسيا وحتى البحر الأبيض المتوسط، يدعي أصحابها أنها اصبحت المثوى الأخير للإسكندر العظيم. وفي كل مرة يكرر فيها الإدعاء بأن جسد الإسكندر يرقد هنا، كانت أسواق الأراضي تروج رواجا شديدا وترتفع أسعارها ارتفاعا غير عادي في تلك الناحية.
الصينيون أيضا كانوا يهتمون اهتماما كبيرا بمراسم الدفن. وقد بنى الإمبراطور كبلا خان، ضريحا لامعا في زانادو الأسطورية. وقد كان تاريخ الصين مضطربا للدرجة التي لم تسمح للموتى أنفسهم بالراحة الأبدية. فقد كان أول ما يفعله الطاغية الجديد هو إخراج الطاغية الذي سبقه ليستخدم الضريح مدفنا له بعد عمر طويل. ولكن فقط بعد استيلاء الشيوعيين على السلطة، عادت الضوضاء من جديد لتحيط بالموت و الدفن.
أما بالنسبة للحضارات الهندية العريقة، فإنها يجب أن تصنف ضمن من لا يثيرون كثيرا من اللغط حول الموت أو الدفن. فقد كان الموتى يحرقون وينشر رمادهم فوق نهر الجنغيز. وهذا هو السبب في إن معظم الأضرحة والمعابد في الهند بناها الغزاة والمحتلون الأجانب.
يحدث في بعض الأحيان أن يدفن الشخص الواحد في موقعين مختلفين، على الأقل بالنسبة للخيال الشعبي. هذا ما يصح على حالة علي بن ابي طالب، الخليفة الرابع، الذي يعتقد أنه دفن في موقعين، أحدهما في النجف، والآخر في مزار الشريف بأفغانستان.
أحد الذين اشتهروا بنزع الموتى من القبور، هو إيفان الرهيب، الذي دمر مملكة التتار الإسلامية، واقتحم عاصمتها كازان، وأحضر قادة التتار إلى موسكو ليعدمهم. وتمثل القباب التسع في كنيسة القديس باسل بموسكو، الرؤوس المقطوعة لهؤلاء الزعماء التتار التسعة.
وقد منعت المناورات البريطانية والروسية دفن نابليون، الذي مات وهو أسير في جزيرة سانت هيلين، من الدفن في لي إنفاليد، كما جاء في وصيته.
أثناء الثورة البلشفية أمر لينين بقتل كل عائلة القيصر نيقولا الثاني، ولكنه لم يكشف عن موقع دفنهم. وبعد سبعة عقود، وبعد أن دفن الشعب الروسي، النظام الشيوعي، في مقبرة معروفة للجميع، اكتشفت المقابر السرية، وأعيد دفن القيصر وأسرته بصورة تليق بمقامهم، وبكل مظاهر الأبهة والشرف.
توفي أحمد شاه، الملك الأخير للغجر في فارس، في المنفى في باريس. وقد أرسلت جثته للدفن في إيران. ولكن السفينة التي تحمله رجعت في منتصف رحلتها، لأن عائلة بهلوي رفضت عودة الملك المخلوع حتى وهو جثة هامدة. وبعد عقدين فقط، جاء دور رضا شاه، مؤسس المملكة الشاهنشاهية ليموت خارج بلاده ويدفن في جنوب إفريقيا. وقد رفض له أن يدفن في إيران، فدفن في القاهرة، وبقيت جثته هناك لمدة أربع سنوات حتى دفن مؤخرا في طهران. ولكن راحته لم تكن ابدية، فبعد ثلاثة عقود هاجم الملالي بتوجيه من الخميني ضريحه وأخذوا بقاياه إلى مكان مجهول.
خليفة الشاه، محمد رضا بهلوي، أسقط هو الآخر من الحكم، ومات في المنفى. وفي عام 1981، وبعد أن رفض الخميني دفن الشاه في وطنه، دفن الأخير في القاهرة، بصورة مؤقتة، وقد استمرت الصورة المؤقتة حتى الآن، أي 24 سنة.
الكاتب البريطاني في القرن الثامن عشر، السير توماس براون، ألف كتابا يوضح فيه أن كل رجل أو إمراة سيدفن في الموقع الذي يقرره له القدر. وقال إن المكان الافضل، هو في نفس الوقت المكان الأصغر حيث يمكن وضع بقايا الميت العزيز، بالقرب من باقة الزهور الجديدة، دون أن يلاحظ أحد شيئا.
مات عرفات، ولم يكن الرئيس الوحيد الذي يستغرق وقتا طويلا للوداع الأخير. فالإمبراطور أوغسطس، الذي حكم سبعين سنة، استغرق عاما كاملا ليستسلم للموت، والملكة فكتوريا جعلت رعاياها في كل القارات الخمس، يعضون بنان الحيرة، لمدة 4 أشهر قبل أن تعبر نهر أستيكس المرعب.
وإذا تقدمنا قليلا في الزمن، نجد أن جوزيف ستالين، القيصر الأحمر، ترك الناس كلهم يخمنون لمدة 11 أسبوعا، قبل أن يرسل أحد أعوانه المخلصين، غريغوري مالنكوف، الإشارة للبروليتاريا العالمية لتتحد في البكاء. أما الجنرال فرانسيسكو فرانكو، الدكتاتور الإسباني، فقد استغرق 4 أشهر ليسلم الروح، مما أخر مقدم الديمقراطية فصلا كاملا. وكان شقيقه في الطغيان، الدكتاتور البرتغالي سلازار، مبطئا أيضا في مصافحة الموت، الذي طواه بعد عام كامل من المراوغة.
وفي الثمانينات، قضى المتخصصون في شؤون الكرملين زمنا طويلا وهم يخمنون من من القيادة السوفياتية الطاعنة في السن والمتأرجحة على حافة الموت، سيودع قبل الآخرين. قضى ليونيد بريجنيف 5 سنوات في حالة الاحتضار، مع أن البعض كان يعتقد أنه ولد ميتا. وكان خلفه، قسطنطين شيرننكو مشرفا فعلا على الموت عندما استولى على دفة السفينة الروسية الغارقة. ولم تكن الفترة التي قضاها في الحكم سوى وداع طويل ورتيب. وقد حكم خليفته يوري أندروبوف، 3 سنوات، قضى 18 شهرا منها، يحمل في جسده أجهزة لعلاج الكلى.
ويبدو أن عملية الموت تستغرق وقتا أطول في المجتمعات المغلقة. فقد أعلن موت الطاغية الصيني ماو تسي دونغ، وخليفته الإصلاحي دينغ زياوبنغ، اكثر من 10 مرات، خلال عدة سنوات. ولا يوجد حتى الآن من يعرف متى ماتا بالضبط، أو كما يعتقد بعض الصينيين، أنهما ما يزالان موجودين حتى اليوم، مع إلفيس بريسلي، ربما. وأنباء موت آية الله الخميني، الثيوقراطي الإيراني، كتمت لمدة 76 ساعة، لإعطاء الملالي الوقت الذي يحتاجونه للاتفاق على الخلف.
أما في المجتمعات المفتوحة فإن كتم موت الزعماء يعتبر أمرا مستحيلا، كما أنه ليس ضروريا. هو مستحيل لأنه يوجد دائما من يسرب الأخبار، وهو يعرف أنه، إذ يفعل ذلك، لن يذهب إلى الغولاق أو المشنقة. وهو ليس ضروريا لأن الفرد، مهما كان قدره وعظمته، لا يكون الإستغناء عنه بهذه الصعوبة. فهذه المجتمعات توصلت إلى قوانين معروفة للإحلال السياسي. فقد مات الرئيس فرانكلين روزفيلت، أثناء الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك فإن موته أذيع بعد دقائق معدودة من وفاته، بفضل المذيع إيد مارو. وقد شاهد الأميركيون الرئيس جون كيندي وهو يتعرض الى الإغتيال في صور حية على التلفزيون.
الذين يبطئون في الموت يمكن أن يشغلوا العناوين العريضة لعدة أسابيع، بل لعدة شهور. وباستثناء عدد ضئيل منهم، فإن أغلبهم يطويهم النسيان. وعلى سبيل المثال هل سمعت بميخائيل سفردلوف؟ لا. حسنا كان هذا الرجل رئيسا للاتحاد السوفياتي ومات موتا بطيئا. وربما سمعت بفرانسوا دوفالير، أو بابا دوك، الساحر الشرير، الذي كان رئيسا لجزيرة هايتي، وقد كان من المبطئين في الموت، وكان حكمه مزيجا من السحر الاسود ومناهج المافيا وأساليبها.
ثمة حقيقة واحدة لا شك فيها: الواقعة الوحيدة التي لا يمكن إخفاؤها هي الموت. ومع أن الموت أمر صعب، إلا أن الدفن يكون في بعض الأحيان أكثر صعوبة. ويفيض التاريخ بحوادث الموتى الذين لم يجدوا إذنا بالدفن، والجثث التي نبشت من الأرض، والموتى الذين كان عليهم أن ينتظروا أعواما طويلة حتى يجدوا مأوى نهائيا لأجسادهم.
وإذا اخترنا التعميم فإننا يمكن أن نقسم الحضارة إلى نوعين: أولئك الذين يثيرون المعارك حول موت الزعيم، وأولئك الذين يتركونه لمصيره الأخروي. كان المصريون القدماء من مثيري الزوابع الكبيرة عند موت الزعماء، وهذا ما تشهد به الإهرامات التي بنيت لإقامة الفراعنة، دون أن يتنبأوا بأن هذه الإهرامات ستتحول مع الزمن إلى مخابئ للصوص وحفاري القبور، وأخيرا، لسارقي الآثار من الغربيين.
ولكن الفرس القدماء كانوا على العكس من ذلك، فالملك الذي يموت، لا تثار ضجة كبيرة حول مصيره. وكانت جثته توضع وتعرض على تلة تسمى داكسماه، وتترك هناك لتنهشها الجوارح والوحوش. وكانت الفكرة وراء ذلك أن الأرض يجب ألا تتعرض للتلوث من قبل الموتى. الطريقة الأخرى للموت هي التعرض للزوابع الرعدية. وهذا ما فعله كاي-خسرو، عندما شعر أن أوان الفراق قد أزف. فقد دعا النخبة الإيرانية وسار معهم تجاه قمة جبل دامافاند. وعندما وصلوا إلى نقطة معينة طلب منهم التوقف وواصل وحده نحو القمة، وهو يدفن خطاياه، المفترض أنها سوداء، في أعماق الثلوج البيضاء.
وعلى عكس ما يدعيه الوزراء الإسرائيليون، فإن اليهود أيضا كانوا متساهلين إزاء الدفن. فالمقبرة التي دفن فيها الأنبياء والملوك الذين وردت أسماؤهم في العهد القديم، ظلت مجهولة حتى الآن. وحتى الأماكن التي قيل أنها كانت مقابر، نشب حولها جدل استمر قرونا، ومع افتقار الأطراف جميعا للدليل الذي يسند حججها. وقد نبش جسد النبي دانيال أثناء الليل، من بابل وأحضر إلى سوزا، في الجنوب الغربي من إيران، حيث يرقد تحت قبة أسطوانية عجيبة. وباعتبار اليهود موحدين متعصبين، فإنهم كانوا ينظرون إلى بناء المعابد كإساءة للواحد المتعالي.
مات الإسكندر في غيدروسيا، أي بلوشستان الحالية، وربما تكون الدسنطاريا هي سبب الوفاة، ولكن جنرالاته احتفظوا بنبأ موته سرا حتى وصلوا إلى بابل حيث دفن هناك. ولكن بعد عدة سنوات، عندما نشبت النزاعات بين جنرالاته، سرقت جثته من القبر واختفت في ظروف مجهولة. وقد ظهر منذ ذلك الوقت، أكثر من اثني عشر موقعا، من وسط آسيا وحتى البحر الأبيض المتوسط، يدعي أصحابها أنها اصبحت المثوى الأخير للإسكندر العظيم. وفي كل مرة يكرر فيها الإدعاء بأن جسد الإسكندر يرقد هنا، كانت أسواق الأراضي تروج رواجا شديدا وترتفع أسعارها ارتفاعا غير عادي في تلك الناحية.
الصينيون أيضا كانوا يهتمون اهتماما كبيرا بمراسم الدفن. وقد بنى الإمبراطور كبلا خان، ضريحا لامعا في زانادو الأسطورية. وقد كان تاريخ الصين مضطربا للدرجة التي لم تسمح للموتى أنفسهم بالراحة الأبدية. فقد كان أول ما يفعله الطاغية الجديد هو إخراج الطاغية الذي سبقه ليستخدم الضريح مدفنا له بعد عمر طويل. ولكن فقط بعد استيلاء الشيوعيين على السلطة، عادت الضوضاء من جديد لتحيط بالموت و الدفن.
أما بالنسبة للحضارات الهندية العريقة، فإنها يجب أن تصنف ضمن من لا يثيرون كثيرا من اللغط حول الموت أو الدفن. فقد كان الموتى يحرقون وينشر رمادهم فوق نهر الجنغيز. وهذا هو السبب في إن معظم الأضرحة والمعابد في الهند بناها الغزاة والمحتلون الأجانب.
يحدث في بعض الأحيان أن يدفن الشخص الواحد في موقعين مختلفين، على الأقل بالنسبة للخيال الشعبي. هذا ما يصح على حالة علي بن ابي طالب، الخليفة الرابع، الذي يعتقد أنه دفن في موقعين، أحدهما في النجف، والآخر في مزار الشريف بأفغانستان.
أحد الذين اشتهروا بنزع الموتى من القبور، هو إيفان الرهيب، الذي دمر مملكة التتار الإسلامية، واقتحم عاصمتها كازان، وأحضر قادة التتار إلى موسكو ليعدمهم. وتمثل القباب التسع في كنيسة القديس باسل بموسكو، الرؤوس المقطوعة لهؤلاء الزعماء التتار التسعة.
وقد منعت المناورات البريطانية والروسية دفن نابليون، الذي مات وهو أسير في جزيرة سانت هيلين، من الدفن في لي إنفاليد، كما جاء في وصيته.
أثناء الثورة البلشفية أمر لينين بقتل كل عائلة القيصر نيقولا الثاني، ولكنه لم يكشف عن موقع دفنهم. وبعد سبعة عقود، وبعد أن دفن الشعب الروسي، النظام الشيوعي، في مقبرة معروفة للجميع، اكتشفت المقابر السرية، وأعيد دفن القيصر وأسرته بصورة تليق بمقامهم، وبكل مظاهر الأبهة والشرف.
توفي أحمد شاه، الملك الأخير للغجر في فارس، في المنفى في باريس. وقد أرسلت جثته للدفن في إيران. ولكن السفينة التي تحمله رجعت في منتصف رحلتها، لأن عائلة بهلوي رفضت عودة الملك المخلوع حتى وهو جثة هامدة. وبعد عقدين فقط، جاء دور رضا شاه، مؤسس المملكة الشاهنشاهية ليموت خارج بلاده ويدفن في جنوب إفريقيا. وقد رفض له أن يدفن في إيران، فدفن في القاهرة، وبقيت جثته هناك لمدة أربع سنوات حتى دفن مؤخرا في طهران. ولكن راحته لم تكن ابدية، فبعد ثلاثة عقود هاجم الملالي بتوجيه من الخميني ضريحه وأخذوا بقاياه إلى مكان مجهول.
خليفة الشاه، محمد رضا بهلوي، أسقط هو الآخر من الحكم، ومات في المنفى. وفي عام 1981، وبعد أن رفض الخميني دفن الشاه في وطنه، دفن الأخير في القاهرة، بصورة مؤقتة، وقد استمرت الصورة المؤقتة حتى الآن، أي 24 سنة.
الكاتب البريطاني في القرن الثامن عشر، السير توماس براون، ألف كتابا يوضح فيه أن كل رجل أو إمراة سيدفن في الموقع الذي يقرره له القدر. وقال إن المكان الافضل، هو في نفس الوقت المكان الأصغر حيث يمكن وضع بقايا الميت العزيز، بالقرب من باقة الزهور الجديدة، دون أن يلاحظ أحد شيئا.