هادي الموسوي
05-28-2011, 12:20 AM
حديث الجمعة 251: ثقافة المحبَّة - حاجةُ الوطنِ إلى خطاب المحبَّة لا إلى خطاب الكراهية - لا رفض لمبدأ الحوار
تاريخ: 2011-05-26 م | الموافق: 22 جمادى الآخرة 1432هـ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد الله ربِّ العالمين وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وآله الطاهرين وبعد...
فهذه مجموعة عناوين:
ثقافة المحبَّة:
ما أجمل أن تسود ثقافة المحبّة بين النّاس، وأن تختفي ثقافة الكراهية، فالنّاس إمّا إخوة دينٍ أو نظراء خَلْق.. حسب ما جاء في كلمة أمير المؤمنين عليه السَّلام المعروفة: «فإنَّهم صِنفان، إمَّا أخٌ لك في الدِّين، أو نظيرٌ لك في الخَلْق»(1).
إنَّ ثقافة المحبَّة تزرع الأمن والأمان في الأوطان، وتقوِّي الأواصر والعلاقات...
وأمَّا ثقافة الكراهية فتزرع الخوف، والقلق، التأزُّم، والاضِّطراب، وتفتِّت الأواصر العلاقات...
وكيف تسود ثقافة المحبَّة؟
في حديثٍ للإمام عليٍّ عليه السَّلام:
«ثلاث خصالٍ تُجتَلَبُ بهنَّ المحبَّة:
• الإنصاف في المعاشرة..
• والمواساة في الشِّدّة والانطواع..
• والرجوع إلى قلب سليم» (2).
فأوَّل الخصال التي تزرع المحبَّة: «الإنصاف في المعاشرة»..
فحينما يُنصِف الحاكمُ شعبَه من خلال العدل والرَّحمة، والانفتاح، والتواضع، فسوف يكون الحاكمَ المحبوب بين شعبه، والعكس صحيح...
وكذلك حينما يبادل الشَّعبُ الحاكمَ إنصافًا بإنصافٍ، فهذا يملأ قلبَ الحاكمِ حبًّا لشعبه..
فما أجملَ الوطن، عندما يتبادل الحاكمُ والشَّعبُ حبًّا بحبٍّ، وثقةً بثقةٍ، ولا يكون ذلك إلَّا حينما تكون سياسة الحاكم منصفةً، وتكون علاقة الشَّعب منصفة...
وممَّا ينشرُ المحبَّة بين مكوِّنات الشَّعب أنفسِهم أن يُنصفَ بعضُهم بعضًا، فإذا غاب الإنصاف، وتحكَّم الظُّلم والإجحاف، والإساءة والاعتداء ساد بينهم الاختلاف، وانتشرت الضَّغائن والأحقاد...
وثاني الخصال التي تزرع المحبَّة: «المواساة في الشِّدة والانطواع»..
وحينما نتحدَّث عن المواساة نتحدَّث عن درجةٍ عاليةٍ من الذَّوبان والانصهار في التعاطي مع الآخر، في أتراحه وأفراحه، وفي كلِّ حالاته...
تصوَّروا حاكمًا يواسي شعبَه في مآسيهم، ومِحَنهم، وعناءاتهم، وعذاباتهم، وفقرهم، وجوعهم، وكذلك يشاركهم في كلِّ أفراحهم...
وتصوَّروا مسؤولًا، وزيرًا، وجيهًا، تاجرًا، يواسي البؤساء والفقراء والمحرومين...
وتصوَّروا أبناءَ الوطن الواحد يواسي بعضُهم بعضًا...
لا شكَّ أنَّ المحبَّة سوف تسود بقوَّةٍ في هذا الوطن.
وثالث الخصال التي تزرع المحبَّة: «الرجوع إلى قلبٍ سليم»..
لا قيمةَ لكلمةٍ تحملُ المحبَّةَ إذا كانت كاذبةً ومنافقة..
ولا قيمةَ لبسمةٍ لا تعبِّر عن عاطفةٍ صادقة..
ولا قيمةَ لتصافح الأيدي إذا لم تتصافح القلوب..
الحاجةُ كلُّ الحاجةِ إلى قلوبٍ سليمةٍ نقيَّةٍ طاهرة، عندها تحمل الكلمةُ قيمتها، والبسمةُ معناها، والمصافحة دلالتها.
وقد جاء في الأحاديث توصيفٌ خطير لحالات النَّاس في آخر الزَّمان...
• «كلامهم أحلى مِن العسلِ وقلوبهم أمرُّ من الحنظل» (3).
• «إذا لبس النَّاس جلودَ الضَّأنِ على قلوبِ الذِّئاب، وقلوبهم أنتن مِنَ الجيف وأمرُّ مِنَ الحنظل».
• «إذا صار لأهل الزَّمان وجوهٌ جميلة وضمائر رديئة، فمَنْ رآهم أعجبوه، ومَنْ عاملهم ظلموه».
لكي ننشر ثقافة المحبَّة الصادقة، يجب أن ننشر ثقافة الصِّدق، والطُّهر، والنَّقاء، والصَّفاء، وليس ثقافة الكذب، والدَّجل، والنِّفاق...
وإذا أردنا أن نضيف أسبابًا أخرى تزرع المحبَّة فلنقرأ هذه الروايات:
• قال الإمام عليٌّ عليه السَّلام:
«ثلاثٌ يوجبن المحبَّة: حسن الخلق، وحسن الرفق، والتواضع»(4).
وقال الإمام الباقر عليه السَّلام:
«البُشْرُ الحَسَن، وطلاقة الوجه مكسبة للمحبَّة وقربة من الله، وعبوسُ الوجه، وسوء البُشْر مكسبة للمقت وبُعدٌ مِنَ الله»(5)
• وقال الإمام الصَّادق عليه السَّلام:
«ثلاثة تورث المحبَّة: الدِّين، والتواضع، والبذل»(6).
حاجةُ الوطنِ إلى خطاب المحبَّة لا إلى خطاب الكراهية:
إذا أردنا الخير لهذا الوطن، ولأبناء هذا الوطن، فيجب أن ننشر خطاب المحبَّة والتسامح، لا خطاب الكراهية والانتقام..
عند المنعطفات الصعبة، بكلِّ تعقيداتها، وانفعالاتها، وتداعياتها تختلط الرُّؤى، وتتأزَّم المواقف، وتتشنَّج الخطابات، هنا تتأكّد الحاجة إلى ضبط لغة الخطاب، ومضمون الخطاب، ولهجة الخطاب...
قد يُقال: إنَّ في هذا اختزالًا للمشكل السِّياسي، وتبسيطًا للمأزق الذي تعيشه الأوضاع.. النظام يرى في خطاب التسامح تفريطًا في الحفاظ على ضرورات الأمن، وفي حماية مكتسبات المشروع السِّياسي، الأمر الذي يفرض أن يكون خطابُ السلطة أكثرَ حزمًا وقوةً وضبطًا وشدَّةً بما يتناسب وحاجات الظَّرف الراهن...
وهذا ما تنزع إليه رؤية كلّ القوى المدافعة عن النظام، والتي ترى في التسامح والتساهل أمرًا يدفع إلى مزيدٍ من الانفلات والفوضى والتأزّم...
وفي المقابل يرى الرافضون لسياسة النِّظام أنَّ في فرض القبضة الأمنيَّة انتهاكًا صارخًا للحريَّات، ومصادرةً للحقوق، ممَّا لا يترك مجالًا لخطاب المحبَّة والتسامح، وإلى لغة اللين والمسالمة.
في ظلِّ هذه القناعات المتنافية إلى أين يتَّجه مصير الوطن؟
الخطابات في حاجةٍ إلى مراجعة، والقناعات في حاجةٍ إلى محاسبة، ولن يتمَّ ذلك إلَّا إذا سادت ثقافة المحبَّة والتسامح، أمَّا إذا تحكَّمت ثقافة الكراهية والانتقام فلن تتوفَّر فرص المراجعة والمحاسبة..
إنَّنا حينما نطالب السلطة أن تمارس خطاب المحبَّة والتسامح لا ندعو إلى التفريط في أمن الوطن والمواطن، ولا نسمح بالفوضى والانفلات، إنَّ هذا الخطاب هو الذي يجذِّر الأمن والأمان، وهو الذي يحصِّن الوطن ضدَّ كلِّ التأزُّمات والانفلاتات..
وكذلك حينما نطالب مَنْ يعارض النظام أن يعتمد خطاب المحبَّة والتسامح، لا يعني ذلك التنازل عن المطالب والحقوق، ولا يعني ذلك المداهنة للأوضاع الخاطئة، والسِّياسات الفاسدة، غير أنَّ خطاب المحبَّة والتسامح يفتح الفرص الكبيرة للتصحيح والتغيير والإصلاح...
ربَّما لا يُرضي هذا النَّمط مِنَ الحديث أطرافًا في السلطة وفي خارج السلطة، ومواقع موالية وأخرى معارضة، لذلك تُصرُّ هذه الأطرافُ والمواقع على لغة العنف والفتك والتحريض والتشكيك والقذف والسبّ، إنَّها لغة مقيتة وسيِّئة ومرفوضة، ولا تقود إلَّا إلى مزيدٍ من الصِّراع، والعداوة، والإلغاء، والتعقيد والتأزيم...
أخشى ما نخشاه حينما تتحكَّم هذه اللغة المتشنجة ويسود هذا الخطاب المأزوم أن يتحوَّل الوطنُ إلى ساحةِ عنفٍ وتطرُّف، وعندها لن يكون هناك رابحٌ في هذا الوطن؛ لا السلطة، ولا الشعب، ولا السُّنة، ولا الشِّيعة...
واهمون كلَّ الوهم أولئك الذين يمارسون خطاب التحريض والتخوين والاجتثاث والانتقام، مهما حاولوا أن يُقنعوا أنفسهم أنَّهم الأكثر ولاءً وانتماءً وحبًّا لهذا الوطن...
لا يخدم الوطن في هذه المرحلة أن تعلو أصوات المزايدة، مِن النَّافع أن يتنافس المخلصون في خدمة قضايا الوطن، وفي إصلاح أوضاع الوطن، وفي الدِّفاع عن هموم أبناء الوطن، أمَّا المزايدات الرَّخيصة القائمة على الإقصاء والإلغاء والقذف والتحريض فهي خطيرةٌ وضارَّةٌ ومدمِّرةٌ جدًا.
لا رفض لمبدأ الحوار:
تعالت أصواتٌ دوليّةٌ – رسميّةٌ وحقوقيّةٌ – تطالب الحكومة والمعارضة في البحرين لاعتماد نهج الحوار خيارًا لمعالجة الأوضاع المأزومة والتي تسير في اتّجاه العقيد في ظلِّ الخيار الأمنيّ المتشدِّد...
في هذا السِّياق جاء خطاب الرئيس الأمريكيّ (أوباما) حيث دعا إلى الحوار بين الحكومة البحرينيّة والمعارضة، ودعا إلى إطلاق سجناء السِّياسة، كما ندَّد بالاعتداء على دور العبادة...
وفي هذا السياق وجَّه رئيس وزراء بريطانيا (ديفيد كاميرون) نداءً إلى جميع الأطراف في البحرين بمعالجة المشكلات مِن خلال الحوار الحقيقيّ والبنَّاء...
ودعا مجلس وزراء خارجيَّة دول الإتحاد الأوروبيّ الحكومةَ والمعارضة في البحرين إلى فتح باب الحوار والمفاوضات لحلِّ الأزمة السِّياسية التي تمرُّ بها البلاد، وأكَّد بيان المجلس الأوروبي على ضرورة أن يكون الحوار حقيقيًّا وبنَّاءً، لكي يخرج بإصلاحاتٍ تعرض تصوّراتٍ تعالج بنجاحٍ التحدِّيات التي يواجهها هذا البلد...
وقال (برنار فاليروا) المتحدِّث باسم الخارجيَّة الفرنسيَّة:
«لقد حان الوقت للبحث عن السبل لقيام حوارٍ صادقٍ بين الأطراف المعنيّة، وللمصالحة، وهو الحلُّ الوحيد الدائم للأزمة السّياسية في البحرين».
وهناك دعواتٌ وتصريحاتٌ كثيرةٌ في هذا السِّياق...
لا نظنُّ أحدًا ممّن يريد الخير لهذا الوطن يرفض مبدأ الحوار، رغم وجود معوِّقات صعبة طريق هذا الحوار، فالأشهر الأخيرة التي شهدتها البحرين مثقلة بأحداثٍ مؤلمةٍ جدًا، أنتجت ضحايا، ودماءً، وسجونًا وزنزاناتٍ امتلأت بالمعتقلين والمعتقلات، وصدرت أحكام إعدام، وارتبكت الكثير من أوضاع البلد السِّياسية والأمنيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والتعليميَّة، وتصاعدت حالات التشنُّج الطائفيّ، وارتفعت وتيرة الخطابات الغاضبة والمحرِّضة والمؤجِّجة والمأزِّمة، واختلطت الأوراق، وارتكبت الرُّؤى والقراءات، الأمر الذي أطاح - عند الكثيرين- بأيِّ أملٍ في الحوار...
ومهما بدت الأمور - عند البعض - معقَّدة كلَّ التعقيد، وأنَّ الأفاق مُعتمة كثيرًا، إلَّا أنَّ هذا لا يبرِّر أن نكون مسكونين باليأس والإحباط، وكنَّا ندعو للحوار منذ زمنٍ بعيد...
صحيحٌ أنَّه في ظلِّ أوضاعٍ أمنيَّةٍ مستنفرة لا يمكن أن يتحرَّك حوار...
وصحيحٌ في ظلِّ موجةٍ من الاعتقالات والملاحقات لا يمكن أن يتحرَّك حوار...
وصحيحٌ في ظلِّ أحكامٍ الإعدام لا يمكن أن يتحرَّك حوار...
وصحيحٌ في ظلِّ التشنُّجات والانفعالات والحساسيات المفرطة لا يمكن أن يتحرَّك حوار...
وصحيحٌ... وصحيحٌ...
إلَّا أنَّا حينما ندفع في اتِّجاه التفاؤل نؤكّد أنَّ السلطة تتحمَّل كلَّ المسؤوليَّة في توفير كلِّ المناخات الصالحة لحركة الحوار الحقيقيّ والجادّ والهادف إلى إنقاذ هذا الوطن من مآزقه وأزماته، والهادف إلى تحقيق مطالب الشعب المشروعة، والعادلة...
فنحن حينما نتحدَّث عن حوارٍ لا نتحدَّث عن خيارٍ للاستهلاك والتخدير والعودة إلى نقطة الصفر، إنَّ حوارًا محكومًا عليه بالفشل نتائجه أكثر سوءًا وأكثر تعقيدًا وتأزيمًا... فإذا كان هناك قناعاتٌ صادقةٌ بهذا الخيار فيجب أن تكون مُؤسَّسةً على مكوِّناتٍ قادرةٍ أن تحقِّق كلَّ الخير، وكلَّ الأمن، وكلَّ الاستقرار لهذا الوطن، وكلَّ الرضا والاطمئنان والأمان لهذا الشعب...
إنَّنا نثمِّن كلَّ الجهود المخلصة التي تسعى للدفع في اتِّجاه الإصلاحات الحقيقيَّة الرَّامية إلى انقاد هذا البلد من أزماته، ونرفض كلَّ محاولات التأزيم والعنف والفتك، وندعو إلى إعادة النظر في كلِّ الحسابات من أجل صالح هذا الوطن، ومن أجل راحة هذا الشعب...
(1) (نهج البلاغة، ج3، ص 427، من كتاب له (ع) إلى مالك الأشتر. (طبعة مؤسّسة دار الهجرة، قم – إيران)
(2) (المجلسي: بحار الأنوار 75/ 82، ب16، ح77 – طبعة دار إحياء التراث - بيروت)
(3) (المجلسي: بحار الأنوار 52/ 264، ب25، ح148)
(4) (الريشهري: ميزان الحكمة1/ 496، حرف الجيم)
(5) (الريشهري: ميزان الحكمة1/ 496، حرف الجيم)
(6) (الريشهري: ميزان الحكمة1/ 496، حرف الجيم)
تاريخ: 2011-05-26 م | الموافق: 22 جمادى الآخرة 1432هـ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد الله ربِّ العالمين وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وآله الطاهرين وبعد...
فهذه مجموعة عناوين:
ثقافة المحبَّة:
ما أجمل أن تسود ثقافة المحبّة بين النّاس، وأن تختفي ثقافة الكراهية، فالنّاس إمّا إخوة دينٍ أو نظراء خَلْق.. حسب ما جاء في كلمة أمير المؤمنين عليه السَّلام المعروفة: «فإنَّهم صِنفان، إمَّا أخٌ لك في الدِّين، أو نظيرٌ لك في الخَلْق»(1).
إنَّ ثقافة المحبَّة تزرع الأمن والأمان في الأوطان، وتقوِّي الأواصر والعلاقات...
وأمَّا ثقافة الكراهية فتزرع الخوف، والقلق، التأزُّم، والاضِّطراب، وتفتِّت الأواصر العلاقات...
وكيف تسود ثقافة المحبَّة؟
في حديثٍ للإمام عليٍّ عليه السَّلام:
«ثلاث خصالٍ تُجتَلَبُ بهنَّ المحبَّة:
• الإنصاف في المعاشرة..
• والمواساة في الشِّدّة والانطواع..
• والرجوع إلى قلب سليم» (2).
فأوَّل الخصال التي تزرع المحبَّة: «الإنصاف في المعاشرة»..
فحينما يُنصِف الحاكمُ شعبَه من خلال العدل والرَّحمة، والانفتاح، والتواضع، فسوف يكون الحاكمَ المحبوب بين شعبه، والعكس صحيح...
وكذلك حينما يبادل الشَّعبُ الحاكمَ إنصافًا بإنصافٍ، فهذا يملأ قلبَ الحاكمِ حبًّا لشعبه..
فما أجملَ الوطن، عندما يتبادل الحاكمُ والشَّعبُ حبًّا بحبٍّ، وثقةً بثقةٍ، ولا يكون ذلك إلَّا حينما تكون سياسة الحاكم منصفةً، وتكون علاقة الشَّعب منصفة...
وممَّا ينشرُ المحبَّة بين مكوِّنات الشَّعب أنفسِهم أن يُنصفَ بعضُهم بعضًا، فإذا غاب الإنصاف، وتحكَّم الظُّلم والإجحاف، والإساءة والاعتداء ساد بينهم الاختلاف، وانتشرت الضَّغائن والأحقاد...
وثاني الخصال التي تزرع المحبَّة: «المواساة في الشِّدة والانطواع»..
وحينما نتحدَّث عن المواساة نتحدَّث عن درجةٍ عاليةٍ من الذَّوبان والانصهار في التعاطي مع الآخر، في أتراحه وأفراحه، وفي كلِّ حالاته...
تصوَّروا حاكمًا يواسي شعبَه في مآسيهم، ومِحَنهم، وعناءاتهم، وعذاباتهم، وفقرهم، وجوعهم، وكذلك يشاركهم في كلِّ أفراحهم...
وتصوَّروا مسؤولًا، وزيرًا، وجيهًا، تاجرًا، يواسي البؤساء والفقراء والمحرومين...
وتصوَّروا أبناءَ الوطن الواحد يواسي بعضُهم بعضًا...
لا شكَّ أنَّ المحبَّة سوف تسود بقوَّةٍ في هذا الوطن.
وثالث الخصال التي تزرع المحبَّة: «الرجوع إلى قلبٍ سليم»..
لا قيمةَ لكلمةٍ تحملُ المحبَّةَ إذا كانت كاذبةً ومنافقة..
ولا قيمةَ لبسمةٍ لا تعبِّر عن عاطفةٍ صادقة..
ولا قيمةَ لتصافح الأيدي إذا لم تتصافح القلوب..
الحاجةُ كلُّ الحاجةِ إلى قلوبٍ سليمةٍ نقيَّةٍ طاهرة، عندها تحمل الكلمةُ قيمتها، والبسمةُ معناها، والمصافحة دلالتها.
وقد جاء في الأحاديث توصيفٌ خطير لحالات النَّاس في آخر الزَّمان...
• «كلامهم أحلى مِن العسلِ وقلوبهم أمرُّ من الحنظل» (3).
• «إذا لبس النَّاس جلودَ الضَّأنِ على قلوبِ الذِّئاب، وقلوبهم أنتن مِنَ الجيف وأمرُّ مِنَ الحنظل».
• «إذا صار لأهل الزَّمان وجوهٌ جميلة وضمائر رديئة، فمَنْ رآهم أعجبوه، ومَنْ عاملهم ظلموه».
لكي ننشر ثقافة المحبَّة الصادقة، يجب أن ننشر ثقافة الصِّدق، والطُّهر، والنَّقاء، والصَّفاء، وليس ثقافة الكذب، والدَّجل، والنِّفاق...
وإذا أردنا أن نضيف أسبابًا أخرى تزرع المحبَّة فلنقرأ هذه الروايات:
• قال الإمام عليٌّ عليه السَّلام:
«ثلاثٌ يوجبن المحبَّة: حسن الخلق، وحسن الرفق، والتواضع»(4).
وقال الإمام الباقر عليه السَّلام:
«البُشْرُ الحَسَن، وطلاقة الوجه مكسبة للمحبَّة وقربة من الله، وعبوسُ الوجه، وسوء البُشْر مكسبة للمقت وبُعدٌ مِنَ الله»(5)
• وقال الإمام الصَّادق عليه السَّلام:
«ثلاثة تورث المحبَّة: الدِّين، والتواضع، والبذل»(6).
حاجةُ الوطنِ إلى خطاب المحبَّة لا إلى خطاب الكراهية:
إذا أردنا الخير لهذا الوطن، ولأبناء هذا الوطن، فيجب أن ننشر خطاب المحبَّة والتسامح، لا خطاب الكراهية والانتقام..
عند المنعطفات الصعبة، بكلِّ تعقيداتها، وانفعالاتها، وتداعياتها تختلط الرُّؤى، وتتأزَّم المواقف، وتتشنَّج الخطابات، هنا تتأكّد الحاجة إلى ضبط لغة الخطاب، ومضمون الخطاب، ولهجة الخطاب...
قد يُقال: إنَّ في هذا اختزالًا للمشكل السِّياسي، وتبسيطًا للمأزق الذي تعيشه الأوضاع.. النظام يرى في خطاب التسامح تفريطًا في الحفاظ على ضرورات الأمن، وفي حماية مكتسبات المشروع السِّياسي، الأمر الذي يفرض أن يكون خطابُ السلطة أكثرَ حزمًا وقوةً وضبطًا وشدَّةً بما يتناسب وحاجات الظَّرف الراهن...
وهذا ما تنزع إليه رؤية كلّ القوى المدافعة عن النظام، والتي ترى في التسامح والتساهل أمرًا يدفع إلى مزيدٍ من الانفلات والفوضى والتأزّم...
وفي المقابل يرى الرافضون لسياسة النِّظام أنَّ في فرض القبضة الأمنيَّة انتهاكًا صارخًا للحريَّات، ومصادرةً للحقوق، ممَّا لا يترك مجالًا لخطاب المحبَّة والتسامح، وإلى لغة اللين والمسالمة.
في ظلِّ هذه القناعات المتنافية إلى أين يتَّجه مصير الوطن؟
الخطابات في حاجةٍ إلى مراجعة، والقناعات في حاجةٍ إلى محاسبة، ولن يتمَّ ذلك إلَّا إذا سادت ثقافة المحبَّة والتسامح، أمَّا إذا تحكَّمت ثقافة الكراهية والانتقام فلن تتوفَّر فرص المراجعة والمحاسبة..
إنَّنا حينما نطالب السلطة أن تمارس خطاب المحبَّة والتسامح لا ندعو إلى التفريط في أمن الوطن والمواطن، ولا نسمح بالفوضى والانفلات، إنَّ هذا الخطاب هو الذي يجذِّر الأمن والأمان، وهو الذي يحصِّن الوطن ضدَّ كلِّ التأزُّمات والانفلاتات..
وكذلك حينما نطالب مَنْ يعارض النظام أن يعتمد خطاب المحبَّة والتسامح، لا يعني ذلك التنازل عن المطالب والحقوق، ولا يعني ذلك المداهنة للأوضاع الخاطئة، والسِّياسات الفاسدة، غير أنَّ خطاب المحبَّة والتسامح يفتح الفرص الكبيرة للتصحيح والتغيير والإصلاح...
ربَّما لا يُرضي هذا النَّمط مِنَ الحديث أطرافًا في السلطة وفي خارج السلطة، ومواقع موالية وأخرى معارضة، لذلك تُصرُّ هذه الأطرافُ والمواقع على لغة العنف والفتك والتحريض والتشكيك والقذف والسبّ، إنَّها لغة مقيتة وسيِّئة ومرفوضة، ولا تقود إلَّا إلى مزيدٍ من الصِّراع، والعداوة، والإلغاء، والتعقيد والتأزيم...
أخشى ما نخشاه حينما تتحكَّم هذه اللغة المتشنجة ويسود هذا الخطاب المأزوم أن يتحوَّل الوطنُ إلى ساحةِ عنفٍ وتطرُّف، وعندها لن يكون هناك رابحٌ في هذا الوطن؛ لا السلطة، ولا الشعب، ولا السُّنة، ولا الشِّيعة...
واهمون كلَّ الوهم أولئك الذين يمارسون خطاب التحريض والتخوين والاجتثاث والانتقام، مهما حاولوا أن يُقنعوا أنفسهم أنَّهم الأكثر ولاءً وانتماءً وحبًّا لهذا الوطن...
لا يخدم الوطن في هذه المرحلة أن تعلو أصوات المزايدة، مِن النَّافع أن يتنافس المخلصون في خدمة قضايا الوطن، وفي إصلاح أوضاع الوطن، وفي الدِّفاع عن هموم أبناء الوطن، أمَّا المزايدات الرَّخيصة القائمة على الإقصاء والإلغاء والقذف والتحريض فهي خطيرةٌ وضارَّةٌ ومدمِّرةٌ جدًا.
لا رفض لمبدأ الحوار:
تعالت أصواتٌ دوليّةٌ – رسميّةٌ وحقوقيّةٌ – تطالب الحكومة والمعارضة في البحرين لاعتماد نهج الحوار خيارًا لمعالجة الأوضاع المأزومة والتي تسير في اتّجاه العقيد في ظلِّ الخيار الأمنيّ المتشدِّد...
في هذا السِّياق جاء خطاب الرئيس الأمريكيّ (أوباما) حيث دعا إلى الحوار بين الحكومة البحرينيّة والمعارضة، ودعا إلى إطلاق سجناء السِّياسة، كما ندَّد بالاعتداء على دور العبادة...
وفي هذا السياق وجَّه رئيس وزراء بريطانيا (ديفيد كاميرون) نداءً إلى جميع الأطراف في البحرين بمعالجة المشكلات مِن خلال الحوار الحقيقيّ والبنَّاء...
ودعا مجلس وزراء خارجيَّة دول الإتحاد الأوروبيّ الحكومةَ والمعارضة في البحرين إلى فتح باب الحوار والمفاوضات لحلِّ الأزمة السِّياسية التي تمرُّ بها البلاد، وأكَّد بيان المجلس الأوروبي على ضرورة أن يكون الحوار حقيقيًّا وبنَّاءً، لكي يخرج بإصلاحاتٍ تعرض تصوّراتٍ تعالج بنجاحٍ التحدِّيات التي يواجهها هذا البلد...
وقال (برنار فاليروا) المتحدِّث باسم الخارجيَّة الفرنسيَّة:
«لقد حان الوقت للبحث عن السبل لقيام حوارٍ صادقٍ بين الأطراف المعنيّة، وللمصالحة، وهو الحلُّ الوحيد الدائم للأزمة السّياسية في البحرين».
وهناك دعواتٌ وتصريحاتٌ كثيرةٌ في هذا السِّياق...
لا نظنُّ أحدًا ممّن يريد الخير لهذا الوطن يرفض مبدأ الحوار، رغم وجود معوِّقات صعبة طريق هذا الحوار، فالأشهر الأخيرة التي شهدتها البحرين مثقلة بأحداثٍ مؤلمةٍ جدًا، أنتجت ضحايا، ودماءً، وسجونًا وزنزاناتٍ امتلأت بالمعتقلين والمعتقلات، وصدرت أحكام إعدام، وارتبكت الكثير من أوضاع البلد السِّياسية والأمنيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والتعليميَّة، وتصاعدت حالات التشنُّج الطائفيّ، وارتفعت وتيرة الخطابات الغاضبة والمحرِّضة والمؤجِّجة والمأزِّمة، واختلطت الأوراق، وارتكبت الرُّؤى والقراءات، الأمر الذي أطاح - عند الكثيرين- بأيِّ أملٍ في الحوار...
ومهما بدت الأمور - عند البعض - معقَّدة كلَّ التعقيد، وأنَّ الأفاق مُعتمة كثيرًا، إلَّا أنَّ هذا لا يبرِّر أن نكون مسكونين باليأس والإحباط، وكنَّا ندعو للحوار منذ زمنٍ بعيد...
صحيحٌ أنَّه في ظلِّ أوضاعٍ أمنيَّةٍ مستنفرة لا يمكن أن يتحرَّك حوار...
وصحيحٌ في ظلِّ موجةٍ من الاعتقالات والملاحقات لا يمكن أن يتحرَّك حوار...
وصحيحٌ في ظلِّ أحكامٍ الإعدام لا يمكن أن يتحرَّك حوار...
وصحيحٌ في ظلِّ التشنُّجات والانفعالات والحساسيات المفرطة لا يمكن أن يتحرَّك حوار...
وصحيحٌ... وصحيحٌ...
إلَّا أنَّا حينما ندفع في اتِّجاه التفاؤل نؤكّد أنَّ السلطة تتحمَّل كلَّ المسؤوليَّة في توفير كلِّ المناخات الصالحة لحركة الحوار الحقيقيّ والجادّ والهادف إلى إنقاذ هذا الوطن من مآزقه وأزماته، والهادف إلى تحقيق مطالب الشعب المشروعة، والعادلة...
فنحن حينما نتحدَّث عن حوارٍ لا نتحدَّث عن خيارٍ للاستهلاك والتخدير والعودة إلى نقطة الصفر، إنَّ حوارًا محكومًا عليه بالفشل نتائجه أكثر سوءًا وأكثر تعقيدًا وتأزيمًا... فإذا كان هناك قناعاتٌ صادقةٌ بهذا الخيار فيجب أن تكون مُؤسَّسةً على مكوِّناتٍ قادرةٍ أن تحقِّق كلَّ الخير، وكلَّ الأمن، وكلَّ الاستقرار لهذا الوطن، وكلَّ الرضا والاطمئنان والأمان لهذا الشعب...
إنَّنا نثمِّن كلَّ الجهود المخلصة التي تسعى للدفع في اتِّجاه الإصلاحات الحقيقيَّة الرَّامية إلى انقاد هذا البلد من أزماته، ونرفض كلَّ محاولات التأزيم والعنف والفتك، وندعو إلى إعادة النظر في كلِّ الحسابات من أجل صالح هذا الوطن، ومن أجل راحة هذا الشعب...
(1) (نهج البلاغة، ج3، ص 427، من كتاب له (ع) إلى مالك الأشتر. (طبعة مؤسّسة دار الهجرة، قم – إيران)
(2) (المجلسي: بحار الأنوار 75/ 82، ب16، ح77 – طبعة دار إحياء التراث - بيروت)
(3) (المجلسي: بحار الأنوار 52/ 264، ب25، ح148)
(4) (الريشهري: ميزان الحكمة1/ 496، حرف الجيم)
(5) (الريشهري: ميزان الحكمة1/ 496، حرف الجيم)
(6) (الريشهري: ميزان الحكمة1/ 496، حرف الجيم)