مشاهدة النسخة كاملة : بعد 216 عاما من الإصدار بالحجم العادي «التايمز» تتحول نهائيا إلى «تابلويد»
في خطوة سيكون لها انعكاساتها على سوق الصحف البريطانية الجادة اصدرت صحيفة «التايمز» البريطانية امس ولآخر مرة عددها بالحجم العادي بعدما قررت التحول نهائيا الى تابلويد (الحجم الصغير الذي تصدر به الصحف الشعبية) اعتبارا من يوم غد الاثنين في حين انها تحتجب اليوم لتصدر شقيقتها الاسبوعية «صنداي تايمز» (حجم عادي).
وقال رئيس تحرير «التايمز» روبرت تومسون ان هذا لحظة مهمة في تاريخ الصحيفة التي تصدر من 216 عاما، مشيرا الى ان تجربة الاصدار بحجم التابلويد التي طبقتها الصحيفة مع نسختها العادية جعلت الصحيفة اكثر نفوذا. وكانت مبيعات الصحف الجادة البريطانية التي تصدر كلها بالحجم العادي شهدت تراجعا خلال السنوات الخمس الماضية.
ولجأت صحيفة «الاندبندنت» المنافسة في سعيها لزيادة مبيعاتها الى اصدار نسخة تابلويد اضافة الى نسختها بالحجم العادي اعتبارا من سبتمبر (ايلول) 2003 وارتفعت مبيعاتها 20% نتيجة لذلك. وبعدها لجأت «التايمز» التي تصدر منذ عام 1788 في نوفمبر (تشرين الثاني) 2003 الى اصدار نسخة تابلويد من طبعتها اليومية، وتقول ان ذلك ادى الى زيادة مبيعاتها 4.5% الى 600 الف نسخة يوميا.
http://www.asharqalawsat.com/2004/11/05/images/hassad.263995.jpg
بروفايل - التايمز
الطبقية في شارع الصحافة .. جريدة تغير زيها.. هل تغير هويتها؟
عدد السبت الماضي رقم (68220) من صحيفة "التايمز» العريقة، وربما الأشهر لدى قراء الشرق الأوسط والعالم، وإن كانت لم تعد الأفضل حرفيا، يعتبر من المقتنيات التاريخية، لأنه العدد الأخير من القطع الكبير، أو Broadsheet، بعد قرار التحرير والمبيعات، وصاحب الجريدة روبرت مردوخ، إنهاء تقليد منذ عام 1785 بإصدار جميع النسخ بالحجم الصغير Tabliod، وذلك بعد تجربة استمرت عاما كاملا بطبع مائة ألف نسخة إضافية تضاعف عددها عدة مرات وتباع في منطقة لندن الكبرى والمدن الكبيرة. وزادت المبيعات بنسب متزايدة بعدما صدرت فى هذا الحجم الصغير لسهولة تناول القارئ للتابلويد، خاصة في المواصلات المزدحمة، فقرر مردوخ الاستغناء عن القطع الكبير لإنقاص تكلفة الطبع والتوزيع.
التحول يعتبر ثورة، لأنها المرة الأولى منذ أربعة عقود، عندما تحولت «الديلي اكسبريس» من القطع الكبير للتابلويد، وتبعتها في ذلك فورا «الديلي ميل» المنافسة، وشقيقتها المسائية اللندنية «الإيفننج ستاندارد».
المشكلة التى تواجه أي رئيس تحرير قبل اتخاذ هذا القرار هي العلاقة الثقافية الذهنية بين المحرر والقارئ، فصحافة الحجم الكبير Broadsheet مثل «الفينانشيال تايمز» و«السكوتسمان» و«الديلي تلغراف» و«الغارديان»، ارتبطت في ذهن القارئ بالجدية والموضوعية، وتسمى بالصحف الرصينة، في حين ارتبطت التابلويد في الأذهان بخفة الوزن والسخف والفضائح وتقليدPage Three ، أو الصفحة الثالثة، التي ابتكرها مردوخ في صحيفة «الصن» لحسناء فارهة القوام شبه عارية وأحيانا حتى من ورقة التوت.
ولعل تسمية الصحافة الشعبية بالتابلويد فيها استخفاف بقرائها وشطبهم من «الجزء الذكي» من دماغ بريطانيا، فالمجتمع البريطاني طبقي من الناحية التأسيسة، الفوارق ليست الأقتصادية فقط، وإنما تتعلق بالعائلة والوظيفة الاجتماعية والتعليم وطريقة الحديث، كما استغلها جورج برنارد شو في مسرحيته بيغماليون التي حولتها هوليوود إلى فيلم «سيدتي الجميلة»، لاظهار كيف أن طريقة الحديث تضع الكائن أتوماتيكيا فى حيز اجتماعى، فبعد تحول طريقة كلام بائعة الورد اليزا دوليتيل من بنت شوارع إلى بنت ذوات بمجرد تغيير طريقة النطق والأتيكيت أصبحت تقرأ «التايمز»، بينا يقرأ ابوها الزبال وزملاؤها القدامى الباعة في سوق الخضار المقابل الفيكتوري للتابلويد.
هذا التراكم الثقافي والاجتماعي يأخذه رئيس التحرير بعين الاعتبار قبل القرار الخطير من التحول من الطبعة «الرصينة» للطبعة التابلويد، رغم تجربة أكثر من 35 عاما من صدور الاكسبريس والديلي ميل في شكل تابلويد، وان كانت تسمى Middle Market أي سوق قراء الطبقة الوسطى التي تقع بين «مجتمع البهوات والمحامين والدكاترة» وبين الطبقة العاملة. أي قراء سوق الوسط من البيروقراط والمعلمين والممرضات، المقابل «للأفندية» في الدواوين الحكومية في مصر.
ولذا تسمى صحف الصفوة ايضا بالـ Black Masthead أي ان «الترويسة» او عنوان الصحيفة مثل «الديلي ميل» يكتب بالبنط الأسود في حين ان الصحافة الأقل جدية والتي تعتمد الفضائح واخبار النجوم والصور العارية هي Red Masts او «الترويسة الحمراء» حيث يطبع عنوان «الصن» او «الميريور» او «الديلي ستار» بالحبر الأحمر لما فيها من اثارة.
«التايمز» لم تجرؤ على خوض التجربة الا بعد ان بدأتها «الاندبندنت» قبل اشهر، فقد اصدرت الأخيرة طبعة تابلويد للندن، في وقت تدهورت فيه مبيعات الصحيفة التي كانت بين عام صدورها 1986 وعام 1992 قد سبقت «الغارديان» زاحمت «التايمز» بتوزيع 450 الف نسخة يوميا. واصبحت تنافس «التلغراف» و«الفايننشيال تايمز» في تبوء المركز الأول في تغطية السياسة الخارجية، والأولى بلا منازع مابين عامي 1987 و 1994 في تغطية الشرق الأوسط وافريقيا. لكن مغامرة التوسع الأفقي خربت اقتصادات الصحيفة.
اقدمت «الأندبندنت» على المغامرة في وقت انهارت فيه التوزيع الى اقل من 280 الف والمطلوب الحدي للتوزيع (أي تغطية تكاليف الانتاج) كان 325 الف نسخة. ازداد التوزيع بفضل التابلويد بمقدار 12% ولأن التكلفة اقل (والتوزيع داخل لندن للطبعة ألأخيرة اقل تكلفة) فالنسبة كانت ربحا اقتصاديا. لكن بالمقابل طلب عدد من المعلنين اعادة التفاوض على سعر الإعلان. فالإعلان الممتاز ( ربع صفحة في الركن اليمين للصفحة الثالثة) في صحيفة رصينة Broadsheet يختلف تأثيره البصري على القارئ عن اعلان في نفس المكان في صفحة تابلويد، حيث يختصر حجمه الى الربع.
وبعد ذلك خسرت «الاندبندنت» من دخل الاعلان ما ربحته من زيادة توزيع التابلويد، ولذا لم تجرؤ الصحيفة على التعميم. لكن مردوخ له جيب عميق وامبراطوريته الاعلامية الممتدة من استراليا حتى شمال اميركا، تستطع لى ذراع المعلن وايضا تعوض خسائر صحيفة بارباح قسم آخر، مثلا خفض مردوخ السعر من 40 بنسا عام 1994 الى 20 بنسا، واضطر كونراد بلاك هو الآخر لتخفيض سعر «الديلي تلغراف» الى الثمن نفسه فانخفضت مبيعات الاندبندنت وباعها الصحافيون المستقلون لمجموعة «الميرور» ثم اشتراها المليونير الأيرلندي توني اورايلي، بينما تمكن المليونيران مردوخ وبلاك من تحمل الخسائر لسنوات.
التحول تابلويد قد تكون له اسبابه الاقتصادية، لكن التجربة تحتاج سنوات لتقييمها من ناحية احترام القارئ خاصة الوقور المثقف الذي «قد يصاب بسكتة قلب» مثلما يقول الصحافي المخضرم ستيفين جلوفر، معلق الإعلام في "الديلي تلغراف» . ويشكو جلوفر من ان التصميم فقير فنيا وصحافيا، في الصحيفة العريقة والتي اصبحت مهوسة باخبار المشاهير ووجهاء المجتمع وحسناواته، وتفتقر الى الجدية وعمق التحقيق الصحافي. لكن معلقين مثل جلوفر ينتمون لجيل المثقفين الانتقائيين المنغلقين الذين يرفضون التنازل الذهني في بعض صفحات الجريدة لتوسيع رقعة القراء وتلبية احتياجات الأقل حظا اجتماعيا;
وعندما كان رئيس التحرير الأول للاندبندنت الأسبوعية Independent on Sunday عند صدورها في مارس (اذار) 1990، وكانت بداية المنزلق الاقتصادي الذي خرب مؤسسة «الاندبندنت» باصراره مثلا على الازدواجية بتعيين طقم كامل من الصحافيين والمراسلين والخبراء والديسكات يعملون لإصدار صحيفة اسبوعية بأجور تقابل العاملين ستة ايام في الصحيفة اليومية، وهو تقليد انتهى من فليت ستريت لأكثر من عقد ونصف العقد.
جلوفر مثلا يبذل الجهود منذ شهور لجمع 38 مليون دولار لإصدار صحيفة جادة بريطانية بعنوان The World على نمط «اللوموند» الفرنسية، ولأن السوق يزدحم بـ 11 يومية جادة منافسة، فإن جلوفر يخطط ان يجعلها تابلويد، وهو امر يستحق المتابعة والاهتمام . ويعتقد جلوفر ان صيغة تابلويد تمكنه من اصدار يومية جادة بعمالة من 100 فقط ( العمالة الأدني للصحيفة اليومية البريطانية عادة مابين 300 ـ 500 شخص) وتمكنه من معادلة التوزيع بمبيعات تغطي التكاليف بـ 100 الف نسخة فقط، وهو امر لم يحدث من قبل في التاريخ الحديث للصحافة البريطانية على المستوى القومي . ولذا فإن تجربة «التايمز» لا تزال في انتظار التقييم حسب التعبير The Jury Still Out والنصيحة الانتظار حتى يصدر جلوفر «ذي ورلد» وتتبعها صحف اخرى في سوق التابلويد كـ«الغارديان»، اما «التلغراف» صحيفة المحافظين فمن المستبعد صدورها في شكل تابلويد، لان ذلك يعني غروب الشمس للأبد على الامبراطورية التي تعتقد «التلغراف» انها لا تزال مشرقة.
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir