المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لهذه الأسباب أرجح فوز بوش



مجاهدون
10-30-2004, 08:24 AM
هاشم صالح

العالم كله يحبس أنفاسه بانتظار النتيجة التي ستتمخض عنها الانتخابات الأميركية. أبداً لم تكن هذه الانتخابات مُنتظرة يوماً ما بمثل هذا التلهف ونفاد الصبر. فالقوة الأعظم في العالم أصبح قرارها يؤثر مباشرة على بقية الشعوب والأمم وليس فقط على أميركا والولايات المتحدة على مفترق طرق:

فإما ان تواصل السير على طريق بوش والعظمة الجبروتية والاستفراد بالقرار لكي ترهب الارهابيين، واما ان تخفف من غلوائها وتعطي قيادتها لكيري والديمقراطيين وتصبح أكثر ليونة ومرونة مع شركائها الأوروبيين، ولكن اذا كانت حملتها الانتخابية طويلة ومليئة بالخضات والمفاجآت فإنها تدل على شيء واحد: هو ان الديمقراطية الأميركية ليست كلمة مجانية وانما هي حقيقة واقعة تشرف الشعب الأميركي. فقد أثبت انه يتمتع بنظام حر يسمح بالتعبير عن الرأي والرأي المضاد بمثل هذه القوة والحيوية.

وأعتقد شخصياً انه سواء نجح بوش أم فشل فإنه سجل اسمه وترك بصماته على صفحة التاريخ. ولن يخرج منه كرئيس عادي لسبب بسيط: هو ان رئاسته تصادفت مع حدث تاريخي كبير (11 سبتمبر). فالأحداث التاريخية هي التي تصنع الرجال. ولولا الحرب العالمية الثانية وهزيمة فرنسا لما كان ديغول. ولولا ضربة السويس لما كان عبد الناصر، وقس على ذلك..
قبل هذا الحدث كان بوش رئيساً عادياً أو حتى أقل من عادي. كان باهت الشخصية يحمل اسم والده وعائلته. كان رئيساً بلا لون ولا طعم ولا رائحة.

بل ولم يكن هو الذي يحكم أميركا فعلاً، وانما نائبه ديك تشيني ومساعدوه. وفجأة يتحول إلى شخص آخر ويصبح رئيساً بالفعل. فقد هزه الحدث وصهره صهراً. لقد فجر التحدي طاقاته وارتفع به الى ما هو أكبر من نفسه.
وعندئذ اصبح قائداً حقيقياً وتبلورت شخصيته واتخذت كل أبعادها. ولهذا السبب فإن الأميركيين لن يتخلوا عنه بمثل هذه السهولة. فقد أعاد اليهم كرامتهم الجريحة بعد ان أصيبت في الصميم. وكانوا بحاجة الى انتقام فعرف كيف ينتقم لهم عن طريق حملة افغانستان الموفقة والظافرة. أقول ذلك وأنا انظر الى الأمور من وجهة نظر الأميركيين بالطبع. فهم الذين سينتخبون رئيسهم وليس أنا أو غيري..

والسؤال المطروح هو التالي: هل لو ان بيل كلينتون كان على رأس أميركا وقت حصول الضربة سيتصرف بمثل هذه الطريقة الحازمة ويرد على التحدي بالصاع صاعين؟ الكثيرون يشكون في ذلك. فالرجل، على ميزاته، كان مائعاً من الناحية العسكرية، والدليل على ذلك هو ان بن لادن عندما فجر سفارتي أميركا بافريقيا عام 1998 اكتفى بارسال بعض الصواريخ الضائعة الى قفار افغانستان.. وهذا ما شجع الأصوليين على مواصلة تحدي أميركا باعتبار أنها نمر من ورق. وقد يقول البعض: ولكن جون كيري رجل. وهو يهاجم الارهاب في خطاباته بعنف أشد من بوش. ولا يبدو انه ضعيف الشخصية على الاطلاق. وهذا صحيح. ولكن المشكلة هي ان الحزب الديمقراطي في أغلبيته يؤمن بقيم اخرى غير قيم بوش والجمهوريين الصقور.

فهو حزب ليبرالي يميل الى التسويات الديبلوماسية أكثر مما يميل الى المواجهات العسكرية. وانتصاره يعني ان الشعب الأميركي وجه رسالة استسلام الى الأعداء أو إشارة ضعف على الأقل. وهذا شيء مستبعد في الظروف الراهنة ما دامت ضربة (11) سبتمبر لم تُهضم أو لم تُستوعب بعد. فآثار العدوان لا تزال بادية، والنفسية الأميركية مجروحة في أعماقها. وهذا شيء لا يفهمه الاوروبيون ولا يقدرونه حق قدره فما بالك بنا نحن العرب أو المسلمين؟! أميركا لن تسكت عن الضيم حتى تنتقم وتشبع انتقاماً ممن تجرأوا على إهانتها في عقر دارها صبيحة أحد الأيام.. هذا شيء ينبغي ان يعرفه القاصي والداني.

صحيح ان الحزب الديمقراطي كان قوياً أيام روزفيلت وكندي ولكنه أصبح ضعيفاً ومسالماً بدءاً من أيام جيمي كارتر الذي بدا استسلامياً امام الثورة الخمينية. وكانت النتيجة ان انتخب الأميركان رجلاً قوياً في شخص ريغان..

وهناك نقطة ثانية تلعب لصالح بوش بحسب ما يرى الخبراء في الشؤون الأميركية هي ان الذي يحسم نتيجة الانتخابات ليس بوسطن ولا سان فرانسيسكو ولا حتى نيويورك وانما الأرياف البعيدة والمدن الصغيرة والضواحي. بمعنى آخر: فإن أميركا العميقة أو أميركا الشعبية هي التي تنتخب الرئيس لأن أغلبية السكان تكمن هناك. وأميركا هذه، أميركا الشعب البسيط، لا تزال ترى في بوش قائداً حربياً شجاعاً ومصمماً على مواجهة العدو الأصولي الذي يريد بأميركا والعالم الحر شراً.

وهو عدو مصمم وذو إرادة وغزير العدد (مائتا مليون شخص على الأقل). والمعركة معه لم تنته بعد، بل انها لا تزال في بداياتها. فهل يمكن تغيير القائد في وسط المعركة؟ هل يمكن للشعب الأميركي ان يصرف بوش لأنه نجح في التصدي للعدو الخارجي؟ شيء مشكوك فيه إلا اذا اقتنع بأن كيري سوف يكون أكثر شراسة وفعالية في الضرب.

وبالتالي فما دامت السياسة الخارجية هي التي ستحسم نتيجة الانتخابات وليس السياسة الداخلية فإن حظوظ بوش تظل أكبر. ما دام شبح الارهاب والخوف يسيطر على أميركا فإنها لن تنتخب الا شخصاً قوياً يردع الارهابيين ويخيفهم. وهذا شيء مؤسف في الواقع. شيء مؤسف ان تسيطر هموم السياسة الخارجية على هموم السياسة الداخلية. فجون كيري والديمقراطيون افضل من بوش بالنسبة للطبقات الوسطى والشعب الفقير. وحلولهم الاقتصادية أكثر عدلاً وانسانية.

ففي اميركا يعيش أربعون مليون نسمة تحت مستوى خط الفقر. وهناك ملايين عديدة ممن لا يتمتعون بأي ضمان اجتماعي أو صحي. وعلى عكس اوروبا فإن الفقير إذا ما مرض مرضاً خطيراً لا يستطيع ان يتداوى. في أوروبا حتى الشحاذ يحق له ان يدخل الى المستشفى ويتلقى العلاج الكامل. وذلك لان النزعة الإنسانية تمنع التخلي عن المريض في لحظة حرجة. بهذا المعنى فإن المجتمع الأوروبي أكثر حضارة وأقل انانية وفردية من المجتمع الأميركي. وجون كيري (أو قل حزبه) أفضل من بوش فيما يخص الالتزام بالاتفاقيات الدولية كاتفاقية كيوتو الهادفة الى حماية البيئة والطبيعة والتخفيف من تلوث الأجواء الكونية. ولكن فيما يخص فلسطين والعرب بشكل عام فإنه اسوأ منه من دون شك.

واما فيما يخص الأوروبيين فالشعوب تصوت في أغلبيتها الساحقة لجون كيري وتتمنى التخلص من بوش. ولكن ليست هذه هي حال جميع الحكومات. فالقادة العالميون الذين يصوتون لبوش علناً أو سراً ليسوا قليلين. نضرب مثلاً على ذلك الايطالي بيرلسكوني، والروسي فلاديمير بوتين، والياباني كويزومي، ورئيس وزراء استراليا هاورد، بل وحتى الصين تفضل التعامل مع «شيطان» تعرفه على شيطان لا تعرفه.. وحده طوني بلير يخفي نواياه بشكل يدعو للدهشة والاستغراب.

ويبدو أنه يتمنى في قرارة نفسه انتخاب كيري لأن ذلك يتيح له ان يلعب دوراً استراتيجياً في السياسة العالمية بصفته جسراً يصل بين اوروبا وأميركا.. أما جاك شيراك فهو ضد بوش حتماً، لكنه لا يصرح بذلك علناً لأنه يعتقد في قرارة نفسه بأن بوش سوف يربح المعركة. وعلى أية حال فسواء انتصر بوش أم كيري فإن الخلاف الأوروبي ـ الأميركي على الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، أو العراق، أو ايران، أو الصين سوف يظل قائماً ولن يتغير شيء يذكر. وهنا تكمن المصيبة العمياء.

يبقى الحدث الأهم هذا الأسبوع هو تصويت الكنيست الاسرائيلي على الانسحاب من غزة. وهو قرار تاريخي لا ينبغي التقليل من أهميته. ففي السابق كان اليمين الديني أو القومي المتطرف يقول ان غزة هي جزء من اسرائيل الكبرى. والآن ينسحب منها بقرار من زعيمه العتيد شارون. وهذا يعني ان السياسة قد تنتصر على اللاهوت الديني في بعض الأحيان. وكنا نعتقد ان ذلك مستحيل. كنا نعتقد ان انتهاك الفتوى اللاهوتية أمر فوق طاقة البشر.. والواقع ان السياسة الاسرائيلية تستخدم اللاهوت التوراتي على هواها وتفصله على مقاسها بحسب الحالة والحاجة. وحتى أمد قريب كان شارون يصرح بأن قطاع غزة عزيز على قلبه مثل تل أبيب! ولكنه الآن ينسحب منه ويفكك مستعمراته. وهذا قرار ايجابي ولا ينبغي الاستهانة به.

وقد يشكل سابقة للانسحاب من مناطق اخرى. فمنذ عام 1982 والسلام مع مصر، لم تنسحب اسرائيل من أي مستعمرة. ولكن البعض الآخر يرى العكس ويقول ان شارون انسحب من غزة لكي يحتفظ بالضفة الغربية ويقضي على عملية السلام برمتها ويمنع قيام الدولة الفلسطينية. وبالتالي فهناك نظرة متفائلة ونظرة متشائمة لهذا الانسحاب. فإذا كان هذا الانسحاب سيمكن شارون من التفرغ لالتهام أكبر مساحة ممكنة من أراضي الضفة الغربية وتقطيع أوصال ما تبقى واحتلال ذرى الهضاب الفلسطينية، والسيطرة على الطرق، وعزل الفلسطينيين عن أي تماس مع العالم العربي، فإنه لن يكون ايجابياً. نقول ذلك على الرغم من ان أي انسحاب هو شيء ايجابي بحد ذاته. هكذا نلاحظ ان الوضع تناقضي والصورة مشوشة.

ولن ينجلي الضباب قبل انتخاب الرئيس الأميركي الجديد ومعرفة توجهاته وهل سيتعاون مع أوروبا على حسم مشكلة الشرق الأوسط اخيراً أم لا؟ هذا هو السؤال الأساسي. والباقي تفاصيل...