سيد مرحوم
11-09-2004, 05:22 PM
محمد حسين فضل الله
مع المستشرقين في أسلوب القوة في القرآن
http://www.bintjbeil.com/A/news/2004/images/0309_fadlallah.jpg
شبكة العراق الثقافية: المسيباوي
تشويه استشراقي
لا بدّ للباحث الذي يحاول التعرّف على الخطوط العامة لأسلوب الدعوة في القرآن الكريم ،ليستخلص منها النتيجة الحاسمة التي تطبع أسلوب الدعوة الإسلامية بطابع الحكمة والتسامح والنظرة الواقعية الواعية التي تراعي تكوين الإنسان الذاتي وظروفه العامة.. لا بد لهذا الباحث من الوقوف طويلاً مع الآيات القرآنية التي تأمر المسلمين بالقتال، وتدفعهم إلى الحرب، وتدعوهم إلى جهاد الكفار بأسلوب حماسي مثير، كما نقرأ ذلك في الآيات الكريمة التالية:
{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين* واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشدّ من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين} [البقرة:190ـ191].
{وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم}[البقرة:244]. {وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً واعلموا أنّ الله مع المتقين} [التوبة:36].
وإذا تمّ له ما يريد من هذه المعرفة، فعليه أن يقارن بين النتيجة التي يخلص إليها وبين طبيعة الأسلوب العملي للدعوة، لينظر مدى الانسجام بينهما في الخطوط والأهداف.
أما الحاجة إلى مثل هذا البحث، أو هذه المعرفة، فتنطلق من ضرورة الرد على الاتجاهات الاستشراقية وغيرها، التي حاولت أن تطبع الأسلوب الإسلامي للعمل ـ في مجال الدعوة ـ بطابع القوة، وتصوّره للعالم الغربي بصورة الدّين الذي يمارس عملية سفك الدماء، وقتل الآمنين من الأبرياء، بحجّة الدعوة إلى الله، إمعاناً في إبعاد الإنسان الغربي عن الإسلام، وانطلاقاً من قاعدة الحقد الأسود ضد الإسلام والمسلمين.
ويحاول هؤلاء المستشرقون ـ استكمالاً لعملية التشويه والتحريف ـ أن يفسّروا الآيات الداعية إلى الرفق والتسامح واللين في الدعوة، والتعاليم التي توجّه الدعاة نحو العناية بدراسة ظروف الآخرين والتعرّف على قابلياتهم الذهنية والروحية والاجتماعية، فينحرفون بها عن الصورة الواقعية الوضيئة التي يتمثّل فيها الطابع السلمي المتسامح لأسلوب الإسلام في الدعوة إلى الله، ليخضعوها لمرحلة زمنية معينة لم يكن استعمال القوة فيها أمراً ممكناً، ولم يكن اللجوء إلى العنف معها طريقة عملية للوصول إلى الهدف، حتى إذا استقام للإسلام أمره، واستراح إلى قوّته، نجده يبدأ مرحلةً جديدةً في العمل ترتكز على القسوة، وتعتمد على العنف والقوة، وبهذا تمكن من أن يضم إلى صفوته هذه الجموع الغفيرة من الناس.
وهكذا كملت الصورة التي حاولوا أن يعرضوا بها الإسلام للآخرين.. وهكذا تمّ لهم أن يبعدوا الإنسان الغربي عن الإسلام، حتى رأينا أديباً عظيماً مثل "برنارد شو" يعجب بعالم إسلامي ـ التقى به في بعض البلدان ـ أن يحاضر في فلسفة السلام، في ما نقلته مجلة "المسلمون" من المحاورة التي جرت بينه وبين الشيخ عبد العليم الصديقي، فقد فاجأه "برنارد شو" بقوله:
"دار حديثك حول فلسفة السلام، وقد كان الأجدر بك ما دمت مسلماً لو تحدثت عن فلسفة الحرب، لأن الإسلام إنما انتشر بحدّ السيف" [المسلمون:عدد12ـ س1383هـ ـ ص:147].
وإذا جرينا قليلاً مع هذه المحاورة، فسنجد مبلغ تأثر هذا الأديب الكبير بهذه الفكرة، إذ يتساءل ـ بعد أن حاول العالم المسلم أن يصحّح نظرته من خلال التهمة التي نسبها إلى الإسلام ـ بقوله: "قد نقرّ سيادة كثير من ضروب الفهم للإسلام؛ لكن، هل توافقك الجماهير المسلمة على تفسيرك؟ وهل يعتقد هؤلاء أن الإسلام لم يسبق له أن انتشر بالقهر وما ينبغي له ذلك؟" [المصدر السابق، ص:148].
ولم تقف الفرية عند هذا الحدّ، بل حاول بعضهم أن ينكر على الأساليب السلمية ـ التي مارسها الإسلام في الدعوة ـ قابليّتها لإحراز أي نجاح، فهي ـ من وجهة نظره ـ لم تستطع أن تحرز أي تقدّم للدِّين، لأن تعاليمه ومبادئه المجرّدة لا تشجّع الآخرين على الدخول فيه واعتناقه طواعيةً واختياراً، فقد قال "فردريك دنيون موريس": "من الثابت أن الإسلام لم يكن يصادف نجاحاً إلا عندما كان يهدف إلى الغزو..".
أمّا الفكرة التي ترى أنّ الدعوة الإسلامية لم تعتمد الأسلوب السلمي إلاّ في مرحلة زمنية معينة لم يكن استعمال القوة فيها أمراً عملياً، فنستطيع أن نتعرّف عليها من خلال ما ذكره صاحب كتاب "الدعوة إلى الإسلام" حيث يقول: "وقد أكّد الكتّاب الأوروبيون مراراً أن النبي سلك مسلكاً جديداً تمام الجدة منذ أن هاجر إلى المدينة ومنذ أن تغيرت ظروف حياته هناك، وأنه لم يعد ذلك البشير النذير المرسل إلى الناس الذين كان قد أقنعهم بالحجّة بصدق الدِّين الذي أوحي إليه، وإنما ظهر الآن أقرب إلى أن يكون متعصباً مندفعاً يستغلّ كل ما في سلطته من قوة ومهارة سياسية في فرض نفسه وفرض آرائه". [الدعوة إلى الإسلام ـ الترجمة العربية، ص:53ـ54].
وهكذا يجد الباحث الواعي ، الذي يحاول التعرّف على الصورة الوضيئة الواضحة للإسلام ، نفسه وجهاً لوجه أمام هذه الصورة القاتمة للإسلام، وللدعوة الإسلامية في أسلوبها العملي؛ الأمر الذي يجعل معالجتها والوقوف عندها واجباً علمياً تفرضه سلامة البحث ونزاهته، قبل أن يكون واجباً دينياً تفرضه طبيعة الدِّين وسماحته.
وقبل أن نجري في حديثنا إلى ما نريده ونحاوله، نجد أنفسنا أمام ضرورة ملحّة تدفعنا إلى التطلّع إلى دوافع هذه التهمة التي ألصقها الكتّاب الأوروبيون بالإسلام، أو بالأحرى القضية التي تجعلهم يتّخذون هذا الموقف العدائي للدعوة الإسلامية، فليست القضية ـ في ما نظن ـ مجرد حقد شخصي تفرضه دوافع شخصية بحتة، بل هي في ما نحسب ـ قضية تتصل بعض أسبابها بـ"الدفاع عن المسيحية" التي تعرضت إلى غزو فكري وروحي إسلامي، يجعل قضية وجودها مهدّدة في محيطها العام.
وكان من بعض الأسلحة التي اتخذوها في صدّ الإسلام من أن ينطلق إلى حياة الإنسان الغربي، سلاح الإثارة والتشويه، الذي يحاول أن يصوّر الإسلام غولاً بشعاً يفترس الأمن والطمأنينة والاستقرار، ويفتك بالحياة الوديعة المسالمة، ويهدم الحضارة الإنسانية، ويتحوّل بالإنسان من حضارة متطورة متطلعة إلى الأمام أبداً، إلى حياة بدائية رجعية ترجع إلى الوراء دائماً.
وهكذا كانت الفكرة التي قدّمناها مظهراً من مظاهر هذه الحرب التي خاضوها ضد الإسلام والمسلمين.
ونحن لا نريد أن نخوض بحثاً مقارناً بين الإسلام والمسيحية، أو نستنطق مصادر كل منهما في القضايا العامة التي أثارها هؤلاء الكتّاب؛ أو نرجع إلى التاريخ لننظر كم ظُلمت المسيحية على أيدي معتنقيها بسبب الدماء التي سفكت باسمها، والاضطهاد الذي تعرّضت له جموع غفيرة من البشر من أجل إدخالهم في الدِّين.. نحن لا نريد مثل هذا البحث، لأننا لسنا بصدد مقارنة بين الأديان، ولأننا نعلم أن الأديان بشكل عام بريئة من كثير من المظالم والآثام التي ترتكب باسمها، وندرك ـ إلى جانب ذلك ـ أنه ما من دين أو مبدأ إلا وقد عاش مثل هذه التجربة التي تبتعد به عن هدفه، وتنحرف به عن مقصده؛ ولذا فليس من العدل والإنصاف، أو من سلامة البحث ونزاهته، أن ندخل مثل هذه الوقائع في مجال الصراع العقيدي والجدل الفكري.
بل نحن هناك في محاولةٍ للإشارة ـ مجرّد إشارة ـ إلى أن المسيحية من وجهة النظر التشريعية، لا تستنكر استعمال القوة في سبيل الدفاع عن الحق، فإنجيل "لوقا" يذكر في العدد السادس والثلاثين من الفصل الثاني والعشرين أن المسيح أراد من تلاميذه الاستعداد للدفاع بالسيف، وقال لهم: "من ليس له سيف فليبع ثوبه وليشترِ سيفاً" [الرحلة المدرسية، البلاغي، ج3، ص:219 ـ 220].
وما دام استعمال السيف في مقام الدفاع أمراً مشروعاً لدى المسيحية، فما الذي يستطيع هؤلاء أن يجدوه في الإسلام مما لا يجدونه في المسيحية من تشريع؟ هذا ما سنراه في حديثنا هذا إن شاء الله.
بين تشريع القتال وحرية الدعوة
أما القضية التي تواجهنا في مدخل الحديث، فهي أن الإسلام قد شرّع الجهاد كفريضة دينية، يترتّب عليها كل ما يترتّب على الفرائض الدينية من آثار وأحكام. تلك قضية لا ريب فيها؛ فقد أصبحت من ضروريات الدين وبديهياته، وقد عالجها القرآن أكثر من مرة، وبالغ في التشديد عليها والتأكيد على الالتزام بها والمحافظة عليها، وأنذر المتسامحين فيها والمتهاونين بها عقاباً شديداً، كما وعد القائمين بها أجراً عظيماً.
وما دامت القضية في هذا المستوى من الوضوح، فلن تثير لدينا أي سؤال في طبيعة تشريعها كفريضة دينية عملية، ولكننا نستطيع إثارة هذا السؤال معها في الأهداف التشريعية التي استهدفها الإسلام من تشريع الجهاد.
فهل هي أهداف دفاعية أو وقائية تستهدف تركيز الكيان الإسلامي ودفع الأخطار عنه، وفسح المجال أمام الدعوة الإسلامية لتنطلق دون حاجز مادي أو معنوي؟ أو أنها ليست كذلك، بل هي أهداف تجري في مجال آخر يستهدف إدخال الناس في الإسلام قسراً؟
وبتعبير آخر يجعل المسألة أكثر التصاقاً بموضوع حديثنا في أسلوب الدعوة:
هل كانت الحرب في الإسلام ـ التي تتمثّل في تشريع الجهاد ـ طريقة إسلامية لإكراه الناس على الدخول في الإسلام، وأسلوباً لدعوة الناس إلى اعتناقه قسراً أو إكراهاً؟
أو أنها كانت طريقة واقعية يفرضها الواقع الخارجي لكل دعوة ومبدأ، للدفاع عن كيانه، وحفظه من أعدائه؟
هذا هو السؤال الذي يواجهنا في مدخل القضية.
أما الجواب عنه فله أكثر من جانب وأكثر من جهة، لأننا في سبيل معرفة إسلامية تشريعية، ترتبط بالقرآن الكريم كمصدر أول من مصادر التشريع التي نستنطقها لمعرفة حدود التشريع وأهدافه. ولذا فلا بد لنا من استنطاق الآيات الكريمة التي عرضت لأهداف الحرب والجهاد في الإسلام، وللحيثيات التي لاحظها التشريع الإسلامي في هذا المجال.
كذلك تتصل هذه المعرفة من ناحية أخرى بالتاريخ الإسلامي، من خلال عرضه لحروب النبي(ص) وغزواته، من حيث إنها تمثّل أفعال النبي(ص) وتصرّفاته، ما يلزمنا التعامل معها كمصدر ثانٍ من مصادر التشريع، وهو "السنّة". ولذا فلا بدّ لنا من استنطاق هذا التاريخ، لنتعرف منه الطابع الذي يسود هذه الحروب ويسيطر عليها من حيث كونه طابعاً عدوانياً أو دفاعياً.
وسنحاول أن نرى بعد ذلك ما إذا كان التشريع الإسلامي يسمح أو يقرّ مبدأ الإكراه على الدين كأسلوب من أساليب العمل.
ومتى تمّ لنا ما نحاوله من المعرفة في هذا الحديث، فسنجد أمامنا قضية لا بدّ لنا من معالجتها، وهي قضية اعتبار بعضهم الأسلوب الإسلامي المتسامح في الدعوة تابعاً لمرحلة زمنية معينة لم يكن اللجوء إلى القوة فيها أمراً عملياً. وسنحاول ـ إن شاء الله تعالى ـ أن نتعرّف مدى صحّة ذلك بالرجوع إلى الواقع التاريخي لتشريع هذا الأسلوب في الإسلام واستنطاقه حول هذه القضية.
والآن، نحن هنا مع آيات القتال واحدة واحدة، في محاولة استنطاق واعية لأهداف القتال وغاياته:
قال تعالى:: {أُذِنَ للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأنّ الله على نصرهم لقدير* الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلا أن يقولوا ربّنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقويٌ عزيز} [الحج:39 ـ 40].
قال المفسّرون: إن هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال [التبيان في تفسير القرآن، ج7، ص:320، ط: النجف]. وقيل في سبب نزولها: إن هذه الآية نزلت في المهاجرين الذين أخرجهم أهل مكة من أوطانهم، فلما قووا أمرهم الله بالجهاد وبيّن لهم أنه أذن لهم في قتال من ظلمهم وأخرجهم من أوطانهم. ومعنى بأنهم ظلموا، أي من أجل أنهم ظلموا" [المصدر السابق].
ويذكر الواحدي سبب النـزول بتفصيل أكثر فيقول: قال المفسرون: "كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله(ص)، فلا يزالون يجيئون من مضروب ومشجوج، فشكوهم إلى رسول الله(ص) فيقول: اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال. حتى هاجر رسول الله(ص) فأنزل الله تعالى هذه الآية [أسباب النـزول للواحدي، ص:232].
هذا هو ما قاله المفسرون.. فما الذي تعطيه لنا هذه الآية، وما الذي نستفيده منها على ضوء ذلك؟
لقد عرضت الآية لتشريع القتال في بدايته، بأسلوب يحاول أن يجعل القتال حقاً للمقاتلين، وضرورة حتمية لحياتهم الجديدة التي بدأوا يمارسونها في ظلّ الدِّين الجديد، وذلك بإبراز حكمة التشريع وحيثياته التي تبرّره، فقد ذكرت الآية الكريمة أن المسلمين قد ظلموا من قبل المشركين الذي يقفون منهم موقف المقاتلين المعتدين. ومتى وقع الظلم على أحد، ثبت له الحق في دفع الظلم عن نفسه والأخذ بحقه من ظالمه.
أما كيف تمثّل هذا الظلم في حالة المسلمين مع المشركين، فقد حاولت الآية أن تعطي بعض مظاهره وتبرز بعض خطوطه.
فقد خرج المسلمون من مكة ـ وطنهم الأول ـ، ولكن.. لا طواعية واختياراً، بل كان ذلك نتيجة الاضطهاد والعسف والقسوة والضغط المعنوي والاقتصادي والتنكيل والتعذيب بأفظع أشكاله وألوانه، ولم يكن باستطاعتهم الدفاع عن أنفسهم لقلة عددهم وضعف عدّتهم، ما جعل الظلم يتجسّد بشكل أفظع وصورة أقسى، وإذا كانت الأسباب التي شاركت في خروجهم هي هذه الأسباب، فمن الطبيعي حينئذٍ ما نجده في تعبير الآية عن هذا الخروج بالإخراج الذي يعطي معنى القهر والإكراه وعدم الاختيار.
والقضية الأخرى التي يتمثّل فيها ذلك الظلم، هي أن إخراج المسلمين من دينهم لم يكن نتيجة ذنب جناه هؤلاء، ولا جريمة اقترفوها، بل كان نتيجة أنهم قالوا {ربنا الله}… تلك الكلمة الحقّة التي كانت متنفساً لإيمانهم ومنطلقاً لعقيدتهم ورمزاً للدِّين الذي انطلق في حياتهم الجديدة.
وعلى ضوء هذا، تتجسّد لنا فظاعة الظلم، وتبرز وحشيته، فقد يمكن للإنسان أن يبرّر إبعاد شخص عن ملاعب صباه ومواطن ذكرياته بمبرّرات تلتقي بالإخلال بالأمن ومخالفة النظام، أما أن يكون التبرير لذلك منطلقاً من إعلانه كلمة الحق وإظهار عقيدته بالله، فهذا أمر فظيع.
هذان مظهران للظلم عرضتهما الآية لتجسّد الظلم أمام الآخرين، وبالتالي لتجعل الإذن بالقتال أمراً طبيعياً. ففي المظهر الأول تعتصر العاطفة، لأنه يتصل بإبعاد الإنسان عن ملاعب صباه ومواطن ألفه.. وفي المظهر الثاني تختنق الروح، لأنه يمنع الإيمان من أن يتنفس، والعقيدة من أن تنطلق..
الحكمة الإلهية في تشريع القتال
وربما يسيء البعض فهم الحكمة التشريعية، فيذهب بها بعيداً عن وجهتها، ويبتعد بها عن خطوطها المستقيمة، فقد يحلو لبعضهم أن يفسر هذه الحكمة بأنها تعبير عن طبيعة الثأر للذات، وتنفيس عن الكبت الشخصي الذي يعانيه المظلوم عند عجزه عن الانتصار لقضيته.. وإذاً، فهي لا تمثّل شيئاً أساسياً في حكمة التشريع بقدر ما تمثّل دافعاً شخصياً للرغبة في القتال.
ولكن يبدو لنا أن هذا التفسير خاطىء، وبعيد عن جوّ الآية، فقد نستطيع أن نفهم بوضوح مدى ابتعاد القضية عن الجانب الذاتي والدافع الشخصي إذا لاحظنا طبيعة المبرّرات التي يبرّر بها المشركون موقفهم الظالم من المسلمين.
فالمسلمون ـ في ما تعرضه الآية ـ لم يعانوا الاضطهاد، ولم يقعوا تحت طائلة الظلم نتيجة جريمة اقترفوها، أو ذنب جنوه، بل لأنهم آمنوا بالله واعتقدوا به، واتّبعوا النبي(ص) في ما بشّر به وأنذر.
وإذا كان الأمر على هذا النحو، وإذا كانت القضية في هذا الاتجاه، فمن الطبيعي أن يعتبر هذا الاضطهاد موجّهاً إلى العقيدة، وذلك الظلم واقعاً على الدين الذي يعتنقه هؤلاء ويحملونه.. وما دامت القضية قضية عقيدة تُضطهد ودين يُظلم، فلا مانع من أن تنتفض هذه العقيدة لتحمي حريّتها، ولا غرابة في أن ينطلق هذا الدِّين ليحرس تعاليمه وأحكامه.
ولن نحتاج بعد ذلك إلى جهد لنعرف أن الدفاع عن العقيدة هو أحد الحقوق الطبيعية التي توحي بها الفطرة ويقرّها النظام.
ولولا ذلك، لما أمكن للحياة أن تستمر، ولما تيسّر للعقائد والأديان أن تنطلق وتتركّز وتمتدّ في الحياة الإنسانية.
وهذا ما حاولت الآية الكريمة أن توضحه وتجلوه في قوله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً..} [الحج:40].
فلولا أنّ الله قد أذن لأصحاب العقائد أن يدافعوا عن عقيدتهم، ويمنعوها من أن تضطهد وتظلم، ولولا أن التشريع الإلهي أقرّ لهم ذلك كحقّ تفرضه الفطرة ويدعو إليه النظام.. لولا ذلك، لم يمكن للعقيدة إلا أن تختنق وتتهدّم وتتلاشى أمام قوة الباطل وطغيانه؛ فلا يستطيع المسلم أن يمارس عبادة الله في مسجده، كما لا يستطيع المسيحي والموسوي أن يمارسا عبادتهما في الكنيسة والبيعة. ومن هنا، كان حق الدفاع ضرورة حتمية للحياة، وشريعة الجهاد قانوناً لازماً لإقامة النظام وحفظ التوازن وتحطيم الطغيان.
وخلاصة القضية، أن الآية لم تحاول اعتبار الدعوة إلى الدِّين والإكراه على العقيدة من مبرّرات تشريع القتال والإذن فيه، بل كل ما حاولته وأوضحته هو أن تجعل القتال نتيجة طبيعية للاضطهاد الذي عانته العقيدة من أعدائها، والعذاب الذي لاقاه أتباع العقائد من الكفار، الأمر الذي جعل قضية تركيز قوتها وتأكيد منعتها أمراً حتمياً طبيعياً تفرضه حاجتها للحياة وللحرية، وتقتضيه سنّة الله في خلقه وعباده.
قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدِّين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} [البقرة:193].
{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدِّين كلّه لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير* وإن تولّوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير} [الأنفال:39 ـ 40].
في هاتين الآيتين يبرز سبب آخر للحرب، ولكنه سبب يتّصل بقضية العقيدة مباشرة، فقد انطلق المشركون ـ والإسلام لا يزال في بدايته ـ يمارسون عملية الضغط بكافّة ألوانه ضدّ المسلمين الذين دخلوا الإسلام من جديد، وابتدأت مظاهر هذا الضغط تتمثّل في المحاولة الدائبة في فتنة المسلمين عن دينهم؛ سواء في ذلك الأساليب التي تتّصف بطابع القسوة والعنف، أو الأساليب التي تتّصف بالخديعة والإغراء.
وهنا يجد الإسلام نفسه مهدّداً في قضية وجوده، فقد أصبحت المسألة مسألة حياة أو موت؛ فهو إن وقف وسالم وسلك طريق الدعة والمسالمة فسيجد نفسه وجهاً لوجه أمام الخطر الداهم، في موقف حاسم، لا يستطيع معه الدفاع ولا يتمكن عنده من التقدم.
وبذلك كان القتال ـ حيث لم تنفع الموعظة ـ بالنسبة إليه قضية حيوية حتمية تخاطب واقع حياته، وهو ـ في الوقت نفسه ـ لم يبتدىء بها، وإنما اضطر إليها.. وهكذا نزلت هذه الآية لتأمر المسلمين بالقتال مبيِّنةً لهم أهدافها الدفاعية التي تتعلق بسلامة العقيدة وسلامها، ليكونوا على بيّنة من أمر الحرب التي يخوضونها، وليكونوا على يقين من شرعيّتها من خلال الأهداف الواضحة بعد أن كانوا على يقين من ذلك من خلال الأمر الإلهي المجرّد.. وهكذا بيّنت الآية للمسلمين أن من أهداف هذه الحرب أن يوقف المشركون عند حدّهم في عملية الضغط التي يمارسونها ضدّ هذا الدِّين، فلا تعود الفتنة في الدين تهدّد عقيدة المسلمين، ولا يعود الشرك قوةً تضع العقبات في طريق الدين الحق، بل يكون الدين لله، يلتقي عليه الناس جميعاً في أصالة فطرتهم ونقاء نفوسهم، بما يجعله في داخله من قوة وجلاء ووضوح ويسر وسهولة ومرونة.
وإذا كانت أهداف الحرب التي تتمثّل في الآية هي عدم فسح المجال للفتنة في الدِّين أن تمتدّ، وإعطاء الحرية للدّين بأن ينتشر ويتّسع، بإزاحة العقبات عن طريقه، فلا بدّ لها من أن تقف وتنكمش عند ارتفاع الفتنة وعند قوّة الدين واتّساع مجاله.
مع المستشرقين في أسلوب القوة في القرآن
http://www.bintjbeil.com/A/news/2004/images/0309_fadlallah.jpg
شبكة العراق الثقافية: المسيباوي
تشويه استشراقي
لا بدّ للباحث الذي يحاول التعرّف على الخطوط العامة لأسلوب الدعوة في القرآن الكريم ،ليستخلص منها النتيجة الحاسمة التي تطبع أسلوب الدعوة الإسلامية بطابع الحكمة والتسامح والنظرة الواقعية الواعية التي تراعي تكوين الإنسان الذاتي وظروفه العامة.. لا بد لهذا الباحث من الوقوف طويلاً مع الآيات القرآنية التي تأمر المسلمين بالقتال، وتدفعهم إلى الحرب، وتدعوهم إلى جهاد الكفار بأسلوب حماسي مثير، كما نقرأ ذلك في الآيات الكريمة التالية:
{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين* واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشدّ من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين} [البقرة:190ـ191].
{وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم}[البقرة:244]. {وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً واعلموا أنّ الله مع المتقين} [التوبة:36].
وإذا تمّ له ما يريد من هذه المعرفة، فعليه أن يقارن بين النتيجة التي يخلص إليها وبين طبيعة الأسلوب العملي للدعوة، لينظر مدى الانسجام بينهما في الخطوط والأهداف.
أما الحاجة إلى مثل هذا البحث، أو هذه المعرفة، فتنطلق من ضرورة الرد على الاتجاهات الاستشراقية وغيرها، التي حاولت أن تطبع الأسلوب الإسلامي للعمل ـ في مجال الدعوة ـ بطابع القوة، وتصوّره للعالم الغربي بصورة الدّين الذي يمارس عملية سفك الدماء، وقتل الآمنين من الأبرياء، بحجّة الدعوة إلى الله، إمعاناً في إبعاد الإنسان الغربي عن الإسلام، وانطلاقاً من قاعدة الحقد الأسود ضد الإسلام والمسلمين.
ويحاول هؤلاء المستشرقون ـ استكمالاً لعملية التشويه والتحريف ـ أن يفسّروا الآيات الداعية إلى الرفق والتسامح واللين في الدعوة، والتعاليم التي توجّه الدعاة نحو العناية بدراسة ظروف الآخرين والتعرّف على قابلياتهم الذهنية والروحية والاجتماعية، فينحرفون بها عن الصورة الواقعية الوضيئة التي يتمثّل فيها الطابع السلمي المتسامح لأسلوب الإسلام في الدعوة إلى الله، ليخضعوها لمرحلة زمنية معينة لم يكن استعمال القوة فيها أمراً ممكناً، ولم يكن اللجوء إلى العنف معها طريقة عملية للوصول إلى الهدف، حتى إذا استقام للإسلام أمره، واستراح إلى قوّته، نجده يبدأ مرحلةً جديدةً في العمل ترتكز على القسوة، وتعتمد على العنف والقوة، وبهذا تمكن من أن يضم إلى صفوته هذه الجموع الغفيرة من الناس.
وهكذا كملت الصورة التي حاولوا أن يعرضوا بها الإسلام للآخرين.. وهكذا تمّ لهم أن يبعدوا الإنسان الغربي عن الإسلام، حتى رأينا أديباً عظيماً مثل "برنارد شو" يعجب بعالم إسلامي ـ التقى به في بعض البلدان ـ أن يحاضر في فلسفة السلام، في ما نقلته مجلة "المسلمون" من المحاورة التي جرت بينه وبين الشيخ عبد العليم الصديقي، فقد فاجأه "برنارد شو" بقوله:
"دار حديثك حول فلسفة السلام، وقد كان الأجدر بك ما دمت مسلماً لو تحدثت عن فلسفة الحرب، لأن الإسلام إنما انتشر بحدّ السيف" [المسلمون:عدد12ـ س1383هـ ـ ص:147].
وإذا جرينا قليلاً مع هذه المحاورة، فسنجد مبلغ تأثر هذا الأديب الكبير بهذه الفكرة، إذ يتساءل ـ بعد أن حاول العالم المسلم أن يصحّح نظرته من خلال التهمة التي نسبها إلى الإسلام ـ بقوله: "قد نقرّ سيادة كثير من ضروب الفهم للإسلام؛ لكن، هل توافقك الجماهير المسلمة على تفسيرك؟ وهل يعتقد هؤلاء أن الإسلام لم يسبق له أن انتشر بالقهر وما ينبغي له ذلك؟" [المصدر السابق، ص:148].
ولم تقف الفرية عند هذا الحدّ، بل حاول بعضهم أن ينكر على الأساليب السلمية ـ التي مارسها الإسلام في الدعوة ـ قابليّتها لإحراز أي نجاح، فهي ـ من وجهة نظره ـ لم تستطع أن تحرز أي تقدّم للدِّين، لأن تعاليمه ومبادئه المجرّدة لا تشجّع الآخرين على الدخول فيه واعتناقه طواعيةً واختياراً، فقد قال "فردريك دنيون موريس": "من الثابت أن الإسلام لم يكن يصادف نجاحاً إلا عندما كان يهدف إلى الغزو..".
أمّا الفكرة التي ترى أنّ الدعوة الإسلامية لم تعتمد الأسلوب السلمي إلاّ في مرحلة زمنية معينة لم يكن استعمال القوة فيها أمراً عملياً، فنستطيع أن نتعرّف عليها من خلال ما ذكره صاحب كتاب "الدعوة إلى الإسلام" حيث يقول: "وقد أكّد الكتّاب الأوروبيون مراراً أن النبي سلك مسلكاً جديداً تمام الجدة منذ أن هاجر إلى المدينة ومنذ أن تغيرت ظروف حياته هناك، وأنه لم يعد ذلك البشير النذير المرسل إلى الناس الذين كان قد أقنعهم بالحجّة بصدق الدِّين الذي أوحي إليه، وإنما ظهر الآن أقرب إلى أن يكون متعصباً مندفعاً يستغلّ كل ما في سلطته من قوة ومهارة سياسية في فرض نفسه وفرض آرائه". [الدعوة إلى الإسلام ـ الترجمة العربية، ص:53ـ54].
وهكذا يجد الباحث الواعي ، الذي يحاول التعرّف على الصورة الوضيئة الواضحة للإسلام ، نفسه وجهاً لوجه أمام هذه الصورة القاتمة للإسلام، وللدعوة الإسلامية في أسلوبها العملي؛ الأمر الذي يجعل معالجتها والوقوف عندها واجباً علمياً تفرضه سلامة البحث ونزاهته، قبل أن يكون واجباً دينياً تفرضه طبيعة الدِّين وسماحته.
وقبل أن نجري في حديثنا إلى ما نريده ونحاوله، نجد أنفسنا أمام ضرورة ملحّة تدفعنا إلى التطلّع إلى دوافع هذه التهمة التي ألصقها الكتّاب الأوروبيون بالإسلام، أو بالأحرى القضية التي تجعلهم يتّخذون هذا الموقف العدائي للدعوة الإسلامية، فليست القضية ـ في ما نظن ـ مجرد حقد شخصي تفرضه دوافع شخصية بحتة، بل هي في ما نحسب ـ قضية تتصل بعض أسبابها بـ"الدفاع عن المسيحية" التي تعرضت إلى غزو فكري وروحي إسلامي، يجعل قضية وجودها مهدّدة في محيطها العام.
وكان من بعض الأسلحة التي اتخذوها في صدّ الإسلام من أن ينطلق إلى حياة الإنسان الغربي، سلاح الإثارة والتشويه، الذي يحاول أن يصوّر الإسلام غولاً بشعاً يفترس الأمن والطمأنينة والاستقرار، ويفتك بالحياة الوديعة المسالمة، ويهدم الحضارة الإنسانية، ويتحوّل بالإنسان من حضارة متطورة متطلعة إلى الأمام أبداً، إلى حياة بدائية رجعية ترجع إلى الوراء دائماً.
وهكذا كانت الفكرة التي قدّمناها مظهراً من مظاهر هذه الحرب التي خاضوها ضد الإسلام والمسلمين.
ونحن لا نريد أن نخوض بحثاً مقارناً بين الإسلام والمسيحية، أو نستنطق مصادر كل منهما في القضايا العامة التي أثارها هؤلاء الكتّاب؛ أو نرجع إلى التاريخ لننظر كم ظُلمت المسيحية على أيدي معتنقيها بسبب الدماء التي سفكت باسمها، والاضطهاد الذي تعرّضت له جموع غفيرة من البشر من أجل إدخالهم في الدِّين.. نحن لا نريد مثل هذا البحث، لأننا لسنا بصدد مقارنة بين الأديان، ولأننا نعلم أن الأديان بشكل عام بريئة من كثير من المظالم والآثام التي ترتكب باسمها، وندرك ـ إلى جانب ذلك ـ أنه ما من دين أو مبدأ إلا وقد عاش مثل هذه التجربة التي تبتعد به عن هدفه، وتنحرف به عن مقصده؛ ولذا فليس من العدل والإنصاف، أو من سلامة البحث ونزاهته، أن ندخل مثل هذه الوقائع في مجال الصراع العقيدي والجدل الفكري.
بل نحن هناك في محاولةٍ للإشارة ـ مجرّد إشارة ـ إلى أن المسيحية من وجهة النظر التشريعية، لا تستنكر استعمال القوة في سبيل الدفاع عن الحق، فإنجيل "لوقا" يذكر في العدد السادس والثلاثين من الفصل الثاني والعشرين أن المسيح أراد من تلاميذه الاستعداد للدفاع بالسيف، وقال لهم: "من ليس له سيف فليبع ثوبه وليشترِ سيفاً" [الرحلة المدرسية، البلاغي، ج3، ص:219 ـ 220].
وما دام استعمال السيف في مقام الدفاع أمراً مشروعاً لدى المسيحية، فما الذي يستطيع هؤلاء أن يجدوه في الإسلام مما لا يجدونه في المسيحية من تشريع؟ هذا ما سنراه في حديثنا هذا إن شاء الله.
بين تشريع القتال وحرية الدعوة
أما القضية التي تواجهنا في مدخل الحديث، فهي أن الإسلام قد شرّع الجهاد كفريضة دينية، يترتّب عليها كل ما يترتّب على الفرائض الدينية من آثار وأحكام. تلك قضية لا ريب فيها؛ فقد أصبحت من ضروريات الدين وبديهياته، وقد عالجها القرآن أكثر من مرة، وبالغ في التشديد عليها والتأكيد على الالتزام بها والمحافظة عليها، وأنذر المتسامحين فيها والمتهاونين بها عقاباً شديداً، كما وعد القائمين بها أجراً عظيماً.
وما دامت القضية في هذا المستوى من الوضوح، فلن تثير لدينا أي سؤال في طبيعة تشريعها كفريضة دينية عملية، ولكننا نستطيع إثارة هذا السؤال معها في الأهداف التشريعية التي استهدفها الإسلام من تشريع الجهاد.
فهل هي أهداف دفاعية أو وقائية تستهدف تركيز الكيان الإسلامي ودفع الأخطار عنه، وفسح المجال أمام الدعوة الإسلامية لتنطلق دون حاجز مادي أو معنوي؟ أو أنها ليست كذلك، بل هي أهداف تجري في مجال آخر يستهدف إدخال الناس في الإسلام قسراً؟
وبتعبير آخر يجعل المسألة أكثر التصاقاً بموضوع حديثنا في أسلوب الدعوة:
هل كانت الحرب في الإسلام ـ التي تتمثّل في تشريع الجهاد ـ طريقة إسلامية لإكراه الناس على الدخول في الإسلام، وأسلوباً لدعوة الناس إلى اعتناقه قسراً أو إكراهاً؟
أو أنها كانت طريقة واقعية يفرضها الواقع الخارجي لكل دعوة ومبدأ، للدفاع عن كيانه، وحفظه من أعدائه؟
هذا هو السؤال الذي يواجهنا في مدخل القضية.
أما الجواب عنه فله أكثر من جانب وأكثر من جهة، لأننا في سبيل معرفة إسلامية تشريعية، ترتبط بالقرآن الكريم كمصدر أول من مصادر التشريع التي نستنطقها لمعرفة حدود التشريع وأهدافه. ولذا فلا بد لنا من استنطاق الآيات الكريمة التي عرضت لأهداف الحرب والجهاد في الإسلام، وللحيثيات التي لاحظها التشريع الإسلامي في هذا المجال.
كذلك تتصل هذه المعرفة من ناحية أخرى بالتاريخ الإسلامي، من خلال عرضه لحروب النبي(ص) وغزواته، من حيث إنها تمثّل أفعال النبي(ص) وتصرّفاته، ما يلزمنا التعامل معها كمصدر ثانٍ من مصادر التشريع، وهو "السنّة". ولذا فلا بدّ لنا من استنطاق هذا التاريخ، لنتعرف منه الطابع الذي يسود هذه الحروب ويسيطر عليها من حيث كونه طابعاً عدوانياً أو دفاعياً.
وسنحاول أن نرى بعد ذلك ما إذا كان التشريع الإسلامي يسمح أو يقرّ مبدأ الإكراه على الدين كأسلوب من أساليب العمل.
ومتى تمّ لنا ما نحاوله من المعرفة في هذا الحديث، فسنجد أمامنا قضية لا بدّ لنا من معالجتها، وهي قضية اعتبار بعضهم الأسلوب الإسلامي المتسامح في الدعوة تابعاً لمرحلة زمنية معينة لم يكن اللجوء إلى القوة فيها أمراً عملياً. وسنحاول ـ إن شاء الله تعالى ـ أن نتعرّف مدى صحّة ذلك بالرجوع إلى الواقع التاريخي لتشريع هذا الأسلوب في الإسلام واستنطاقه حول هذه القضية.
والآن، نحن هنا مع آيات القتال واحدة واحدة، في محاولة استنطاق واعية لأهداف القتال وغاياته:
قال تعالى:: {أُذِنَ للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأنّ الله على نصرهم لقدير* الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلا أن يقولوا ربّنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقويٌ عزيز} [الحج:39 ـ 40].
قال المفسّرون: إن هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال [التبيان في تفسير القرآن، ج7، ص:320، ط: النجف]. وقيل في سبب نزولها: إن هذه الآية نزلت في المهاجرين الذين أخرجهم أهل مكة من أوطانهم، فلما قووا أمرهم الله بالجهاد وبيّن لهم أنه أذن لهم في قتال من ظلمهم وأخرجهم من أوطانهم. ومعنى بأنهم ظلموا، أي من أجل أنهم ظلموا" [المصدر السابق].
ويذكر الواحدي سبب النـزول بتفصيل أكثر فيقول: قال المفسرون: "كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله(ص)، فلا يزالون يجيئون من مضروب ومشجوج، فشكوهم إلى رسول الله(ص) فيقول: اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال. حتى هاجر رسول الله(ص) فأنزل الله تعالى هذه الآية [أسباب النـزول للواحدي، ص:232].
هذا هو ما قاله المفسرون.. فما الذي تعطيه لنا هذه الآية، وما الذي نستفيده منها على ضوء ذلك؟
لقد عرضت الآية لتشريع القتال في بدايته، بأسلوب يحاول أن يجعل القتال حقاً للمقاتلين، وضرورة حتمية لحياتهم الجديدة التي بدأوا يمارسونها في ظلّ الدِّين الجديد، وذلك بإبراز حكمة التشريع وحيثياته التي تبرّره، فقد ذكرت الآية الكريمة أن المسلمين قد ظلموا من قبل المشركين الذي يقفون منهم موقف المقاتلين المعتدين. ومتى وقع الظلم على أحد، ثبت له الحق في دفع الظلم عن نفسه والأخذ بحقه من ظالمه.
أما كيف تمثّل هذا الظلم في حالة المسلمين مع المشركين، فقد حاولت الآية أن تعطي بعض مظاهره وتبرز بعض خطوطه.
فقد خرج المسلمون من مكة ـ وطنهم الأول ـ، ولكن.. لا طواعية واختياراً، بل كان ذلك نتيجة الاضطهاد والعسف والقسوة والضغط المعنوي والاقتصادي والتنكيل والتعذيب بأفظع أشكاله وألوانه، ولم يكن باستطاعتهم الدفاع عن أنفسهم لقلة عددهم وضعف عدّتهم، ما جعل الظلم يتجسّد بشكل أفظع وصورة أقسى، وإذا كانت الأسباب التي شاركت في خروجهم هي هذه الأسباب، فمن الطبيعي حينئذٍ ما نجده في تعبير الآية عن هذا الخروج بالإخراج الذي يعطي معنى القهر والإكراه وعدم الاختيار.
والقضية الأخرى التي يتمثّل فيها ذلك الظلم، هي أن إخراج المسلمين من دينهم لم يكن نتيجة ذنب جناه هؤلاء، ولا جريمة اقترفوها، بل كان نتيجة أنهم قالوا {ربنا الله}… تلك الكلمة الحقّة التي كانت متنفساً لإيمانهم ومنطلقاً لعقيدتهم ورمزاً للدِّين الذي انطلق في حياتهم الجديدة.
وعلى ضوء هذا، تتجسّد لنا فظاعة الظلم، وتبرز وحشيته، فقد يمكن للإنسان أن يبرّر إبعاد شخص عن ملاعب صباه ومواطن ذكرياته بمبرّرات تلتقي بالإخلال بالأمن ومخالفة النظام، أما أن يكون التبرير لذلك منطلقاً من إعلانه كلمة الحق وإظهار عقيدته بالله، فهذا أمر فظيع.
هذان مظهران للظلم عرضتهما الآية لتجسّد الظلم أمام الآخرين، وبالتالي لتجعل الإذن بالقتال أمراً طبيعياً. ففي المظهر الأول تعتصر العاطفة، لأنه يتصل بإبعاد الإنسان عن ملاعب صباه ومواطن ألفه.. وفي المظهر الثاني تختنق الروح، لأنه يمنع الإيمان من أن يتنفس، والعقيدة من أن تنطلق..
الحكمة الإلهية في تشريع القتال
وربما يسيء البعض فهم الحكمة التشريعية، فيذهب بها بعيداً عن وجهتها، ويبتعد بها عن خطوطها المستقيمة، فقد يحلو لبعضهم أن يفسر هذه الحكمة بأنها تعبير عن طبيعة الثأر للذات، وتنفيس عن الكبت الشخصي الذي يعانيه المظلوم عند عجزه عن الانتصار لقضيته.. وإذاً، فهي لا تمثّل شيئاً أساسياً في حكمة التشريع بقدر ما تمثّل دافعاً شخصياً للرغبة في القتال.
ولكن يبدو لنا أن هذا التفسير خاطىء، وبعيد عن جوّ الآية، فقد نستطيع أن نفهم بوضوح مدى ابتعاد القضية عن الجانب الذاتي والدافع الشخصي إذا لاحظنا طبيعة المبرّرات التي يبرّر بها المشركون موقفهم الظالم من المسلمين.
فالمسلمون ـ في ما تعرضه الآية ـ لم يعانوا الاضطهاد، ولم يقعوا تحت طائلة الظلم نتيجة جريمة اقترفوها، أو ذنب جنوه، بل لأنهم آمنوا بالله واعتقدوا به، واتّبعوا النبي(ص) في ما بشّر به وأنذر.
وإذا كان الأمر على هذا النحو، وإذا كانت القضية في هذا الاتجاه، فمن الطبيعي أن يعتبر هذا الاضطهاد موجّهاً إلى العقيدة، وذلك الظلم واقعاً على الدين الذي يعتنقه هؤلاء ويحملونه.. وما دامت القضية قضية عقيدة تُضطهد ودين يُظلم، فلا مانع من أن تنتفض هذه العقيدة لتحمي حريّتها، ولا غرابة في أن ينطلق هذا الدِّين ليحرس تعاليمه وأحكامه.
ولن نحتاج بعد ذلك إلى جهد لنعرف أن الدفاع عن العقيدة هو أحد الحقوق الطبيعية التي توحي بها الفطرة ويقرّها النظام.
ولولا ذلك، لما أمكن للحياة أن تستمر، ولما تيسّر للعقائد والأديان أن تنطلق وتتركّز وتمتدّ في الحياة الإنسانية.
وهذا ما حاولت الآية الكريمة أن توضحه وتجلوه في قوله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً..} [الحج:40].
فلولا أنّ الله قد أذن لأصحاب العقائد أن يدافعوا عن عقيدتهم، ويمنعوها من أن تضطهد وتظلم، ولولا أن التشريع الإلهي أقرّ لهم ذلك كحقّ تفرضه الفطرة ويدعو إليه النظام.. لولا ذلك، لم يمكن للعقيدة إلا أن تختنق وتتهدّم وتتلاشى أمام قوة الباطل وطغيانه؛ فلا يستطيع المسلم أن يمارس عبادة الله في مسجده، كما لا يستطيع المسيحي والموسوي أن يمارسا عبادتهما في الكنيسة والبيعة. ومن هنا، كان حق الدفاع ضرورة حتمية للحياة، وشريعة الجهاد قانوناً لازماً لإقامة النظام وحفظ التوازن وتحطيم الطغيان.
وخلاصة القضية، أن الآية لم تحاول اعتبار الدعوة إلى الدِّين والإكراه على العقيدة من مبرّرات تشريع القتال والإذن فيه، بل كل ما حاولته وأوضحته هو أن تجعل القتال نتيجة طبيعية للاضطهاد الذي عانته العقيدة من أعدائها، والعذاب الذي لاقاه أتباع العقائد من الكفار، الأمر الذي جعل قضية تركيز قوتها وتأكيد منعتها أمراً حتمياً طبيعياً تفرضه حاجتها للحياة وللحرية، وتقتضيه سنّة الله في خلقه وعباده.
قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدِّين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} [البقرة:193].
{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدِّين كلّه لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير* وإن تولّوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير} [الأنفال:39 ـ 40].
في هاتين الآيتين يبرز سبب آخر للحرب، ولكنه سبب يتّصل بقضية العقيدة مباشرة، فقد انطلق المشركون ـ والإسلام لا يزال في بدايته ـ يمارسون عملية الضغط بكافّة ألوانه ضدّ المسلمين الذين دخلوا الإسلام من جديد، وابتدأت مظاهر هذا الضغط تتمثّل في المحاولة الدائبة في فتنة المسلمين عن دينهم؛ سواء في ذلك الأساليب التي تتّصف بطابع القسوة والعنف، أو الأساليب التي تتّصف بالخديعة والإغراء.
وهنا يجد الإسلام نفسه مهدّداً في قضية وجوده، فقد أصبحت المسألة مسألة حياة أو موت؛ فهو إن وقف وسالم وسلك طريق الدعة والمسالمة فسيجد نفسه وجهاً لوجه أمام الخطر الداهم، في موقف حاسم، لا يستطيع معه الدفاع ولا يتمكن عنده من التقدم.
وبذلك كان القتال ـ حيث لم تنفع الموعظة ـ بالنسبة إليه قضية حيوية حتمية تخاطب واقع حياته، وهو ـ في الوقت نفسه ـ لم يبتدىء بها، وإنما اضطر إليها.. وهكذا نزلت هذه الآية لتأمر المسلمين بالقتال مبيِّنةً لهم أهدافها الدفاعية التي تتعلق بسلامة العقيدة وسلامها، ليكونوا على بيّنة من أمر الحرب التي يخوضونها، وليكونوا على يقين من شرعيّتها من خلال الأهداف الواضحة بعد أن كانوا على يقين من ذلك من خلال الأمر الإلهي المجرّد.. وهكذا بيّنت الآية للمسلمين أن من أهداف هذه الحرب أن يوقف المشركون عند حدّهم في عملية الضغط التي يمارسونها ضدّ هذا الدِّين، فلا تعود الفتنة في الدين تهدّد عقيدة المسلمين، ولا يعود الشرك قوةً تضع العقبات في طريق الدين الحق، بل يكون الدين لله، يلتقي عليه الناس جميعاً في أصالة فطرتهم ونقاء نفوسهم، بما يجعله في داخله من قوة وجلاء ووضوح ويسر وسهولة ومرونة.
وإذا كانت أهداف الحرب التي تتمثّل في الآية هي عدم فسح المجال للفتنة في الدِّين أن تمتدّ، وإعطاء الحرية للدّين بأن ينتشر ويتّسع، بإزاحة العقبات عن طريقه، فلا بدّ لها من أن تقف وتنكمش عند ارتفاع الفتنة وعند قوّة الدين واتّساع مجاله.