المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ذكريات سجين



بحرين السلام
04-13-2011, 11:33 AM
لقد مرت على البحرين أيام عصيبه ومن تلك الأيام , أيام الإنتفاضه في تسعينيات القرن الماضي حيث مارس النظام القمعي في تلك الفتره كل أصناف التنكيل و التعذيب بحق أبناء الشعب البحريني وقتل من قتل في السجون و تعذب من تعذب و لكن تبقى الذكريات المره على أبناء هذا الشعب

و أحببت في هذا الموضوع أن أنقل لكم مذكرات أحد المعتقلين من فترة التسعينات و التي يروي فيها العذابات التي كان يعاني منها الشعب

وسأنقل لكم المذكرات بالتدريج علما بأن المذكرات نشرت من أربع سنوات في البحرين على صورة كتيب و المذكرات تعود للأسير الرادود الحسيني عبد الشهيد الثور

بحرين السلام
04-13-2011, 11:35 AM
الحلقة الأولى : جاءوا مع الفجر

سهدت العيون وتوسدت الأجفان توائمها واستقرت بي الأحلام إلى حيث التحليق في آفاق العبور في روضة البقيع الوادعة .أخذتني لذة المنام شيئاً ما ، شيئاً ما لم يطل حتى أرقت سمعي قعقعة أحذية قاسية تعبر الزقاق المجاور لمنزلنا . أستيقظت أفرك جفني بأصابع مازالت متخدرة بسكرة المنام ، خفضت أناملي ورفعت جسمي من فراشي معطياً عيني جهة الباب متحفزاً للإمساك بمقبض الباب .

خرجت في الظلام الداجي متسللاً للمطبخ المجاور لحجرتي ، دون أن أشعل الضوء حملت جسدي حملاً متأنياً كي لاتصدر من خطواتي أية حركة تنم عن وجود متحرك ، توجهت للنافذة الخشبية المطلة على الشارع الخارجي ، كانت النافذة من النوع الخشبي القديم ، كنا نسميها ( دريشة ) تتكون من خشب يتيح للضوء والهواء فرصة التسلل للداخل ولايمكن الناظر من بعث نظراته لما خلف ( الدريشة ) .

هذا في الجانب السفلي من النافذة حيث يقف صفان من الخشب المائل ، أما القسم العلوي من النافذة فتنفرج منه بوابتان صغيرتان ليبدو أمامهما صف من الأعمدة الحديدية المطلية . كانت النافذة مغلقة ومن خلال البوابتين المقفلتين تسلل شعاع هادئ ينبأ عن وجود ضوء خلفهما ، دسست عيني في ثقب صغير في البوابة اليمنى من النافذة مستجلياً خبر ما يجري في الخارج .

كلما قربت جسدي ورفعت رجلي لأتمكن من تسديد عيني في الثقب أتسع بؤبوآهما ، أخيراً لاحت لي بعض الحركات السريعة في الزقاق ، حشد من رجال الأمن المدجج بأسلحة مقاومة الشغب ، لم تتمكن عيني من رصد وجه ما ، فهناك حركة دائبة في الزقاق ، كأنهم ينتظرون أحد ما أو يحرسون أحدا آخر .

شعرت برجلين تتسحبان وتدخلان المطبخ ، بلى هذا أخي ( محمد ) ينفتل من ( المجلس ) خاطبني هامساً : إنهم يملأون الشارع بالعشرات ولقد رصدتهم من خلال نافذة المجلس الحديدية ، لقد لاحظوني ونادوني طالبين مني فتح الباب لهم . كانوا يعتقدون أني سأخافهم وأبادر مهرولاً لفتح الباب ، وكأني لم أسمع صراخهم علي ..... أفتح الباب ........ أعطيتهم آذاناً صماء ووليت مدبراً عن النافذة . قلت في نفسي : إتعبوا على أنفسكم ، كنت متيقناً من عدم إستطاعتهم فتح الباب ، باب البيت حديد محكم الإقفال .

سمعت صوت الرفسات المتتالية على الباب وأصوات صرخاتهم المتعالية في الخارج . أعتقدت للحظة ما أنهم سيملون من المحاولة ويعودون منصرفين ، أخذت نفسي ودخلت إلى حجرتي متناسياً ما يدور خلفي من عويل الأحذية وأنين الباب .

طرحت جسدي فوق السرير وأقفلت جفناً على الآخر وأسترسلت في الضغط على أفكاري للولوج إلى عالم السبات . غفت عيني لدقائق وجيزة وأستلبني قرع خفيف على باب حجرتي من بين يدي ملكوت النوم .

هببت واقفاً أبحث عن سبب يدعو من يطرق على الباب في هذه اللحظات ، بالطبع سيكون الطارق من أهل البيت مادامت الطرقات حنونة الوقع !

هل يكون الصخب الدائر في الزقاق الخارجي أيقظهم وشردهم من أسرتهم؟! ... لا أعتقد هذا فتلك حالة أعتدناها مع تتالي الأحداث في البلد ، ولطالما أدرنا لها ظهراً وغرقنا في غطيط لا ينهيه إلا أذان الفجر .

أدرت المفتاح ببطء يخامره هاجس الإستغراب ، مكنت يدي من المقبض وأنزلته بسكينه ..... أخذت الباب إلى حيث بدى الضياء يقتحم الغرفة من بين الباب والإطار .

فتحت الباب على آخره ، بدى وجه أبي مفزوعاً ، رفع عينيه الممتلئتين بالدهشه في وجهي وقال : يبغونك ... ( يطلبونك ) . كما قالت السيدة زينب (ع) عندما لمست التأكيد على قتل أخوتها وسبيها قالت : أيقنت أن البلاء قد وقع ، أنا كذلك أدركت أن الرحيل قد حان ، كانت تكفي تلك الكلمة ( يبغونك ) لتترجم كل الإجابات المتيقظة للتعبير عن غربة أسئلة حائرة . تلك الكلمة كانت أوضح من الصبح المسفر .

كان الوقت محملاً بالبرودة المشرعة على فصل الشتاء وكنت لابساً بيجامة من الصوف تلبس تحت اللباس عادة ( الدكاك ) .
أدرت وجهي للخلف ، وألتقت عيناي بعيني زوجتي الحائرة ، قرأت في بحر عينيها قلقاً لايجففه إلا عنفوان الصبر أعدت رأسي للأمام أحمل معه نية الظهور من الحجرة ... هبطت من العتبة المحاذية لباب حجرتي وعطفت عيني لساحة المنزل الضيقة فما راعني إلا اكتظاظها برجال الأمن .... جيش بأكمله يتخم المنزل ، أسلحة مستنفرة للهجوم بأقل من ربع أمر ! أكل هذه الجنود والأسلحة لإعتقال أعزل ؟! بلى هم هكذا دائماً لايثقون في مقدرتهم علينا .... أخيراً إستطعت أن أميز إخوتي الثلاثة مقيدين في فناء المنزل .

حين توسطت ساحة المنزل بادرني أحدهم وكان ملثماً وقال : أنت عبدالشهيد .... أجبته بسكينه : نعم ...... أنطلقت يده ذاهبة عائدة بإشارة إصبع قال : خذوه ، ذكرتني كلمته بالآية الكريمة ( خذوه فغلوه ) وما أبرد أخذهم وغلهم قياساً لأخذ الجبار وغله .

إنقضت يد أحدهم على يدي تقيدني بسلك من البلاستيك ، أحكم إقفاله وشده شداً وثيقا .... كلما ضيقت دائرة السلك لايمكنك توسيعها . نهاية الأمر لايمكنك الفكاك من السلك إلا بقطعه .

حين استوثقوا بوقوعي تحت قبضتهم هرع ثلاثة أو أكثر منهم لداخل الحجرة يجرون بعضاً من الروتين البارد في البحث عما يعتبرونه دليل إدانة لأسيرهم . ولكم كنت قلقاً على طفلين صغيرين نائمين داخل الحجرة ، سيدخلون الآن الحجرة مخلفين قلوبهم المتحجرة الجامدة في قبضة أسيادهم ... سيدخلون بأحذيتهم يدنسون مواضع صلاتنا غير مكترثين لحجم إزعاجهم ودناءة قسوتهم .

في الواقع هم لم يكونوا يريدون غنيمة أكبر مني أجروا نظرات خاطفة على مكتبتي وبعض أوراق بعثروها وسرعان ما قفلوا خارجين من الحجرة ... عندما ظفرت هجمتهم الغجرية بي ....أمرهم سيدهم المتقنع بالغترة الحمراء بإطلاق سراح إخوتي الثلاثة .

أمي وقفت تفتح أبواب السماء بالدعاء عليهم وتمطرهم بسجيل دعواتها ، وكأنهم بلاقلوب .... لهم آذان لايسمعون بها سوى أوامر سيدهم المحيطين به .

أبي ولكثرة ماعلمته الستون عاماً يرجع عينيه بين حشودهم مسترجعاً ومحوقلاً ، وماذا ينتظر من جنود يتلفظون بالعربية المكسرة المعوجه ؟!

أما صبره فقد إكتسب المراس على مثل هذه المشاهد من كثرة مامر بها ومرت به وأضطر للتعود عليها ، كثيراً ما استدعيت سابقاً للقسم الخاص ... بات قلبه منيعاً تجاه الحدث الأخير .

توجه أحدهم إلى قطعة قماش ملقاة في فناء المنزل ، قطع منها جزءاً طويلا .. شدها فوق عيني بلا رأفة ... عصب عيني بإحكام ، هكذا يريدون الكل أن يمشي معصوب العينين .... لايتقن طريقا ولايرى ولايبصر ماسيواجه .

قبض العسكري على زندي الأيسروإقتادني بينما أمي تتبعه بصوتها : أين ستأخذون ولدي ؟! ... أجابها رئيسهم بلغة الواثق : غداً نعيده إليكم .... لم يكن قوله كذبا فهو في الغد يعيد لهم أملاً في الرجوع ويبقى الرجاء متوقداً في ذاكرتهم .... لم يكن قوله كذباً بإعتقاده فهو يمارس العبارة ذاتها في اليوم مئة مرة على الأقل ، هو يكذب على مرؤسه ومرؤسه يكذب على سيده وهكذا هم في أغلب حالاتهم يقضون ساعاتهم بمعاقرة الكذب على أنفسهم وعلى ضحاياهم .... فمن يوثق في وعودهم يسقونه سراباً في الأحلام .... .........يتبع .

عبد الشهيد الثور

بحرين السلام
04-13-2011, 11:40 AM
الحلقة (2) رحيل بعيد


لم تتمكن عيناي من الإبصار حين اقتادني هبوطاً من درجات منزلنا إلى سيارة ( الجيب ) ... أخرجني من البيت فحاصرتني النسمات الباردة مع اقتراب وقت الفجر ، لم أتمكن من الرؤية عبر قطعة القماش برغم شفافيتها نوعاً ما ... مشى بي على بعد 50 متراً حيث الجيب .

أصعدني عتبة الجيب الحديدية .... دفعني بلكمة على ظهري ، انكببت على وجهي في ثلاث ظلمات ..... ظلمة الليل ... والعصابة ..... و أرضية الجيب الباردة . لم يكن جسدي مستحوذاً على أرضية الجيب لوحده... شعرت بكتلة جسم ضخم بجانبي ... تحركت السيارة من الزقاق المحاذي من منزلنا تاركة خلفها من أحب في لوعة وجفاء نوم لاينقضي أبدا ..... واستدارت شمالاً مع حلول وقت الأذان ، وهبطت في آذاني ترنيمة الأذان بصوت ( محمد علي ) من المسجد الوسطي . ويالسخرية القدر ، الأذان يدعونا لتأدية الصلاة والعباد تحجبنا بقيودها عن طاعة الرحمن .

نأت السيارة شيئا فشيئا عن أذان محلتنا مسافرة بي إلى مجهول لاتعرف مدته ولاتقدر قسوته .... ولا تقاس مسافته ، تكلم زميلي الأسير بجانبي مخاطباً الشرطي ... عسكري يداي تؤلماني ... عبرت كلماته صيوان أذني سريعة وتلقفتها أذني تلقف المشتاق إلى السماع بعد انقطاع عن البشر ، ترجم السمع صوت المتكلم فما كان إلا جارنا ( عباس ) ... كان كلامه مع العسكري مجرد حجة يرتكبها ليرسل إشعاراً بهويته ... إستطاع العسكري إخماد مطلبه بركلة من حذائه القابع جنب رأسي الملقى على سطح أرضية الجيب ، حذاء ملمع بإتقان كعادة العسكريين في توظيب مظهرهم... لم أر ذلك الحذاء ولكني كنت أشعر ببريق الضوء ينزلق من جوانبه .

بركلة رافضة من العسكري إستجاب جاري للصمت بعد إيصال شفرة صوته لي .... السيارة تجوب شوارع السنابس منعطفة تارة شمالاً وأخرى يمينا ، حتى توقفت أخيراً ... ها هنا أيضاً صوت أم يشبه صوت أمي في دعواتها عليهم ..... ما أصبر قلوبكن أيتها الأمهات ، تتكبدون عناء الحمل والولادة والتربية وتكبير أولادكن ثم تقذفون بهم في خضم المعاناة ، يستنشقون القهر ويقتاتون الجوع ..... وأخيراً ينتزعونهم من عيونكن انتزاع النور من العين .
أضافوا إلينا نحن الإثنين ثالثاً من غنائمهم في غزوة الفجر هذه ، واستعدت السيارة ( الجيب ) للإنطلاق مودعة بدعوات أم تستعر في جوانحها صور أياديهم تخطف فلذة روحها .... وأنطلق الجيب ينهب الشارع الإسفلتي ليس جيباً واحداً إنها قافلة مدججة بعتاد القهر والجبروت .

غادرت القافلة المغولية أرض السنابس مع تيقظ الأنفاس من سباتها ... نعم غادرت بنا مرغمين مكبلين .... غادرت بنا مطفئة أجفاننا عن النظر إلى أعتاب قريتنا الحبيبة .... أوصدوا أعيننا كي لا نودع مراتع صبانا وكي لا نلتقط آخر صورة لها مع إشراقة الفجر الملكوتي .

الليل ينسحب من سمائنا رويداً رويدا وقافلة زوار الفجر تلتهم الشوارع الفارغة التهام الجائع إلى رؤية الطعام ... ماذا عن صاحبنا الثالث .. أسئلة تومض في أفكاري ؟ وكما يتحرك الفضول والرغبة فينا لمعرفته كذلك كان هو . قليلاً فقط وباحت حنجرته مستنجدة بصوت ينادي : شرطي يداي ألمهما السلك ..... صاحبنا ذو صوت مبحوح إنه ( ياسر ) نعم هذا هو ياسر يبعث لنا بحة صوته إشعاراً بوجوده عله يسمع من أحدنا جواباً يواسيه .

أنفاس الفجر تبعث بنسيمها القارص إلى بدني وما عسى ( الدكاك ) أن يقي ويحجب والشتاء عازم على إكتساح البلاد والأجساد .... دخلت السيارة أسوار القلعة عابرة شوارعها على علم وهدف تقصده ..... بعد دقائق فقط حاذت بنا حائطاً في عمق القلعة .

تناهت إلى أسماعنا ضوضاء وصخب يملآن المكان ، ترجل الجنود وأنزلونا من ( الجيب ) كانت أسماعنا متيقظة لما يدور حولها عوضا عن أبصارنا ، أسندونا إلى الحائط في انتظار مالا نعلم . كانت شباكهم في تلك الليلة مترعة بالصيد وكانت سياراتهم كل خمس دقائق تأتي بالمزيد من الأسرى .

كانت تراودني فكرة أنهم صمموا القضاء على الشعب بأكمله ، ليس بعجيب ففي الحياة أحداث تأتي على غير ميعاد ! وعجلة الزمن تنقلب أحياناً بما لا تستوعبه التوقعات ، من كان يحسب قابيل يتورط بقتل أخيه ، هذه أول مرة أرتدت فيها عجلة الموازين إلى الخلف وخلفت إختلالاً في النتائج ، منذ ذلك اليوم وكل توقع ممكن في حساب الواقع .
طرقت سمعي أصوات لاحصر لها ،بعضها أستطيع تلمس صاحبه والآخرون والكثيرون ممن قادتنا الأقدار لمصير يرسم على جباهنا عناء ليلة ولا كل الليالي . في صباح تلك الليلة إستفاقت البلاد على أخبار الإعتقال المباغت ، مايربو على مئة معتقل باتوا في أحشاء ليلة مجهولة المصير .

مع بزوغ خيوط الضياء ليوم جديد أكتملت غايتهم من الأسرى ، وأكتمل الموقوفون قبال الحائط ، أخذنا نلح في طلب الدخول لدورة المياه ، أخيراً إقتادني أحدهم لدورة المياه حيث أنهيت حاجتي منها وتوضأت لصلاة الفجر ، صلاة هتكوا أقداسها ودنسوا نقاءها ، وما أتاحوا لفم رغبة في طلب الصلاة ... صليت في ركن منزو ٍ برعاية عين جندي كل مايخشاه إنفلاتي من قبضته .

أعادني الشرطي إلى مجموعة الحصيلة من غنائم ليلتهم الفائته ، وجائتهم الأوامر بترحيلنا إلى مستشفى القلعة ..... لازالت أعيننا مدججة بالظلام وأيدينا لا تفتؤ يطلق سراحها ثم يحل عليها الأسر غير بعيد . أوقفونا في تسلسل منظم ... يدخلون واحداً واحداً على الدكتور يجري الفحص السريع ... ويتلوه كاتب يسجل البيانات كاملة ، مضحك أن يعتني بصحتك من لاتعني له حياتك شيئا ، إنما هو روتين لايستطيع التخلص منه مثل هؤلاء ..... ولربما هو خوف من الرأي العالمي ... نعم فالرأي العالمي أولى أن يخشى منه ولا يخشى من الله .

أنهوا فحوصاتهم ومعصمي في ذلك السلك اللعين تكادان أن تتقطعا ، أخرجونا من المستشفى في سيارة إلى خيمة كبيرة في ساحة القلعة ، خيمة أعدوها لإحتواء أمثالنا إن طال بهم المقام ولم تتهيأ لهم زنزانة تباشر كتم أصواتهم عن الجهر بما لا يرضي آذان الجدار وأصحاب الوشايات الرخيصة .

كل إثنين وضعوهما فوق سرير واحد مكممة أنظارنا نتلمس بعضنا بعضا للتعرف على جيراننا ... الشرطة يجوبون الممرات حولنا يصفعون من تبدر من شفاهه بادرة كلمة لصاحبه ، هنالك كان الهمس ملجأ ً تتنفس فيه أفواهنا بتساؤلات لاحصر لها .

نخنق الكلمات ونختزلها كي لايدركها الشرطي الباحث بين الممرات عن مطلع كلمة يصادرها من شفاهنا .... يبحثون عن الكلمة فهي الحد الفاصل بيننا وبينهم وظني أن ما جاء بنا لهذا المصير إلا الكلمة !.... صدعنا بها مرفوضة فكان كل ما نحن فيه وحقاً كما قيل ( في البدء كانت الكلمة ) .

استوت الشمس في كبد السماء معلنة انقضاء نصف مشوارها من النهار ... شارف الوقت على الزوال من نهارنا ذاك . بعد مدة وجيزه صكت مسامعنا أصوات محركات لحافلات كبيرة .... لحظتذاك تمكنت من التخلص شيئاً ما من ضغط الساتر القماشي المجبر على حجب الرؤية عني .... صرت اتلصص النظر منه ... شاهدت خيمة على مد البصر تعج بحشد لايقل عن مئة شخص كلهم معصبي العيون .

عرفت منهم ( الشيخ النجاس ) بعد لحظات فقط جرت مشادة بينه وبين الشرطي .... كان الشيخ رحمه الله جريئاً وذا عزيمة لاتتراجع ، خلاصة الأمر تضايق الشيخ من العصابة الجاثمة على عينيه فانتزعها وألقى بها ، الشرطي بادئ الأمر لم يلحظ الشيخ ولم يدر بجبروته أن يتجاوز أي كان الأمر ويطلق العنان لعينيه تسرحان في رفاق مأساته ..... صاح الشرطي في الشيخ معنفاً : لماذا نزعت العصابة عن عينيك ؟ ! أجابه الشيخ بتهكم المنتصرين : ألا تراني أعمى كفيف البصر ! بهت الشرطي من الموقف ولكنه أجاب : نعم نعم... ولكن هذه أوامر يجب عليك أن تضع العصابة .

غريب أمر هذا الإنسان ! إنه يعبد أوامر الإنسان ويستجيب لها دون إعمال لعقله ودون التروي فيها ، هل هي حق أو غير ذاك .

لكنه يستنكف أن يستجيب ويطيع أوامر خالقه الموجهة له .... مع مافي أوامر خالقه من مصلحة له ، فليته إنصاع لأوامر خالقه كما ينصاع لعبد مثله لايملك له نفعاً ولا ضرا .... آخر الأمر لم يستجب الشيخ للشرطي ، فأضطر الشرطي لتناسي الموضوع .

جاءت الحافلات تهدر محركاتها ، توقفت قبالة الخيمة ، نشطت حركة الشرطة إستعداداً لترحيلنا الى مكان ما ... أخذوا يقتادوننا نحو الحافلات ... أرجلنا راحت تصعد مثقلة بالمصير المبهم ، أجلسونا كل شخصين في مقعد واحد ، رؤسنا ملقاة على المقعد الأمامي ... أعيننا تدور في ظلام خانق ، لكنني إستطعت أن اتلمس مايجري حولي من خلال القماش المتراخي حول عيني .

إمتلأت حافلتنا بنا وبآسرينا ، بين كل مقعدين شرطي يدير طرفه بيننا لعل وعسى تصله همسة من أحدنا لصاحبه ، أياديهم مبسوطة بالصفعات واللكمات جزاء وفاقاً لكل نأمة صوت ..........يتبع

عبدالشهيد الثور

بحرين السلام
04-13-2011, 11:48 AM
الحلقة الثالثة / حفل استقبال


انطلقت السيارة من القلعة تقطع الشوارع في راحة واطمئنان بينما تقل في جوفها من لا يعرف الراحة في البال ولا اطمئنان قلب . الحافلة تسير بنا للمجهول .... ذلك المجهول الأسود الذي لا نعرف عنه شيئا ، رؤسنا المنسكبة على المقاعد الأمامية غرقى في تأملاتها ، كل منا يضرب أسداساً في أخماس ، أين تراهم يذهبون بنا ؟ وقد طالت مسافة المسير بنا ؟ السير للمجهول أقسى من السير للمصير القاسي . فقدر تعرفه وتقصده أهون من قدر تقصده بلا دليل .

سلكت الحافلة دروبا طويلة لم نخل أن في بلادنا بعداً كهذا ، يسألني رفيق مقعدي بهمس مكتوم : من أنت ؟!، لم أكمل تهجي اسمي في مسامعه إلا والصفعة مستقرة في قفاي يتبعها صوت الشرطي : ساكت .... يسلطون أكفهم لتغتال الكلمات فهم وقوف لدى مولد أية كلمة وعند انبعاث فجر كل نية نحو الكلام .

أخيرا تراخت السيارة في السير وفتحت أمامها بوابة واسعة فدخلت جميع السيارات بعد دخولها... ماهي إلا لحظات من السير المتلكئ حتى استقرت عجلاتها فوق الأرض معلنة محطة النزول . اتضحت لنا حركة الشرطة من حولنا في النهوض والإستعداد .

انزلقت البوابة الأوتوماتيكية بالإنفراج ، باشر الشرطة آخر مشوارهم معنا بإنزالنا من الحافلة ، مع نزول أول ركب انطلقت صيحات الإستغاثة من كل الجهات وبمختلف الصياغات ... آه ... آه .... ياعلي ... باموت... أصوات متنوعة ، شباب وشيوخ وكهول .

ماذا عسى أن يكون الأمر ؟ وماذا يجري تحت الحافلة ؟ إنهم يضيفونهم بوجبة استقبال من أعماق حفاوتهم ، أنزلني الشرطي من الباب وتركني ، رحت أتعثر ببطئ اسحب خطواتي في توجس واندهاش ... عجب هاقد نزلت من السيارة ولم يصلني بريد ضربهم للآن ... أتراهم لايبصرونني ، مازلت في خطواتي الثقيلة بالتوجس حتى صدمت حائطاً بعدما صعدت عتبة رصيف ... تراجعت قليلاً وكلي سمع حاضر بإستغاثات وتوجعات وصيحات من رفاق مأساتي ، تراجعت واستدرت لليمين علني أجد الطريق ... ثلاث خطوات إلى اليمين ....وجاءت صفعة من يد خشنة على الرأس وضربة أخرى بحزام جلدي على الظهر حينها أدركت أن هذا هو الطريق الصحيح .

في تلك الأثناء أمسكت بي يد شيطانية كأنها يد أحد خزنة جهنم ، يد تدفعني وتتعتعني وأخرى تشاطرها وظيفة البطش والنيل مني ... عندها سقطت العصابة عن عيني ، كان ما رأيت مهولاً لايدركه وصف بصر .

صفان من الشرطة وقوف على الجانبين ، وصف آخر يمشي بإتجاه معاكس لسيرنا .... والصف الأخير يقتاد غنائمه إلى داخل الممر ، كل هؤلاء يتفانى في نيل حصته من ايجاعنا والتشفي من أجسامنا بما أوتي من قوة حقد ، أيديهم لم تكن أقسى من ألسنتهم .... ألسنتهم بارعة في مفردات الفحش والبذاءة ، وأحسب جراح أيديهم برئت وجراح ألسنتهم لا تبرئ الدهر كله .

ممر طويل عبرناه مفروش بالصفعات واللكمات وسقطات الأحزمة والسياط . مشاهد ذكرتني بالأفلام المصرية ومايجري فيها لمعتقلي الرأي ، نعم نسخ تختلف مواقعها وأحجامها وتتفق في الهوية وانسلاخها من وازع الضمير .

يظهر أن أحدهم أستاذ للآخر في ابتكار فن الضيافة والإستقبال ... الدماء المضيافة تقطر من عروقهم ، لايمكنك أن تحل ضيفاً عليهم دون ضيافة تليق بمستوى استهتارهم بالمشاعر الإنسانية . ... يتبع

عبدالشهيد الثور

بحرين السلام
04-13-2011, 11:50 AM
الحلقة الرابعة : ضيوف في الغربة


سارت بنا الركلات والرفسات وحزم الشتائم حتى أدخلتنا في ممر أضيق من ذاك ، سقطت قطعة القماش ( العصابة ) عن عيني ... صارت عيوني تلتقط صور العذاب المر . الشرطة في كل الصفوف لاوقت لأيديهم لتعيد العصابة عن عيني ... مشغولون بتوضيب أجسامنا بوجبة الإستقبال .

ممر طويل طويل ...تتصدر على جانبيه زنازين تواجه بعضها بعضا ... أبواب حديدية زادها اللون الرصاصي كآبة على كآبة المكان ، الأبواب تتربع على صفحتها أرقام عربية باللون الأسود ... نعم هذا هو ( العنبر 2 ) في سجن جو .... الزخم المتدفق من الأسرى يقاد إلى الزنازين مع تحايا الإستقبال القهري.

زج بي الشرطي في الزنزانة 47 مصحوباً بحصيلة وافرة من الأوجاع في أنحاء جسدي ... وجدت نفسي ملقى على مجموعة أسرة وفرش إسفنجية على غير نظام ، بجانبي ثلاثة رفاق معصبي العيون ... زفير وشهيق متعب ينفرج من أنفاسهم ، آثار التعب والإجهاد بادٍ على سحنة وجوههم ...وحالهم كحالي .

رخيص أصبح الإنسان في زمن الفضاء ... رخيص لا يأبه لمشاعره ولا يحسب لنفسه أي حساب وحقوقه غائبة في ظل زمان حقوق الإنسان .

ذاكرتي تعود للوراء لترصد مدى معرفتها بهذه الوجوه ، البعض كأني أعرفه ولكن سأنتظر ريثما يفرج عن باقي ملامحهم ... الوجه الثالث ذو لحية كثة وجسد مفتول البنية ... ثوبه تقطعت أزرتها من شد وسحب أيدي الشرطة ، الأيدي مغللة بالأحزمة البلاستيكية ... مرفقي تقرحت عروقه من ضغط الحزام البلاستيكي ، لازلنا نلتقط أنفاسنا من عناء رحلة القسر هذه .... أقفلت على أجسادنا الباب الحديدية السميكة لفترة وجيزه .

أصوات الصخب في الخارج تطرق أسماعنا ... أصوات التألم والتشكي ممتزج بأصوات الأبواب مفتحة مغلقة ... الأبواب حادة الأثر ... سحب العمود الحديدي يحدث صخباً بإرتطامه بجسد الباب .. ذلك الصوت يشبه سكيناً يغور نصلها في أعماق الدماغ .

بعد لحظات هي دهر بأكمله في ميزان الألم انفرجت الباب ثانية ، شرطي يمني الأصل بحوزته ملف وقلم شرع في تدوين أسمائنا كاملة في ملفه ... عندما وصلني سألني عن إسمي ... أجبته : عبدالشهيد ، زم شفتيه ممتعضاً واستنكر قائلاً : عبد رب الشهيد ؟ ... إيش عبد الشهيد ، لم يكن استنكاره يحتاج إلى إجابه مني... لم تكن توجد لدي الفرصة للأخذ والرد ومقارعة الحجة بالحجة ، هو أيضاً لم يكن ينتظر رداً ...

عجبي من رؤسهم المحمولة فوق أجسادهم ، رؤوس ببغاوات لايعبرها سوى الحفظ الاجوف ... أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ، أليس القرآن يقول : ( إن الله على كل شئ شهيد ) ؟! الشرطي عقليته كأولئك أيضاً ، لا تقبل نقاش ... عقل مجبول على استقبال الأوامر فحسب ... الأوامر لايفكها إلا من يربطها ... حتى الذات الإلهية ليس لها قدرة على تغيير تلك التركيبة ... كالأعمى الذي لم ير إلا الأسود قبل عماه ، مهما حاولت لتقريب باقي الألوان لفهمه ..... دخل الأسود مهيمناً على النتائج كلها .

سجل الشرطي صاحب السن الذهبية أسماءنا ، أعاد على عيني العصابة ثانية مستنكراً من الحرية المتاحة لعيني تسرح في أوجه رفاقي المغلقي العيون . بدأت أنفاسنا تستعيد وضعها الطبيعي ... ما إن دلف الشرطي مغلقاً الباب خلفه ، إلا وعاد آخر يصحبه رفاقه .

أكف تحمل أهوازاً بلاستيكية سوداء معتمة ... لو أتيح لها الكلام لباحت بما صنعت فوق أجسادنا في رحلة القدوم ..... بعضهم غصت أيديهم بالقيود الفولاذية ، راحوا يحررون أيدينا من القيود البلاستيكية ليبدأ عهد قيد جديد .... يقطعون السلك ويدخلون اليد في القيد الفولاذي ( الهفكري ) مباشرة ...... بمجرد دخول القطعة البارزة في فتحة الإقفال يبدأ الأسر مشواره ... هذا القيد كسابقه كلما ضغطت عليه تضايقت دائرته حول معصم اليد .

أحسب هذا القيد أصلاً والثاني ( البلاستيك ) تقليداً .... باتت أيدينا معتقلة في إعتقالنا .... كل يد يحيط بها سوار فولاذي وتجمع بين الكفين سلسلة محكمة حلقاتها .... كأنها خلقت مغلقة لم يفضضها فراغ ... سلسلة لايتعدى طولها ست بوصات ، فكوا أعيننا من ليلها الطويل لتتعرف على رفاقها ولتدرك بعد ماوصلت إليه .... ولتعلم أين صارت .

الليل هبط علينا بسكونه .... سكون جديد وليل جديد... لم نعايشه قبل هذا الأوان ، أول ليلة في غربة المعتقل , وما أطول تلك الليلة ... نأنس فيها ونتسامر مجبرين ... نغتصب الفرح إغتصابا .... ننتزع الكلام من أفواهنا بلا رغبة ، ليل سواده كسواد الغراب لايحمل في طاقاته يمنا .... ليل ثوانيه بطيئة كالسلحفاة ، ونسماته تلفح جلودنا بصقيعها ... ليل كالبئر العميق نمد حبالنا لنرتوي منه فلا تصادفنا الا الأفاعي تشردنا من أمننا ............. يتبع .

عبدالشهيد الثور

بحرين السلام
04-14-2011, 08:16 AM
الحلقة الخامسة : الزنزانة 47

استفاقت أعيننا من أسرها تتصفح المكان والصور .... أربعة نحن في الأسر ... زنزانة جدرانها الأربعة من الخرسانة الصلبة إضافة إلى السقف ... إرتفاع المكان لا يتعدى إثنا عشر قدما بالكثير ، العرض ثمانية أقدام تقريباً يتوسطها الباب ، وكذلك الطول في حدود أربعة عشر قدما .... في هذه المساحة المختزلة أربعة نحن يجب علينا أن نعيش ... نهضنا نباشر ترتيب مكان اقامتنا ... أسرة اسفنجية أشبه بالأثرية ، تكفي ضربة واحدة فوقها لتثير في وجهك عاصفة من الغبار الخانق ... الرائحة المنبعثة من الأسرة تأباها الموتى ، أجمل تقدير لحقيقة هذه الأسرة ، كما قال أحد رفقاء زنزانتنا ... إنها أسرة موتى وجدوها على البحر فجاءوا بها .

بقايا النزلاء السابقين باقية بصماتها على الأسرة ... أنواع متعددة من الشعر ملتصقة بالأسفنج ... أغطية اللحاف كذلك حالها يشبه حال الأسرة طبعا إن لم يكن أردى حالا ... الشعر العالق بها يكفي ليكون فروة رأس كاملة .... أختاروها لتكون باللون القهوائي الداكن ليحجب كل ما يتبقى عليها ، أظنها لم يلامسها ماء منذ وجودها أول مرة .

سرير على الجانب الأيمن ذو طابقين .... نحن أربعة ... يعني أن ينام أحدنا في القسم السفلي والثاني عليه الصعود للأعلى ، أما الإثنين الباقيين عليهما التسليم بالنوم على فراش ملقى على البلاط ، علينا جميعاً تقليص حركاتنا في مساحة يحسبها سجاننا فائضة الأطراف ولعله يعتبر أسرته وفرشه تفضل لا يسعنا شكره عليها بما أوتينا من ثناء .

وسائدنا نحيفة تحسب أهل الكهف تقلبوا عليها ذات اليمين وذات الشمال .. تحسب الرؤوس مافارقتها منذ ألقيت فوقها ، قطنها مشبع ريان بدموع التحسر لفراق الأحبة والأمهات ... قطنها تفوح منه رائحة العرق المجهد ... ولدماء الجراح نصيب في صفحة قطنها ، أغطية الوسائد بيضاء غادرها بياضها إلى غير رجعة فإستحالت رمادية تتفرق خرائط العرق على مساحتها .

لاتهجع العين على وسائد كتلك وكأن آلام من سبقوا تلح في الغليان في أي رأس تتوسدها ، لاتغفو العيون إلا من تعب وارهاق.

أمام البوابة في الطرف الأخير من الزنزانة حمام بمساحة القبر الذي نحفره لموتانا ... يحتوي على مرحاض ومغسلة صغيرة مثبتة في الزاوية ، الحمام معزول عن الزنزانة بجدار مكشوف . باب من الخشب الرخيص ينفتح وينغلق على الحمام ....الجانب السفلي منه أكلته الرطوبة والمياه .... الباب اذن ساتر لايستر .

الزنزانة تطل على سور المعتقل المحاذي للبحر ... من النافذة القابعة في أعلى الزنزانة المتاخمة للسقف نستنشق هواء الحرية الغالي ..... من هذه النافذة المربعة تتطلع أعيننا إلى ماتركناه وراء ظهورنا من جمال الحرية ونعيمها .

الجو بارد ولاذع يقتص الأجسام ... أفترشنا إحدى البطانيات فوق البلاط لتأدية الصلاة مغرباً وعشاء برفقة فرضين فاتا لم نصليهما ولكن صلت علينا سياط جلادينا . مرافق الأيدي مغلولة لبعضها البعض ... لايسعك تحريك اليمنى دون اليسرى , تشبهان في وضعهما وضع التوأمين المتولدين من بويضة واحدة .... لايكاد يصدر من الأول فعل إلا وكان الآخر قد أصدر الفعل ذاته في نفس الزمان .... كأنهما في مرآة .

في ذات الحمام الضيق شرعنا في اسباغ الوضوء ... تضع الماء في اليد اليمنى فترفعه بتأن ليصل إلى الوجه فيستوعبه ..... لاتصل قبضة الماء إلا ويكون نصفها قد تبدد من الجانبين لصعوبة رفع اليد ويد أخرى تشاغبها .

حتى محاكم التفتيش لم تحاصر الصلاة بهذه الصورة .... أعن الصلاة تغلل أكفنا ؟ أم عن تكبيرة الإحرام تقرن اليدين معاً ؟.... تكبيرة الإحرام بذلك القيد تأدى مودؤة مغتصبه .... هكذا بقينا ثمانية عشر يوماً رفقاء ( الهفكري ) أربعاً وعشرين ساعة ... نأكل .. ننام .. نصلي .. برفقة (الهفكري).

( الهفكري ) هذا رسولهم المزعج الملاحق لنا حتى في النوم .... بعد الأرق المضني تستسلم أجفاننا للسهاد ومايروعها إلا صقيع ( الهفكري ) إن تقلبنا على أحد جنبينا ... الوقت أخذ في شدة البرد ... ( الهفكري ) من الفولاذ القاسي ... لك أن تتصور برودته العاتية في أجسامنا .

نعم بات القيد الفولاذي توأماً لأيدينا كل تلك الفترة .... تنام عيوننا وأيدينا ملقاة فوق صدورنا وتنثني أطرافنا وأكفنا لاتنعم بالحرية حتى في المعتقل ... وللخيال أن يحلق في آفاق مرة مروعة عن الحالة القاسية لصاحب هذا القيد إن أراد الدخول إلى الحمام.

لاتطمئن نفس آسرنا ونحن في قبضته ... إنه يتفنن في بعث الإهانة للإنسانية ويتلذذ بإضفاء المرارة على ساعاتنا الطوال ... وكم كان الفرق كبيراً بينما عشناه من قيم وبين ما ذقناه من سجاننا ..... كنا نعيش وصايا أمير المؤمنين ( ع ) يوصي على أسيره قائلاً : أطعموه من طعامكم ، لم نكن نطمع في طعامهم .... كنا نتوق أن يدعونا لنبحث عن طعامنا وأنى لهم بالتشبه بعلي قدوة الكمال ... إن استطاعوا التشبه بأحد ما , فإنهم يتشبهون ويشبهون يزيد... إنه والدهم الروحي فكما صنع بالنساء والصغار صنعوا وكأنه دستورهم يقتدون بكل سلوكياته .

ولم يعلم سجاننا أنه مهما برعت قساوته في تعذيبنا فإن في ذاكرتنا تجارباً من أسلافنا ... إننا نحتفظ بكربلاء حية في أعيننا ونحتفظ بصور الأسرى مربقين من كربلاء إلى الشام ... تباكرنا السياط صبحاً وعشيه وفي أعيننا لقطات من سجون أئمتنا الطويلة ... نحن تلامذة هؤلاء ... وهم تلامذة معذبيهم ولنا لقاء معهم عند حكم عدل يوم الحساب ( إن يوم الفصل كان ميقاتا ) .

صلينا صلاة المؤمن بقضاء الله وقدره .... وكانت تكبيرة الإحرام صادعة في وجوه المتجبرين ... الله أكبر من تمردهم على سننه ... وسلمت ألسنتنا من الصلاة على أنفاس كل مخلص لله ولدينه ورسالته ........ البقية تأتي .

بحرين السلام
04-14-2011, 08:18 AM
رمضان المعتقل ( 6 )

تغرب الشمس مودعة نهاراً مضى على محجوبين بين أربعة جدران خرسانية خرساء جدران قدت من قلوب بنائيها ... تغرب الشمس غير مرئية ، تغرب لتحيل الأفق بشفق أحمر دام لقلوب هؤلاء المحرومين من أريج الحرية الفواح ... تغرب منحية النهار في زاوية الغيب جالبة خلفها ليلاً بشدة اسوداده يلفع شكوى الموقوفين خلف الأبواب الحديدية يلوكون الحرمان .

في الليل تتمدد الساعات بأبعد من مسافاتها .... تصبح الساعة عمراً بأكمله على شعب يبحث عن كرامة ينصبها تاجاً على هامته ، فلا يجد سوى قيداً يسخر من مطالبه ... وفي أطراف الليل الأخيرة تبوح الأفئدة بمخزون ذاكرتها لرفقاء ليلها .

أيام الإعتقال الأولى كانت قاب قوسين أو أدنى من شهر رمضان الكريم ... أقبل الشهر الفضيل علينا في سفر مكروه .... شهر رمضان بعيداً عن هنا كنا نعيشه جميلاً ممتعاً بالعبادة والطاعة ... وبالتزاور وقراءة القرآن ليلاً في بيوت القرية داخلين في بيت خارجين من آخر ... تعمر المآتم بالوجوه المستبشرة بليالي البركات .

كذا كنا نقضيه هناك ... أما ونحن هنا فالحناجر إن رتلت من وحي ذاكرتها فإنما ترتل مايشجي الخاطر ويؤرق الفؤاد .... الأيام الأولى ماكان للمصحف في زنازيننا أثراً .

النزلاء السابقون في زنزانتنا كان لهم فضل علينا كبير . فتشنا ماقد نعتبره مخبئاً في الزنزانة لم نجد مايروي غلتنا ويشفي صدورنا ... السابقون صنعوا من الجدار قرطاساً يدونون فيه مايحتاجون إليه ... وأي شئ يحتاج السجين ؟! في محنة كتلك لاتتعلق المشاعر بسوى الله ومناجاته .

في كل جانب أودعوا لنا دعاء يأنس وحشتنا أو ذكراً يفرج عن هم يحيق بنا ... الجدران مزينة بكم وافر من الأدعية المأثورة ... مزينة بحق .. وأي زينة أجمل من ذكر يضفي بلسماً على الروح ويسمو بها في أعلى عليين .

اللهم إني افتح الثناء بحمدك وأنت مسدد للصواب بمنك وأيقنت أنك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة ...مع الإنتهاء من العشاء كل ليلة استقبل الحائط جهة القبلة .... أحد رفاقنا الذين سبقوا أسدى لنا جميلا حسنا .... لوحة رائعة أبدعتها يده المثابرة على لذة المناجاة ... بخط جميل مهذب رسم دعاء الإفتتاح كاملاً ... بقلم رصاص ناعم جداً ...استقبل الحائط لأتنعم في بساتين دعاء الإفتتاح ... اللهم اني افتح الثناء بحمدك .

تسترسل مشاعري في تلاوة فقرات الدعاء ... مقاطع الدعاء تمازج شغاف القلب برقتها وتنقلك إلى فضاء ملائكي ينسيك السجن ومرارته ... القراءة بلحن هادئ حزين ... هادئ كي لايتطرق الصوت لأسماع الشرطة المملوئين تحاملاً على عقائدنا ... وكي لايداهموننا نقارف القراءة من صفحة الجدار ..

أخيراً وبعد عدة أيام جاءتنا نسخة من القرآن الكريم بصحبة ملابس أرسلت للأستاذ عـ.. كانت فرحتي بوجود القرآن معنا ... فرحة لاتعادلها إلا فرحة الظهور من المعتقل ... بلى كان الشوق للقرآن شوقاً غامراً ... القرآن ذلك الفيض الإلهي ... مهما باشرنا في مقاربة آياته نبقى فقراء لرشحات عطائه ... لذا كان الإمام السجاد (ع) يقول : لومات من بين المشرق والمغرب وكان معي القرآن لما استوحشت .

بعد التزود من نمير الدعاء الصافي نقرأ القرآن منشدين لآياته الساحرة بجمال تركيبها ... الوقت كريم معنا يتيح لنا فرصة التأمل والوقوف لمرات ... نعمة لو أدرك مختطفونا مدى ابتهاجنا بها لما توانوا في حرماننا منها ... فكل مايبعث السرور في القلب ممنوع وكل ماكان مباحاً في أيامنا الخوالي بات محجوباً عنا .

الشتاء جاد في أحكام صقيعه على الأجواء ... اشتدت البرودة في زنزانتنا ... الجدران كصقيع ثلاجة نتجنب الإستناد عليها ... وفي الأعلى فتحة تبعث لنا من البحر أول لافح من الشتاء مع تبكير كل صبح جديد ... شتاء لاتشابهه إلا برودة المشاعر في جلادينا .

في أحشاء الليل البهيم تنطلق صيحات تنادي الشرطي من أسفل بوابة الزنزانة .... بعد اللتيا واللتيات يستيقظ أحدهم .... ينفتل متململاً حتى يصل إلى مصدر النداء .... يقف قبالة البوابة متسائلاَ :شنو في ؟ ينبعث الجواب من أسفل البوابة في خجل ملتهب : أنا أريد الإغتسال قبل أذان الفجر، يسخر الشرطي من الطلب قائلاً : شنو هذا مافي ( فندك) .

يسخر من رزية يعانيها مسلوب المشيئة في قبضته .... ساعة عن الفجر أول أقل ، عليه الإغتسال قبل حلول وقت الإمساك ليدرك الصيام ، إنصرف الشرطي غير عابئ بحجم المعاناة ... اضطر صاحبنا أن يسلك أقصر الحلول ... كان يريد الشرطي ليفك ( الهفكري ) ليتمكن من نزع فانيلته .... لايستطيع خلعها والكفين مقيدين . اضطر أخيرا للدخول إلى الحمام ... خلع الفانيلة من رأسه ... وضعها مجموعة في كفيه الأسيرين ... أمسك الأنبوب والماء يتدفق من فوهته كالبركان .... لو كان الماء مستخرجا من ثلاجة ثلجته بأقصى درجة برودة ماكان إلا ذلك .... الماء ينحدر فوق رأسه صقيعاً جلمدا .

النافذة مباحة للهواء يرتادها أنى شاء ، ماهي إلا قضبان عمودية لصيقة ببعضها البعض .... هذه النافذة تبيح الزنزانة لجليد الشتاء ..... كل هذا وصاحبنا يغسل رأسه والماء ينزلق ببطء فوق رقبته فيطبع فيها وشماً أخضراً من أثر الإرتعاش الرهيب . أحال الأنبوب للجانب الأيمن صاكاً على أضراسه ... قاسراً أعصابه على تحمل مالا طاقة لأعضائه عليها ، بات عود جسده ينتفض انتفاض المصروعين من البرد .... غالب ضعفه واستمر منصرفاً للجانب الأيسر يكلله بلسعات أضفت خدراً على بشرته ، الكف لايتمكن من إيصال الماء دون إعطاء الفانيلة نصيبها من الماء ... الفانيلة مكورة في كفيه غير منزوعة منهما .... أنهى وظيفته الصعبة وأطرافه كالسعفة في الرياح العاتية ، ترتعش أطرافه مصروعة على أعتاب الإمتهان ، قطرات بقت على جسده تكمل مهمة الإعتداء ، نشف القطرات الباقية بباقي ملابسه فلاسواها يزيل صقيع الماء وإلا بقت أطرافه لايجففها إلا النهار .

الليالي والأيام تعبر متشابهة في التفاصيل .... قبل الصباح بعد تقديم وجبة السحور يغلقون باب المعتقل ويحكمون القفل الثقيل فيه .... ثم يعود أحدهم يجرد العدد ، أحدهم كان أسمر البشرة شديدها ، أيام متتالية يأتي لإحصائنا ... يدخل يتوسط الزنزانة ... يبدأ في العد وبعد ذاك وذياك يتراجع مقفلاً الباب وما يفتأ يعود بعد لحظات ليعدنا من جديد .... كلما أطل علينا بتقاسيم وجهه قال الأستاذ عـ... : ( جاكم لبلاكي ) أحسب المدارس في بلده الأم لاتعتبر الرياضيات من ضمن مناهجها .... بنائاً عليه يكون خريجوها يحفظون الأعداد بالصفات لا بالتسلسل ومن تردت به المعيشة في موطنه كانت أرضنا أماً تحتضنه وترضعه بنفطها ، وتضع في راحة يده عصاً يروض بها الجياع التائقين إلى عيش الكرامة ....... البقية تأتي

بحرين السلام
04-14-2011, 08:20 AM
أربعة لأربعة (7)

إذا قيل لك يوماً أن سجاناً شاخ على سجين ولم يتمكن السجين من النفوذ إلى مايريد ولو بالقليل فلك أن تعتمد الشك أساس...تتالى الأيام على اعتقالنا ونحن في صندوق من الخرسانة ... جدار عن يميننا يفصلنا عن أصحاب لنا في المصير وجدار آخر يقع على شمالنا ويفصلنا عن أصحاب آخرين أيضاً ....ساعات السجن الفارغة تجبرك على شحنها بالمغامرات.

قرعنا الجدار بقبضات متتالية .... عادت لنا القبضات المتتابعة برد يخبرنا بالتجاوب .... لغة الأيدي تلك كانت معبراً للتواصل والتغلب على قهر القامعين لغة يحكمها الصمت البليغ .... الحيطان الخرسانية كانت وضعت لتكون حاجزاً منيعاً يفصل الأجساد والأرواح ... لكنها أصبحت مطواعة في التعاطي مع قبضات الإستئناس وكأنها استولدت إحساساً يشاطرنا...وكأنها أذابت كتلها الإسمنتية شيئا ما لتتناغم مع حرارة شقائنا .

أربعة جدران تفصلنا عما يدور حولنا ، أربعة كما أرادوا لها أن تكون ...بعددها كانت لنا سبل نقفز بها على جدرانهم .... أربع وسائل للتنفس بحريتنا أمام أربعة جدران جاهدة في وأد حريتنا .

البوابة الحديدية ذات سمك يتجاوز 3 بوصات ، لاتترك ثغرة للولوج منها ... إلا أنها تقصر عن القاع بثلاث بوصات ... ثغرة صغيرة وظفناها لإمتاع أنظارنا بكل ما هو خارج زنزانتنا .... نستلقي بكامل الجسد على الأرض ، ونفرش الخد على الأرض محاذياً للبوابة ... نتواصل بالكلمات المقتضبة من الزنزانة المواجهة لنا ... مع جهد مضني نتمكن من رؤية زنزانتين أخريين على جانبيها ... تنطلق الكلمات في التنفيس عن كبتها تاركة للعيون مسئولية مراقبة الممر ، وللأذن مساندتها في إرسال رسالة الخطر لدى بروز وقع أقدام الشرطة .... مع قدوم الأحذية تحتفظ الألسنة بمكنون لواعجها .... وتنطفئ الحروف فوق الشفاه ....أصواتنا تزعجهم وتقلق سكينة أمنهم .

إذا تحقق الشرطي من مصدر الصوت وأدرك وجودك أسفل البوابة تلاحق خطواته ، ركل الباب ليصك مسامعك صوت الحديد ... بمجرد إنصرافه تعود الحياة للكلمات ... وتستمر العيون في التردد والإستئناس حيث لاتعرف ممن تخاطبه إلا العيون .

أطلقنا للأصابع حرية التجول والتخاطب مع أصابع مخاطبيها تعويضاً عن اللمس والأحضان وعند السحر تنهض الأجساد عن البوابة لتقضي حق من بالداخل من الكلام .

النافذة في الزاوية اليمنى نستطيع الوصول لها برجل على طرف السرير وأخرى فوق الجدار... عن يميننا الزنزانة 45 ... نافذتها تقع عند الجدار الفاصل بيننا وبينهم ... للأحاديث الخاصة نتسلق السرير ونستدعي من نريد ... إذا تمادينا في الأمر نستطيع المصافحة المختزلة العاجلة ... الطريق الخلفية يرصدها برج المراقبة ... لسوء حظنا ربما, يقع البرج قريباً منا ,الشرطة لهم أيضا جولات خلف زنزاناتنا يتنصتون أحياناً ويراقبون أحياناً علهم يظفرون بتائق للحرية وجدوا صورته في النافذة .... الويل لمن تحفظ ملامحه ويستدل على رقم زنزانته ... ماعليه إلا الهبوط والإستعداد لوجبة دسمة من الأحذية الملمعة والأهواز الملساء .

ومن الضيق القاتل ذاك مابرحت أجسادنا عالقة في النافذة ... تتعب الأيدي , والأرجل تتشنج الدماء فيها ، ولا نكل من سكب قرائحنا في مسامع أصدقائنا ..... ولانمل من زرع التواصي بيننا .

تسلقت النافذة بنداء عاجل من (م) .... تجاذبنا أحاديث حياتنا في الخارج .... اتفقنا في رؤانا كثيراً وأختلفنا كثيرا ، في خاتمة الكلام دلت لهجته على قلق ينهش تفكيره .... حاول التخفي بإختلاق موضوع آخر ، قسمات وجهه لا يمكنني الجدار من كشفها ، ولكن في بطء كلامه سقم يشير إلى هم يداخله ... ختاماً باح لي بسره الخافي .... أودى به سوء تفكيره وتدبيره إلى الزواج سراً للمرة الثانية في إحدى الدول العربية ، والندم لايترك له راحة سالمة .... يخشى من أهلها إن فارقها وربما طلبوا منه مبلغاً كبيراً عند الطلاق .... وهنا يخشى من زوجته الأولى ...

يداي تتناوبان في حمل جسدي مرفقاً بالنافذه ... يد تستريح والأخرى تبدأ مهامها .... استقبل (م) مني جرعة وافرة من اللوم وإبتلعها بجناح خافض ... ما أجمل العائلة مهيئة لحمل أعباء حياتها بالتقاسم والتعاون ... وما أصعب أن يجمع الرجل بين ضرتين الأولى في أرض والثانية في أرض لايطئها بدون جواز سفر .... حياة إحداهما على حساب الأخرى ومابينهما أبناء ضحايا .

انتصر الندم في قرارة (م) وعزم على إصلاح الأمر بعد الإنعتاق من أزمة السجن الغامضة ,الزنزانة (49) على شمالنا لابد من وسيلة للتواصل معها ..... الشرطة يتركون لنا كوباً كبيراً من أكواب الشاي والحليب ..... كوب بمقاس راحةا ليد ... طلاؤه أبيض ذو حافة زرقاء كحلية داكنة .... قاعه مثخنه بالصدمات والتعرجات ، نوعية تسميها النساء ( شمندر ).

نحدد من جدار الحمام عدة أشبار ونبدأ عملية الإتصال ... بالقرع بالكوب على الجدار عدة طرقات ,فيصل الصوت إلى الزنزانة (49 ) بمثابة رنين الهاتف ..... هم كذلك كما نحن يضعون الكوب , فوهته بإتجاه الجدار ، في حالة نصف إغلاق .... نمكن فمنا من النصف المفتوح من الكوب ... نبوح بما يجب نحو الفضفضه .... الطرف المقابل يلوي أذنه في الجزء المفتوح من الكوب ، وتستمر الأحاديث في تفصيل واسع ، واسهاب مترامي المعاني ... عند الإنتهاء من مأرب الكلام يختم المتحدث المكالمة بإشارة (حول) ويقرع الجدار بالكوب مرتين متتاليتين ، فيستلم الخط المتحدث الآخر بعد القرع مرتين متتاليتين على الجدار أيضاً .

في مرة من المرات القليلة جداً التي كنت أستخدم هذا الهاتف العصري .... شاقني الحديث مع الأخ ( جعفر الدرازي ) حيث هو وشقيقه صالح في زنزانه ( 49 ) ... أصبحا زميلين في قفص واحد ... أظنها هفوة من هفوات الشرطة هناك .... بل علامة من علامات النباهة لديهم .... وإلا كيف يتسنى لضيق عواطفهم أن تضم أخا الى أخيه في مأوى واحد . حين يريان بعضهما البعض ينبعث التلاحم والتوادد وينصرف القلق مولياً عنهما . هذه الحالة لايرضاها شخص يحمل قلب سجان .

في تلك المرة باغتني الشرطي بفتح الباب .... ألفاني منكبا على الجدار أرسل كلامي في الكوب المقلوب .... ما حسبته أدرك صنيعتي ، لكنه بفطرة الذئب لايميز علاقة بين الهجوم والفائدة العائدة على معدته جراء هجومه .... إنما هي فطرة الهجوم وتمكين الظفر والناب ، بهذه الفطرة السبعية انقض علي ..... وبشحنة من الغضب المتدفق قال : ( أنت شنو يسوي ) ؟ كان الصمت أفضل وسيلة للخروج بأحسن النتائج وكانت مصادرة الكوب من زنزانتنا أقل جزاء لما اقترفته يداي .

الأكواب في منازلنا ( على قفا من يشيل ) لكنها في ظرفنا ذاك كانت تعني لنا الكثير .... كنا نخزن فيها االشاي لإستخدامها اثناء الجوع الطاغي بين الوجبة والوجبة .

ولها وظيفة الهاتف بعد الفراغ ... وتكفي هذه الوظيفة لتكون عزيزة على مقطوعين يتوصلون بها إلى تقليم أشواك الغربة من أحشائهم ..... البقية تأتي

بحرين السلام
04-14-2011, 08:21 AM
قناة أخبار المضطهدين ( 8 )

يضطجع جسد السجين على فراش أشواكه لاترى ولاتزال .... يتقلب جنبان ليفرغان سيول الهم فلا تنقضي ..... العيون ملئ بمشاهد الأحبة الأبعدين .... هم في أقصى الوطن ونحن في أقصاه الثاني ، نفتح من أجفاننا أقصاها فلا يواصلها إلا السراب والأوهام .

يحتسي صور الذاكرة ببطء ..... يتزود من أطياف أحبته الغالين ... الوله مستعر في شرايين الفؤاد .

عند العاشرة من كل ليلة تنكفئ الأنوار خامدة ..... لتصبح الوجوه ذات صورة واحدة والأجسام كتل ملقاة في زوايا الأقفاص الكنكريتية .... تسترخي الهامات على وسائد المعتقل ... آماقها معلقة بالأعلى .... ومن عتمات الظلام تنبجس صور الأبناء والزوجات والأمهات ، الأب يرى ابتسامات أبناءه تضاحك عينيه ... والأبن يشاهد أحضان أمه مشرعة لتضمه بين جانحيها المهيضين ، أطياف الزوجات الثاكلات ماثلة تكسر قيود النسيان ... لاتغرق العيون في المنام إلا بعد معارك شرسة مع الأرق الكئيب .

عندما تصطك الأجفان كل مناها أن تزورها الأحلام الوادعة .... الأحلام في تلك الفضاء لا تأتي إلا لماماً .

قلوب مغلفة بصدور بدى أثر الهزال عليها .... قلوب يشغلها الخوف على أعزة يكابدون الفرقة وحضور المداهمات ... البلاد لازالت حبلى بالتوتر .... مادامت القيود موثقه على المئات لايهدأ أنين الجراح ..... الغضب الشعبي يخبو فيحسبه الجلاد تلاشى واستحال رمادا .... لكنه ما إن يثيره إلا وتترجل في وجهه فوهة الغليان .

وقلوب أحبتنا هناك بعيداً تطير تبحث عنا فلا تجد لنا أثرا ولا خبرا يوقع بالإطمئنان في خفقاتها .... في شهر التوبة والغفران عند إنقضاء نهايات السحر تشعل الأضوية في الزنازين ... تنتزع الأسرى أجسادها من أسرة أهل القبور .... تلتقط الإنتباه من سهادها وتمتد الأصابع بالضغط على الأجفان المتخدرة .... علها تفيق من رقدتها ... يمر الشرطة بعربتهم على الزنازين بالتسلسل ..... كومة من المفاتيح بأيديهم ... بنفس رقم الزنزانة يستخرجون مفتاحاً يدسونه في القفل ... يفتحونه ... ينتزعونه من الباب ، تفك الباب حصارها فتطل وجوه عيونها ذابلة النظرات .

يقدمون لكل منا صحناً من ( البلاليط البني ) وكوباً من الحليب الصناعي بالإضافة لأربعة أقراص يلاحقها سواد التنور حول كامل قطرها .

نقضي واجباً بتناول السحور .... ننتظر صلاة الفجر الوادعة ... نستقبلها بركعات تحية وترحيب ... نصف أقدامنا مؤدين صلاة الفجر في سكينة ووقار .

تنقضي ساعات النهار نصفها ، وتستعر الشمس في وسط الأفق معلنة وقت الزوال , بعد صلاة الظهر جمعا بالعصر .... تنشد أعصاب الإنتظار ... ننتظر أخوة لنا ذهبوا صباحاً بعضهم ورثته أجواء المعتقل أمراضا راح يطلب لها دواء في مستشفى القلعة .... وبعضهم شاءت الأقدار وقوعه في ذلك اليوم بيد ( اللجنة ) .... وآخرون ضحك الحظ لهم مؤقتاً .... حصلوا على زيارة من أهليهم .

ننتظر كل أولئك بعودة محملة بالأخبار ، الأخبار لازالت تحاكي حاجة في النفس للكشف عن المجهول ، نعيش في ركن ناء كما يريد ظالمينا ... لو قامت الدنيا هناك أو قعدت لانعلم ، نحن عضو من هذا الوطن يؤلمنا ما يؤلمه ، وتفرحنا رؤيته فرحاً .

ننتظرهم على أحر من حمم البركان .... يعودون وأسماعنا مسمرة لإلتقاط خطواتهم .... وأعيننا ساهمة على صور أقدامهم ... وقلوبنا تتحرق لأسرار لازالت خلف ألسنتهم ... يؤدي العائدون صلاتهم هادئة مستقرة ... وأعصابنا في إنتظارهم لاتعرف القرار .

الإنتظار يلعب بعقارب الأزمنة .... يحيلها فجة ثقيلة بعين الراغبين ، ويرسمها هشة خفيفة أسرع من البرق على الكارهين .

في نهاية الأمر يصعد أحدهم من إحدى الزنازين ينادي على أحد العائدين ... هنا يأزف وقت الإتصال بالوسيلة الرابعة .... نصعد على السرير الحديدي ، نميل جذع جسدنا لليمين حيث فتحة التهوية بين السقف والباب ، فتحة بإرتفاع 8 بوصات وطول لربما تعدى 14 بوصة ، تمتد عموديا في ارتفاعها قطع من الالمنيوم كما في فتحة المكيف .... أيدينا تدخل بين قطعتين من القطع لتوازن الجسد ... بينما الأخرى تحلق في فضاء الإعتقال .

غالبية هذه الفتحات منزوعة القطع ، أو احتفظت بقليل منها ، نثبت ما بين الحاجب وأسفل الفم في الفتحة .... بالنظر داخل الفتحة نلتقط صورة الواقف أمامنا في الزنزانة المواجهة ... وما لم تمكنا من رؤية رؤيته الفتحة السفلى تحت الباب ، أخذناه من الفتحة العليا وجوه نرى في تغضناتها صور عن أنفسنا .... الفتحة ممتدة ومتفرعة لكل الزنازين في قسمنا من ( الثلاثينات ) حيث تبدأ الزنازين من الثلاثين حتى ( الستينات ) .

كل من يتكلم في هذه الفتحة يصلك صوته .... يختلف الصوت قوة أو ضعفا بحسب بعد الزنزانة عن المسامع ....... عند كل فتحة يتعلق مندوب عن زنزانته ، يدون في رأسه حصيلة اليوم وبعد الهبوط يفرغها في آذان المتشوقين لتفاصيلها .

كل يوم عدا الخميس والجمعة نصعد نتسقط الأخبار حسنها وسيئها .... الأوضاع في الخارج تحوم أطيافها في أذهاننا ... استقرار الوضع وهدوئه يومي بإنفراج الأزمة وتأجح الحالة وتوترها كذلك تؤكد أننا في ذاكرة من هم بالخارج .

المعتقل يتعلق بأحرف الفرج حرفا حرفا ..... مرات تأتيك الأخبار متصادمة متساقطة خبر يؤكد و آخر ينفي .... للناقل دور ونفس في صناعة الخبر .... فمن يود الخلاص بالإستقرار ينحاز لأنباء الهدوء عامة . ومن يرى الإستمرار بالمطالب بأقصى الوسائل يرجح أن التوتر قائم في أنحاء الوطن .

أعجب ظاهرة حارت بها التحليلات ، فتحة التهوية تلك كانت بريداً للصوت والصورة ... وبريدا ممتازا لتمرير الضروريات من زنزانة لأخرى .... الذين سبقونا في الفضل والمعتقل اخترعوا وسائل التواصل تلك .... ألا يقولون الحاجة أم الإختراع إذا عليهم اختراع طريقة تربطهم بأشقائهم في المحنة .

ماذا صنعوا ياترى ؟ استخدموا إطارا قماشيا نزعوه من اللحاف وأوصلوه للزنزانة المقابلة لهم .... جعلوه بطريقة البكرة يذهب ويعود .... كلما استخدمنا اختراعهم قلنا لهم : شكرا على ما أسديتم لنا ! هذا ليس عجيبا بالنظرة الطبيعية ... إنما أعجب ظاهرة تقرع أفكاري للآن وجود حبل سري كالسابق يصل بين زنزانتين متجاورتين وليستا متقابلتين .... هذا يعني أن يسير الحبل مستقيما فينحرف لليمين وبعد مسافة لا بأس بها ينعطف لليمين مرة أخرى ليصل بعد مسير بسيط للزنزانة المجاورة .... كيف تسنى لهم تمديده وبنفس طريقة البكرة ؟! بهذه الوسيلة تكون 8 زنزانات متواصلة ويمكنك نقل ما بالزنزانة الأولى للثامنة عن طريق النافذات الخلفية وفتحات الهواء ( الدك ) كما تسمى هناك .

أربعة جدران تعتقلنا وأربع وسائل نفك بها جزءا من قيدنا وأربعة نحن .... ولاأجمل من مرة كنا نحن أربعة نتنعم بأربعة انتهاكات بنظر الجلاد ... واحد متسلق بالنافذة يقضي من منادمة وطرا بصوت ولاصورة .... والثاني يغمر الكوب بما تجود به قريحته بصوت ولا صورة أيضا .... والثالث افترش الأرض ومكن عينيه من أسفل البوابة يسترق المحادثة استراقا حذر الهوز ..... محادثة بصوت ونصف صورة كالأسود والأبيض ..... والرابع حاز على نصيب الأسد من الدك يواصل البوح بما استجمعته ذكرياته السابقة .... بوح بالصوت والصورة بعيدا عن أقدام الشرطة وعن عيونهم مالم يقتحموا الباب ..... البقية تأتي.

بحرين السلام
04-14-2011, 08:23 AM
اليوم تغيرت الأدوار (9)

تتوق الروح للحرية وللتنفس خلف القضبان .... تبادر أكفنا بطلاقة للنافذة العليا أتأمل الدنيا خارج أسوار السجن .... أراقب البحر لازال يمارس الذهاب والإياب .... ولا زالت القوارب ساكنة فوق سطحه تنتظر الصيادين .... هذا البحر بآخره على الطرف الآخر من شاطئه ترقد أرض قريتي البعيدة .... يحط طائر على سور السجن .... على السلك الشائك بالذات ..... الطائر عيناه متجهتان نحوي .... طويلا حدق في وجهي .. يالسخرية المقادير ، في يوم ما كنت ياطائر خلف القضبان تبتلع الحرمان وبرغمه تبعث تغريداً شجيا ، كنت تحلق في فضاء ضيق في قبضة القضبان .... وكنت لا أعبأ بك سجينا تحن للحرية .... اليوم عكست الأيام الأدوار ، أدخلتني خلف القضبان وأطلقت جناحيك للريح , الفرق كبير بين الأمس واليوم .

بالأمس لم أعرك طرفا من انتباهي ، واليوم جئت تواسيني وتزورني .... بالأمس سجنتك ولست من بني جنسك ..... واليوم جارت أيدي بني جنسنا علينا ..... سافر ياطير وخذ من خلف القضبان الحديدية شوقا يتلظى بين أضلاعي .... خذه علك ترى أحبة يتمنون بريداً من جهتنا .... قل لهم كما قال علي (ع) الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر .

أجسامنا تكلست من الغبار والأوساخ .... الماء لوحده لا يزيلها ، قلبنا الزنزانة رأساً على عقب ، نبحث عن إرث من السابقين يفيدنا .... أخيرا ظفرنا بالكنز المفقود .... قطعة مستهلكة من الصابون ، لا تكفي للإستحمام لمرة واحدة ... ملقاة خلف ( السيفون ) .... الأتربة تزيدها حجما .... رائحتها صدعت رؤسنا ..... منذ أمد لم تمارس أنوفنا مثل هذه الروائح .

( الصابونة ) إرث لايكفي لواحد ، علينا توزيعها على أربعة .... على أجسامنا أن تشم رائحتها على الأقل وإلا أدركتنا الأمراض الجلدية المتربصة بالمعتقلين .... علينا برغم البرد التزود بشيئ من بركات الصابون .

الصابون ممنوع هناك ، فلا يمكن أن تكون معتقلاً ومحقاً ونظيفاً ... يتوهمون .... المظلوم كقانون الفعل ورد الفعل ..... لكل فعل رد فعل .... يساويه في المقدار ويخالفه في الإتجاه ، إذا منع الصابون, مبادئنا أنقى من الصابون .... الصابون يذوب ويتحلل وتتبخر رائحته .... ونحن لا نذوب ولا نتحلل وعبق الكرامة غالب أينما نكون .

الفرشاة ومعجون الأسنان تلك الأشهر الأولى نسيناها مجبرين .... مبالغة في التحقير ولربما نظام كان ذلك, يقتدون به في تأديبنا ، كذلك الشامبو حرمته علينا شريعتهم .

كما يقول الأستاذ عـ .... طعامهم يبقيك على قيد الحياة ولا يقويك ، عندما تشرق الشمس وتبدأ في لبس عباءتها السوداء ، نصلي قبل الإفطار .... ريثما يأتون بالإفطار ، نتم الصلاة ونبقى أربعة نشبه بعضنا بعض في المظلومية وفي القيد الرابط بين الكفين .

يشرعون في توزيع الفطور علينا .... صحن من الخضار المتهرئة المطبوخة ( شخر نخر ) ورغيف ... رغيف كلمة ترسم لك صورة لقرص تفوح رائحة الفرن منه وأطرافه تتسابق في نظامها ، أما رغيفنا فمجازا نسميه رغيفا ... رغيفنا جسد ذابل كالجلد في القطع نعترض على رداءته أحيانا ... نصر على استبداله ، يتجاوب بعض الشرطة أحيانا.. يستبدلون القرص بآخر أقل رداءة منه .... ولكنه يبقى من نصيب آخرين في المعتقل ...يقال في الحديث (( لولا الخبز لما عبدالله .... إنما هذا الخبز يناسبه أن يقال لولا الخبز لما كفر بالله ....

كوب من الشاي الأسود .... يذكر أحد الأخوة أنهم يضيفون ( الكافور ) فيه ، في ليلة الأحد يستبدلون الخضار المطبوخة ( شخر نخر ) بالعدس ..... صحن مليئ بالعدس مع البصل المقطع وقد تجد فيه قطعة من البطاطا لا يتسع لها فم إنسان .

العدس طعام الأنبياء كما يقولون .... ما أحسبهم يريدون لنا أن نكون أنبياء ولكنها مشيئة القوي في الإبقاء على الحياة .... مرة من مرات العدس اللا متناهية ، رحت أعب العدس مغلفاً بقطع من أقراصنا السابقة ..... لقمة .... لقمات متتابعة ... وما أوقفني إلا فرقعة في فمي كادت أضراسي أن تتفتت منها .... أوقف الحدث أصحابي عن الأكل ريثما يخلصوا لنتيجة تجاسرت أصابعي متسلسلة إلى فمي .... واستخرجتها ..... كانت قطعة كنكريتية بحجم نصف بوصة تقريبا .. !!

ألقيت بها فوق صفيح الباب .... فأصدرت صخباً لازلت أسمعه لليوم حينما أعود بالذاكرة قال (ج ): إنهم يختبرون مدى تحمل أسناننا ! أما زالت قوية أم انهارت من جفوة الإهمال ؟"

الأيام تعبر علينا رتيبه بطيئة ، الخميس والجمعة ينزلان علينا كما نزلت الصيحة بقوم ثمود ، تأخذنا صيحتهما فنصبح في زوايا زنزانتنا جاثمين .... في الخميس والجمعة لازيارات أهلية .... ولا مرتادي مستشفى ... يغلق العنبر أبوابه عن الخروج ، 48 ساعة نجتر فيها السأم والإنتظار .... الإنسان مدني بالطبع ، يأنس بالآخرين وتنفرج أساريره برؤية إنسان .... الصاحب في المعتقل إنسان لكنه مع طول المدة تماهت روحه بأرواح أصحابه .... أصبح النظر منا للآخر كالنظر في المرآة .

الأدعية النورانية فوق ( الطيفان ) لاتكفي لملأ الروح بالطاقة الإيمانية ... نعمة من الله علينا أن رمت الأقدار الأستاذ -ع- في زنزانتنا ، ذاكرته لازالت طرية تحتفظ بفقرات دعاء الصباح .... نعم يا أستاذ هاته نحلق في رياضه كل صباح . استللنا للأستاذ قطعة من الألمنيوم .... راح الأستاذ بخط جميل يرصع الكلمات في طلاء الجدار .... اللهم يامن دلع لسان الصباح بنطق تبلجه ، وسرح قطع الليل المظلم بغياهب تلجلجه وأتقن صنع الفلك الدوار في مقادير تبرجه وشعشع ضياء الشمس بنور تأججه ... أتم كتابة الدعاء بخط واضح كبير ... في صفحة الجدار بالقرب من البوابة .

الأدعية عزيزة الوجود ... نخاف أن يلاحظوا وجودها في الجدار وتعلقنا بها ، فيزيلونها ويقطعون بهجتنا بالعثور على بساتينها العاطرة .

لابد من الإحتفاظ بوسيلة لايتمكن القهر من إزالتها .... رحت انقله حفظا من ذاكرة الجدار إلى ذاكرة القلب ... حتى أكملت حفظه مستعينا بتلاوته عقب صلاة الصبح .

في فقرات الدعاء استهلال بالثناء على الله .... والإتصال بساحته القدسية والإنقطاع عن المخلوقين .... فماذا ستجدي السجون في قلوب محلقه سارحة في أعلى عليين . هذه هي النفس توثق علاقتها بالله... تزداد قوة راسخه ... تنصرف في تهجدها وتضرعها فلا تهزمها أعتى القوى ... ولكن حين تغفل عن الطريق شيئا ما ... تتقاذفها الهموم والظنون .... ويعصف بمصيرها الضعف .

هناك في السجن أقوياء وضعفاء .... كل بإرادته كان كذلك ، وهو محطة اختبار يعبرها الكثير .... ولكن ماذا أخذ منها كل على حدة ، الإعتقال مدرسة إذا كنت استاذا ... يعتقد الشرطة غير هذا ، إحدى المرات جرى جدل بيني وبين شرطي أساء المعاملة كأكثرهم في التعامل .... قال أنتم مجرمون ! .... قلت له وكيف ذاك ؟ .... قال لايسجن إلا المجرم .... قلت له : ماذا تقول في النبي يوسف ؟ ألم يقل( رب السجن أحب الي مما يدعونني اليه).... أيتمنى السجن ليكون مجرما .. وقال القرآن ( فلبث في السجن بضع سنين ) ... وبمنطق أهل الدنيا أيضا يقولون : ياما في السجن مظاليم ... كان جوابه أن انصرف بدون جواب .

بحرين السلام
04-14-2011, 08:23 AM
ها قد لاحت علامات انقضاء شهر رمضان .... رمضان يختلف عن الرمضانات الفائته ...طعمه الغربة والحرمان بالإضافة إلى الجوع ... ويطل العيد ، عيد غير سعيد .... انتصبنا لصلاة العيد قانتين .... اللهم أهل الكبرياء والعظمة وأهل الجود والجبروت وأهل التقوى والمغفرة وأهل العفو والرحمة ، اللهم بحق هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيدا .... وتختنق الكلمات في حناجرنا .... الذي جعلته للمسلمين عيدا ، أعيدا هذا حقا؟! .... أمسلمون نحن حقا .... نتم الصلاة ثاكلة بمثكولين .

تنزوي أجسادنا متكورة في تأملاتها ، تعود بنا الصور إلى أعزتنا في عيد بدوننا ، أيعيشون الفرحة بعيداً عن أحضاننا ؟ ... أتنفرج شفاههم بالعيد أم يخنقهم البكاء ويحبسون الدموع كما نحن محبوسين .... من يلبس أبنائنا الجديد من لثياب ويطبع على خدودهم قبل الحنان ، أيلبسون الجديد ونحن غائبون ... غائبون في المجهول ... أتراهم يعيشون شعورنا الآن ؟ أفهل سهدت عيونهم بإنتظار اليوم أم راحوا يذكرون أعيادهم المنصرمة؟ .

نعم قسوة سجاننا حالت بيننا وبين فلات أكبادنا ... وزرعت في أعيادهم ألما... صغار أجهضوا عيدهم ، واختطفوا السعادة منا ومنهم ..... اليوم من يقبل رؤس أمهاتنا ؟ ... ومن ينتزع الشيب من رؤسهن لفراقنا .... عيد بأية حال عدت ياعيد... كما يقول المتنبي ... تسح العيون فياضة على عيد غدرت به القيود .... البقية تأتي

بحرين السلام
04-14-2011, 08:24 AM
يازهراء للإنذار (10)

يعود السبت محملاً بالنضارة في معنوياتنا .... السبت خارج هذه الأسوار يعود بي إلى سبت أسود بسواد الدجى ..... سبت لم تلد الأسابيع مثله سبتا .... نهاية نهاره لملمت السنابس جراحها ، هدأت زمجرة الجراح فيها مخلفة في أرضها شهيدين ... وجثث أخرى , مشاريع شهادة لم تكتمل .... زارها الليل مهشمة الضياء .... السكون يعوي في طرقاتها .

السبت هنا يفتح أملاً منعشاً برائحة الطلقاء خلف أسوارنا .... تعود القافلة من القلعة لتجمع نتاج يومين صامتين ، وعندما تتهيئ الآذان في ( الدك ) في كل الزنزانات .... حينذاك لابد ( للعنبر ) من عين ترصد الشرطي ، لينذر المستمعين بالهبوط قبل إدراكهم متلبسين ( بالدك ) .

في باطن زنزانتنا يقع جهاز المراقبة ( الرادار ) .... كيف مكنتنا الظروف الضائقة من تجاوزها ؟! ... قطفنا قطعة من قطع الألمنيوم الراسخات في الدك .... وحصلنا على قطعة صغيرة من الصابون متهرئة ... وببحث جاد في الثغرات المتفرقة في الزنزانة عثرنا على مرآة صغيرة لاتمكننا من رؤية وجوهنا الشاحبة كاملة .

ألصقنا المرآة في قطعة الألمنيوم بالصابونة المنهكة ... وها قد تم تصنيع جهاز الرادار ... عند إلحاح العاطفة لتفجير ترانيم الولاء الحسيني أو التشاور أو التحليلات العامة ... عند كل ذلك .... يمتد أحدنا فوق الأرض معطياً صدره للأرض .... يضع الرادار بين الوسطى والسبابة .... يدفعه للخارج حتى يتمكن من كشف البوابة الرئيسية للعنبر ... يعطي العين اليسرى إجازة بإغماضها ....يركز النظر باليمنى ، فيرصد حركات الحارس مع بعد المسافة .... جهاز بسيط بدائي يفي بالغرض كاملاً .... كما يتفنن السجان في تشفيه يتفنن السجين في التنفيس عن كربه ..

مع أول بادرة لأقدام الشرطي بالدخول .... مع تلك الخطوة الأولى ينطلق الإنذار من صاحبنا معلنا بدخول الشرطي .

الشفرة المستخدمة للإنذار بقدوم الخطر كانت كلمة ( يازهراء ) تكفي مرة واحدة من صاحبنا مناديا : يازهراء لتترجم الآذان للأفواه أمراً بإلتزام الصمت ... حين يبتعد الشرطي يواصل صاحبنا بمراقبته بالعين مجرده عن رادارها وعندما يتعداه دخلا ( للستينات) .... يتعداه بخطوات لا بأس بها ... يهتف بــ ( يازهراء ) مدوية لتصل ( للستينيات ) وتخبرهم بقدوم الشرطي ... حيث لامراقبة لديهم .

لا أعلم في الواقع من أسس شعار الإنذار ( يازهراء ) ، لكنه بالطبع اختيار موفق ويوحي بنضوج الرؤية ... يازهراء إعلان بالمظلومية ... يرفعه المظلومون يؤكدون فيه بقاء مظلوميتهم امتداداً لمظلومية الزهراء (ع) .... يازهراء تعود بالسمع إلى يوم وقع فيه الهجوم الأول على البيوت الآمنه .... وكانت حصيلته هذه الزنازين الممتلئة بالأسرى .

يازهراء .... تبعث في النفس ارتباطاً بحق مضيع ... لازالت المطالبة به قائمة في الوجود ، نعم ( يازهراء ) كانت أمانا عند الخطر ، أليست هي من تلتقط شيعتها يوم الحشر التقاط الطير للحب الجيد من الحب الردئ .

حين لا يتمكن صاحبنا المراقب من الكلام .... ذلك حين يعاجله الشرطي ويكون ملزما بالصمت تكفي ثلاث ضربات متتالية على الجدار ليكون الصمت حاكماً ... بقبضة اليد نوجه قرعا على كتلة الخرسانة تلك .... فيمتلئ العنبر بصدى مفخم مدو كقرع الطبول... نقرأ في وجوه الشرطة حيرة مخفية ... الإستغراب والإندهاش يعصفان ببساطتهم ... يفكرون كيف يتسنى لنا معرفة وقت دخولهم ..

أحد أفراد الشرطة كبير في السن يطلي رأسه بالحناء ... شبهه رفيقنا (م) ( بطاسة الصفر ) نعم كانت هامه مصبوغة بالحناء كآنية النحاس .. هذا الشرطي كان يقول لأحد رفاقه : ( هذول عندهم شفره ) ... لما يدخل الشرطي يقولوا (ياسرى الليل) .

التقطت مداركه وجود شفرة ... ولم تسعفه خبرته في معايشتنا بمعرفة ( الزهراء ) في أعماق عشقنا ... وما زالت صورنا مبهمة في نظره ... وملامحنا غير بارزة لدى مداركه المقتصرة على تصديق كل افتراء علينا .

بهذه الصور تنتقل الأيام بنا من زمن لآخر ، نخوض الضيق ونصنع من شدائده عكاكيزا تسعفنا في اجتياز العقبات ، بطبع وظائفهم صاروا بارعين في السخرية من كرامة الإنسان .... الفريق الأول من شرطتهم عندما أنهى نوبته في (عنبرنا ) وصار عليه أن يغادرنا إلى غير مكان .... كان عليه أن يبدي سيطرته على الوضع ، بعد العيد مباشرة جاءوا ، فتحوا الباب ، راحوا يتملون النظر في الجدران ، وكأنهم لأول مرة يشعرون بإحتوائها على ممنوعات .

أجبرونا على تمحية كل مايمت للكتابة والقراءة بصلة .... أيدينا مجبرة مددناها بقطع من القماش مبللة ... محونا نصوصاً غالية على وجداننا .... محونا نبضات من قلوبنا .. أزلناها وكأنما أزلنا بعض أعضائنا .... عقاب قاس ذاك ما أقساه .

لم يكتفوا بحجب الكتب عن نواظرنا .... بل وأزالوا كل جميل من أبصارنا ، وكما يقال ( لا أرحمك ولا أخلي رحمة الله تنزل عليك ) .... كانت مرحلة لايشبهها إلا الإعتقال نعم كانت اعتقالاً آخرا يحل بروحنا .... ولم تكن الزنزانات الباقية أحسن حالاً ، لو فرضوا علينا نقلها بحبر من دمائنا قبل محوها لفعلنا ممنونين . كيف يسمحون لنا بنسخها وهم يستمتعون بنسفها .

ألا تعطى الهدايا والعيديات في العيد , كذلك نحن أعطينا عيدية تروح العصور وتنتقل ونبقى لا ننسى عيديتهم ... أحالوا العيد إلى جنازة شيعنا في إثرها أغلى مقتنياتنا . نصبنا في العيد ( فاتحة ) على ما فقدنا من أحبة أدعيتنا ومأثوراتنا .

كانت فاجعة لم يخفف الخطب بها إلا بقاء بعض الأدعية محفوظة في صفحات صدورنا لم يتمكنوا من محوها ولو تمكنوا لما توانوا عن إجبارنا في اتلافها ... وتشاء الأقدار أن تبقى القلوب مصونة من اقتحامها والتفتيش في أسرارها ... في حنايا قلوبنا طبعنا نسخا مما استطعنا نسخه فكانت عزاءا لنا في محنتنا ... وانصرم النهار وولى مدبرا وزنزانتنا جاثم على صدرها صمت المقابر القاتل ... يجول في زواياها الكدر البغيض ... ويعتصرها الألم المرير ويعشعش في مخيلتها نعيب البوم وتنفلت صور النحس في أجفانها انفلاتا ....

زنزانة ضاقت بهمومها واتسعت لتكون مقبرة ملئ بالقبور ... قبور الممحوين والمصادرين والمحرومين من مناجاة رب العالمين .... البقية تأتي .

بحرين السلام
04-14-2011, 08:26 AM
صيد عشوائي ( 11)

خلف ما ينصرف الشرطة محملين بالصحون الفارغة والأكواب الخالية ، يعود المسجونون إلى الإختباء بين الجدران الأربعة ... يعودون يسردون لشركاء زنزانتهم قصص طفولتهم .... وجل ما يداعب اهتماماتهم ، تغدوالألسنة يفيض من كلماتها الحنين .... تفضفض القلوب في بعضها البعض ، يتبادلون المعارف بينهم ، ويغرقون أصحابهم بسحيح من الخبرات ... حتى إذا نفذ ما في الذاكرة من مخزون ، أعادوا نفس القصص بصياغات مختلفة ولربما كانت هي هي ... يعودون لبث ذاكرتهم كشريط الكاسيت ، تعاود سماعه حين لا يصح بيدك سواه .

يحكون شواغلهم ويتحاورون طويلاً في كل شي ... في الدنيا والدين ... في السياسة والشؤون الشخصية ... يتنازعون أحيانا ، طبعاً فما داموا ينامون ويفيقون على نفس الوجوه .... أينما أداروا طرفهم ، هي نفس الوجوه ، ألفوا كل التفاصيل في وجوه أصحابهم ، ختموا ما يحبونه ومالا يحبونه ... ألفوا بعضهم ألفة الشخص بذاته ... من الطبيعي حين يصلون لهذه المرحلة أن تبدر بوادر الخلاف والنزاع .... هم بشر تترسب في ذواتهم الصفات الأرضية ، ليسوا ملائكة منزهين عما لا ينبغي .

الدنيا تقع خارج هذا الصندوق ، وأقرب طريق لها ولرؤيتها يقع في النافذة المربعة ... هناك حديث يقول النظر للبحر يذهب الغم ، إذن من النافذة المطلة على البحر أبدد الغم .... بحر هادئ ... أمواجه كبساط أسود ... النجوم تغازل مياه البحر بوميضها ، الساحل وادع لايعكر صفوه زوار .... بعض القوارب بعيدة ، تبحث عن صيد تسد به رمق الحياة ، لعل الصياد حين يلقي شباكه لا يتكهن بنوعية صيده .... قد تأتي شباكه بصيد متنوع .

كذلك شباك مختطفينا أيها الصياد جائتهم بصيد متنوع عشوائي .... جمعت شباكهم في ليلة واحدة كل ما في هذا ( العنبر ) ..... مزيج لايجمعه مسمى إلا مسمى المضطهدين ، يضم عنبرنا كما وافرا من طلبة العلم ( رجال الدين ) وعددا كبيرا من ( الرواديد ) ومجموعا لابأس به من ( الأساتذه ) وآخرون ممن هم بين هذه الفئات .... مزيج لايلتقي في معادلة واحدة ، مزيج جمعته في مكان واحد ماتسمى بـ ( القمعة الأمنية ) أو الإعتقال الإحترازي .

بلى أيها الصياد هذا قدرك وقدرنا ... الصيادون يعنونون قواربهم بمصابيح تحفظهم من القوارب المتحركة ليلاً ... البحر مزخرف بمصابيح الصيادين والسماء مزخرفة بمصابيح النجوم ، لوحتان متناظرتان تضوعان جمالا وسحر ا ... وزنازيننا بينهما تعصرنا حسرة وتصبرا .

رأيت نفسي في النافذة ، ولم تبارحني قصة ( الشيخ النجاس ) ... الشيخ كان قدره زنزانة في الستينات ، أوثقوا كفيه في ( الهفكري) كما أوثقونا ، لم يرتح الشيخ لصنيعهم ... تحايل على ( الهفكري) دعك معصميه بصابونة وجدها وأخرج كفيه من ( الهفكري) ... ألقى بالهفكري في ( السيفون ) .

كان لا بد لهم من اكتشافه طليقا بين رفاقه المقيدين ، سألوه أين ( الهفكري) ؟ نفى الشيخ أن يكونوا قيدوه بالهفكري ... جلبوا له ( هفكري ) آخر وغللوه ، هكذا وأعاد الشيخ الكرة ثانية ... وألقى بالهفكري مع رفيقيه في ( السيفون ) ، قيدوه للمرة الثالثة ... ولكون نوبة الشرطة مختلفة لم يدركوا انخداعهم ..... لكن وكما يقولون ( مو كل مرة تسلم الجرة ) بعد القيد الثالث ..... كان الشيخ متسلقا في النافذة يحاور ويتكلم براحة .... وما استفاق من غفلته إلا والباب تفتح .... أدركه الشرطي بالجرم المشهود ... جرم التطلع للحرية المسلوبة ، وجرم التحدث للزنزانة الأخرى ، ولعلهم عدوه يستمتع بالنظر للساحل البحري .
تنبه الشرطي لخلو يد الشيخ من ( الهفكري ) فإنفرجت أساريره بصيده الثمين ... أغلق الباب وذهب مسرعا وأبلغ رئيس النوبه .... جاءوا مدججين بالأهواز ... أعادوا السؤال على الشيخ ! أعاد الجواب المعتاد عليهم . أدركوا وقوعهم في الفخ ! بدأ الإستنفار .... نقبوا الزنزانة عن بكرة أبيها ، وانتهى بهم التنقيب عن ثلاثة ( هفكريات ) ملقاة في باطن ( السيفون ) . كان العقاب أن وضعوا طرفا من الهفكري في رجل السرير ، والآخر في كف الشيخ . جزاءا لتجاهله كل رعبهم .

حجر ياما ضمت أجسادا مهشمة الأعضاء ... يعبر المعتقلون الحجر نفسها ويتبادلون الآهات نفسها ، يتوارثون الآلام .... يحفرون بما أوتوا من وسائل أسمائهم في ظهر الجدار .... يحفرون أسمائهم لتكون سلوة للتالين ... ليقرأها اللاحقون مجلجلة بالعنفوان ، وتنتعش في دمائهم زهرة الصمود ... وتطل من لحظات عيونهم أشعة الإباء الحسيني .

زنزانات تهجدت في أسحارها أحباب الله ، وتشوقت آباء لنظرة يتيمة من أبنائها ... آباء وأبناء عاشوا فيها حقيقة الحرمان ... أجساد قريبة من بعض ، تفصلهم جدران قاسية ... أب في الستين من عمره حنت المعيشة ظهره والأبن في زنزانة قصية عن والده ... يتخاطبان عبر فتحة الهواء ، يصل الصوت ضعيفا من صفائح (الدك) الإبن ينتابه القلق على شيبة أبيه . الأب الملاحق بتبعة الأمراض ، يتبادلان الوصايا ولا يسعهما أن يملأن حضنيهما من بعضهما البعض ... ألا تذوب الجدران من هول ما تسمع فيها ؟ ... ألا تتصدع تأسفا لما يطرقها من حرارة الحدث ؟ .. ألا تضج بالويل والثبور ؟

لو اتسع الإحصاء لأمكننا أن نرى أكثر من أب في ذلك ( العنبر ) يسمع صوت إبنه ولا يراه ..... البقية تأتي .

بحرين السلام
04-14-2011, 08:27 AM
غلى هدايا السجناء (12)

في غيابة المعتقل يختلف طعم الأشياء .... يكبر الشوق لأشياء كانت تافهة بالخارج أما الآن فلاوجود لها .... التفاحة التي تراها أمامك ولا تعنى بها ، تصبح أمنية كالأساطير ، بل وتصبح حلما أن تجدها بين يديك تقضمها منتشيا بلذتها .

الأستاذ عـ يسند ظهره للحائط يتذكر ماضيا جميلا ... وإن لم يكن جميلا ... لكنه أجمل من حاضره .... يعصف به الحنين إلى تنسم أريج الزهور في باقة منها ... إن لم توجد الزهور فلا أقل من صورتها ، شرع الأستاذ في رسم سلة الزهور فوق الحائط ... سلة كالتي يطلب منا المدرس في المدرسة رسمها في كراسة الرسم ..

أتم رسم السلة في الركن الذي يمد فيه فراشه كل ليلة... أتمها باللون الرصاصي بقطعة الألمنيوم ، لوحة متناسقة الأبعاد ، تحمل إيحاء بعمق الشوق الكامن في الذات ... لوحة بقت ولوبقينا لأخترعنا ألف وسيلة لنصل إلى تلوينها كما تمكن اللاحقون من صنع الألوان من ألوان الأكياس البلاستيكية .

اللون المفرد في اللوحة لم يفقدها الشعور بجمالها ... كنا نتنفس من باقة شذاها عبقا ... بلى عبقا يزيل طبقة الأكدار المتلاحقة على زنازيننا من تضييق وتتالي أنباء محزنة ... الأستاذ عـ تعددت المواهب في شخصه ، خطاط ورسام ... ومصمم ومتعدد الإمكانيات الفنية ... قدير في المواد الفلسفية ، وضليع في الدين .

تستطيع أن تعطيه صفة الإبداع براحة الضمير ، مبدع بمعنى واسع ... ألا تكرم الدول مبدعيها ونابغيها ، وتسبغ عليهم من تقديرها ... ها هو الأستاذ ينال أوسمة التقدير ، صادروا حريته وعطلوا إبداعاته ... وأودعوه عند كم من المرتزقه يسومونه ذل المعاملة ... يعبثون في إحساسه بالجرح والتحقير .
كيف لا تضيق الدنيا عليه وهو يشعر بالوطن يتنكر لأبنائه يسلبهم قوتهم ، ويعطيه لأغراب حلوا عليه على غير رغبة منه .. يرى هويته يسلخونها من جلده وينصبونها وساماً على صدور الدخلاء .

وفي آخريات الليل تحاصر عينه الهموم ...وتشحذ في وجهه سيوف الأرق ... أستيقظ ليلا لأجد الأستاذ جالسا على فراشه ، وخيط من الضياء يتدفق من النافذة يعبر من شعر رأسه واصلاً إلى نهاية شعرات ذقنه الوافرة بالشيب .

أراه ولا يراني وكأن عيونه تنفث اشتياقاً مستعراً ... تدور عيناه صاعدة في السقف ....هابطة تستعرض الجدار وكأنها تخاطب المكان ... رأسه يحركها يمينا وشمالاً تحريك المتضايق... تلامسني حالة روحه ، يتقمصني ألمه وأسرح عن مراقبة ضجره.

ما أكثر المرات والصور المتكررة من يقظة الشجن تلك .... لكن أملاً غنيا يتبرعم من خبايا أفكارنا ، يصنع إشراقةإ تهب مزمجرة في وجوه السجانين .

أخيرا أرسل الأهل لي مصحفاً وملابس جديدة كملابس العيد .... ألا يعرفون أنه لا عيد لنا ؟ ... ثياب تفوح من قماشها رائحة الحياة ، الحياة التي أصبحت في الطرف الآخر من البحر ، وبدأت الثياب تتتالى علينا ... بحجم فرحتنا بها كانت تشبعنا حسرة .

الفانيلات الجديدة والقديمة على السواء أصبحت ضحية لإبتكاراتنا ... يستل الأخوان الخيط من رأسه ... فتأتي الفانيلة كلها متفككه في صورة خيط واحد .... نجمع الخيط في كرة واحدة .... نفتل الخيط ونكون منه خيوطاً سميكه نبدأ في نسجها .

نحيك من خيوط فانيلاتنا حروفاً ثلاثية الأبعاد .... تأتي الحروف مرة بلون واحد ومرات أخرى بألوان ممتزجة . كلما مارسنا أكثر استقامت الصناعة في أيدينا ... بالطبع لكل قدرة تميزه عن أقرانه ، ولم تفتنا كلمة الإمام علي (ع) ... قال : من تردد في شي أوتي حكمته ... وكانت ثقافتنا القرآنية تقول ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) ... مارست حياكة الأحرف حتى أتقنت إحكام عقدها .... ثم تركتها لباقي زملائي يبدعون في أحجامها ويبالغون في جودتها .... يطرزون بها أوقاتهم .... وانصرفت لما رأيته أهم ...

هذا هو الشعب الجائع من جراء فقره وبطالته .... هذا هو يصنع من معتقله تحررا يشمخ به في وجه مستصغريه ... ... فلماذا تعطل أياديه عن إثراء أرضه ووطنه .... لماذا تقيد أياديه ولاتطلق لتعمر وطنها بفلذات جهودها ... لماذا ... لماذا .

في التالي طور أصحابي حياكة الأحرف الفنية .... صرت أكتب لهم أحرازا على جلد نقتطعه من غطاء الفراش : أكتب ( كهيعص حمعسق وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما ) .. نطوي القطعة لتتحول إلى أصغر مايمكن فينسج عليها الأخوة بمهارة ويتدلى من أسفلها خيط سميك ليكون حاملاً لها حول الرقبة .. عظام الدجاج المتبقية أيضا ساهمت في تطوير الصنعة ، يحيك زملائي حول العظم بأكمله بألوان متداخله لتكون ميدالية خفيفة حلوة المنظر ، يتهاداها السجناء فيما بينهم بوسائلهم الشتى .

هدايا تعبر الحيطان المغلقة ... تصنع تزاورا خفيا ، يخفف من أثقال المجهدين ، فما أحوج المحبوسين عن الدنيا وزهرتها لكف تحمل في وسع راحتها عناءها ... يتبادلون هدايا تنتصب الأحراز في أجوافها ... فتنام أعينهم ساهدة في حفظ من عينه لاتنام ... البقية تأتي.

بحرين السلام
04-15-2011, 06:04 AM
من الجنة للنار (13)

الخروج من الزنزانة إلى مقابلة الأهل كالخروج من النار للجنة ... والخروج منها للقاء ( اللجنة ) كالخروج من الجنة للنار ...... أما الخروج من الزنزانة للمستشفى كالتجول بين الجنة والنار ... الزنزانة جنة في النار, ونار في الجنة, ينقلب في نعيمها الهاربون منها بالتسليم ... ويتعذب في جحيمها الراهبون لها بالتوهيم .

على غير ميعاد فتح الشرطي باب المعتقل ، قرأ إسمي من ورقة بين كفيه ، قرأ إسمي كاملاً ... انطلقت من فمي (نعم) ... تخامرها الدهشة ! ، أشار لي بالخروج, الباب خلفه مفتوح على أكمله ، خرجت من الزنزانة ، فرصة لتسريح النظر في غير الزنزانة ... راحت عيني محلقة في الستينات وانعطفت بعدها للثلاثينات ، بين كل زنزانتين أو ثلاث أسير معصب العينين معطيا وجهه للجدار .

أقفل البوابة على زملائي فصاروا في قدر بعيد عن قدري .... استخرج من جيب بنطاله الأخضر عصابة حمراء ، ربطها فوق عيني وغرقت في ظلام أسود محمر .... إعتقل كفي ( بالهفكري ) وراح يبحث بكل مالديه من جهد عن ممنوعات .... كفاه تتسللان إلى كل الأعضاء ... لم يردعه حياء عن أي موضع ، له ولع بدس يده في مخفيات الأجساد ... عن ماذا يبحث في جسد أعزل ؟ ؟ عن أي محظور يفتش ؟ لو وسعه التسلل لخلف جلودنا للبحث لما تراجع !

يفتش عن حرز تخفيه اجتهاداتنا عن أعين المتصيدين ، أو رسالة تتجاوز الأسوار بدون إرادتهم ... وليس سوى ذاك ما يبحث عنه ... حرز يحجب عنك أذى المتربصين بجسدك ... حتى الحرز يستكثرونه عليك ... لا يريدون الله أن يكون خير حافظ لك .

لملموا العدد المطلوب من العنبر وانطلقوا بنا يقودوننا كالعميان ... أعيننا مقفلة وبصائرنا متفتحة برغم القيود والعسف و الإضطهاد ... أركبونا (الباص) ... الباص نوافذه مغلقة بلاصق حاجب ترى ما بالخارج ولا يراك من بالخارج .

وراحت السيارة تسير بنا إلى أقدار متعددة السبل ... نسيم من الهواء يتسرب لبشرتنا ويداعبها ... هذا هو الهواء إذن ... نقيا طريا يفعم الروح بالحيوية والنشاط ... هذا ماكنا محرومين منه أيامنا الخوالي ، مع سير السيارة تسير مخيلتنا بعيدا في تفاصيل الشوارع والحياة اليومية التي كنا جزءا منها يوما ما .

هذه هي الحياة في الخارج ، لازالت في عنفوانها لم تتغير ... كنا نعتقدها توقفت بتوقفنا عنها كنا نراها متلفعة بوشاح الخيبة حزنا على افتقادنا ... وإذا بها سادرة فيما يشغلها ، تصل السيارة بضحاياها إلى القلعة .... تتنقل موزعة الحصص إلى مواقعها ، حصة للعلاج وحصة للقاء الأحبة وحصة للإمتحان والبلاء ... أدخلونا حجرة خشبية ، تشعر بثقل جسدك يضغط على أرضيتها ، أجلسونا صفاً على الأرض جلوس .. ( مصمدين ) لانعلم ماينتظرنا على هذه الحالة بدأنا ذلك الصباح ... أرجلنا تسعى بنا إلى خفي غامض .

بعد انتظار طويل قاتل ببطئه ، نادى الشرطي واقتادني في ممرات مختلفة بين صعود وهبوط ... في إحدى الحجر الخشبية أدخلني ... فك عيني من أسرها ، فرأيت حجرة واسعة ,على اليمين منها صف من الطاولات ... على كراسيها ضباط جلوس بملابس مدنية وأصحاب الشمال هم كذلك .. صفان من الطاولات وصفان من المحققين ... أوقفوني بين الصفين في نهاية الحجرة ... وجاءت لحظة الحساب ، سألني أحدهم عن أسمي ؟ فأجبته ... الآخر كان جاهزاً بالسؤال الآخر ! ... هل استدعيت سابقا؟ .. قلت: نعم .. قفز السؤال من فم ثالث : ماسبب استدعائك ؟ قلت : بسبب قصيدة عزائية حكم القاضي علي بغرامة 300 دينار .. ساد الصمت على أصحاب اليمين وأصحاب الشمال .

قال أحد أصحاب الشمال : ماذا تعمل .. أجبته : أعمل خطاطاً ... قال وضح يعني ماهي طبيعة عملك ، قلت : أخط اليافطات الإعلانية من القماش والخشب ، وبطاقات التهاني والزفاف والكروت الشخصية .

طبيعة الأسئلة توحي بأنه لاتوجد لديهم إدلة إدانة ... إنما هي تحصيل حاصل كي لاتكون معتقلا بدون تحقيق ... أحد الضباط أستطعت تشخيص ملامح وجهه .. بلى هو بعينه كتبت بيدي بطاقة زفافه .. ولما نظرت من نافذة حجرة التحقيق رأيت سيارته قابعة بجانب الحجرة ، أيقنت من كونه هو ...

لما سألني عن طبيعة عملي وبعد شرحي له ، عقبت بقولي : ( الضابط ..) يعرف .. لقد خططت بطاقة زفافه ... فغر الباقون أفواههم وأعينهم تنفلت نحوه ... قال أحدهم له : أي بطاقة ؟ بطاقة الزفاف التي أرسلتها لي؟ : قال : نعم .

بعد وصول هذه المعلومة لأذهانهم خفت حدتهم ... وكان ذلك بعد أن حاولوا كثيرا أن يثبتوا أنني من يكتب على الجدران ومن يحرر اليافطات المناهضة للدولة .

ببساطة وبقوة حجة أثبت لهم عدم صحة مدعاهم ... بسبب كون خطي معروفا ولا يمكنني أن أكتب مازعموه دون معرفتي ... أسقط ما في أيديهم أمام حجتي .

نادوا الشرطي ليصرفني عن وجوههم ... أعادني في العصابة , وأدخلني مكان ما كنت جالساً على الأرض ... حجرة ضيقة في إحدى زواياها طاولة جاثمة ، فوق الطاولة مجموعة أهواز وعصي وخشبة سميكة اقتلعت من كزمة ( المعول) ... استطعت رصد المكان والطاولة من إزاحة طرف بسيط من ( الصمادة )

جلوس أرجلنا مضمومة إلى صدورنا ، مفترشين الأرض ... أصوات بكاء تقتحم آذاننا من الحجرة المجاورة ... صراخ متألمين ... أصوات عصي تشق الهواء .. شط ... شط .. تتبعها أصوات وقعها على الأرجل .. قع ..قع ... صور لامست مشاعرنا بالمواساة ، صور لم نراها لكنها بقيت محفورة في تصوراتنا ... صور لأرجل محكمة القيد في (الفلقة) وأيدي من لاقلوب بأجسادهم تنهش في لحومهم ... ( لهم آذان لايسمعون بها ) بلى ! لو كانوا يسمعون لذابت قلوبهم ... لكنهم حين كانوا بلا قلوب .. وحين غادرت القلوب أجسادهم ، قالت الآذان لقلوبهم خذينا معك .

بينما نحن في انتظار المجهول ، جاءنا المجهول برفقة أحدهم ، دخل علينا واختطف الخشبة السميكة إمعانا في تأدية واجب الضيافة ... إبتدأ من الجالس على شمال الباب ... يسألنا واحدا تلو الآخر ، يسأل فقط عن منطقة السكن ... فمن كان محظوظاً وأمه دعت له في صلواتها لم يكن من : الدراز ... أو السنابس ... أو سترة ... أو البلادالقديم أما من كان فأله أسوداً فيكفي تفوهه بإسم إحدى تلك القرى .

جاءت حصة العقاب نحوي ... سألني ( من وين أنت ؟) أجبته : من السنابس ... هبطت علي الخشبة غادية قادمة ... آخذة من جسدي نضارته ... حتى الرأس لم تسلم من قساوة الخشبة وحاملها ... وما انتهت يده من إكرامنا إلا وأجسادنا تملأها بقع سوداء تكتل فيها الدم .

بعد رحلة الرعب القصير عدنا إلى جنتنا في الزنزانة... وقد برحت بأعضائنا سقطات الضرب ... ولمدة مديدة بقيت كتفي تعاني من ثقل ضربة من وجبة ذلك اليوم ... وعدنا في منتصف النهار مشبعين بمرارة المشاهد رغم أعيننا المصادره الضياء من أجفانها ... البقية تأتي .

بحرين السلام
04-15-2011, 06:06 AM
بعيداً عن الكتاب (14)

إنصرف الشتاء غير محمود عنا ، إنصرف بعدما أرانا من زمهريره لحظات العناء وبعدما حول الزنزانة إلى صفائح ثلاجة نسكن بينها ... انصرف يسحب معه صرير الرياح وتلاطم الأمواج ... انصرف يحمل في كنانته أمطاراً لم نرها ولم تبللنا ببركة قطراتها ... ولى الشتاء عنا متوعداً ولسان حاله يتهددنا قائلاً : ستندمون على كفرانكم بي ... ستعضون على عشر أصابعكم تأسفا .

راح المناخ يقلب من أجوائه ، الجو بدأت تسخن أوقاته . صارت الزنزانة كالفرن هي كالعراء لاتقيك البرد ... ولاتحميك في الصيف ... هي العراء الذي لاتملك فيه أرجلاً ولا كفوف .

أخذنا نطلب من الشرطة فتح المروحة .. المروحة تأخذ الحرارة وتعيد تصنيعها ... فاقد الشئ لايعطيه ، صدق الشتاء في توعده لنا ... ها هو الصيف يزحف علينا بلهيب شمسه ، وتسعر ظهيرته ، الصيف وما أدراك ما الصيف .... نفتتح كل نهار به بتناول وجبة الإفطار .

كوب من الحليب ، وصحن من ( الباقلة ) يرافقه رغيف ذابل ... اليوم التالي يتحول ( الباقلة ) إلى ( نخج ) ... وفي اليوم الثالث يكون دور ( اللوبه ) وهكذا قضينا ما يقارب العام الأطعمه الثلاثة تزورنا بالتتالي وفي انتظام ... ثلاثة أشقاء لايختل نظام نوبتهم ولا يتخلف أحدهم وليس لهم رابع أبدا .

الفاضل من الشاي أو الحليب نغمس فيه الرغيف ... يتشرب الرغيف بالشاي ، ندعه حتى يجف فوق حبل الغسيل الممتد من فتحة الهواء إلى النافذة .... حبل ننشر فوقه ملا بسنا بعد غسلها وإزالة الأوساخ العالقة بها من المكان ... غسيل لاينزع منها كامل الدرن ولكنه غسيل بأي حال .... غسيل بالماء القراح وحسب... حيث الصابون حلم بعيد . على ذلك الحبل ثبتنا الرغيف , يأخذ الوقت الكافي ليجف ... وفي الأصيل يكون الرغيف قد أتم جفافه ... وهاهو ( الجباتي) جاهزاً ولكن أنى لنا بالسمبوسة .

تلك الرغبات داخل المعتقل غالية الوجود .... قد لا يعتنى بها خارجاً ( فكل موجود رخيص ) ... أخيرا استطعنا الحصول على ( جباتي ) تتكسر أطرافه في الفم بين حلاوة الشاي ولذة الرغيف .

في ركن قصي من البلاد كالنائين في مجاهل أفريقيا ... لاكتاب نعب من فيض نميره .... ولا قلم يحاكي خواطرنا ... الكتاب سعادة محجوبة عن ناظرنا .... ومن أعجب المفارقات لديهم وجود مكتبة ضخمة أمام بوابة عنبرنا ، أدخلونا فيها بعد ثلاثة أشهر من الإعتقال ... لا لكي نقرأ ... أدخلونا كي يلتقطوا لنا صورا فوتغرافية بوجوه شاحبة .

تتصدر المكتبة لوحة كبيرة ... مكونة من الخشب المحفور بالمنشار الدوار ... صنعها أحد السجناء السياسيين السابقين .... لقد جسد آية ( مرج البحرين يلتقيان ) حتى آخرها ... جسدها في جسم خارطة البحرين تعبيراً عن ولائه لأرضه وحبه الدائم لوطنه وإن جار عليه أبناء وطنه .

إلتقطوا لي صورة واحدة والتقطت عيني صورا متعددة لكتب مهجورة تضج بالويل والبثور .... حاصرها الغبار وقيد صفحاتها كما حاصرتنا الجدران .. كتب هجورة هنا بلا قارئ .... ونحن هناك قراء مهجورون بلا كتاب ...يسمحون فقط ( للجنائيين ) بإقتطاف ثمارها والتسلح بأقوى ما في سطورها من فوائد .

أما نحن فعقاباً لنا ولثقافتنا الزائدة ... كان علينا أن نجهل القراءة مدة مايرغبون , حرمان يشبه في وقعه الموت البطئ ... إن كنا قاصرين ثقافياً ، أتيحوا لنا فرصة نتمم بها نضوجنا وإن كنا ناضجين أهكذا يحتقر الوطن أنضج ثماره ؟!

ألتقطوا صورنا سريعاً ، كان الهدف منها تجديد مدة توقيفنا ... لا بد من أن يأخذ القانون مجراه بدون القانون تستحيل الحياة .... حتى الإلتواء يسمى قانوناً ويمرر بإسم القانون ، أن تظلم وتفرط في البطش... دفاع يسمى بإسم القانون , أما أن تسمع كلمة مطلب فتلك فوضى وتجاوز للقنوات الطبيعية ... وأسماء كثيرة بإستطاعة القانون أن يبتكرها لينصر من يملأ رصيده بالمال .

ترجعنا أيدي الشرطة إلى أقفاصنا الكئيبة .... رياضتنا في ذرع الزنزانة طولا وعرضا لمرات متتالية ، نحرك في أعضائنا الدماء كي لا تتخثر وتجمد فيها ، حتى في السجن للجسد حق وللروح حق .... وعند انتصاف الليل وفي سريري الحديدي ، أطل بناضري للقمر في ليلة تمامه بدراً ... النجوم من حوله تتلالئ بغناء يفعم السحر نشوة وطربا .... فرح أنت يابدر منطلق في رحب السماء ... تحلق بين السحاب .

يابدر أتطل بأ نوارك على أعزة يفتقدون ضياء وجودي بينهم ؟ ... أتسامرهم وتمسح دموعهم الخجلى ... وتلقي في صدورهم صبر يعقوب ؟ .. أتحمل أشواقي لهم كل ليلة ليتدثروا بها قبل المنام ؟ . أم أنك لا تمر بمنازلهم المطفئة الأنوار . أناجي البدر وتناجيني أشعته بسكينة تخترق أعماق روحي .

تغفو عيناي في سريرها المؤرق ، تحلق روحي خارج الزنزانة بين زنازين المستضعفين ، تطل على ظلمة حجرهم .... حجر مظلمة لكنها تزهر بأنوار سماوية ... أجساد صفت أقدامها في أحشاء الدجى ، أسرح ناظري في باقي الحجر ... أرى أكفا مشرعة كفوفها في السماء ... وأرى ظهوراً مقوسة أحناها التضرع لذي الجلال والإكرام .
أطوف أكثر هنا في هذه الزنزانة .... استغفر الله ربي وأتوب إليه ... استغفر الله ربي وأتوب اليه ... لسان ذائب في الله ويطرق سمعي صوت من الزنزانة المواجهه ... هذا مقام العائذ بك من الله ... وتنطلق روحي لطرف آخر أسمع : العفو ... العفو ... العفو ...

وصوت آخر يهمس في نواحي السواد الداجي ... أنا جيك ياموجود في كل مكان لعلك تسمع ندائي ، فقد عظم جرمي وقل حيائي ... مولاي يامولاي أي الأهوال أتذكر وأيها أنسى ... ولو لم يكن إلا الموت لكفى .

أين المتنصتون خلف الزنازين ؟ ... أين الباحثون عن أدلة إدانة ؟ قوموا ! لقد شهر المعتقلون أسلحتهم ! لقد أبرزوا أسلحة الليل من كنانة قلوبهم وتحرروا من سجونكم محلقين في السماوات ، ساخرين من قيودكم الفولاذية .... قيودكم فولاذية وأجسادهم إلهية .... تنتصرون عليهم في النهار وينتصرون عليكم في الليل ... البقية تأتي .

بحرين السلام
04-15-2011, 06:11 AM
بين الردة والضمير(15)

الوقت يسري مفترشا أجسادنا في راحة من نفسه ... ساعات النهار صامته لا تحكي ولا يحكى فيها .... ساعات الليل تعود فيها الحياة إلى أجساد تحاصرها الجدران ، بعد تناول ما يسمى بوجبة العشاء ، على مضض من أرواحنا وأعضائنا ... يعبر ممر السجن رجل الطب .

لا أعلم أهو طبيب أم صيدلي أم ممرض! ... لكن شكله لا يوحي بوجه طبيب . يفتح الشرطي له البوابة كل واحدة على حدة ... يسأل الشرطي معتقليه ( أحد يبي طبيب ) ... حتى لو لم يكونوا بحاجة للطبيب .... يتهافت الكل لإصطناع علة يقف بها ولو على حدود البوابة يستنشق الهواء القادم من الخارج ... يعطيهم ( الممرض ) الأدوية المهدئة المؤقتة .... من يحتاج لفحص الطبيب يدون إسمه وفي الغد يؤخذ للعيادة في القلعة .

يهب الكل لتناول الأدوية البسيطة علهم يذيقون بطونهم طعماً آخرا غير الطعام القاسي , حتى مسكنات الصداع يأخذونها لعلها تقتل ضجيج الأرق في رؤسهم ... يتحايلون على عين الشرطي أحياناً ... يوهمونه بوضعها في فمهم ... لكنهم يمررونها في صفحة صدورهم ... يدي تورمت من القيد البلاستيكي ... أكل في معصمي ... صارت مع تردي الظروف هناك تزداد تورماً ... عرضتها على الممرض ... ليس لديه في عربته علاج ، كتب لي زيارة لعيادة القلعة بعد أن هددت الشرطي بتحمله المسؤلية لكل ما يترتب على الوضع المتردي ليدي .

كتب لي الطبيب مرهماً ... داومت جاهداً على وضعه كي أتجاوز المرحلة الحرجة ... الأدوية تبقى بحوزة الشرطة ... عند حلول موعد استخدامها يجلبونها .

الشرطة هؤلاء لايمكن للقسوة أن تكون عنواناً لهم جميعاً .... بعضهم ملأته الوظيفة حقداً وحنقاً يتعلل بأوهى الأسباب لبعث الإهانة لنا ... كالذي جاء وأمرنا بإزالة حبل الغسيل المكون من أطراف الألحفة المربوطة ببعضها ... أمرنا بإزالتها أمام ناظريه ... كأننا لسنا بشراً ... ولا حق لنا في اللباس النظيف ... ويا ليته كان نظيفا ... حتى تلك النظافة المهلهلة يحسدوننا عليها ... البعض منهم يمتلك فضلاً من الضمير يتألم به لما نكابده من بؤس .. لكنه لا يملك حيلة ينفس بها عنا ... هو يخشى من الآخرين .... الآخرين كل عين على الآخر... يخشى الوشاية بتهاونه في معاملتنا والتعاطف مع شدتنا .

آخرون منهم ينفس عن كبته وعقده في أجسادنا ومشاعرنا ... كنا نراه لا يأتي لتقديم وجبة أو معاينة ممرض إلا والهوز بقبضته إيحاءا بالشدة والجبروت .... إحدى المرات اضطر هذا الشرطي للذهاب قليلاً ... أعطى الهوز للشرطي الثاني وذهب .... بعد أن تأكد الشرطي الثاني من انصراف صاحبه تماماً ذهب وألقى بالهوز وعاد .... سألته لماذا تصنع هكذا ... أجابني ألستم بشرا مثلنا ؟ لماذا يعامل الإنسان كالحيوان؟ .

للأسف كان الشرطي الأول من أصل عربي والثاني من أصل غير عربي ... بعضهم يدرك كونه ضيفاً عليك في وطنك ولكن الأقدار حكمت بوقوعك ضيفاً في حوزته ... ضيفاً بلا إحترام .. نبحث في وجوههم عن بحريني الأصل فلا نجد أبدا ... خليط متناقض لايمكن للأصيل وجوده بينهم , الأصيل يحمل قلبا كقلوبنا نتشارك في الدماء وضخها لنهضة الوطن ... الأصيل يعود به الأصل لإنصافنا .... الأصيل لايضر بالأصيل .

مع هذا وجدنا في الخليط المتناقض ذلك قلوباً تأبى الخضوع لميتي الضمير .... صغار السن منهم عادة ما يكون الغرور مختالاً في أعطافهم ، يحسب نفسه ممسكا بقبضة الكون ... يخاطبك بطرف أنفه ... يختال في مشيته ... متبختراً في زيه الوظيفي ... لو أسعفه الزمان لتاه في الفضاء ... بعض هؤلاء كان يمعن في سوء المعاملة .... يدخل الزنزانة وبعد خروجه يقذف بالباب كالصاروخ ولك أن تكون داخل الزنزانة لتعرف حجم الصوت الصاروخي في أسماعك ... حين خاطبه أحد الساكنين في الزنزانة ، ألقى كلمات بذيئة لاتصدر ممن بلغت به العمر إلى أرذله كما بلغت به... كلمات يأنف القلم من تهجي أحرفها .... وأعاد الفعل مرة أخرى وانصرف .

البعض كانت السماحة تقطر من وجهه يجتهد في تقديم العون متخفياً ويتجاذب الحديث معنا بعين متلفتة ... ومن صغار السن كان أحدهم يفتعل الحجج للإهانة .... ناديت في إحدى المرات عندما غربت الشمس وغابت عن سمائنا ,ناديت فجاء هذا الشرطي سائلا عن حاجتي : فطلبت منه أن يشعل الأضوية .. قال ( زنزانه رقم كام ) قلت له كل الزنازين أشعلها .... قال : أنت لاشأن لك بالباقين ! أنت فقط عليك بنفسك ... قلت له : كما تشاء ، كنت أدرك مدى خيبته بعد قليل .

نادى علىالشرطي الجالس أمام البوابة : أشعل الإنارة للزنزانة 47 .... مازال واقفا ينتظر النتيجة... بعد لحظات أشرقت الزنازين بالإضاءة جميعها ... ظل مبهوتاً ... ولكي يداري هزيمته قال للشرطي ( زنزانة 47 بس ) ... أجابه الشرطي : كلها تعمل بزر واحد ... جرجر هزيمته وانكفأ يسحب في ( جزمته ) خيبة لاتليق إلا بمغرور من أمثاله .

البعض منهم تشعر بالعقد النفسية طافحة في تصرفاته ... وقد أتاحت له الظروف إفراغها في الضعف ... في من يصدق فلا يصدق ... حين يكذب الشرطي فيصدق .... هم بشر مثلنا إن انصاعوا للوازع والفطرة والضمير ... وهم وحوش كاسرة وضباع غادرة حين يتنكرون للإنسانية والرحمة .... تبحث عن العناصر النظيفة فتجد واحداً في كل ألف ... على صور القساة منهم تهجع أجفاننا ... أنام في النائمين ... تحلق روحي في عالم بعيد واسع , تنفض عن جسدها إنهاكا أتعبها ... ها أنا مبحر في سفينة مليئة بالمسافرين ... العواصف حركت الأمواج بعنف ، فصارت السفينة في موج كالجبال .... تنفرج الأمواج فتبدو جزيرة صغيرة ، خضراء بأشجارها ، تتوق النفس للهبوط على شاطئها والسلامة من غضب العاصفة .

الأمواج تصب من جبالها سيولاً داخل السفينة ، السفينة تضطرب بين اليمين والشمال .... تمكنت العاصفة من الإنتصار على السفينة ، أردتها تغرق في غياهب أمواجها الغاضبة ... أطفال ونساء وشيوخ وشباب ... أرواح تبحث عن نجاتها ، خشبة طويلة انقذفت نحوي بقدرة قادر, صعدت عليها والأمواج تأرجحني محاولة اسقاطي ... حتى إنتهت بي الخشبة على شاطئ الجزيرة الخضراء ، مغمى علي ، على وجهي قطرات متفرقة تملأه ... يداي متعلقتان بالطرف الأضعف من اللوح الخشبي ... العاصفة شكلت من عنفوانها قبضتين تخنقان بهما رقبتي ... العاصفة تضغط على رقبتي بشدة ... أحاول التخلص من قبضتها .

فززت فزعاً من نومي ... الحر محيط بلهيبه حول رقبتي ، فحيح من الحرارة يتدفق حولي ... العرق يملأ أجزاء وجهي كاملة ويداي متشبثتان بعمود السرير الحديدي ... حلم يمر برعبه كل ليلة في زنزانة يفتش عن جرح غائر يصب فيه ويلاته ... أحلام لها أول وليس لها آخر تعبث في رؤس المتوسدين حرمانهم .... أحلام تهبط على غير رغبة , وأحلام أخرى تهبط برغبة مكبوتة في أغوار النفس ، وأحلام توحي بها نفثات الشيطان ... البقية تأتي .

بحرين السلام
04-15-2011, 06:13 AM
حين يحل الإبتلاء (16)

وجبات الطعام تأتينا بلا طعم ,لا تعبر أفواهنا ولا تتذوقها ... يوم الأربعاء وجبة السمك ، سمك لو رأيته ما حسبته إلا حوت يوشع بن نون الذي نسيه عند الصخرة ، أسماك مجمدة أذهب التجميد فوائدها ... ولكن ما الضير سيتناولها أولئك التائقون إلى لقمة الطعام .... سمك مقلي ملتو على نفسه لكل منا صحن رز وسمكة تأنفها حتى قطط الشوارع .

في يوم الجمعة يأتينا الغداء مصحوباً بفخذ من الدجاج ولربما صاحبته ورقة يتيمة من الخس لكل منا ... أما باقي الأيام فلا غير البرياني ... برياني يطبخه الجنائيون ... يصطحبون معهم أحد الجنائيين الأجانب ، يعد الوجبات في الصحون ، يصطحبونه أجنبيا كي لانظفر منه بكلمة ود تكشف كرب الغربة .

عندما يقدمون وجبة الغداء ويغلقون الباب علينا وعلى وجباتنا ، يحدق الأستاذ عـ طويلا في الطعام ... يتأفف من رداءة الطعام .... أخاطبه قائلاً : كل يا أستاذ ( العيش زين ) ... تحملق عيناه في وينفجر مغضباً ( لازنت ) لعلك تقف إلى صفهم أيضا ... وينفجر باقي الإخوان ضاحكين . أخيرا يستجيب الأستاذ ويأكل حيث لامناص من الأكل للبقاء على قيد الحياة كما يقول لنا بين الوجبة والوجبة ووجبات أخرى .

وجبات سمر واستزادة من المعرفة . ( ج ) شاب بسيط المدارك والفهم ، برئ السليقة ، سليم الفطرة ... أحدق فيه أحياناً وأسرح مفكراً ما عسى هذا أن يكون قد جنى ليأتى به إلى معتقل مرير . لم يتمكن من إتمام دراسته لصعوبة الظروف . لديه عائلة عليه أن يعيلها . استجاب (ج) لطلبنا في تعليمه أبجدية العربية .

رسم الأستاذ الحروف العربية فوق الجدار بقطعة الألمنيوم وابتدأ المشوار من الصفر ... كان من الصعب على (ج) حفظ الأحرف وتهجئتها ... بذلنا جهداً واسعاً لإيصال المعلومات لديه ... ولكن استيعابه لم يكن قابلاً ، كان لايستطيع التمييز بين الجيم والخاء ولا يفرق بين القاف والفاء .

كانت وسيلة الدخول به للقراءة هي قراءة القرآن الكريم .... حيث لاوسيلة سواها ولو وجدت سواها لما كانت خيراً منها ... أعطينا ( ج) مصحفاً فتحناه له على قصار السور ... راح (ج) يقرأ الكلمة في تأتأة وتوقف بين الحرف والثاني, راح يقرأ سورة الجمعة حتى إذا وصل إلى ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا إنفضوا إليها ) قرأها ولدى وصوله .. أو لهوا ... قرأ ... إن ... إن ... إنقضوا عليها ... لم يكفه قلب الفاء إلى قاف وإنما حول كلمة ( إليها ) إلى كلمة (عليها) ... لقد كان جناساً جميلاً لو لا إنه كتاب الله ولاينبغي العبث بآياته .... في الليلة التالية أعطيناه جزء عم ، وعند وصوله إلى ( إن الفجار لفي جحيم ) قرأ ( إن الفخار ) .

يقولون : إذا أردت أن تعرف أحدا ما فسافر معه تقع على حقيقة ذاته ... هذا سفر أيضا ، سفر المجبرين المكرهين بلا خيار سفر لا تختار فيه وقتا ولا مكانا .... ولا تختار فيه صاحبا ولا قرين ... بهذا المكان تعيش اللحظات كلها برفقة أصحاب المحنة .... تأكل ويأكلون ... تصبر ويصبرون .

في المعتقل أيضا تكشف معادن الرجال ، الصابرون يتألقون بشموخهم ، والجازعون يقللون من عزيمتهم .... في المعتقل تنكشف لك الأيدي الرحيمة المعطاءة حيث تعاش الأوقات بحلوها ومرها .... وتتقاسم اللحظات بنعيمها وجحيمها , في المعتقل حياة أخرى تجبرك على التعاون ... حياة لاتستطيع التنصل من واجباتها ... تحمل الأذى ، وكما يقول الإمام الكاظم (ع) ليس حسن الجوار كف الأذي ، وإنما حسن الجوار تحمل الأذى .

هناك تصبح وجها لوجه أمام خصال الآخرين ، خصال معراة بأكملها مهما إجتهد صاحبها في إخفاء بعضها لا يفلح ... الوقت المترامي الأطراف كالصحراء كفيل بكشف كل خافية من السلوك .

يحكى عن أحدى الزنزانات, عن من طالته القمعة الأمنيه بشباكها دون ذنب صدر منه , يحكى أنه انتصب في النافذة العليا يتأمل في السماء طويلا ، ويعتصره الحنين للإبحار في قاربه ... ولكن أنى له ذلك والقضبان تقف دونه والبحر .... راح يبعث بنظرة للبحر وتتجدد في صدره لوعج الشوق لملاقاة البحر ، ونظرة ملتهبة للسماء ... وبقلب نازف تتسع فتحتا جفنيه في السماء ... أخرج كفه نحو الفضاء المديد .... رفعها وراح يخاطب إلهه ... رباه ألا تطلق سراحي؟ .... رباه أليس هو إمتحان تختبرني به ؟! بلى هو امتحان! ... وأنا سقطت في الإمتحان .... رباه أطلق سراحي ولن أخبر أحدا أني نجحت في إمتحانك .

بلى هو إمتحان للصابر بالجازع ، وإمتحان للجازع في نفسه ، لذلك كان الجزع لصاحب المصيبة مصيبتان .... صاحب الرسالة لا يجزع ولا يرجع ، ففي نصب عينيه هدف وغاية ينشدها .

وفي المعتقل تعود النفس لذاتها تفتش عما انكسر لتبدأ في إصلاحه ... أي كسر ؟ وأي إصلاح ؟ ... الكسر الذي يمكن اصلاحه بالتوبة والندم ... هناك تصفو مرآة النفس فلا يكدر صفوها غبش ولا يرنق صفاءها تمويه .

ندم أحدهم على ما فرط في جنب الله .... حادثته حين كنت لا أراه ولا يراني ، أبدى تحسره على ما قصر في ماضيه ... الندم ينخر في أعصابه .... شبهت له الماضي بطبخة حاول صنعها ، لكنها فسدت ولم يتقنها ... عليه الآن أن يستأنف العمل ويبدأ في صنع طبخة جديدة يستفيد فيها من أخطاء الطبخة السابقة .... ألح .... على أنه لا يزال يفكر في الطبخة الماضية ، نبهته إلى الإحتمال الكبير في فساد الطبخة الثانية حالة انشغاله عنها والتفكير في الأولى .

للدعاء تأثير السحر في النفس ... استطعت تدوين بعض الأدعية من صدور الحافظين لها ومنها دعاء الإمام السجاد (ع) في مناجاة التائبين ( إلهي ظلل على ذنوبي غمام رحمتك وأرسل على عيوبي سحاب رأفتك ) ... هنالك كانت النفوس تلجأ لحصن حصين .... تتحصن بجبار السماوات والأرض ، فمن القادر على التعرض لها وهي في عنايته ... وإنما عليها الصبر والإستعداد لملاقاة حب الله ... الله الذي إذا أحب عبدا إبتلاه ، وأي ابتلاء كالسجن ، بلاء في الروح والجسد والأهل والوطن ... لهذا لما أحب الله يوسف (ع) أعطاه الجمال ، وابتلاه بمحنة السجن نتيجة لذلك الجمال .... البقية تأتي .

بحرين السلام
04-15-2011, 06:14 AM
في أفران تموز (17)


كلما طالت بنا الأيام استطالت شعور رؤسنا ، واسترسلت أذقاننا في راحة, مطلقة لشعورها الحرية ... لحانا كثيفة الشعور .... سوداء يختبئ الشيب في امتدادها .... شعراتها طليقة برغم اعتقالنا ... طليقة تنعطف يمينا وشمالا أو تتسكع نصف هنا ونصف هناك فلا مشط يقومها ولا أمواس تشذبها ، الأمواس حسبناها محرمة دولياً علينا .

لو أطلعت علينا لوليت منا فراراً ولملئت منا رعبا .... وجوه بيضاء ثلجية النعومة, يكسوها الشعر من كل جوانبها .... أصبحنا كساكني الكهوف وجوها ... وأصبحنا مهيئين لنمثل في الأفلام التاريخية وأفلام الإنسان البدائي ... ينقصنا لباسه وهرواته .

ليس إلا بعد شهور متباعدة استفاق ضميرهم ، جاءوا لنا بحلاق أهديناه شعور لحانا ورؤسنا عزيزة بلا ثمن ... جمع شعورنا في كيس واحد كما جمعوا مشاعرنا في سجن واحد .. الصيف حار راح يحكم قبضته علينا ، ويقلبنا من حال إلى أسوأ من سابقه .... لا تدرك حجم السعير الذي نعيش في جدرانه إلا بعد أن تخرج منه وتعود ثانية .... نقرأ هذا الإحساس في وجوه الشرطة مع انفراج بوابة زنزانتنا في وجوههم ... نقرأ لفحة من اللهب تشوي وجوههم ، ونعرف ذاك من رجوع أقدامهم إلى الوراء في أول وهلة .

الممر الذي يحتضن الزنازين عن يمينه وشماله هواؤه تعبره نسمات التكييف المتسربة من البوابة الرئيسية . مع برودة الممر نرى العرق يهطل من الشرطة ويملأ بزاتهم الخضراء بالبقع السوداء .

بعد أن أصبح لدي كتاب التفسير المعين .... وأحسب مروره تلك الأيام دون منع لكونه قرآناً ... هو صفحة يتوسطها صفحة من المصحف على جانبها تفسير لمعاني بعض الكلمات ، وفي أسفل الصفحة مجموعة من أحاديث المعصومين (ع) يجمعها موضوع واحد ، يستوحيه المؤلف من موضوعات الصفحة القرآنية .

بقلم من قطعة الألمنيوم غلفته بالقماش شرعت أكتب الأحاديث حسب تصنيفها .... أجمع الأحاديث في موضوع واحد لحفظها بالتسلسل أو أجمعها في نسق واحد ثنائيات ... ثلاثيات .... رباعيات ، مثال على الثنائيات ، الصبر صبران ، صبر على ماتحب ، وصبر على ماتكره .

سيل من المعرفة كانت تلك الأحاديث وكان حفظها متعة لاتعادلها متعة وتنزه في ربيع الحكمة والفطنة .... حافظة الذهن كلما عودتها على الحفظ المرتكز على الفهم استجابت للحفظ أكثر .

كذلك الأستاذ أعد لنفسه برنامجاً للحفظ ، كل يوم يحفظ مجموعة آيات من سورة الزمر .... يمر بعينيه على الآيات متمعناً في الصياغة هاضماً المعنى ، يقرأ الأستاذ من مكنون صدره .... أتابعه من المصحف مباشرة مصححاً عند لزوم التصحيح حتى أتم حفظ السورة بأكملها .

في الليالي التموزية تلك نتبادل الأحاديث ... كان على كل منا إعداد درس مرتجل يلقيه على مسامعنا أو قصة من محفوظاته يشنف بها آذان من لايسمعون مايدور بالعالم الخارجي .

جاءت النوبة على (ج) ليلقي علينا ما تجود قريحته البسيطة البريئة ... استلم (ج) انتباه آذاننا كاملاً ... إبتدأ في سرد قصته بـ كان ياما كان هناك رجل فقد زوجته ، بعدما خلفت له طفلأ صغيرا في سن خمس سنوات ... عزم الأب على الزواج ليأتي بأم تعتني بإبنه ... لم يكن اختيار الأب موفقا ، زوجة الأب تخشى من تبول الطفل الصغير على فراشه .

دون بينة اعتمدت زوجة الأب على حل يخلصها من توهمها ... راحت كل ليلة مع غروب الشمس تأتي بالطفل وتربط عضوه بخيط .... ربطاً يمنعه من التبول مطلقاً ... كل ليلةعلى هذا المنوال .... مل الطفل من قسوة زوجة أبيه ، ولكن لا حيلة لديه ، لقد عانى كثيرا من زوجة أبيه ... استمر الطفل كل ليلة عند ذهابه للنوم بمخاطبة نفسه ... كان يردد بصوت المتهضم ( جانا الليل ... جانا الويل .... جانا تربيط الـ ... ) .

مر الأب بجانب سرير إبنه مرة ، سمع ترديده لأكثر من مرة ... بعد اطلاع الأب على حقيقة المعاملة القاسية .... فارق الزوجة القاسية معتذرا من إبنه .

انتهى (ج) من حكايته واستلقى الجميع على قفاهم ضحكاً ... عدنا إلى (ج) نسأله عن العبرة من القصة .... قال : الظلم لا يدوم ، أعادنا (ج) إلى نفوسنا بعد أن أخرجنا بمرحه وطرافته .

بلى .... الظلم لايدوم ، سنة تفوه بها لسان (ج) بفطرته ... الإنسان يدركها بفطرته ويخالفها بشقاوته وعناده ، وأمثلة التاريخ حاضرة في الذهن تروي عن عواقب الظلم ولكن ... ما أكثر العبر وأقل المعتبر.

أعادنا (ج) إلى الإحساس بأجسادنا ... أجسادنا المتدثرة بدثار الوهج القاتل ... أجسادنا إذا أرادت السهاد تلتحف الرطوبة دثارا لا بد منه ... من أول الليل حتى منتهاه لايرقى للعين المنام وسيول العرق تتفجر من أعضاء الجسم كلها على السواء .... الوجه في بحر من رشحات العرق ... والأرجل غائرة في الفراش بغسيلها العرقي .... وباقي الجسد يتقلب من بقعة لزجة لأخرى تنتظر مزيدا من العرق .

وتستمر الأجساد في مكافحة اللهيب ، ولا تنتصر إلا مع طلوع النهار حين تنجلي الرطوبة عن جو زنزانتنا .... تلك الرطوبة التي لاتغادرنا ليلاً .... هي من البحر إلى زنزانتنا ... الأجساد جاهدة في العناء .... والألسنة تجري على صفحاتها الآيات والأذكار .

ومع هبوط الرأس على وسائد المظلومين ، تستنفر الروح بهجتها بذكر الله .... وتلاوة آياته ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير ، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور .... وتسافر الشفاة في رياض الآيات غير عابئة بإلحاح العرق النازف من كل الأطراف .... وتنتصر الإرادة على جبروت الظالمين ..... البقية تأتي .

بحرين السلام
04-15-2011, 06:15 AM
حسينيات خلف القضبان (18)

تتصرم الأجساد وتضمحل الرغبات وتنمحي دول وتزول هيمنات ..... ويبقى الحسين ألقاً في سماء الوجود ، الباذل حشاشته لإحياء الشريعة ، الهاتف في وجه العنجهية بـ (لا) ... لأنه الحسين يعود ليبتدأ الأعوام بميثاق العزة والكبرياء .... يفتتح الشهور بشهر الإباء الباسل .

أما هذا العام فيقبل المحرم ونحن مدبرون برغم إرادتنا عن مواقعنا في الحسينيات ... أيستطيع سجاننا أن يفصلنا عن الحسين ؟! .... أيتمكن من انتزاعنا من عقيدتنا وحبنا المتغلغل في قرارة وجداننا ؟ لا وألف لا .... لاتقوى قدرة على حرماننا من التمتع بعطاء الحسين ! الحسين في أعماقنا نفس يصاحبنا اللحظة باللحظة والحسين نور في أعيننا نبصر به كل مانرى .

هذا العام الجديد أقبل وحناجرنا تتكسر في أجوافها العبرات والغبنات .... الدنيا تضج بالحسين ونحن مكتوب على شفاهنا الصمت .... لا لن يكونا الصمت قدرنا ونهاية انصياعنا ، لقد تعلمنا من الحسين التمرد على العبودية والإسترقاق ..... لتكن عزيمتنا محل اختبار لما تعلمناه من دروس عاشوراء .

عاشوراء نعم يجب أن نحييها على كل حال ...... هناك الآن بالخارج حسينيات يملأها حواريو الحسين , حسينيات يطوف في قاعاتها الضجيج بيا حسين .... هناك الآن مواكب تعبر الطرقات معزية الرسول بسبطه الشهيد .... هناك يصيح صوت الرادود بالشجن واللوعة .

هناك كنا نحفظ ألحانا ونتمرن على أدائها ونبذل الغالي والثمين في خدمة أبي عبدالله .... أما الآن فنحن في أرض لاتسمح لنا بإحياء شعائرنا . .... ولكن سنحييها على كل حال ... العنبر يجمع كل مانحتاج له ,الخطباء موجودون والشعراء متوفرون ، والرواديد يتوقون للتقرب من ا لحسين . في محرم الحسين ، بعد أن تغلق الأضوية ويخيم الظلام بأسرابه على الزنازين ينتعش الولاء الحسيني في العروق .... نمتطي فتحات الهواء منشدين وسامعين .... يبدأ الخطباء بإلقاء مجالسهم علينا .... نظل منصتين لصوته بذكر الحسين .. ثم يقوم الرواديد بإلقاء ما في قرائحهم من قصائد عزائية .... حتى الآخرون غير الرواديد يتحمسون لأداء دور الرادود .... تلك مرحلة على الكل أن يكون رادودا .

تتخلل القراءة والعزاء نقاشات حول كربلاء وإلقاء قصائد جديدة من الشعراء... كتبت قصيدة في غرة محرم مطلعها :
أبا الاحرار والعـــــدل يعز وكف الغي في الإسلام تغزو
كانت قصيدة لاتتجاوز العشرين بيتاً ، وكان منها
قصدت الطف عاشوراء ليثا هصورا في وغــــــاها لايبز
وفي جنحيـــك قلب من علي وذاك القلب في الأهوال حرز

وكلما تقترب الأيام من ا لعاشر تنفجر في الأعماق شرارة الأحزان وتلتهب المشاعر لما لها من رابطة بالحسين ولما يتبلج في ذاكرتها من الصور العاشورائية السابقة .... عصراً كنا نقوم بواجب العزاء نقف أمام (الدك) ونمزجه بأصواتنا وأحاسيسنا الحسينية ، أكتب بقلم الألمنيوم فوق الجدار ما أود قراءته وأمحوه بعد الإنتهاء .

حتى اقتربت الأيام من اليوم السابع من المحرم .... هنالك ترى الدمع يتدفق بلادعوة ولمجرد الذكرى .... نتذكر ونعيش مايجري بالخارج وكأننا معهم ..... بلى إننا معهم وإن غبنا عنهم ، فمن أحب عمل قوم أشرك معهم ... ونحن محرومون من عملهم ونعشق طقوسهم وتنصهر نبضاتنا في شعاراتهم ، نتذكرهم ونقول الآن يخرج الموكب بهيبة العباس (ع) ... ثم نقول الآن انتهى الموكب ووزعت الوجبة على المشاركين .... الآن ... الآن ..... وكل آن له في صدرنا وقع السهم المثلث .... وكل ساعة تعبر فوق ضلوعنا كما عبرت الأعوجية على جسد الحسين (ع) ... واللحظات تمضي تشرب من دمائنا كما شربت الظبا من أجساد آل محمد الطاهرين .

في الليالي الأخيرة تلك تشتد مضايقة الشرطة لأنشطتنا ولكل ما يبدر منا .... في ليلة الثامن من المحرم .... اشتدت عين الشرطة علينا .... أحدهم كان يصعد لأعلى الزنزانات يتسقط مصدر الصوت .... حينما كنت ألقي قصيدتي على الأخوه من (الدك) جاء الشرطي مسرعاً إلى العنبر وبيده مفتاح الزنزانة .... ساد الصمت بعد وصول الإشارة من جهاز انذارنا .... دخل الزنزانة وسأل من الذي كان يقرأ؟ .... لم نعطه إجابة تشفي غليله .... ولم يكن بيده إلا الخروج بلا نتيجه .

حتى إذا جاء العاشر بكآبته المضاعفة وفي ظهر العاشر كنت أعددت قصيدة أقول في مستهلها :
قف بالديارالباليات وامعن النظر
واسأل بواقيها عن الماضيين والعبر

ورحت أتلوها بلحن العزاء في يوم ذكرى المصاب حتى وصولي إلى الأبيات
إن انس لا أنسى نداء السبط يومها
حين غدى منــــفردا وقلبه انفطر
يدعو بهم ياقوم هل من ناصــر فلم
يلق بهم إلا كذوبا خـــان أو غدر

ولمعرفتنا بتقصد الشرطة لإبتزازنا حقنا في شعائرنا وضعنا صاحب الرادار أسفل البوابة يرصد مجئ النوايا المفتعلة .... وآخر يرصد جولاتهم التفقديه خلف الزنزانة وليس لنا حيلة في من هو بالأعلى .... فجأة تلقى (م) الواقف في النافذة يحرسها من خطوات الشرطة خلفها ... فجأة تلقى ضربة (بالهوز ) من الأعلى ... أدركنا ما يراد بنا من شر ...
وانتصر الصمت في العنبر ، بعد دقائق قليلة ، دخل علينا شرطي مغضباً وفي عينيه قرأنا الشر والوعيد , بيده (هوز ) .... لم يتكلم إنما تكلم (الهوز) على الأجساد تناول صاحبنا (ج) الواقف بالأسفل بعدة ضربات من وقعها أثر الضغائن يفوح .... وانتقل لنا جالسين على السرير بالأعلى أنا و (م),جرع (م) الضربة الأولى عنيفة ... لم يمهله (م) حتى يثني ضربته وأمسك بالهوز بكامل قواه ....

لم يتمكن الشرطي من انتزاع الهوز من (م) إلا بعد أن رجوته أن يدعه ليمضي غير مغفور له ... أخذ الشرطي الهوز وابتعد يسأل ( منهو كان يقره ) وما ظفر بالجواب ، وذهب يتوعدنا .... السلام عليك يا أبا عبدالله يحاربك الأمويون في كل زمان ... حتىا لبكاء عليك لا يليق في شريعتهم ، وما أعظمها من ظلامة ياغريب الغرباء ... غريب أنت عن الأوطان ونحن غرباء في الوطن .

يمضي الشرطي وتعود مشاعرنا متأججة بحب الحسين .... نعم نحن الآن في ظهر عاشوراء .... ساعة انفرد الجيش بسيد الشهداء .... ساعة أخذت من أعضائه السهام حصصها ... الآن أنت تقف تمسح دماء جبهتك الشريفة ونحن وقوف في هاجرة الزنازين نمسح تأسفنا عن بعدنا عن مآتمك الغالية .... الآن أنت تحاول لإنتزاع السهم من أحشائك المقدسة ونحن نحاول انتزاع القهر عن شعبنا المعذب .... نعم سلام الله عليك يوم ولدت املاً للمستضعفين وسلام عليك يوم قتلت علماً للأحرار .... والسلام عليك يوم تبعث حيا وشافعاً للثائرين ..... البقية تأتي .

بحرين السلام
04-15-2011, 06:18 AM
صناعة وتصدير (19)

كل ماتدونه أيدينا الناحلة فوق طلاء الجدار ، تأتي عليه الرطوبة في ليلتين .... تأتي عليه الرطوبة فتمسحه ولاتبقي له إلا أثراً خافتاً وظلاً باهتا .... آه ماذا تصنع تلك الرطوبة بأجسامنا؟ .... أجسامنا ذات البنى المتقشفه رغم إرادتها .... أجسامنا تضمر بنيتها ويستطيل الشعر في أعضائها ...

لا بد لنا من وسيلة نقلص بها امتداد هذا الشعر ، لا بد من حيلة تطرأ على الواقع المر هذا فتغير شيئا بما فيه .... بحثنا حتى في المروحة فوجدنا بعضاً من الأدعية مكتوبة على ورق (كارتون) بالإضافة إلى قطعة منشار صغير بطول الكف . بهذه المنشار سنبدأ المشوار .... مشوار ألف ميل يبدأ بخطوة ، وبشيء من المحاولات غير الناجحة نتوصل إلى المحاولات الناجحة .

إبتدأ (م) في العمل استل قطعتين من الألمنيوم ، ولربما استلفناها من الزنزانات المجاورة ، ثقب القطعتين في وسطهما بواسطة الطرف الناتئ منهما .... صار في كل منهما ثقبا ... بدأ يبرد القطعتين من مقدمهما لتكونا قادرتين على القطع بإلتقائهما .... وبقطعة صغيرة من الأطراف الناتئة بين القطعتين ،وبالطرق المتواصل بقطعة من البلاط وآخر يراقب كي لايفاجئنا الشرطة بالاستدلال على مصدر الصوت ... واصبح المقص جاهزاً ، لكنه يحتاج إلى مقبض ، وبطريقة الحياكة حاك على الطرفين قماشاً سميكاً .

جربنا المقص في شعورنا ، راح يقطع بطلاقة ونجحت التجربة إذن وأصبح بحوزتنا مقص ... نستخدمه ونعيره لجيراننا .
لا نستطيع أن نصرح بإسم المقص جهراً ... كنا نسميه (عبود) لنقله وإيصاله من مكان لآخر ... كان مقصاً بدائيا بل وأقل من بدائي ولكنه يفي بالغرض ويقضي حاجة نفوسنا ويؤدي واجباً تجاه أجسادنا المعذبة .

في الصيف كان لنا ( ترمس ) نملأه بالماء البارد من المبرد الخارجي كنا ننادي الشرطة ، فيفتحون لنا الباب ..... يذهب أحدنا يملأ ( الترمس ) بالماء فيعود ..... يبقى الترمس يمدنا بالماء شبه البارد ، وتبقى أجسادنا تنضح عرقاً لاهباً لاتقف افرازاته ليل نهار .... نستخدم ( فوطة ) صغيرة تعيش ملازمة لكفوفنا لمسح العرق المتدفق من الوجوه والأجسام ....

في ذلك الحر القاتل لاتستطيع أن تلبس أكثر من نصف سروال تغطي به مايجب ستره من الجسد , وتترك الصدر عاريا .... كنا نموت في اليوم ألف مرة ونبعث من جديد .

أصبح المقص (عبود ) عزيزا ومطلوباً للإستخدام .... يجب إيصاله للزنزانات المتباعدة ! وفي آخر الأمر ابتكرنا طريقة تمكننا من إيصاله .... ننادي الشرطي لنملأ الترمس بالماء ..... حين يفتح الشرطي البوابة ، يذهب أحدنا بالترمس بعد أن يكون قد خبأ (عبود) تحت ملابسه ، يصل للمبرد .... أثناء امتلاء الترمس بالماء ... يرفع اللوح الموجود فوق المبرد ويخبأ المقص تحته ، أما الآخرون في الزنزانة فيكون دور أحدهم اشغال الشرطي بوجه من الوجوه بالكلام .... حتى لايتسنى له الذهاب مع صاحب ( الترمس ) ولا مراقبة حركته وعمله هناك .

هكذا يعود صاحبنا وتنتهي نصف المهمة ، بعد دقائق تبدأ الزنزانة الأخرى المحتاجة لإستلام المقص .... تبدأ في طلب الماء البارد .... وهكذا يفتح لهم الشرطي الباب ويقوم الآخر بإشغاله ريثما يتمكن زميله من التقاط المقص .... وبات المقص لايكفي هذا العدد من الأفراد لإستخدامه لا سيما بعد كلله وضعف شفرته .... إذن كان المطلوب إعادة تهيئة شفرته وإلا نفذت صلاحيته .... أعيدت للشفرة حدتها ........ وبادر (م) في صنع (عبود) آخر في مصنع زنزانتنا ..

محرم وصيف وحاجة ، كلها محيطة بنا تجعل صدورنا فوهة بركان على أهبة الإنفلات بأتون سعيره الناري ... عاشوراء مضت أيامها الأولى ونحن هنا ، محجوبون عن مشاركة أهل البيت في رزيتهم .... لايستطيع أي سجان أن يحجب عنا الحسين أو يحجبنا عن الحسين .... فلا يستطيع أحد أن يحجب أحدا عن قلبه .... الحسين جرح في صميم قلوبنا ..... نحييه بتعداد الأنفاس ولاتصدر خفقة إلا وعليها ذكر الحسين ... الكريات في الدم معنونة بإسم الحسين ,الكريات الحمراء ترفع شعار الثورة في وجوه المستبدين .... والكريات الحمراء ترفع شعار السلام للعالم ، وأي رمز للسلام غير الحسين .

الشعراء في المعتقل يغرقون في فيض من نزيف قرائحهم ، قرائحهم لاتفتئ تعطي من غزير عاطفتهم إبداعات في عاشوراء الحسين . يكتبون ويكتبون ولكن ياترى أين يكتبون ؟ وبماذا يكتبون ؟ ... في أول الأمر يكتبون في الحيطان الواقفة حولهم .... الحيطان التي تحجزهم عن الحسين في مآتمهم يكتبون عليها حب الحسين في حجزهم .... لايستطيعون تدوينه في القرطاس لو توفر .... الكتابة المتكتمة في الحيطان وسيلة من لاوسيلة له .... تلك الزنازين لو أذن لحيطانها بالكلام لباحت بدياوين لاحصر لعددها .

كتبت قصيدة من شعر التفعيلية أبوح فيها بمكنون اعتقادي بنهضة السبط الشهيد في اصلاح واقعه الفاسد ، والتنديد بسلطة يزيد الفاسدة .... أقول في مبتدأها ....
حسين ياقيثارة القلوب
يا أمل الشعوب
ياوتر اللحن الجهادي على الخافقين
يا نغمة العبرة والعبرة في حنجرة الثائرين
يانغمة إن عرفت أو عزفت تعصف بالجائرين
حسين ياحسين
في ودج الحزين
ممزوجة في ألم الدروب
يا أمل الشعوب
الوسيلة الوحيدة الفريدة في حفظ القصائد من أيدي العابثين الباحثين عن الحروف المدونة ... الوسيلة الوحيدة حفظها في القلب ... لهذا رحت أحفظ ما نظمته عن ظهر قلب .... حفظت القصائد كلها .... أعود عليها أسبوعياً بالقراءة كي لا يمحوها تعاقب الأيام .... إن عثرت أيديهم على الورق ، لا يعثرون على ماتحتوي القلوب ..... أنى لهم بالتوصل إلى خفايا القلوب .

كما دأبت أكفهم على مصادرة قصائدنا ، دأبت قلوبنا على الإنتصار على وسائلهم واستطاعت تجاوز قضبانهم ... لتنقل للمنتظرين خارج الأسوار قصائدها .... قلوبنا مجبولة على التمتع بخصال الحسين ، الحسين الذي لايهزم ، الذي يحرك الزمان ويأخذ منه مايريد .... البقية تأتي .

بحرين السلام
04-15-2011, 06:19 AM
في مدرسة النمل (20)

الرغبات في المعتقل يصبح لها طعما آخر والهوايات يكون لها معنى مخلتفا ... إذا كانت الرغبات في زمن الحرية تضحك أحياناً وتثير العجب فإنها في زمن الأسر ستغدو غريبة أكثر ، إصطاد (م) صرصورا ربط في عنقه خيطاً رقيقاً ناعماً .... أخذ يشده للناحية التي يريد توجيهه إليها .

قرأ (م)لما كان بالخارج أن سجيناً أمريكياً ربى صرصورا في سجنه ، وتعاهد العناية به طويلاً ، ولكن من سوء حظه أن الصرصور صار ضحية لحذاء أحد الشرطة . إستاء السجين من غفلة الشرطي ، ورفع قضية ضده يطالب فيها بالتعويض .... ويبدو أن السجين سيكسب القضية لاحقاً .

اغتصب الأستاذ من فمه ضحكة ساخرة وقال : وأنت ماذا تريد أن تعمل بهذا الصرصور ؟ بعد أن يدهسه الشرطي ستقيم دعوى عليه؟! إن ماتطمح إليه ليس هاهنا ... وإن الدنيا لمليئة بالمفارقات والمغالطات ... أمريكا هذه التي تعتقد بوجود من يرفع دعوى فيها لمجرد قتل صرصور بحذاء شرطي .... أمريكا هذه تدوس العالم بطغيانها وعنجهيتها ولا تعير إهتماماً لأحد .. بينما هي ترينا عدالتها في قبول دعوى بشأن قتل صرصور ,أما هنا ، فأنت بأكملك ليست لك قيمة في ميزان حسباهم ، وإلا لما كنت هنا بدون قضية ولا ذنب ... إنهم هنا يقتلونك ولا يرون أنفسهم مذنبين ... فكيف بصرصور من الحشرات . إن أمره أسهل مما تعتقد بكثير.

إن الذي تبحث عنه من حق لا يكون إلا عند الله .... عند الله في يوم القيامة توفى كل نفس بما عملت .... حتى الطائر الذي تصطاده وتزهق نفسه .... يأتي يوم القيامة متشحطاً بدمه شاكياً يقول : يارب سله لماذا قتلني ؟ لم يستفد بلحمي ولم يتركني أكل من رزق الله وأحلق في سماء الله .

تشاء الأقدار لنا رؤية مخلوقاته الضعيفة ترتاد الحرية ، لا تعيقها أبواب ولا تقف دونها حيطان .... النمل تلك الحشرة الساحرة ، تنتقل كما تريد ولا تتحرك كمايريد غيرها منظمة في عملها تسير أسراباً أسرابا .... كأنها جيش منظم يخضع لقوانين عقوبات ننحدر بأعمدة أجسامنا إلى القاع .... نلاحقها بأعيننا ... نعترض طريقها تنعطف الأولى يميناً .... ينعطف الجيش بأكمله يميناً .

حين تقع إحداها صريعة لايمر الباقون دون تشييع جثتها فوق رؤسهم .... السرعة من أبرز صفاتها ..... وضعنا لها خيطاً رقيقا تسلقته بكامل فيالقها لتصل إلى هدفها ... ولما ألقينا لها بقطع من الدواء حلو الطعم .... تكاتفت على حمله ونقله إلى مخابئها .... بجسمها الصغير ذاك تحمل فوق جسدها أضعاف وزنها .... لا تعرف شيئا يسمى اليأس ...اليأس الذي يسميه اليائسون في عنبرنا (الهطط) تعبيرا عن قمة الضيق والسأم .

في هذا السجن البغيض تكون النملة معلماً على الصمود وقطع دابر (الهطط) .... ياللعجب ويالمشيئة الله التي شاءت أن يبعث خلقاً من مخلوقاته .... ضعيفاً بجسمه ، قوياً بصلابة إرادته . تقع هذه النملة جماعات جماعات تنحت من عظام الدجاج طعاماً لها ... ولو شاءت يد الإنسان تنظيف العظام بأحسن من ذلك لما استطاعت .

هذه النملة تشبه في سرعتها وملاحقتها لبعضها البعض تلك السيارات التي كانت تلاحقنا في بداية التسعينيات, 3 سيارات مختلفة سريعة تتبع بعضها بعضا .... منذ الصباح الباكر تحوم إحداها حول البيت تراقب السيارة ( سيارتي ) هل جاء صاحبها ليمتطيها ويخرج أم لازال مختبئاً في البيت , تبدأ المطاردة الخفية منذ أول وهلة لوصولي السيارة .... يبدأ النفير لديهم ... يخابرون بعضهم بإبتداء الملاحقة الساذجة ... تصاحبني ثلاث سيارات دواماً كاملاً من الصباح حتى رجوعي للبيت وإن كان عند أذان الفجر .... يجردون تحركاتي أولاً بأول ... يسجلون مواقع تواجدي بالوقت والتفصيل ... إذا تاهت سيارة ترشدها الأخرى عن موقع وجودي ، إذا تكهن أحدهم انعطافي يميناً ، إتخذ الثاني الشمال له طريقا .... رصد سخيف وبلا معنى ... يرصدون من يرصدهم .

إذا ترجلت من السيارة يترجل أحدهم كي لاتغيب عن مرآه صورتي ... عندما ترجلت مرة من المرات في إحدى جولات العمل ... مشيت فمشت قدماه خلفي عن بعد ... انعطفت يساراً وكنت قاصداً للمبنى على اليسار مباشرة ... دخلت المبنى ورحت أراقب دهشته عند افتقادي .... وجدته ورأسه كالمروحة في الدوران يبحث عن وجودي ... أين اختفيت ؟ هل إنشقت الأرض وابتلعتني ؟ .... أم انفرجت السماء وتناولتني؟ .

أبرزت جزءا من جسدي في النافذة المطلة على الشارع المتواجد فيه فرآني ... وعادت الحياة إلى نفسه ، ومرة أخرى استخدمت سيارة أخي في الخروج فلم يلاحظوا خروجي ولما عدت لمحني المتربص بي في مدخل القرية ... أدرك خطأهم ... استبدلوا متابعة سيارتي بمتابعة سيارة أخي ... عدت ثانية لإستخدام سيارتي بينما هم يلاحقون أخي ... وبعد مرور فترة لا بأس بها أدركوا أنهم يلاحقون من لا يألفون قسمات وجهه .

هم كالنمل ,السرعة من صفاتهم ، لكن ليسوا كالنمل في النباهة ، ولربما هم لايدركون مخالفتهم لدستور الوطن ، ولكن من بعثهم يعلم هذا ويتجاوزه لكون الدستور في جيبه وليس في جيبي ... هو يستطيع التملص من أية مادة بمخارج كثيرة ... وليس لك إلا القبول برؤيته ... وما دامت عبارة ( وفقا للقانون ) تدس أنفها في جل المواد ... هو يرى نفسه القانون .

وبعد تصرم شهور من اعتقالنا أفرجوا عن الأستاذ عـ... يوم تأبط أغراضه وغادر الزنزانة غارت في أفئدتنا خناجر افتقاده ... فرحنا لإطلاق سراحه وإن كنا لانجزم باليقين بإطلاق سراحه .... كثير ممن يفارقوننا نعتقد خروجهم ونفاجأ ببقائهم في سجن آخر ... لحظات انصراف الأستاذ بهجة له وشجن في حلوق من تركهم خلفه لحظات تترك في النفس هوة واسعه بوسع الفضاء .. لايسدها شئ ... فراغ في مكانه وفي مواقع ضحكاته وأنسنابه ... هو كالفقيد إلا انه غير فقيد ... فقيد من مصاحبتنا .

أول ليلة بعد خروج الأستاذ كانت تعادل أول ليلة في ذلك المكان ... بتلك الليلة يتجدد الأسر على مشاعرنا لمرات ... نتمنى وجوده بيننا ولا نتمنى بقاءه في ما نحن فيه ... حالة تلك تعيشها كل الزنازين بإنصرام أحد ساكنيها من أحشائها ... في أمان الله يا أستاذ إذهب مصحوباً برسائل الشوق الدافق لأغلى الأحبة ... وقل لهم إنا عائدون يوما ما ....... البقية تأتي .

بحرين السلام
04-15-2011, 06:20 AM
برهوت الأجساد (21)

أشهر تفوت ولا نعلم مايجري بالخارج حقيقة... الوجوه الآدمية نسينا تفاصيلها ... ليس سوى وجوه الشرطة ... نوبة الشرطة تبقى بصحبتنا يوماً كاملاً ... من الفجر إلى الفجر في اليوم التالي ، ثم تتلوها النوبة الثانية .... ثلاث نوبات متتابعة ، ثم تعاد النوبة الأولى .... كل ثلاثة شهور يستبدل طاقم الشرطة بأكمله ... كي لانألفهم ، ويألفون اللطف معنا .

العالم الخارجي في كوكب ونحن في كوكب آخر ... ولاسفن فضاء تنقلنا إلى هناك .... أجل ذلك عالم أصبح في حكم الأحلام ، وكل مافيه بات ماضياً يحن إليه ، أو مستقبلاً مجهولا ... حتى الإستحمام بالماء البارد في الصيف صار حلماً يداعب نفوسنا ... المياه تتدفق من الحنفية كالحميم ... كأنها تخرج من قدر على النار ولكن لاسبيل للهروب منها .

في ذلك الجو المستعر وقفت أتجاذب الحديث مع جارنا (ف) بالزنزانة المقابلة الذي غاب طويلاً في حكم الغيب .... نتكهن بمصيرة فلا نصل إلى نتيجة مرضية ، كان ذلك قبل أشهر من وقفتي للمحادثة تلك ... أعادوه لنا بعد عدة أسابيع ... ذابلاً مرهقاً وفي عينيه جوع للرقاد ... وكأنما جفناه ماذاقا غمض منذ فارقنا .

أطلق العنان للسانه يسطر في أذني قصة غيابه المجهول ... تلك الأسابيع الفائتة كان ضيفاً على اللجنة .... عاشها بين واقف وجالس ... قضوا عليه وعلى العشرات من فرائسهم بالوقوف ساعتين والجلوس نصف ساعة ... هكذا حتى منتصف الليل ما أرخص الإنسان ! ... وما أرخص العبث بصحته وكرامته !

حياة لاتشبهها إلا حياة البرزخ أو العيش في وادي برهوت ... ذلك الوادي المعد للأرواح المعذبة .... هذا برهوت الأجساد وذلك برهوت الأرواح .

تورمت قاع قدميه من وجبات العصا المتتالية عليها .... ما إن تبرد ويهدأ أزير الألم في كعبيه إلا ويحين دور الوجبة الثانية ... هنالك تعلق الأجساد مجموعة الأرجل والأيدي في ربطة واحدة , ينزل ثقل الجسم بأكمله على الظهر .... لساعات طويلة تبقى الأجساد مدلاة هكذا ... كالذبائح تنتظر القصاب .

قلوب لم تبرمج بالرحمة مطلقاً ، قلوب لاتعرف للمشاعر معنى ولا طعما ، ولا تقيم للدين وزنا ولا احترام ... هم يعترفون وكما يقول المتحاورون : ( من فمك أدينك ) ... سمعهم (ف) من الحجرة المجاورة يتحادثون في نهار شهر رمضان ... أحدهما يأكل في وضح النهار ... استنكر صاحبه أن يأكل في شهر رمضان قائلاً : ألست صائماً ... أجابه : وأي صوم لنا ونحن نأكل من لحوم البشر من الصباح للمساء! ... ألا يعد هذا العذاب المبرح بأجسادهم أكلاً في لحومهم ؟! ساد الصمت والدهشة على صاحبه ... وبعدما قضوا من جسده وطراً بعصيهم عاد ليحكي لمسامعي قصته المترعة بالمعاناة .... ولا زال يعاني من مخلفات عبثهم بجسده .

تذكرني معاناته بمعاناة عشتها قبل الإعتقال بشهور .... تم استدعائي وإيقافي بسبب تلك القصيدة العزائية .... التي ذكرتها للجنة , جاءوا بالشريط وأسمعوني قصيدتي ... طلبوا مني كتابة نصها .... كانوا كتبوا نصا قبل ذاك لايمت للقصيدة بصلة ... ضمائرهم واسعة وتحتمل التلفيق ... كتبت النص كاملاً ... الآن هم يبحثون ما في باطن النص ... القصيدة كانت تقول ( باعوا عقايدهم منهو يأيدهم ).... أصروا على أني أحرض على إتباع الشيخ الجمري والنيل من ( الشيخ ... ) لم يكن المعنى في قلب الشاعر كما يقول أهل الأدب .... إنما المعنى في قلب ( المخبر) مخبرهم قال ( إخلص .... كل مافي القضية تدفع 300 دينار وتطلع ) التهمة جاهزة سلفا والحكم معد بلا قاضي ... لم أسلم لهم بما قالوا ... جاء العقيد .. ذاك الذي يدعي أنه لم يمسس أحدا ، وكل من يدعي غير ذاك كاذب .... جاءني وعبيد أوامره يحيطونه .... ألقى بعض كلمات بذيئة بوجهي .... وراح يوجه بقبضة يده لكمات إلى صدري .... لكمات بقوة ومتتالية ... حتى شعرت بأضلاعي أصدرت أصواتاً من تكسرها .... شعرت بموقع ضرباته ينزف دماً .

جمع العقيد نجومه من أجساد المظلومين ... كلما أسال مزيدا من الدماء وأشاع جوا من الآلام قفزت نجمة إلى كتفه ... حتى استوى التاج على كتفه ... وصاحب التاج لا يسئل وهم يسئلون .

كتبوا الإفادة لنا نحن الثلاثة ... أنا بمعية (مهدي ) و ( الشيخ مجيد ) بنفس التهمة ( الشيخ ) كتب القصيدة و ( مهدي ) ألقاها ... وأنا كتبت وألقيت قصيدة أخرى لاتعجبهم ... ولسوء الحظ جاءت في نفس الشريط .... تم التوقيف حتى ينبلج نهار جديد ... في اليوم اللاحق أحالونا على المحكمة ....القاضي هناك كالمخبرين يعمل للأوامر . ليس لشرف المهنة به من صلة 0

يسألك أسئلة يعلم بأنك مجبر في الإجابة بما لا تعتقده ... مع هذا حكم بغرامة 300 دينار دفاعا عن حق المساواة بين ( الشيخين ) أو تأديباً لمن يتفوه .

أعادونا إلى حصنهم مسرعين .... وأشغالهم تلاحقهم ... اتصلوا بأهالينا .... أبلغوهم بضرورة إحضار 300 دينار غرامة ... عليهم إحضارها ولو من قوت أطفالهم لايهم ... عليهم تلبية الأوامر دون مناقشة ... ذاك قانون أمن الدولة ، المخبر والعقيد والقاضي ، أحجار شطرنج يحركها الشيطان لصالح قضاياه .

كنا في المحكمة بإنتظار المثول أمام القاضي ... أحد المخبرين جالس بيني وبين (مهدي) يسأل ( مهدي ) : من الذي ألقى قصيدة ( جاءوا في ظلام الليل ماذا ياترى يبغون ) ؟! ماعاد المخبر بإجابة شافية .. ولو استدار برأسه شمالاً .. للجهة الأخرى لوجد ضالته محاذيا له ... كنت أنا من ألقى القصيدة .
قصيدة تمثل دورهم البشع بقتل الراحة واستلاب الطمأنينة من أجفان الآمنين ...دورهم منذ خلق الله الخلق حتى يومهم هذا ... تتعدد صورهم ولا تختلف قساوتهم إلا زيادة وتنوعاً ... يخطفونك من أهلك ومأمنك ويعودون يتحدثون عن أهلهم وراحتهم كالبشر ... ولكن لابشر .... البقية تأتي .

بحرين السلام
04-15-2011, 06:21 AM
تجليات القلم الأسير (22)

في سجنهم ذاك لاينبغي أن تكون إلا جاهلاً لاتعرف ماالقلم .... القلم جريمة لاتغتفر ، الكتابة كالخيانة العظمى ... نعم الكتابة خيانة عظمى في حق قادة التجهيل .... الأحرف لا يجب أن تقع في لسانك ، ولكن من عاش في أحضان الكلمة والقلم لايردعه الرصاص عنها أبداً , العلم يولد مع مولد كل نفس من أنفاسنا ... الكتابة فرض علينا أداؤه في كل آن... أبحث عن قلم في الزنزانة .... تلك أمنية الحرية أقرب منها .... إذن لابد من البحث عما يصح أن يكون قلماً ... وجدت عصا فرشاة قديمة خلف السيفون .... حككتها في الأرض حتى استقامت بريتها كبرية القصب .... يبقى توفير الحبر للكتابة ، كبداية طريق إستخدمت الشاي الفائض عن الحاجة كحبر .

أغمس القلم (عصا الفرشاة ) في الشاي وأكتب على الجدار ... مستمتعاً بظهور الخط بلونه الشاهي .... أمسحه وأعيد الكتابة ...ابتدأت تعويد يدي اليمنى على الخط .... حتى طوعتها للكتابة ..... ولكن ليس كاليسرى ، فاليسرى هي وسيلتي المعتمدة للكتابة .... أشبعت الجدار شاياً ومحواً بقطعة قماش .

أشاهد الخط على الجدار بالشاي وأفكر .... نحن بحاجة لحبر أقوى ويثبت .... قطعة الألمنيوم بإمكانها أن تكتب على الجدار ..... إذن في جسدها محتوى الحبر المطلوب .... أسكب قليلاً من الماء على البلاط وأحك فيه قطعة الألمنيوم بقوة .... تتخلى القطعة عن كمية لابأس بها من البرادة في الماء .... وضعت القلم في بقعة البرادة ورفعته ... كتبت في الجدار ، كان اللون قويا مفرحاً يشير بنجاح التجربة .

التجارب علم مختزن ..... يكفي أن تكون أسيراً .... أما أن تكون أسيراً ويائساً ، تلك مصيبة مضاعفة ، وبالتجارب المتواصلة توصلنا إلى حبر نتجاوز به قانون التجهيل ... دعاء كميل له حاجة ملحة في ليالي الجمعة ، له وقع خاص في النفس وله حرارة ذكر متفردة بذاتها . نحن بحاجة لهذا الدعاء ... ولكن من أين نجده ، إنه مخبأ في صدور الحافظين المتوزعين على الزنازين ... نقلنا النسخة الأولى منه على الجدار بجانب (الدك) .. وفي قطعة زرقاء من القماش طولها قدمين من العرض في قدم واحد شرعت بكتابة الدعاء .... لم تفي القطعة الأولى بالغرض ...جعلناه في قطعتين متجانستين أخذنا نقرأ كل ليلة جمعة دعاء كميل من القطعتين إما منفردين في الزنزانة وإما جماعياً في (الدك).

هاتين القطعتين كانتا الإصدار الأول .... ننقلهما أحيانا من زنزانة لأخرى .... ولما انقضى أجل الإصدار الأول ضاعت قطعه منه عند تسليمها للزنزانة (45), أثناء التسليم باليد خلال النافذة .... رأيت بأم عيني القطعة تتقاذفها الرياح خلف الزنزانة ... تلك القطعة المحتوية على جهد غال من العمل وعلى نص يقرع شغاف القلب .... نعم هاهي القطعة ملقاة هناك .... تصلها العين ولاتنالها اليد .... أحرفها بادية كالنور .... متكورة بين كومة قراطيس ، ولا حيلة لأيدينا للوصول لها .... ليت لنا أجنحة تحمل أجسامنا ولو خطوات إليها .... ليت لأعيننا مفعول السحر يجذبها إلينا بالنظر .

تلك الحروف النورانية تمر عليها أرجل الشرطة بلا اعتناء ولربما داستها بلا اكتراث .... حروف تنفذ إلى غيابة القلب تمسحه بالسكينة والقنوع .... إذن لابد من إصدار آخر للدعاء ... لدي سروال أبيض مزقت آثار الخياطين عليه حتى جعلته قطعة جرداء .. وبجهد متبادل بيننا في الزنزانة أنجزنا الإصدار الثاني أفضل من الإصدار الأول . علمتنا التجربة الأولى احتمال فقدان القطعة أو العثور عليها إذن لابد من تعزيزها بإصدار ثالث ورابع إن أمكن ... أجرينا التصليحات على النص فيما فاتنا من النص .

وتم الإصدار الثالث بتعاون لانظير له ... واحد يراقب وآخر يصنع الحبر بإحتكاك الألمنيوم بالبلاط ، وأنا أكتب في القماش وبقلم صغير صنعناه من أعواد الأذن .... قطعنا طرفه كزاوية القلم ، فكان قلماً يصعب على الكف التقاطه لكنه ينجز المهمة على أتم وجه .

بعد الإنتهاء من الكتابة على قطعة القماش ... ننفضها بقوة لتلقي ماعليها من برادة الألمنيوم وتبقي اللون في القماش واضحاً ... وكما توقعنا فقدان إحدى القطع صار ذلك .... أحد الجيران استعار النسخة منا لقرائتها ... لكنه تهاون في إخفائها عن عيون الشرطة .... دخل عليهم الشرطي مرة وكانت قطعة القماش ملفوفة على بعضها فوق السرير ... قطعة القماش تبدي للعين ما في باطنها من كتابة بالنظر إليها .

رصدت عينا الشرطي قطعة القماش .... دخل الزنزانة متعدياً لقطعة القماش ... تناولها وافتتحها ...ولكونه رئيس النوبة استمر معهم فترة طويلة في الأسئلة عن مصدر القطعة وكيفية حصولهم عليها وكيفية عملها ... في النهاية صادرها من حوزتهم ... وكان متوقعا أن يبلغ الضابط.... ولكن لحسن حظهم كان ذا أريحية ولا يحب أن يبلغ الضباط بتجاوزات سجنائه , ذهبت القطعة الثانية كما كان حدسنا وتوقعنا .

اعتمدنا على النسخة الأخيرة محافظين عليها من أعين الشرطة ... فلا جريمة أكبر من وجود أثر للقلم ... القلم يستطيع تجاوز حصونهم ومخاطبة من هم في الخارج .... ويستطيع البوح بما لا يبوح به الفم ... ولأن القلم أقوى من حصارهم بات هو العدو اللدود لهم ... ولاتستطيع أصابعي التوبة من منادمة القلم والتحلي بمزايا حديثه الجميل .

وللخط نصيب من حكاية القلم .... اليد بحاجة لمداومة تمرين وصقل موهبة .... بعد تجاوز مرحلة الخط بالشاي على الجدار صار الخط على سطح الفراش الجلدي الأسود أكثر متعة ...تسجد عصا الفرشاة في كوب الماء ... تنتصب محملة أطرافها بالماء ... وتبدأ الكلمات في السير على الجلد الصناعي ... لمعان الماء يعطي للكتابة إحساساً آخرا ... ولكن أنى للكتابة البقاء بلمعانها والزنزانة كالتنور مستعرة والجدران تبعث لهبا مضطرماً في أجسادنا .

يبدأ السطر ببريقه المبهج وما إن تنتهي اليد من ختام السطر حتى تضمحل وتزول بدايته شيئا فشيئاً من الوجود .... الحرارة مسيطرة في فضاء الزنزانة .... لا يمكنك التأمل في سطر من الخط لحظات دون أن يسلبه سعير الجو من ناظريك .... أمرن اليد متخفياً عن عيون ذوي البزات الخضراء ,المصحف أمامي أكتب من صفحته في وجه الفراش ...

جسد ناحل .... بنصف سروال وصدر مكشوف ... أنعطف على الفراش متكأ على اليد اليمنى معطياً الشمال راحة التحليق في دنيا الحروف .... اللحية المرسلة على صدري مبللة بالعرق الكثيف ... شعرات لحيتي تساهم بقطرات العرق في الخط .... قطرات العرق تقطر من ذقني بحركة تشبه في الفرق بين القطرة والأخرى صوت عقرب الساعة .

هذا الفراش في النهار يتحول إلى سبورة جميلة ... وفي الليل يصبح النوم عليه كالنوم على الرمضاء أو النوم على صفيح فوق النار ... أغطي سطح الفراش بفوطة سميكة تحجب حرارة جلده الملتهبة ... ولكن كوب ماء لايطفي نار جهنم... فيما بعد أدركنا استفادتنا من دواء يعطونه لنا ... دواء لمغص البطن ، دواء سائل أبيض ناصع .... يصب الممرض من قنينته لنا قليلاً في الكوب ونؤب للوراء راجعين لزنزانتنا .

إستخدام هذا الدواء في الخط يجعل الخط فوق الفراش كالخط بالطبشور علىا للوح الخشبي(السبورة).

ناظري يجول في الحروف المرصوفة فوق الفراش .... البياض الأخاذ يتقافز من جوانب الكلمات .... يانور الستوحشين في الظلم ياعالماً لايعلم .... صل على محمد وآل محمد ..... شعور دافئ يغمر النفس بالهدوء والسكينة ..... جناحان مثاليان يحملاني للتحليق خارج أسوار الزنزانة ..... كلما ازداد الظلام غلساً كلما نبعت في سريرتي الراحة والدعة .... وكأن يداً قديسة تمر بصفاء ذاتها على قلبي .... البقية تأتي .

بحرين السلام
04-16-2011, 04:01 AM
قلوب في ربيع (23)

في المعتقل النائي تهيم النفس في الظنون .... وبإتساع الوقت تتسع الشكوك والأوهام ، وتتحكم الوساوس في خلجات النفس .... كل النفوس للوسواس غلبة عليها بنسبة ما إلا ذوات الكمال ..... أشهر متطاولة ونحن في غياب عن التزاماتنا ، ناءون عن حياتنا .... بهذه الحالة يسافر الخيال بعيداً ، يرسم صوراً ليست من الحقيقة ..... النفس البشرية ضعيفة أمام الضغوط .

يفكرون في وظائفهم المهددة بالذهاب .... قلقون على عوائلهم التائهة في قلاقل الإضطراب ، والوسواس يأخذ النفس في أرجوحة لايقر لها قرار ، يصور لها أتعس النتائج ويقطب بوجه المستقبل أمامها .... تلك إذن سياسة الوسواس في زعزعة النفوس .... هذه السياسة بحاجة لسياسة مضادة .... تحتاج النفس للثقة بالله وقضائه وقدره لتنعم بالطمأنينة وسياسة الرضا بالواقع والتأقلم بمحيطه .

كما يقول الإمام علي (ع) إذا لم يكن ماتريد ، فأرد مايكون .... إذا لم يكن وجودك خارجاً ولاتستطيعه فاقبل بوجودك في الأسر قبول المطمئن لاقبول المذعن .... خذ ماتستطيعه مما لديك ودع مالا تستطيعه .... الإطمئنان يكمل هذه الصفة ولا يكون الإطمئنان إلا بذكر الله .

يحول الأخوه الزنزانة إلى ملعب كرة طائرة .... يحولون السرير معترضا في نصف الزنزانة ويكورون لهم فانيلة على بعضها يخيطونها كي لاتنفتح ويبدأون في اللعب مع ضيق المسافة .... كثيرا ماتعدت كرتهم إلى المروحة فكان مصيرها (الكرة ) في الحمام .

بقينا نحن الثلاثة فقط في الزنزانة ... (م) يلعب الطائرة مع (ج) وأنا فوق السرير من الأعلى أتزود من قراءة القرآن .... غريب أمر القرآن الكريم ، قرأناه كثيراً ونقرأه كثيرا .... ولكن ما أكثر الآيات التي نفاجأ بها .... كنا نقرأها ولكن قراءة غافلة وعند التبحر في المعاني تتكشف صور كانت غائبة عن إدراكنا ..... وجميل إسلوبه أيضاً , ممتع لاترتوي النفس من معينه أبدا.... تبقى مشتاقة إلى لطائفه ومعارفه ..... بهذه العلاقة داومت على قرائته صبح مساء ..... لاتنقضي صفحة دون انعطاف الصفحة الأخرى فوقها .

أربعون ختمة استطعت أن أختم القرآن في عام واحد عشته في ذلك الغياب المكروه ..... تلك نعمة تفتقت مما حسبناه نقمة .... حتى كان نصيبي في بعض الأيام قراءة عشرة أجزاء كاملة .

الحديث الشريف يقول : القرآن ربيع القلوب ..... ترتاده متنعمة في أفيائه ، تقطف من ثماره اليانعة وتعب من زلاله الرقراق .... مواعظ وأحكام ..... وعبر وقصص الأولين ، حين لم يكن إلا القرآن ، توزع الوقت فيه ، بين القراءة ..... والحفظ والتدبر ..... لاوقت نعطيه لسجاننا يتمكن فيه من الإنتصار بقتل لحظات حياتنا دون استغلالها ..... قراءة تنجز عشرة أجزاء في اليوم تقريبا .

تتخلل برنامج القراءة هذه جلسات فكاهة وطرافه ، أو وقفات حوار وثقافه .... وقف (م) من الزنزانة (45) يحاور أحد الأساتذه من فتحة الدك ..... الأستاذ مولعاً بركوب الخيل ، بينما صاحبنا (م) له مغامرات لايشق لها غبار في ركوب الحمير .... في صباه طبعاً ، ولديه خبرة جبارة في التعامل معها ..... تحادثا كثيراً في حكايات ماقبل السجن ..... قبل إنهاء حوارهما قال الأستاذ متعهداً يا (م) عندما نخرج تعال عندي في الإسطبل ، وأنا على استعداد تام لتعليمك ( الفروسية ) .... أجابه (م) رداً على حسن ضيافته ... أجابه بحسن نيه وأنا على استعداد تام بالمقابل لتعليمك ( الحمورية ) .

كان اعتقاد (م) أن الفروسية لما تحولت من ركوب الفرس هكذا ... إذن ركوب الحمير لابد أن يكون ( حمورية ) .... هكذا أضحك (م) ساكني الغربة بسلامة نية ، ونحى عن صدورهم تبعات الإنشغال بطول الإعتقال .... داخل الخجل الأستاذ .... فبادر متشكراً من (م) على رد الجميل .

برنامج حفظ السور مشوق أيضا ..... أختار سور القصص غالباً أو السور ذات الفضائل المميزة .... أقسم السورة إلى فقرات حسب مواضيعها ..... مثلاً سورة الكهف تحمل أربعة مواضيع ، قصة أهل الكهف ومحاورة الصديقين ورحلة موسى والخضر وحصيلة رحلات ذي القرنين ..... أحفظ كل فقرة منفردة أحفظ آيه آيه بكتابتها على الجدار في سطر واحد مهما طالت ، وأقسم الآية حسب الجمل فيها ..... طريقة سهلة جداً تمكنني من الحفظ ذهابا وإيابا مشياً على الأقدام ..... مواجهاً للكتابة على الجدار .

بالطريقة الفائتة حفظت سوراً طوالاً ، كسورة يوسف ومريم وهود وطه والقصص والكهف والأنفال وياسين والملك ..... أتنزه في معانيها الإلهية كثيرا .... وليس من العبث وجود نبيين ذاقا مرارة السجن ..... يوسف عاش في السجن سنين عديدة ، خرج بعدها معدا لتسلم أعلى المناصب ، وكأن السجن مرحلة اختبار يجتازها الأقوياء في عزيمتهم فيكافئون في دنياهم قبل آخرتهم ..... ويتقهقر عن تخطيها الضعفاء فيخرجون كما دخلوا ، وقد يخرجون وهم اسوأ مما دخلوا.


ويونس نبي ابتلاه الله بسجن من نوع مختلف ...... كان سجنه في بطن سجانه ، يطوف به ثلاثة أرباع الأرض .... الظلمة مطبقة على بصره وجسده ..... وكان تسبيحه لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .... تسبيحه كان مناجاة له من غم يداهم أفكاره .

ونبي آخر يهدده فرعون بالسجن ولايخشى من التهديد مادام محقاً .... ذلك موسى ثائربني إسرائيل .... منذ ذلك اليوم البعيد ، يوم تمنى يوسف السجن على ما لايرضي الله ، والسجن محطة تربية تنطلق منها نفوس الكبار ..... قد يعتقد الجبابرة أن السجن يركع النفوس لرغباتهم ..... قد يركع البعض لرغباتهم .... ولكن النفوس العملاقة تصنع من سجونها قاعدة تطلق منها ذخيرتها على خصومها ..... النفوس الزاهدة في نعيم الدنيا لاتقلق بحجبها عن النعيم ، والنفوس الخائفة من عذاب الله ، لايخيفها عذاب المخلوقين مهما قسى .

كثيرون هم الذين تركوا التفكير بما في الخارج .... وأعادوا تفكيرهم لموقع أجسادهم .... التفكير في الخارج يتعب الأرواح ويوقد في خيالها قلقا .... إذن التفكير في الخارج لوقت الوصول للخارج .... هكذا يصنع السجين من معتقله قناة تحمله لمراتب الكمال وتنفخ في روحه معاني الصمود ، ويخرج من معتقله أقوى من يوم دخوله .... كذا يكون السجان كمن ساهم في تقوية خصمه من حيث لايعلم .... ولسان حال السجين يخاطب السجان قائلاً : شكرا لك ياسجان .... لقد ضاعفت من مناعتي وأتحت لي فرصة الترقي في مدارج الكمال .

شكرا لك ياسجان على غير رغبة منك .... شكرا لك بلا إحسان تسبغه علي ..... شكرا لك على ماجعلك الله أحمقا تريد مضرتي فتنفعني ، وتريد الإساءة لي فتحسن لي .... شكرا لك على ما قدمته بغير علم منك .... شكرا على قسوتك التي تجعل التعاطف معي كاملاً .... وشكرا لك على مايقدم لي النعيم ويقودك إلى سواء الجحيم ... البقية تأتي .

بحرين السلام
04-16-2011, 04:05 AM
حلاقة المذنبين (24)

الجنائيون من الجانب الخلفي للزنازين المواجهة لنا ، يقدمون للأخوة مايتمكنون من تقديمه .... هم تتاح لهم حرية الخروج ونشر ملابسهم في (الفنس ) ... ( الفنس ) فناء واسع به ملعب لكرة الطائرة ، حتى هذا الملعب ليس مسموحاً للمعتقلين بتكحيل أعينهم بمرآه والتحليق بالخيال في ساحته ، الجنائيون يومياً يأتون ، يغافلون الشرطة ليسترقوا الكلام مع من في عنبرنا ، يدرك الجنائيون مدى مظلوميتنا لكونهم شركاء لنا في الوطن ... ولكون الشرطة خصم لكل منا وللجنائيين .

يمرر الجنائيون السيجار وبعض الأمواس وبعض اللوازم في أيام الضيق ، يمررونها بإلقائها عالياً في النافذة حيث تتلقفها أيدي المعتقلين في لهفة الغريق الواصل للشاطئ .... أرض الوطن صغيرة المساحة ، تتآلف الوجوه فيها بسرعة .... ومهما كان السجين جنائياً يستولي في صدره هواء الوطن الطيب ... ولمرات قليلة جداً يزورنا بعض الجنائين المواطنين لإصلاح ماتلف من الأدوات الصحية أو الكهربائية . مرتين فقط زارتنا وجوه غير الشرطة .... مرة حين عطب السيفون ومرة حين أسقطت خطأ المصباح بيدي عند نزولي من فتحة (الدك ) كان المصباح فوق الفتحة ببضع بوصات .

يدخل أحدهم الزنزانة والشرطي لاينفصل عن ظله يصاحب حركاته وسكناته خوفاً من كلمة هنا وكلمة هناك .... ولا ريب أنه تلقى تحذيرا مغلظ الأيمان بعدم الكلام معنا من الدخول حتى الخروج .

بهؤلاء يتنفس المعتقلون شيئا من الحرية المفقودة يدخنون سيجاراتهم ويعبون من دخانها القاتل ..... دخان قاتل ولكنه يذكر بعهد مضى وأيام أصبحت في حكم كان ، يرفقون الولاعات بصحبة السيجار ..... لما يولي الشرطة ليلاً ويأمن المعتقلون من عودتهم ثانية ...... تمتد أيديهم إلى الولاعة ... ضاغطة على زنادها ..... تقدح النار منطلقة من فوهتها ، تواصل السيجارة طريق انتحارها ..... تشتعل النار في رأسها ، يأسرها المعتقل في فمه بينما هو أسيرها .

تبقى اليد مستمرة في ضغطها على زناد الولاعة مبتهجة برؤية النار في الظلام الدامس إبتهاج إنسان الكهوف ..... حين رأى النار لأول مرة ، إذن هذه هي النار التي كنا نعرفها وغابت عن إدراكنا وأبصارنا شهورا .

بالأمواس أزال المعتقلون شعوراً نبتت برفقة الليلة الأولى ولم تجد من يحصدها من أجسادهم ..... شفرات الأمواس كلت من الذهاب والإياب على أجسادهم تعتقل شعرة هناك وتجثت شعرة هناك ..... حتى صارت تمر على الشعرات ناتئة ولاتستطيع اقتلاعها ، لقد ذبلت شفرتها وأنهكها طول الإستخدام .

صاحبنا (م) في الزنزانة (45) حصل على شفرة جديدة .... ينوي حلاقة شعر رأسه بأكمله .... أصدقاؤه في الزنزانة لايستجيبون له ، أزمة ود ناشبة أظفارها بينهم .... السبيل إلى الحلاقة يا (م) ما هو ؟ ماهو ؟ ، السبيل هوإستضافة أحداً من الزنازين الأخرى ، ثم يودع مشكورا بعد إتمام المهمة .... هذا أمر مستحيل وفي حكم الإعجاز في ظرف لايسمح لك برؤية أكثر ممن هو في زنزانتك .... فحرام أن تكحل ناظريك بوجوه لم تألفها ولم ترها منذ شهور .... إتفق (م) مع صاحبي في الزنزانة (ج) على إنجاز المهمة يوم تكون المقابلة عند (ج) , وجاء يوم المقابلة الموعود ، وذهب صاحبي لملاقاة أهله المحرومين منه شهورا كالدهور .... وقضى وطرا من لقائهم وعاد يجر في ذاكرته صورهم الأخيرة .

يعود الشرطة بالموقوفين السجناء . فكل عنبرنا موقوفين لكنهم في حكم السجناء لديهم بل أشد حالاً من السجناء .... يعودون بهم للعنبر ، يسألون كل فرد عن رقم زنزانته ، وبالرقم الذي يتفوه به لسانه تفتح الزنزانة .... هم لايعرفون موقعك في أي زنزانة ، عاد (ج) ضاحكاً مستبشرا .... سألوه عن رقم زنزانته .... بدل أن يعطيهم رقم زنزانتنا قال (45) .. فتحوا له الزنزانة ، فاندس في أحشائها ليقوم بمهمة يأبى إتمامها حماة الوطن ... هرع للداخل يبحث عن رأس تكدس الشعر عليها ... استقبله (م) ضيفاً مؤقتاً في زنزانته وسلمه الشفرة بكراً لم تطرق رأساً من قبل .

تناول صاحبي الشفرة وبعد أن بلل (م) رأسه ، أمعن في شعره بالشفرة والشفرة تتعثر في مطبات رأسه .... بعد عناء أتم حلق الرأس كاملاً ... الآن يستطيع أن يحل من عناء شعره الكثيف ، هاقد انتهى النصف الأول من المهمة وبقي النصف الثاني كيف يعود إلى زنزانته التي يفصله عنها وعني جدار قاسي ؟!.

نادى (ج) على الشرطي لمرات حتى جاءه الشرطي . سأله الشرطي : ماذا تريد ... قال (ج) : بالخطأ أدخلتموني هذه الزنزانة ، رقم زنزانتي 47 .... لم تنطلي الحيلة على الشرطي ذهب ونادى رئيس النوبة ... تحققوا من الأمر .... وجدوه خدعهم .... حتى الشرطي الحارس على البوابة شهد بأنه قال 45 ولم يقل 47 ... أخذوه إلى زنزانة انفرادية لمدة ... ثم جاءوا به إلى زنزانتنا وأوثقوا يديه من خلف ظهره (بالهفكري ) وألقوه في الزنزانة .... للتو عاد من فرحة ينتظرها طويلا ولكن الأقدار تأبى أن تتم لقلبه فرحه ..

بات علي أن ألقمه طعامه كما يطعم الأطفال .... بالطبع هذا جزاء من يرتكب الخيانة العظمى ، أليست خيانة للوطن أن يرق قلبك لضائقة محتاج؟! .... الوطن يعاقب كل من يحمل في قلبه ذرة تعاطف مع موقوف أو سجين! ... أسفاه يا أيها الوطن القاسي على أبنائه .... أسفاه على وطن لايريد لأبنائه أن تشم رؤسهم هواءاً نقيا .. ولكن مع كل ماخلفت في قلبي من شجى أحبك ياوطن ، فأنا الوطن وليس سواي ... حتى وإن إدعاك غيري فأنا الأصل وهم ظل زائل لايلبثون يعودون لأرض ولدوا عليها وعقوها مهاجرين متنكرين .

تركوه فترة طويلة يعاني من التواء يديه للخلف ... لاينام إلا على وجهه أو على أحد جانبيه ...... وفوق أحد كتفيه .... ليت أمه حين قابلته في ذلك اليوم علمت ماذا ينتظر ابنها بعد لقائها الدافئ ذلك .... لابد أن قلبها هناك الآن يخفق مضطربا وكأن القيد تنخر في شرايينه وأوردته ... كلما انقلب جسده على جانب وتألم من ضغط القيد خفق قلبها خفقة جعلت في صدرها هوة واسعة لايسدها إلا رؤية ابنها في خير وعافية ... وليس هو في الخير الذي تتمناه له .... البقية تأتي .

بحرين السلام
04-16-2011, 04:07 AM
لقاء على جمر (25)

ستة أشهر ذهبت ونحن لازلنا في معتقلنا لانرى الدنيا ولا الدنيا ترانا .... الليل والنهار يأخذان منا ولا نأخذ منهما مانريده كاملاً .... بعد وجبة العشاء بفترة تتيح للجسد هضم ما تناوله من طعام المدقعين ... يمر الشرطة على الزنازين بإناء به ماء ومطهر (ديتول ) نتعاون جميعاً في إزالة أفرشتنا ومسح الأرض بالماء والمطهر جيدا ، ثم نشطفه وننشفه جيداً أيضا .... كي لاتتراكم الحشرات وتودي بأجسادنا وتلقيها صرعى الأمراض الجلدية المعدية .

هذا الصباح مروا على الزنازين يلتقطون من أفرادها سعداء حظ ونحساء حظ ، وأصحاب ضراء ... نادى الشرطي بإسمي فخرجت .... أعلم من أين ، ولكن إلى أين لا أعلم ... لم أطلب الذهاب للعيادة ... يبقى أحد الخيارين إما اللجنة وإما المقابلة .... اللجنة إحتمال بعيد جداً! ... الإحتمال الأقوى مقابلة .... متى تتضح الصورة لقلبي وأعرف الخطى سائرة بي إلى أي الدروب؟! ..... عندما فرزوا المجموعات الثلاث أدركت ان المقابلة حان حينها .... إيه ياعيني... سترين الغائبين أم أنه خيال .... ولكن أي لقاء سيكون ، هم يعلمون بلقائي وقد تهيئوا ... ولكني جئت لا أعلم ... لعلي لو علمت ضبطت هندامي .... ولكني ماذا عساي أضبط ولا وسائل لدي ....

ياترى أي حجرة من الحجر تلك التي أمامي بها أعزتي ... أهكذا تأسر المشاعر وتؤخذ على حين غرة بلا تأهب ولا استعداد .... أتوا بي بعينين مغمضتين وكفين مقيدتين ... وقلب لم يتهيئ للقاء أحبته .... وهل يحتاج لقاء الأحبة لتهيئة , لعلهم لم يناموا البارحة بإنتظار هذه الساعات .... وأنا غافل عن مشاعرهم .... أليست المشاعر تلامس بعضها ، فلماذا نعيش الحرمان من التحرق للقاء الأحباب ؟ لماذا نعامل كأجساد بلا مشاعر ... ترى ماحالهم ؟ وكيف تقاذفتهم الحياة بعدي ؟ ماذا عسى أن يكون حال أبي الطاعن في السن وقد طعنته ليلة افتقادي؟ ... ما حال والدة سلبوني من أحضانها ؟ ماحال شريكة عمري ومشوار العذاب ؟ ألازالت قواها تحمل ظلماً أكثر من غيابي تلك الشهور ؟ ماحال أطفالي ؟ أما حنت عيونهم للقيا وجه أب أسير . الشرطة بين الحين والآخر ينادون بالأسماء ويذهبون بأصحابها وحانت لحظة اللقاء العسير .... نادى الشرطي بإسمي ذهبت معه أهبط السلم درجة درجة وفي كل درجة تتراءى لي صورة من صور أحبابي ماثلة تحدق في وجهي .

أدخلني حجرة في جانب منها تقع طاولة يمتد على طرفيها كرسيان طويلان ، جلست على أحدهما مواجهاً الباب .... شرطي برتبة رئيس عرفاء جالس بجواري ... خاطبني بلغة التهديد وحذرني من أي كلام خارج عن المقابلة .... هو يعني الكلام المتعلق بالوطن ومايجري في الوطن .

جلس جسدي وماجلست روحي ، بقيت متشبثة بالباب لعله ينفتح الآن ... آه يالإنتظار ما أقساك على قلبي .... وما أمر مذاقك على روحي المحلقة بلاجسد .. لحظات وهبط مقبض الباب معلنا دخول القادمين .. ما أبطأك ياباب في الإنفتاح .... رجل تقدمت بالدخول .... واتسعت حدقتا عيني على آخرهما ..

أطل علي وجه أبي بنصف إبتسامة وبغترته الملفوفه على رأسه ، وتتالت وجوه أحبتي وجها وجها , شريكة روحي بدت صلبة كما فارقتها .... وإن أضفى الفراق على ملامحها بصماته ... الأولاد استقام عودهم وكبروا .. أمي رأتني وأجهشت بالبكاء عيناها ، حتى خنقتني العبرة لحالها قلت لها : لاتبكي يا أماه أنا بخير .... هي تعلم أي خير أنا فيه بالطبع .... أخذت الأحضان راحتها في أول وهلة لقاء ... وأنرسمت القبل على خدود الأطفال بعد غيابها شهور متتابعة .. هذه قبل العيد الفائت أعيدها لكم بالدين متأخرة عن معادها .

إعذروني لقد حجزني عنكم وطني الحبيب ... أنتم أحبة وهو حبيب .... حبيبان تتصارعان على مودتي .... الأبناء أعينهم معلقة على وجهي يشككون في شخصيتي ... الصوت هو ... والملامح ناحلة ... لحية كثيفة ممتلئة كثة مرسلة على الصدر, الإبتسامة هي كما هي .

نعم يا أحبتي جسدي لم تطلع عليه شمس منذ ستة شهور ولم تظهر ملامحه من الزنزانة كل فترة الغياب عنكم . أما الجسد فهكذا حياة الكفاف ، حياة تضارع الموتى , هياكل يكسوها جلد رقيق .... ولكن الروح عملاق جبار.... وذقني مرسلة بطول شعراتها أسجل طول صبري على تحمل ما أعانيه من ظلمهم وسأنال مطالبي بإستمرار صبري .... جلسنا وعين الشرطي تلاحقنا وتلاحق شفاهنا ... فتحوا كيساً به سلة من الفواكة ...تلك الحلم الغائب : مرآها يخلق في النفس حسرة دائمة .... وكعكة رائحة إعدادها تسلب العقل ، لقد نسي أنفي هذه الروائح منذ أمد بعيد .... صبوا لي كوبا من الزعفران ... دلقته في فمي كمن يشرب من شراب الكوثر ...ألا يكون كوثراً بعد شايهم ذاك؟ .

يسألني أحبتي ماذا أنت صانع ؟ ولا ينتظرون الحقيقة بوجود عين ومسمع الشرطي .... ولكنه تشوق للإطمئنان أرى الدموع متسترة خلف أجفانهم .... محبوسة بقوة الصابرين , ترق مشاعرهم لحالي .... وترق مشاعري لحالهم ، الأطفال في عيونهم بهجة مخنوقة لاتستطيع البوح بسرورها .... نصف ساعة مرت ليست من الزمن .... مرت مع الريح لاتقضي للنفس راحة ولا تسكن جرحاً مزقته الأيام .

وحانت لحظة الفراق مرة أخرى ... فراق أعظم من الموت هولاً وشدة .... الموت فراق بلا لقاء ....أما هنا ففراق ولقاء وفراق , عذاب يمتص من الروح إكسيرها ويسقيها سما زعافا تعيش بلا حياة .... جمعوا فواكههم ، وأعادوا كعكتهم مبتورة الجوانب واستعدوا للرحيل بعد إشارة الشرطي .... وقفوا على أرجلهم وتوقف نبض الحياة في فؤاد معلق بمودتهم عانقوني وأسالوا الدموع المتربصة في خوافي عيونهم .... ودعوني ولا يعلمون متى اللقاء القادم ؟ .... أيعود غائبهم ؟ أم تنطفئ جذوة اللقاء ولا يعود في مصباحها وميض .

واستداروا وما استدارت أعينهم .... وشيعت عيني شخوصهم تسفح من قلوبها الشوق ، راحوا مودعين بالقبل لاتنطفئ حرارتها من خدودهم .... الرجل الطاعن في السن أبي يقف متجلداً لايعطي للدموع أملاً في البروز ..... ولكني أعيش بين جانحيه وأقيس حرارة اللوعة فيه .... وانصرفوا وبقيت أطيافهم جالسة أمامي ، أشاهدها فتبادلني البسمات , حظيت أعيننا بساعة من المحادثات المختلسة وما ارتوت أرواحنا من وجوه أعزتها المحجوبين عنها .

ذهبوا وتركوني أشاهد ذهابهم .... راحوا وعيوني مأسورة في خفق نعالهم ... وقع نعالهم يقع في مسامعي كهزيم الرعد رحلوا وتركوني كما يترك الأهل موتاهم .... ملحدين في حفر الموت... عزيز علي فراقهم .... مضوا وشذى عطورهم ساكن في مخيلة أنفي يمر بي على تفاصيل قسماتهم .... أعينهم تلاحقني في كل زاوية من زوايا الحجرة ... يظن الشرطي أنهم غادروا ، إنهم هنا لم يغادروا مادمت موجوداً هنا .... كما أودعوني في عناية الله أودعتهم في حفظه ورعايته ..... البقية تأتي .

بحرين السلام
04-16-2011, 04:09 AM
حصن حقوق المحرومين (26)

تعود السيارة بنا كالبرق محملة بالأجساد المعذبة والقلوب الملتهبة ، نصل الغربة من جديد لنسكن القبور المهجورة ..... الزنزانة هذه المرة دخولها كالإقدام على السقوط من شاهق .... المرة الأولى تقصدها بلا ميعاد ... أما الآن فرجلاك سائرتان لميعاد معلوم تنتظرك فيه الكوابيس المزعجة وتحف بك الأقدار بشرورها ، ولاتنتظر من خيراتها إقتراباً .... تجدح المآسي لك من بوادرها شرار ، ينتزع الراحة من جذورها ، وتسير بقدميك إلى قدر لا أتعس ولا أتعب من ذاك .

ها قد عدنا وصار لقاء الأحبة ماضياً وذكرى تتقلب مواقفه في دائرة العيون وتسرح في لحظاته مواقف الخيال .

في الشهور السابقة نفض ( العنبر) كثيرا من ساكنيه ، بين من يسعى به حظه إلى قدر جميل ، وبين من يراد به عكس ذلك .... وفي الشهور اللاحقة بدأت الزنازين تتسع بنزلائها حيث لا أكثر من إثنين أو ثلاثة ....أسابيع متكدسة من أعمارنا تفوت ولا نسمع عن شيخنا السجين شيئا .... كل ما سمعناه خبر اعتقاله بعد اعتقالنا بثلاثة أيام .... ذلك ( الجمري ) الصانع من عمامته حصناً يحمي به حقوق المحرومين .... الذي قال للإغراءات لا ، وطلق المناصب في سبيل نيل الحقوق .

يعتمون عليه الحقائق بإقصائه عن الوجود ، ويعتمون علينا حقيقة وضعه وصحته .... شيخ تجاوز الثمانين يعتقلونه ، بل يعتقلون قضيته علهم يظفرون منه بإحناءة رأس .... ألا يعرفون إمتداده من أين ياتي ..... إنه قادم من النجف الأشرف ، ربته يدا علي والحسين ، يملك الدنيا ولا تملكه الدنيا ، بهذه الصفات إمتلك القلوب واستولى على حبها .... ولكن أين أخباره نتطلبها فلا نجدها .

هو وأنصاره وحواريوه مغيبون في التعتيم لا تصلنا من أخبارهم إلا القصاصات لانعرف الحق منها من غيره .

وها هي الأشهر الحارة تشتد وطأتها على المحبوسين في تنور البلاء وأصحاب الأجساد الصحيحة يعانون الأمرين من طقس الهجير .... كيف بالمصابين بالأمراض القاتلة ... مرض الربو والقلب .... في منتصف الليل وفي أوج الصيف ولهيبه الذباح إستفقنا من أنصاف نومتنا على قرع في الستينات قرع عنيف على باب الزنزانة ينادي الشرطي ..... واستمر القرع متوالياً وبصخب ... سألناهم ماذا عسى أن يكون لديكم من طارئ ؟

أخبرونا بوجود مريض مغمى عليه يكاد يموت .... القرع مستمر والشرطة لاتستجيب .... كان الحل أن تقرع أبواب الزنزانات كلها بقلب واحد في المأساة, نزلت الأيدي على الأبواب تقرعها ، وبعض بالأرجل . في زنزانتنا استلم (م) عصا المشطفة وعاد للوراء ... وأقبل مسرعاً يقرع بها الباب ، حتى بان أثر وقعها في الحديد .... إنفجر العنبر بأصوات الأبواب كالمدافع ، وأصواتنا تصاحبها .... عل الشرطة يصحون من رقدة الضمير .... بعد ردح طويل من الصخب إستجاب الشرطة غير راغبين .

توجهوا للزنزانة المنكوبة .... كنا نراهم من الفتحة المتواجدة في الباب ..... فتحة تتسع للوجه لينتصب فيها ، يمكنك من الفتحة مشاهدة كل من يعبر الممر .... ومتى شاء الشرطي إغلاقها .... أقفلها من الخارج ... بهذه الفتحة تنفسنا حرفاً من حروف الحرية ، ورأينا أوجه أصحابنا حين يمرون يتزودون بالماء البارد .

بعد دخول الشرطة هدأت مدافع الأبواب عن هديرها .... هدأت زمجرة الغضب ريثما تتضح النتيجة .... بعد إنقضاء دقائق من دخولهم .... رأيت إثنين من أصحابنا يحملان جسداً مرتخياً على أكفهم ... سألتهما وهما يمران أمامي : ماذا جرى ... أجابني أحدهما وعيناه غارقتان في دمعهما كما صاحبه كذلك ، قال : لابد أن الشيخ سيموت ... ومرا من قبالة عيني خارجين والشرطة تحفهما ... إنه الشيخ علي النجاس ، قلبه يعاني من مرض عضال والحر الشديد يحيق بأطرافه ، والهواء بات غالياً لاتجده الأفواه لتتنفسه ، حتى أغمي عليه من شحه الأوكسجين .

أخرجوه خارجاً في الهواء الطلق دون إحضار الطبيب ... أخرجوه يستعيد أنفاسه الفائته ... في الهواء المكشوف تنفست رئتاه الهواء الحقيقي وبدأ القلب يستعيد توازن دقاته ... ما إن عادت لجسده الحيوية إلا وأعادوه لداخل زنزانته ليذوق طعم هوائها القاتل ثانية .... مشاهد تعود لتتكرر كل يوم أمام أعيننا ... مرضى يكيل لهم المرض بكفته أطنانا من التململ والتوجعات المنصرمة مع الريح .

ذلك الصيف كان كجهنم الأرضية .... حتى الماء البارد لايفي بالغرض .... وللتعويض عن الحر المستعر صاروا يقدمون لكل زنزانة قطعة صغيرة من الثلج .... يأتي الشرطة بصحبة آسيوي سجين ... يكسر الثلج قطعاً قطعا ، ويلقي أمام كل زنزانة حصتها .... يلقون بالثلج فوق البلاط الممتلئ ببقايا الأحذية ، بعد ذلك يفتحون الأبواب لإدخال الثلج ... كثيرا ما رفضنا معاملتهم في إلقاء الثلج على البلاط ... كنا نريد استلام الثلج بأيدينا مباشرة بدون هبوطه في مستقر الميكروبات .... لم يستجيبوا لدعوى الإنسانية ولم تنعطف أفئدتهم رقة ولا شفقة .... عجيب تفانيهم في إبراز القسوة في احتياجاتنا لكن الأعجب منه إصرارنا الثابت على نيل حقوقنا حتى ونحن في حال لايوحي بأنهم يحترمون إنسانية .

في حال انطفاء الأصواء تعود أجسادنا من فتحة الباب إلى داخل زنزانتها .... تصاحبها آيات القرآن وكثير من محفوظات الأدعية ....يامن تحل به عقد المكاره ويا من يفثأ به حد الشدائد .... إتصال لاينقطع ولا تشوش عليه إرادة المخربين ، ذبذبات قوية الإرسال .... ويبقى الظلام مهيمناً على القفص الملتهب ... وضوء صغير يتخلل الفتحة المنتصبة في وسط الباب ، تصاحبه نسمات خجولة لاتطفئ رغبة لراغب ، ولا تكفي لإغناء رئة افتقرت إلى نقاوة النسيم العليل وطراوة الطقس الجميل ..... البقية تأتي .

بحرين السلام
04-16-2011, 04:10 AM
الفرحة الناقصة (27)

ثلاث زيارات حصلت عليها في عام واحد ، بعد ستة أشهر من العناء وملاحقة الجهات المسئولة استطاع الأهل الحصول على مقابلة ..... لستة أفراد فقط ومن الأقارب , جهد مضني يتطلب الحصول على زيارة , إحياء الموتى أسهل منه . وفي التالي لكل شهرين زيارة ..... عقاب لك ولأهلك أن لا يعلموا عنك شيئا ولاترى لهم وجها بعد استلابك من بينهم .

بعض الأهل رغما عن سمع الشرطة يوصلون مايريدون من أخبار لمعتقلهم ...... كذلك بعض المعتقلين بطرقهم الخاصة يوصلون رسائلهم لأهليهم لتتجاوز أسوار القلعة وتصل إلى من كتبت له .

بعد انتهاء الزيارة ..... عند جمعنا في الغرفة العليا بانتظار اكتمال عددنا .... أحد المعتقلين في عنبر غير عنبرنا لديه رسالة لابد من إيصالها لصديقه في عنبرنا .... جلس على الكرسي الذي بجانبي ..... نتشاور في كيفية نقل الرسالة إلى حوزتي بعيدا عن الرصد ..... هو يضعها في قاعة النعل من الأعلى .... مثبتة بلاصق تدوس عليه قدمه .... إنحنى إنحناءة عند غفلة الشرطي وبسرعة الممارس أزالها من نعله وثبتها في قاعدة نعلي حين كانت رجلي فوق الرجل الأخرى بلا نعل ..... أنزلت رجلي كابسة على الملصق وتم نقل الرسالة منه إلي ....

انطلقت السيارة بنا وبالرسالة ..... وصلنا عنبرنا .... قبل الدخول تفتيش أيضا .... تلمست كفوفه كل مايمكن أن يحوي مخبأ وما ظفرت بشي .... الرسالة في مخبأ لايهتدي إليه الشيطان حتى .... عدت سالماً إلى موطني المغيب ... أبلغت صاحب الرسالة بها عن طريق فتحة (الدك ) ... خرج ليملأ الماء البارد مر على بابنا وتوقف ليطبع قبلة على فمي من خلف الشبك بينما أضراسي تدفع الرسالة من فمي لفمه .... تناولتها أضراسه وتابع المسير وكأن شيئا لم يحدث ... بتلك الطريقة ذاتها بعث لي أحدهم رسالة يبدي فيها تأسفه وندمه حيال ذنب قام به بحقي ، ويرجو المغفرة .... أضمرت غفران ما اقترفته يداه, ما أحلى النفس حين تراجع دفاترها القديمة وتتوقف عند كل سطر لتجرده من المغالطة .... وما أحراها وهي في رحلة الموت الدنيوي هذا أن تخرج من ذنوبها لتعود إلى حياتها طاهرة نقية لا يشوهها نجس أو دنس .

تتكرر الوجبات علينا كما هي وإن أضافوا يوما شيئا من البطاطس المقلية على الرز فذلك اليوم مميز ليس له مثيل . الشاي كما هو أسود كالقار ..... الحليب كما هو بطعم الملل الطويل ,مع الإنتهاء من شرب الحليب .... تبقى في الكوب بقية لاتحجب قاع الكوب ...

حرك (م) الكوب براحة .... تحركت بقية الحليب مع سواد توزع فيها .... كرر التجربة ثانية .... توصل إلى الحقيقة المنغصة أخيرا ... ذلك السواد أثر من صدأ الكوب ينتقل من الكوب إلى الحليب ..... إذن نحن كل هذه المدة نشرب حليبا بطعم الصدأ ....

أخذت الصدمة منا مأخذا بليغا ومنذ تلك اللحظة صرنا لانشرب الشاي ولا الحليب ماداما في تلك الأكواب الفانية ..... خاطبنا الشرطة في تغييرها دون فائدة ....يعتذرون بعدم وجود سواها ..... المطالبة المتعقلة مع هؤلاء لاتجدي ..... رحنا كلما وقع بين أيدينا كوب معدم ثقبنا قاعه وأعدناه دون علمهم .... قضينا على فيلق كامل من الأكواب ولم يؤثر في أعدادها الهائلة .....

إذن لابد من التحريض والوقوف وقفة رجل واحد أمام ما يسمونه حليبا وما هو إلا صدأ الحديد .... استجابت الزنازين شيئا فشيئا لمطلبنا ..... كل الزنازين في العشاء والإفطار الصباحي لا تستلم الأكواب ..... وتبقى الأكواب حائرة بجانب الزنزانة ....

نظرة نظرتها من الفتحة وكانت كل الزنازين مغلقة وأمامها أكواب الشاي مملوءة غير مشروبة, الشرطة طلبوا منا إدخال الشاي والحليب وشربه ... رفضنا ... قالوا هل أنتم مضربون عن الطعام أجبناهم : جيئوا لنا بأكواب لاينبع الصدأ من قاعها ولا يساهم الحديد في شرابنا ونحن ندخلها عندها ونشرب ما فيها بكل ترحاب .

وصل الأمر للجهات العليا يبدو ... وما أصبحنا في يوم من أيام المر تلك إلا والشرطة توزع علينا أكوابا من الألمنيوم جديدة .... جديدة مطرزة بالنقوش ..... فرحة عارمة اجتاحت قلوبنا وعمرت بها آمالنا بالنصر ولكن ( يافرحة ماتمت ) .... صبوا لنا الحليب في الأكواب الجديدة ...... لنفتتح استخدامها ..... المقبض يغلي ولاتتمكن اليد من لمسه أكثر من ثانيتين ..... كيف نتناوله ونشرب ..... طرف الكوب يلظي ولاتتمكن الشفاه من الوقوف عليها مطلقا .....

الشاي يبرد ويصبح صقيعا والكوب حار ... تدلت شفاهنا وانتفخت من فرط الحرارة ! ..... هل نحتاج لحركة أخرى نستبدل بها الأكواب ؟ ..... لا, إنها مهمة نتركها للقادمين .... أما مقبض الكوب فنسجنا حوله من القماش ما جعل الأمر محلولاً ويتعدى المشكلة ... تقضت الأيام ويبدو أن الإستجابة للحقوق الإنسانية باتت أقرب من حبل الوريد .... وإلا لما استجابوا لتبديل الأكواب .

ومن كان قبلنا وسكنوا نفس العنبر لسوء حظهم .... يحكون أنهم كانوا يشربون الشاي والحليب في علب الفواكه المشكلة ..... وببساطة تلك العلب لايمر عليها وقت بسيط بملامسة الرطوبة والهواء إلا ويكون الصدأ ركبها من أسفلها لأعلاها .... الآن بدأت الضغوط تقوى لتحسين ظروف المعتقلين .... الظروف التي يسمع بها الحقوقيون ولا يرونها .

نعم بعد تسعة أشهر جاءونا لنكتب رسائلا لأهلنا نطمأنهم على صحتنا .... وليروا صورة خطنا بأعينهم .... وضعوا طاولة وسط الممر .... يضعون ورقة على الطاولة عليها قلم رصاص ... وتفضل وأكتب ولا تعتقد أنك ستكتب مالم يقرأ من قبلهم .... تكتب والشرطة وقوف بجانبك .... موقف يذكرني بأيام الإمتحانات .

كان بعض المعتقلين يتخذونها فرصة للإستلال من القلم وقطع جزء منه يحتفظون به لديهم .... بحيث لا يلاحظ الشرطة فرقا في القلم .... ولو شاهدوا الفرق فيما بعد أنى لهم بالحصول على الجزء المقطوع .... كتبت رسالة وانتهيت من تضمينها بما أريد وعدت إلى زنزانتي ومن طريف الأمور أني وصلت إلى بيتي بعد إطلاق سراحي والرسالة لم تصل .... وصلت بعد وصولي بمدة مديدة وكأنني أرسلت رسالة لنفسي ..... البقية تأتي .

بحرين السلام
04-16-2011, 04:12 AM
وجها ً لوجه (28)

بدأ العنبر يتخلص من ساكنيه القدامى ، والشرطة شرعوا يحشرون الأعداد مع بعضها ، يقلصون عدد الزنازين الممتلئة ، ليوفروا على أيديهم فتح الزنازين وحمل المفاتيح ....... بتنا (أنا ) و (ج) لوحدنا في الزنزانة بعدما نقلوا (م) لزنزانة أخرى تلبية لرغبته ...... صاحبي وأنا نحمل حاجات بعضنا أعينه ويعينني ..... حين يمضي للمقابلة أو العيادة يبقيني منفرداً ..... كالسجين في حبس إنفرادي ..... ننجز مع بعضنا كتابة الأدعية على قطع القماش .

إحدى المرات التي تبقى صورها نابضة في الذاكرة ، ذهب صباحا ً للعيادة وآب ظهراً بعد ما كتب له الطبيب بعض جرعات الحبوب ، يأتيه بها الشرطي ليلاً ..... في الليل كنا نمارس جريمة الكتابة ....... وضعت الإصدار الثاني من دعاء كميل الذي أنجزته سابقاً تحت السرير الحديدي ، والنسخة الجديدة أكتب فيها فوق خشبة السرير بعد إزالة الفراش .... صاحبي يفرك قطعة الألمنيوم في البلاط ويصب الماء بين الحين والآخر ..... تكونت بقعة بمساحة وجه الإنسان ..... بقعة سوداء داكنة مشبعة ببرادة الألمنيوم ...... يداي تخوضان فيها تغط القلم وتدبج فوق القماش أحرفا أسيرة في طريقها إلى الحرية .


مستمتعين بوظيفتنا دأبنا نؤدي عملنا بنشاط ..... متقابلين وجهاً لوجه ، هو يواجه البوابة وأنا معطيا لها ظهري لا يكدر طيب أنسنا منغص وإن كنا في الأسر مظلومين .... وما أذهلنا إلا صكيك صوت العمود الفاتح للزنزانة .... طق... وانفتح الباب بسرعة خاطفة أوقفت التفكير في رؤسنا ..... حملنا أجسادنا مسرعين نسد بها عين الشرطي عما هو خلفنا... قبل نهوضي أغلقت قطعة القماش التي أكتب فيها على بعضها وانطلقت أضع جسدي ترساً في نظر الباحث عن إدانة ما ...... لمس الشرطي قلقاً في أعيننا واضطراباً في حركتنا وتلهفاً على صده عن الدخول لعمق الزنزانة ... كان قادماً ليعطي صاحبي وجبة الدواء ..... لكنه كان خبيث السريرة يفتعل الحجج للأذية وكان ذو نزعة عدائية .... كيف به وقد وجد مايبرر نزعته .

نحى أجسادنا بيده ، كل جسد إلى ناحية ، في اليمين وفي الشمال وشق طريقه في الفراغ المنفرج بيننا .... وبانت له بقعة سوداء ,الماء يغمرها ، وقطعة من الألمنيوم متوسدة بجنبها لها حد قاطع ..... لم تسعفه نباهته بإدراك ما نصنع أبدا واستمر يفكر ليصل إلى حقيقة مانفعل .... لم يجد في إدراكه شيئا ..... إذن عليه سؤالنا والبحث .... بحث خلف السرير المستند إلى الجدار وفي ما يدور حوله .... لم يجد شيئا ..... ولم تسعفه البصيرة في إيجاد قطعة القماش المتوارية أسفل السرير ... أما القطعة التي في الأعلى فكانت كقطعة قماش ملقاة بعد إلقائها على بعضها ، ولحسن الحظ لم يبدو من ظهرها أثر للكتابة .

سألنا ماذا تصنعان ؟ في تلك اللحظة أبكمت الدهشة لساني عن أي تبرير أتفوه به ... صاحبي البسيط جدا كان أفطن مني لإبتكار وسيلة تبرير لحظتذاك ... قال : نحن نفرك القطعة في البلاط لتكون حادة ، نقلم بها أظافرنا .... أنتم لاتسمحون لنا بمقاريض نقلم بهاما لا رغبة لنا به من الأظفار .

الشرطي الأسمر الفارع الطول لم يقتنع بقول صاحبي ولكنه لايجد أمامه أيضا ما يوحي لغير هذا .... فهو لم ير أثراً للكتابة أمامه .... صادر الشرطي قطعة الألمنيوم الحادة كالسكين وأعطى صاحبي دواءه وانصرف مغلقاً باب الزنزانة علينا ننتظر ماتعود به مصادرة القطعة من بلاء ..... بادرنا وأخفينا القطعتين حيث لايتمكن الجن من العثور عليهما .

في اليوم التالي بادرنا رئيس النوبة بالدخول إلى الزنزانة, كان كبيرا في السن ، شعرات الشيب تطل من رأسه ، يحاول إخفائها ويظهر الشباب ..... ثلاثة خيوط مثبتة على زنده .... يتكلم العربية بحكم طول بقائه في البلد .... عربيته تصيب كلمة وتحرق أخرى! ....

استخرج القطعة الحادة من جيبه ... لوح بها أمام عينه قائلاً ماهذا ؟ توليت الإجابة بجواب صاحبي السابق .... قال : لا! إنكم تجعلونها حادة لتعتدوا بها على الشرطة .... ربما تمنينا أن يعرف الحقيقة ولانلبس تهمة كتلك ... قال : أصحابكم في السجون الأخرى يضعون (السطل ) على السرير استعدادا لضرب الشرطة . قلت له نحن هنا مايزيد على سبعة أشهر وليس لنا أية مشاكل مع الشرطة فلماذا يصدر الضرب معهم .

قال بلهجة لينة : أنا هذه المرة سأسامحكم على أمل ألا تعودوا لصنع هذه الأدوات الحادة ..... كان رئيس النوبة هذا هو نفسه الذي تجاوز عن جارنا عندما وجد لديه قطعة القماش مكتوبا عليها دعاء كميل .... تجاوز رئيس النوبة عما وجد لدينا في حين كان الشرطي شديدا وملكيا أكثر من الملك .....في الفترات اللاحقة كان هذا الشرطي ذاته من يختلق الحجج للمضايقات معنا .

كل مالا يرغب فيه يصبح حراماً وشرعاً .... عينه تضيق بكل ما يوسع فرحتنا .... جاء يوما ورأى ملصقا لإحدى دعايات الفانيلات وضعها صاحبي فوق باب الزنزانة ..... انتزعه كما ينتزع منشورا ضد الدولة ، وبدأت المشادة بينه وبين صاحبي وهو لايتنازل عن فعلته التي فعل .

هذا هوالبشر عندما ينسلخ من بشريته وينحط في أدنى درجات الكراهية والسلوك الاإنساني .... وهذه هي العقول التي يلقى على عاتقها ثقل الطاعة ... الطاعة العمياء ... عمى القلب والعقل .... أحدهم أيام القيد الفولاذي داخل الزنزانة ، نادى عليه أحد المعتقلين ليفك (الهفكري ) كي يقضي واجب الغسل ، ويبدو أن بعض الزنازين البعيدة استدعت الشرطي نفسه قبل لحظات مرت ....

استنكرت سذاجة الشرطي الأمر وقال : ( شيطان واحد داخل اثنين زنزانة ) ونبقى أنا وصاحبي وحيدين داخل الزنزانة يأنس بخطي وصوتي ، وأنس بظرفه وسلامة نيته .... نتقاسم القوت كما تتقاسمنا طقوس البلاء .... آخر ماتطبق عليه أجفاني صورته ، وأول ما يبكر في أجفانه صورتي ..... جسدان خلف الباب الحديدية أمرض فيتحمل أوجاعي في جسده ..... ويتشكى فيغرس في سمعي صليل شكواه .... جسدان ما استطاع الضيق أن يضيق بهما ..... وروحان ماتمكن الأسر من تكسير أجنحتهما .... يحلقان بودهما على محنتهما ضاحكين .... يزرعان في كل فجر ابتسامة محبة في وجهيهما .... يتناولان من فائضها حتى المساء ...... البقية تأتي .

بحرين السلام
04-16-2011, 04:13 AM
الضارة النافعة (29)

نجلس القرفصاء نتبادل خبرات المعاناة بيننا يحكي بعضهم عن ظروف زنزانتهم أنهم رأوا بعض الحشرات الخطيرة كالعقارب ...... صارت تزحف إليها من جراء الرطوبة .....

تنزلق الرأس فوق الوسادة ولاتنزلق التخيلات منها ..... وفي عمق الليل الساكن بجراح المعتقلين يعم الصمت المكان ..... ومع إغفاءة الأجفان وسفرها في رحلة النوم الحبيس أستيقظ في أحشاء الليل على صرخات مرعبة تقتلع الجبال من رسوخها ...... صرخة خلتها من لديغ أصابته العقرب .....مادمنا تكلمنا عن العقرب ، لايبارح العقرب مخيلتنا .

سألنا الزنازين المجاورة لمصدر الصرخة : ما الخطب لديكم ؟ .... الأمر يختلف تماماً عن لدغة العقرب .... أحد المحجوزين خلف جدران ا لسجن تصاحبه نوبات صرع متكررة ... هذه إحدى النوبات الصيفية ..... داهمته النوبة .... كاد يخنق صاحبه في الزنزانة لولا تداركه ...أن تكون أمام أسد يحاول افتراسك وتتمكن من الفرار أهون من أن تكون أمام شر يحيق بك وأنت محاط بجدران أربعة.

لازالت القيود وأقفال العينين تصاحبنا لدى الخروج من العنبر للقلعة .... أحد أصحابنا بعد انتهاء مقابلته مع الأهل ، كان جالساً في الباص ..... عيناه يلفهما الظلام وكفاه محاصرتان ( بالهفكري ) .... لا يجد إلا فمه ليعطيه سعة من الحرية ....

أطلق لسانه في الكلام مع مجاوره في المقعد ... شرطي أنجبته عاصمة الأمويين لم ترق له محادثتهما الهادئة .... كانت يده بين الفترة والأخرى تمتد لتضرب أحدهما على الرأس .... لم يدعه أصحابنا دون الدفاع عن نفسيهما باللسان ..... تشعب النزاع بينهم وعلت الضوضاء ..... ختاما أنزلوهما من الباص ..... شرع الشرطة بأحطابهم السوداء الصلبة يضربونهما .... أينما تقع العصا تقع ..... إنفجرت الدماء من رأس أحدهما قانية حارة .

الحظ الحسن كان لصالحهما .... أطل ضابط من حجرة التحقيق .... استفسر عما يجري ؟ أمر بأخذ المصاب للعيادة ثم يأتى به إليه لينظر في الأمر .... وتناهى الموضوع إلى مدير السجن .... أمر بإحضار الجميع لديه في السبت القادم ....

في السبت سأل مدير السجن صاحبينا عن ملابسات الموضوع وسمع منهما .... بحق كان مدير السجن منصفا آنذاك ، سأل الشرطي لماذا ضربتموهما .... قال الشرطي: لقد هددني أحدهما بتهشيم أسناني وأعانه صاحبه سيدي .... قال له مدير السجن مستنكرا ! كيف يستطيع تهشيم أسنانك ويداه مقيدتان وعيناه مقفلتان؟ .... وكيف يتسنى له ذلك وأنت جندي مدرب ؟... سكت الشرطي كأن على رأسه الطير ، أمر مدير السجن بإنصراف الجميع ، ووعد صاحبينا بأخذ الحق لهما .....

بالطبع لن يكون أخذ الحق أمام العين , بعد تلك الواقعة ، استغنى الشرطة عن إغماض العينين واتسعت مساحة الحرية نوعا ما .... وكانت الضربات ا لتي تلقاها صاحبنا هي الضارة النافعة .

ولايزال عنبرنا يحتفظ بالكثير من العجائب ..... ومن طريف عجائبه أننا سكنا بين جدران سكنها من إدعى علاقته بالإمام المنتظر(عج) .... أجل هي نفس الحجر التي سكنوها ومرروا فيها أكذوبتهم وضللوا فيها أفكار من إتبعهم ..... وفي نفس الزنازين هذه عذبوا بأنفسهم من لم يتبعهم .....

ومن الطريف أيضا أن يجمع عنبرنا أحد الذين كان برفقة أولئك المضللين .... يحكي عن حيلهم في التغرير بالضعاف وكيف توصلوا للتحكم في النفوس بوسيلة الأحلام ... وكيف تمكنوا من تجنيد كل فرد للتجسس على صاحبه وإيصال كل ما يدور في نفسه من شكوك ورغبات بمجرد البوح بها لصاحبه ..

كان أحد طلبة العلم نصيبه الزنزانة التي سكنها زعيم المضللين ...لهذا لما علم بأنه يسكن في الزنزانة التي سكنها زعيم مدعي السفارة أيام اعتقاله .... قال الشيخ : نعم أراني لا أرى الدعاء يستجاب في هذه الحجرة لكونها مملوءة بالشياطين ..... عن طريق الأحلام تحكم في النفوس التي بات السجن ضاغطاً عليها وعلى قناعاتها وصار يحرف العقائد .

وهي محطة اختبار ومحك تتميز في منعطفاتها النفوس المتمكنة من قهر الشيطان ..... الشيطان يدخل للنفوس من طرق شتى , منها الأحلام كالتي داخلت صاحبي يوسف , و لولا يوسف ووجوده بينهما لكانت سببا في أمور لاتحمد عقباها... البقية تأتي .

بحرين السلام
04-16-2011, 04:15 AM
طائف من الملائكة (30)

تعصف الرؤى بالرؤس الحبيسة وتمر الهواجس المرهقة بها طويلا ولا بد من طائف من الملائكة يطوف بتلك الرؤس .... جارنا (ف) في الزنزانة المقابلة ذو نفس بيضاء ملائكية ترجع بنسبها إلى رسول الله (ص) ، صبحنا يوما برؤيا لم نعتني بها وحسبناها أضغاث أحلام ... رأى فيما يرى النائم صديقين بين ( مروزان ) و(جدحفص) تطاردهما الشرطة .... بعد سجال طويل أصابت الشرطة أحدهما بجروح وأردت الآخر قتيلاً ...

وما جاءت الظهيرة محملة بأخبار الظرف الخارجي إلا بخبر الشهيد حسن طاهر ورفيقه الجريح .... هناك إتضحت الرؤيا, أحدهما من جدحفص والآخر بالأصل من مروزان .. لذلك كانت الرؤيا تصور موقعا بين المنطقتين تلميحا لهما وأشارت الرؤيا إلى قتيل وجريح وجاء الواقع مطابقا إلى الرؤيا , لذلك كانت الرؤيا ثلاثة أجزاء ، جزء من الملائكة يوحون به للأرواح ، وجزء من الشياطين يشوشون به على النفوس ، وجزء ما تحدث به نفسك فتراه في المنام .

وللنفوس أسرار عميقة قد لايمكن تفسيرها ، ولا يدركها إلا القليل ... أما صاحبنا (ف) فلم تدعه الملائكة من تسديدها .... مرة أخرى رأى رؤيا محيرة مرعبة .... رأى موطنه (جدحفص) والأمطار تتساقط عليها دماء ....دما عبيطا يسقط فوق سقوف السيارات ويتجمد متكتلا لا يمكن نزعه منها .... رؤيا محيرة من يأولها ... لا تأولها إلا الوقائع الحقيقية ... جاءت الأخبار لاحقا بوفاة ( الشيخ عبد الحسن الطفل ) واتضحت الرؤيا ... كان المطر الدموي حزنا لفقده .... وتكتل البقع الحمراء إشارة إلى بقاء الحزن على رحيله , وصعوبة إزالته بسهولة ونتوءه دليلاً على بروزه من أغوار النفس .

ولحديث النفس في الأحلام أثر واضح هناك .... كان أحد طلبة العلم متعلقا بعمل الصلوات والأذكار الملحة في طلب الفرج من السجن المرير ذاك .... كثيرا ما أعطانا وأعطى الأخوة أذكارا نتلوها بالآلاف, وصلوات مجهدة لطلب الفرج المعجل ... أعطانا صلاة خاصة لهذا الأمر ، تنتهي من الصلاة وتقول اللهم إن كان فرجي عاجلا فأرني بياضا أو خضرة ، وإن كان فرجي آجلا فأرني سوادا أو حمرة .... أي لون تراه يدل على أحد الأمرين .... النفوس تختلف في قلقها وطمأنينتها ....

نام أحدهم مرتاحا مطمئنا بعد أداء تلك الصلاة وقراءة تعقيبها في الصباح نادى الشيخ .... أجابه الشيخ نعم .... قال رأيت البارحة رؤيا وكأني لابسا ثوبا أبيضا وأحمل مظلة خضراء أجابه الشيخ يبدو أن فرجك قريب .

الآخر كان مضطربا قال للشيخ أما أنا فقد رأيت أني أبيع فحما وطماطم .... قال له الشيخ ( مكانك زين وانس بره ) هكذا تتعلق النفوس بالفرج العاجل وتطلبه وتطارده لتستخرجه من جحور الأرض وأحراشها .... أنت هناك لايراد لك أن تكون هشا تتعلق بالشعرة وإنما صلبا لا تتمكن العواصف العاتية من زحزحة رجليك الثابتتين .... هناك في المعتقل أمثلة على الأرواح العملاقة التي لاتهزمها الترهيبات .... وآخرون ضعاف أمام أذى الرغبات .... حتى السيجار يهزمهم ..... أحدهم كان يصوم استحبابا .... ابتسم له الحظ بسيجارة من أحد الجنائيين ... أعدم صومه في نصف النهار ليمارس السيجارة وتمارس السيجارة في رئته زرع الدخان وأمراضه القاتلة .

بلى استطاعت المنظمات الإنسانية الضغط والتخفيف من شدة المعاملة القاسية لكنهم لازالوا كما كانوا ..... إنتقلت إلى الزنزانة (51) وانتقل صاحبي إلى (49) لإنخفاض الأعداد في العنبر .... حللت ضيفا على أصدقاء جدد ...الشيخ علي و السيد (ج) و(ج) زملاء زنزانتي الجديدة وتشاء الأقدار بمشيئتها المبدعة في سبك التوافقات ، أن نكون نحن الثلاثة أنا والسيد (ج) و(ج) من هواة الشعر وممن يغوصون في بحوره ..... كذلك نحن الثلاثة من أصحاب الخط ومتذوقيه ، أما (ج) فكان سابقا في الزنزانة المقابلة ابعث له بقماش أخط عليه التمرينات ليحذو حذوها ..... الآن أصبحنا في قفص واحد نتبادل الخبرات ..... آخذ منهما ماليس عندي وأعطيهما ماليس لديهما .... استمر الإثنان يستمتعان بالخط على قطعة من جلد الفراش اقتطعاها ، يكتبان بالدواء الأبيض .

ويشاء حظهما أن يدخل الشرطي عليهما وهما غارقان في مشاهدة لوحتهما ..... تفاجأنا بدخوله علينا ..... طويا الرقعة بسرعة قبل وصول يد الشرطي لها .... قبض الشرطي على الرقعة بشدة ... قبض عليها السيد بشده أيضا ولم يتركها للشرطي ، حاول الشرطي كثيرا في استخراجها من يد السيد ولم يفلح .... خرج وأغلق الزنزانة ثم عاد بعد دقائق ومعه رئيس النوبة بدأ في التفتيش تحت الوسائد وفي أكياس الملابس ..... وبعد جهد ليس بالمضني وجدها خلف الأكياس ..... تناولها وتوجه بالكلام لرئيس النوبة قائلاً : هاهي .

استلمها منه رئيس النوبة وفتحها لكنها للأسف كانت خالية لايوجد بها محتوى .... لم يكن الأخوة ليتركوا له فرصة النيل منهم .... أمحوا كل مافيها بعناية بعد إغلاق الباب بلحظات ..... وعاد الشرطي بخفي حنين ووجه تقضمه الهزيمة .

هذا بعد أن تحسنت الظروف نوعا ما وبدأت قوافل الكتب تترى إلى المعتقلين من أهاليهم .... تلك نعمة مافوقها نعمة .... صرت بالتواصل أتفق مع أصحاب الكتب في إرسالها لي متعهدا بإرجاعها في يومين أو أكثر .

الشرطة روضتهم الضغوط الدولية أيضا ، لايمانعون في نقل الكتاب من زنزانة لأخرى بعد الإلحاح .... الكتاب موجود والوقت موجود ..... رحت أطوي قراءة مايقع تحت يدي مغتنما فرصة هطول الكتب بشدة ..... في ساعات الفراغ أتجاذب مع الشيخ علي أحاديث المعرفة .... استفيد من معارفه في علم ا لفقه والأصول وبتجاربه الحوزوية .... وعند حلول وقت التعزية يطربنا صوت الشيخ الشجي .... أعجبتني عادة يقوم بها الشيخ دائما كان متوجها للقبلة في حديثة وأكله ، وأي عمل يقوم به ...... يقول كل عمل تقوم به متوجها للقبلة تثاب عليه ثوابا مختلفاً .

نحن في معتقلنا ولانعلم شيئا مما يدور في الخارج ..... جاء صباح أحد الأيام .... وجاء وقت وجبة الإفطار فتحنا الباب لإستلام الوجبة وكانت المفاجئة فوق تصورنا على الإطلاق .... كنا ننتظر الحليب والخبز الذابل والنخج أو الباقلة أو اللوبة ..... ولكن كانت وجبة الإفطار وكأنها في فندق خمس نجوم .

كان الإفطار عبارة عن بيضة مسلوقة وقطعة جبن وعلبة مربى صغيرة يصاحبها رغيفين لبنانيين ..... رغيفين مهندمين جميلين ، تفوح منهما رائحة التنور ، لا كأرغفتنا السابقة التي ملأت بطوننا بسوادها .

وضعنا الصحن نتغزل بمحتواه ..... بيضة ناصعة البياض نسيت أعيننا إسمها وشكلها ..... أحسب بطوننا ستصاب بصدمة من وجبتها تلك .... ذهول وفرحة لايشبهها إلا فرحة الخروج من الأسر ....بهذا المستوى كان الضيق يحيط بالنفوس .... كان الأخوة إذا أراد أحدهم أن يهدي أحدا ما هدية لايجد أغلى من البيضة يهديها له ... أما باقي الوجبات فلم يطرأ عليها تغيير أبدا لسبب نعرفه ويعرفه سجاننا .... إنهم ينتظرون هيئة حقوقية متوقع حضورها ..... ستأتي صباحا ويجب أن ترى صباحا ما يجمل صورة النظام .

فعلا بعد مدة جاءت هيئة حقوقية من الأجانب يتكلمون العربية ..... صاروا يدخلون كل زنزانة يسئلون نزلاءها عن ظروف معيشتهم منذ اعتقالهم حتى اللحظة الحالية .... وهم يدونون التفاصيل ، ثم يتيحون لأصحاب الزنزانة انتخاب أحدهم لينفردوا به بعيدا عن عيون الشرطة ، يسجلون من فمه أدق التفاصيل ... انتخبنا الشيخ علي بعد أن أعطيناه تفاصيل اعتقالنا وما لا يعرفه .... إنفردوا به ساعة من الزمن ملأ جعبتهم بما يدمي القلوب من ويلات .

حتى تلك اللحظة من انفراج الشدة لم يكن القلم مسموحاً به .... في صباح يوم بعد ذهاب الأخوة للمقابلات والعيادة ، أخبرنا من في الزنزانة المجاورة أن الشرطة وجدوا عند أحد طلبة العلم الذين يقيمون في الزنزانة المقابلة لنا حرزا .... وجدوه مدسوسا في الثوب بخياط طبيعي ولكن لخبث الشرطي ، استطاع تلمسه واكتشافه .

بعد ذلك الخبر من الطبيعي أن يقوم الشرطة بتفتيش في الزنازين المجاورة والمقابلة .... إذن سيصيبنا التفتيش .... إنهم يبحثون عن أداة الجريمة ..... يبحثون عن القلم .... بعد دقائق فقط ولا غير جاء مجموعة من الشرطة يفتشون .... بحثوا لم يجدوا شيئا فانصرفوا ..... كان لدينا قلم .... ولكن أنى لهم وللجن الأزرق بإكتشافه , عود من قلم الرصاص .... أدخلناه في عود تنظيف الأذن وأعدنا عليه القطنه وألقيناه في كيس الأعواد كباقي الأعواد .... ابحث عنه إذن .... كنت واقفا أتطلع من النافذة المفتوحة في الباب ..... لما صعقتني المفاجأة .... مر الشرطي من أمامي وفي يده قطعة كارتون مكتوب عليها ..... أعرفها جيداً لقد كتبناها وأعطيناها لجيراننا ليحفظوا القصيدة .... قصيدة كتبتها كان مطلعها يقول :
حكايتي حكاية مؤرقة
رصاصة ومشنقة
طائرة في بيتنا أطلقت الرصاص
أين لنا من بيتنا المناص
في باطن الأرض هو الخلاص
ما أقبح القصاص
من عزل بالعنف والرصاص
من فوقهم محلقة
رصاصة ومشنقة
.... نعم تلك هي قطعة الكارتون .... عند الظهر استدعى الضابط كل من في الزنزانة المجاورة وأغلظ لهم في القول بشان القصيدة .... كان يبحث عن الكاتب وعن سبب تواجدها لديهم ... كان الشيخ (حمزة) حازماً .... في التبرير عن وجود القصيدة كإفراز للعيش في ضيق السجن .... أعادهم الضابط بعد تهديدهم وتذكيرهم بأنه لو ضبطهم غيره لألقى كل منهم في سجن انفرادي لمدة شهر على الأقل .... البقية تأتي

بحرين السلام
04-16-2011, 04:16 AM
بعد عام أعود (31 )

تفتحت أبواب اليسر بعد العسر علينا .... وجاءت رسل الخير بأنباء تفرج شيئا من عسر المحنة .... فتحوا لنا أبواب التزود باللوازم من (الكانتين ) ..... من متجر لديهم أخذوا كل مجموعة على إنفراد .... لك أن تشتري كل ماتريد بعد إخبارك بالمبلغ المودع في حسابك ..... تزودنا بما نحتاج وعدنا بغير مانحتاج .... هم يأتوننا فيما بعد بالحاجيات بحسب ما طلبناه ..... يفرغونها من العلب الكارتونية كي لا نستخدمها فيما لايليق برغبتهم .

وتنفتح أبواب الزنازين لنا للخروج للفنس كل يوم ساعة, نخرج ساعة ونعود ثم يخرج القسم الثاني من العنبر ..... في الفنس ترى الوجوه التي كنت تسمع أصواتها ولا تراها ..... ويمكنك أيضا تبادل الأحاديث المنفردة .... الشرطة موزعين يراقبون ...... الأخوة أغلبهم يلعب كرة الطائرة ..... والآخرون يرتاضون ويتمشون مع بعض وبعد ساعة نعود إلى الزنزانة .

وتفتحت أبواب الفرح أيضا ، بدأت الإفراجات على قدم وساق لايمر إسبوع إلا ويطلقون سراح ثلة من مجموعتنا.. في الليل يأتون بالأسماء .... يخبرون أصحابها بإطلاق السراح صباحاً ..... ومع بداية العام الجديد سنة 1997 ..... الليالي الأولى من يناير... الليلة الرابعة منه بالضبط أطل علينا الشرطي من نافذة البوابة ..... تلى إسمي وعقب عليه قائلا غداً إفراج ...... إستعد واحزم حاجياتك عند الصباح تنتقل من هنا ...... كان الخبر أسطورة كالعنقاء ، لايمكن تصديقه ولايمكن النفوذ إلى حقيقته ..... حقيقة كالخيال وخيال أقرب للحقيقة ..... حقا في الغد تنفتح أبوابهم الحديدية .

ماذا عن الآخرين ؟ ...... إلى متى نبقى شعبا ندخل المعتقلات ونخرجها ونعيد الكرة مرات ؟ فرحة لاتستقيم شروطها ولاتكتمل مادام هنا من يقبع خلف الجدران السميكة ...... هذه ليلة لايزورها النوم بإنتظار صباحها الموعود ..... ليتهم تركوا الأمر كالزيارة الأولى ......ليتهم تركوه مبهما ..... من الليل حتى الصباح أرق ..... وبعد دهور جاء الصباح متباطئا......عانقت أصحابي الجدد كما عانقنا من قبل الأستاذ عـ... عناق تحفه الدعوات المخلصة بالخلاص , بعد وصولنا القلعة ..... ومن حجرة إلى حجرة ..... انتهى بي المطاف إلى حجرة انفرادية لمدة ساعات ..... عندما قارب الزوال نقلوني في باص إلى مركز المدينة .

هناك وجدت الأهل بإنتظاري .... وفي حجرة الضابط أجروا روتينا من التوقيع والتعهد ..... وخرجت من عندهم برفقة الأهل ... لأول مرة أمشي ورجلا الشرطي لاتصاحبني , عام وسترتهم الخضراء لاتفارقني خارج الزنزانة ..... ركبت السيارة والمرافقون يتحدثون وسمعي في غياب ..... عيناي ترصدان الشوارع بتفاصيلها .... تتابعان كل ما طرأ عليهما من جديد ، وللذاكرة عودة للذين لازالوا في ذلك العنبر ينتظرون يوماً كيومي هذا .... حملتني السيارة لا كما حملتني سياراتهم لمرات ، وهاقد عدت إلى قريتي تلك التي لم يتح لي توديع ضواحيها ليلة الرحيل ..عدت لها بعد عام من فقدانها .

عدت لأملاء أحضاني بأعز مايعشق قلبي ..أحبة جرعهم الفراق هزالا ونحولا وضيعة ..... عدت لتقر عين زوجة وأم وأب وأبناء ومحبين ..... الأطفال تموا مرافقين لي مدة طويلة .... أقرأ في إحساسهم خوفا من افتقادي لمرة أخرى ..... وتبدأ الذاكرة الجريحة في إفراغ ماتحمله من أحداث ..... يخبرني الأهل والأصدقاء بما رأوه ولم تره عيني , حين كنت في غياب , وما عاشوه ولم أعشه معهم .

وينصرم عام أكله المعتقل ، يعتقد السجان أنه أدبني بأحسن تأديب ..... لكنه غاب عن حسابه أن الحرية تولد في القلب وليست هي في الجسد وأن المرارة التي زرعها في حلوقنا لاينتزعها أي تعويض ..... وستبقى الصور عالقة في الذهن وشاهدة على مرحلة التعسف والإستهتار بحياة الإنسان واسترخاصها ..... تلك هي المشاعر التي خلفها سجاننا في نفوسنا .... صورا محفورة في أعماق صدورنا لاتمحوها الأيام الرغيدة الموعودة إن جاءت ..... وذكريات لاينساها الوطن .

سيظل الوطن يسجل فوق حبات ترابه الطاهرة دقائقا مترعة بالإضطهاد والقهر .... وستبوح الأقلام من رحيق فيضها بكل مالاقى المظلومون من ويلات . وسوف تكون هناك في رحم الغيب ألف قصة وقصة تنتظر آذاناً تصيخ لها سمعاً لتتفجر الآلام من ذكرياتها .

ولكن حتى وإن أطلق السجان سراحي وسراح ألف تبقى الحرية العظمى هي يوم يعود ( الأب الرؤوف ) ذو اللحية البيضاء .... اللحية التي حولتها الأيام السوداء إلى بيضاء لا إسوداد فيها .... الشيخ الذي حمل في جانحيه رسالة الأنبياء وأدار وجهه لكل إغراءات المغرين .... وأفاض على أبنائه المحرومين من دفء قلبه العظيم ، بذلك الوجه الذي لاتتخلى البسمة عن ثغره أبدا .

الجمري الذي كان جمراً لا يطأ الظالمون له بساطاً إلا واشتعلت مصائرهم ناراً من البدء إلى الختام ... بغياب ذلك الشيخ الحنون لاتكتمل فرحة في قلوبنا فلا عيد والجمري بعيد ، ولاعيد والجمري في الحديد .

ستبقى الذكريات تزحف جحافلها في أعماقنا لاينطفئ أوارها مهما مرت بها السنون, كل جيل قبل أن يمضي يعطيها للجيل القادم .... وستجلس الأمهات بجنب أسرة أبنائها يحكين لهم قصة قبل المنام مفتتحات قصصهن بقول :
(كان في السجن ياماكان )

النهاية
عبد الشهيد الثور
31/ ديسمبر / 2005 م