المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اسأل مجرب ... الدعاء في سجن (مزرعة طرة) مستجاب



فاطمي
04-17-2011, 11:04 PM
نهرو عبد الصبور طنطاوي - عرب تايمز


لقد تم اعتقالي سياسيا لمدة ثلاث سنوات في عام 1992م وكنت يومها في التاسعة عشرة من عمري بسبب إلقائي خطبة جمعة انتقدت فيها الرئيس مبارك وذكرت فيها أن هذا الرجل تبدو عليه غلظة القلب وقساوته، ويبدو عليه أنه رجل عنيد جبار متكبر يحتقر الشعب المصري ولا يرقب فيه إلا ولا ذمة، وطالبت يومها بالثورة عليه وعزله من الحكم وإيداعه السجن، وبعد أن فرغت من الخطبة ومن أداء صلاة الجمعة رجعت إلى بيتي، فلما جن الليل وبعد انتصافه بساعتين إذا بزوار الفجر يقرعون الباب قرعا وكأن القيامة قد قامت، فهرع أبي إلى الباب ليفتحه، ولما فتحه وجد قوة من مباحث أمن الدولة مدججة بالأسلحة الآلية والعربات المصفحة، وجنود الأمن المركزي تحيط بالبيت، وتم إغلاق كل الشوارع التي تؤدي إلى البيت، وتم إلقاء القبض علي واقتادوني إلى مبنى فرع مباحث أمن الدولة بأسيوط بعد أن وضعوا عصابة سوداء على عيني وربطوا يدي من خلفي وقيدوا قدمي ووضعوا فيهما القيود الحديدية، ثم حملوني وألقوا بي على ظهر سيارة نقل (لوري)، كان بها عددا ممن ألقوا القبض عليهم قبلي من بعض البلاد والقرى المجاورة.

وبعد التحقيقات معي في مقر أمن الدولة بأسيوط لمدة عشرة أيام قرروا اعتقالي، فقاموا بترحيلي إلى سجن (استقبال طرة) بالقاهرة، وبعد أربعين يوما جاءني إفراج قضائي بناء على تظلم تقدم به بعض إخوتي إلى المحكمة، لكنهم لم يطلقوا سراحي، وقاموا بترحيلي مرة أخرى من (سجن استقبال طرة) بالقاهرة إلى حيث مبنى مباحث أمن الدولة بأسيوط، ومكثت في مبنى أمن الدولة ما يقرب من أسبوعين، وبعدها قرروا اعتقالي مرة ثانية وقاموا بترحيلي إلى (السجن الصناعي بأبي زعبل) التابع لمحافظة القليوبية فمكثت بهذا السجن ما يقرب من عامين، وطلبت من أهلي يومها بألا يرفعوا لي دعوة تظلم مرة أخرى لأنني أعلم أنهم سيعيدوا اعتقالي مرة أخرى، كي أتجنب المعاناة المفرطة والقاسية التي ألاقيها في عملية الترحيل ذهابا وإيابا بين القاهرة وأسيوط في عربة الترحيلات في عز البرد وفي عز الحر، فاستجابوا لي ولم يرفعوا دعوة تظلم مرة أخرى، وأنا هنا لن أتحدث عما لاقيت أنا ومن معي في السجن من اضطهاد وذل وتعذيب وقهر داخل سجون الطاغية الأثيم (حسني مبارك)، ولن أتحدث عن نوعية الطعام التي كانت تقدم للسجناء

السياسيين التي تعاف البهائم عن تناولها، ولن أتحدث عن مدى التفنن الذي كان يتفننه زبانية الطاغية الأثيم (حسني مبارك) وجنوده الأشرار في التنكيل بنا وإذلالنا وإهانتنا ودهس كرامتنا بأحذيتهم بطريقة يخجل فرعون موسى عن فعل مثيلها، ولن أتحدث عن افتعال إدارة السجن لأزمة ومشكلة في أواخر عام 1993م بإيعاز من مباحث أمن الدولة لإغلاق السجن علينا غلقا كاملا ومنعنا من الفسحة خارج الزنازين، ومنع زيارات الأهالي لمدة عام ونصف العام، ومنع دخول أي طعام يأتينا من خارج السجن، ولن أتحدث عن أنهم قاموا بتجريدنا من ملابسنا جميعها ولم يبقوا لكل سجين سوى قطعتين فقط من الملابس الداخلية، وأخذوا كل ما لدينا من بطاطين ننام عليها أو نتغطى بها، وتركونا هكذا ننام على أرضية بلاط الزنازين دون فراش ودون غطاء لمدة شهرين ونصف، وكان ذلك في شهر نوفمبر وديسمبر ويناير 1993م، أي في عز زمهرير الشتاء السام، وقاموا بإخلاء جميع زنازين السجن تماما من كل شيء ومن أي آنية للأكل أو الشرب، وكانوا يضعون لنا طعام (الفول) و(العدس) في أكياس بلاستيكية أو على ورق كارتون أتوا به من حاويات زبالة المساجين الجنائيين في (سجن ليمان أبي زعبل) المجاور لنا.

لن أتحدث عن كل هذا ولا عن آلاف الأشياء والتفصيلات غيرها، إذ كل ذلك لم يؤلمني نفسيا ولم يترك بداخلي أي آثار سيئة، لكن ما آلمني حقا وترك بالغ الأثر في نفسي هو ذلك الأثر الذي يشبه كي جمرة نار لا تنطفئ وظلت تغلي في دمي وفي عروقي وأوردتي وشراييني حتى استجاب الله دعوتي في الطاغية الأثيم (حسني مبارك) وملأه وجنوده، ففي أواخر العامين اللذين قضيتهما في السجن الصناعي بأبي زعبل يبدو أن أحدا من أهلي تقدم بتظلم إلى القضاء للإفراج عني، وليته ما فعل، فبالفعل جاءني إفراج، فقاموا بترحيلي إلى (قسم شرطة شبرا) ومكثت فيه ما يقرب من ستة أيام، وذات صباح نادوا علي وعلى من معي من المعتقلين لترحيلنا مرة أخرى إلى (سجن أبي زعبل الصناعي).


وحين وصلت بنا عربة الترحيلات إلى باب السجن في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وكان عدد المعتقلين بداخلها ما يقرب من 22 معتقلا، وجدنا أن إدارة السجن قد جهزوا لنا ما يسمى بـ (التشريفة) أو (الاستقبال)، وهما عبارة عن عشرات من قوات الأمن المركزي المدججين بالهراوات والعصي المكهربة، وعلى رأسهم ضابط مباحث بزي مدني يدعى (مصطفى جابر) أمرنا هذا الضابط بخلع ملابسنا جميعها وحين أقول جميعها أعني جميع الملابس بلا استثناء، ثم أمرنا أن ننزل الواحد تلو الآخر في براميل حديدية مملوءة بماء شديد البرودة وكان ذلك في عز الشتاء وكانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وكان يأمر كل من يخرج من البرميل أن يتدحرج بكامل جسده على الأرض ثم يعود مرة أخرى إلى البرميل وهكذا.

كل هذا يتم تحت الضرب المستمر بعصي من الخيزران الرفيع على ظهورنا وصدورنا بقسوة مفرطة وبلا آدمية منقطعة النظير من قبل عشرات من جنود الأمن المركزي. وبعد أن استمر الضابط يفعل بنا هكذا لفترة من الوقت، أمرنا أن نصطف جميعا في طابور ثم أمرنا بالسجود، (إي وربي أمرنا بالسجود له)، ثم قال أريد منكم أن تقولوا بأعلى أصواتكم (سبحان مصطفى جابر) وأنتم ساجدين لي، ولما امتنعنا عن فعل ذلك ظل هذا الضابط (الكفار الأثيم) يفعل بنا ذلك حتى أذان الفجر.

وبعد هذه الحادثة ببضعة أيام قاموا بترحيلي من سجن (أبي زعبل الصناعي) إلى (سجن مزرعة طرة) المتواجد فيه الآن أفراد عصابة الطاغية الأثيم (حسني مبارك)، وفي هذا السجن كلما تذكرت ليلة (التشريفة) و(الاستقبال) تلك كلما فُتِحَت جراحي وازدادت آلامي واتقد قهري، فكنت أنشد راحتي وتخفيفا لآلامي في تلاوة بضع آيات من القرآن، وكنت أتوضأ وأقوم بين يدي الله في الصلاة وأدعو على مبارك وزبانيته وملأه وجنوده أن يذيقهم الله الخزي في الحياة الدنيا قبل موتهم وقبل يوم القيامة وأن يشفي منهم صدور قوم مظلومين مقهورين،

وفي إحدى الليالي وأنا في سجن (مزرعة طرة) ظللت أصلي تلك الليلة وأنا أردد لعشرات المرات دعاء موسى على فرعون الوارد في سورة يونس الذي قال فيه: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ(88) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) (89_ يونس). فكتب الله لي أن أخرج من السجن الصغير عام 1995م إلى السجن الكبير

فمنذ خروجي من (سجن مزرعة طرة) في عام 1995 وأنا شبه خاضع للإقامة الجبرية في موطني بأسيوط، ومنذ 18 عاما واسمي موضوع على كافة كمبيوترات موانئ ومطارات مصر في قائمة الممنوعين من السفر والمطلوبين أمنيا، وغير مسموع لي بالسفر خارج مصر إلا بتصريح رسمي من مباحث أمن الدولة، وممنوع علي مغادرة محافظة أسيوط إلى أي محافظة أخرى من محافظات مصر إلا بعد إعلام وموافقة مباحث أمن الدولة وإفادتهم بدواعي السفر وأين سأقيم ومدة الإقامة ومتى سأعود، ومحظور علي الظهور في أي برنامج تليفزيوني أو الإدلاء بأي حوار في أي جريدة داخل مصر أو خارجها إلا بعد إبلاغ الجهات الأمنية بذلك وأخذ موافقتها، وظللت هكذا حتى قيام ثورة 25 يناير واستجاب الله لدعائي ولدعاء ملايين المظلومين والمقهورين والمعذبين في ظل نظام الطاغية الأثيم (حسني مبارك)، وجاء اليوم الذي أراد الله أن يسجن فيه الطاغية الأثيم (حسني مبارك) وعصابته في نفس السجن الذي سجن وأذل وعذب فيه شعبه.

ألا بُعْداً لمبارك وبُعْداً لملأه وبُعْداً لجنوده وزبانيته الأشرار، وألا بُعْداً لكل طاغية وبُعْداً لكل كفار أثيم، (فَقُطِعَ دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)، الحمد الله الذي صدق وعده واستجاب دعوات عباده المظلومين والحمد الذي أعز الشعب المصري وهزم وأذل حسني مبارك وأفراد عصابته المجرمين، (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) (92_ يونس).