أمير الدهاء
04-04-2011, 01:06 PM
السبت, 02/04/2011
من هو القادم؟
سؤال جرى تداوله في الإعلام الدولي فور سقوط فرعون مصر وتموّج السؤال وسط الشعوب العربية، التي رقابت ما يجري في مصر بعد تونس، ثم الثورات في ليبيا واليمن والبحرين، وقد التقطت مجلة (ذي ايكونوميست) البريطانية السؤال لتستعمله في مقالة لها في استشراف مستقبل الأنظمة العربية. فلم تكد تنهي تونس منجزها الثوري، حتى برزت أسماء دول أخرى مرشّحة لهبّات شعبية، وكان في مقدمها مصر واليمن والسعودية، التي تخضع لموجة انتقادات واسعة في الشارع العربي بعد أن تحوّلت إلى مأوى للطغاة.
السعودية بحسب تصنيف الديمقراطية للعام 2010 والذي أجرته (ايكونوميست انتجلنس يونيت) جاءت في مرتبة 160 من أصل 167 بلداً مصنّفاً في العالم، أي أنها تأتي في مرتبة بعد كل من جيبوتي وليبيا، التي تشهد ثورة شعبية وقد دخلت المرحلة الأخيرة من تحقيق النصر الثوري لصالح الشعب.
بحسب تقديرات الجامعة العربية لعام 2010 فإن عدد السكان في السعودية يصل الى 27.1 مليون نسمة، وأن نسبة السكّان الذين تقّل أعمارهم عن 25 سنة تصل إلى 50.8 % وأن دخل الفرد يصل الى 22.9 دولار، وهو الأقل على مستوى دول مجلس التعاون في الخليج الفارسي، حيث يصل دخل الفرد في الكويت الى 40.6 دولاراً، وفي البحرين الى 24.0 دولاراً، وفي قطر الى 66.9 دولاراً، وفي الإمارات الى 27.2 دولاراً، وفي عمان الى 23.3 دولاراً (أنظر: الثورة في مصر: هل نهاية أم بداية؟، مجلة الإكونوميست بتاريخ 3 شباط (فبراير) 2011).
وفي تصنيف للأداء الفقير للدول الأعضاء في الجامعة العربية، من المفاجىء أن السعودية احتلّت المرتبة الأخيرة (160) من بين الدول العربية في مستوى الديمقراطية، أي أنها الأسوأ على الإطلاق عربياً، ولا تبتعد كثيراً عن الأسوأ عالمياً (178 دولة مصنّفة)، وأن حرية الصحافة في السعودية هي أيضاً بدرجة عالية من السوء حيث حصلت على درجة (178)، أي ما قبل تونس (قبل الثورة) وليبيا والأراضي الفلسطينية.
صحيفة وول ستريت جورنال نشرت مقالاً في 4 شباط (فبراير) لكل من أدام إنتوس وجوليان بارنيز وجاي سولومون بعنوان (الضغط الأميركي على مبارك يحدث شرخاً مع الحلفاء العرب)، ونجد من المناسب الإضاءة عليه لما يتضمّن حقائق جديرة بالتأمل:
محاولة الرئيس باراك أوباما لإزاحة وبصورة عاجلة الرئيس المصري حسني مبارك لصالح حكومة انتقالية أحدثت شرخاً مع حلفاء عرب رئيسيين، أي السعودية والإمارات العربية المتّحدة، واللتين تخشيان بأن تفتح الولايات المتحدة الباب للجماعات الإسلامية لكسب نفوذ وزعزعة استقرار المنطقة.
وفي مواجهة تأثير تداعيات الحوادث في مصر، بعثت كل من السعودية والإمارات العربية المتحدة رسائل عامة وخاصة للتضامن مع مبارك ونائبه، رئيس الاستخبارات لفترة طويلة عمر سليمان، بحسب ما يقول دبلوماسيون. الرسائل استهدفت دعم الرئيس وسليمان لإدارة الإنتقال وضمان أن الإسلاميين لا يمكن أن يملؤوا فراغ السلطة المحتمل.
دعم دول عربية أمدّ مبارك بجرعة ارتياح، حيث أعلن بأنه لن يشارك في إنتخابات سبتمبر. قد يفسّر ذلك جزئياً لماذا صدّ الرئيس المصري دعوة السيد أوباما لانتقال فوري للسلطة بحيث تشمل المعارضة.
يكشف جلد الظهر كيف أن المأزق في مصر يعيد تشكيل، وعلى نحو عاجل، السياسة الأميركية في المنطقة. في تصنيف نفسها ضد مبارك، الحليف الأميركي لعقود، فإن الولايات المتحدة تواجه الآن الدولة المضطربة من بين الحكومات العربية الصديقة الأخرى، والذي قدّم دعماً لفترة طويلة لأهداف السياسة الأميركية.
وفي ضوء مثل هذا السيناريو، حذّر المدافعون عن الحال القائم في الشرق الأوسط بأن ذلك ممكنٌ، ويكشف كيف أن خيارات السيد أوباما كانت، بمعنى ما، غير مريحة. فقد واجه الرئيس انتقادات في مرحلة مبكرة من الانتفاضة لعدم وقوفه بصورة واضحة الى جانب معارضي الحكومة. الآن، وقد فعل ذلك، ربما قد يكون أربك شركاء إقليميين أساسيين للولايات المتحدة. الناس المطّلعون على الوضع قالوا بأن اسرائيل، الحليف الأقرب للولايات المتحدة، قد ردّدت بصورة خاصة أصداء مصادر قلق العرب حول اندفاع الولايات المتحدة لإزاحة مبارك، والتي تشعر بقلق من تقليل واشنطن من شأن الدعم المصري المحلي للإخوان المسلمين والأحزاب الاسلامية.
ومن غير الواضح كم هو التأثير لدى السعوديين على نظام مبارك في القاهرة، بالنظر الى أن حجم دعمها المالي لمصر غير معروف. تقدّم الولايات المتحدة للقاهرة حوالي 2 مليار دولار سنوياً. مصر والسعودية هما شريكان تجاريان رئيسيان، ويقول الخبراء بأن لدى الأجهزة الاستخباراتية السعودية والمصرية روابط وثيقة.
الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز آل سعود انتقد بقسوة المتظاهرين المصريين في بيان بثّته وكالة الأنباء السعودية الرسمية، ووصفهم بأنهم (مندسّون) بهدف زعزعة الإستقرار في مصر والمنطقة، واتّهمهم بإثارة (فتنة خبيثة).
يقول ريتشارد فونتين، وهو محلل يعمل في مركز الأمن الأميركي الجديد ومستشار سابق للسيناتور الجمهوري جون ماكين، النائب عن أريزونا، (لست بحاجة لقراءة ما بين السطور كيما ترى (السعوديين) بأنهم يفضّلون الإستقرار).
مسؤولون رسميون من الإمارات العربية المتّحدة، وهي حليف إقليمي رئيسي آخر ـ للولايات المتحدة ـ قالوا في الأيام الأولى بأن إطاحة حكومة مبارك يهدّد بتقديم جرعة تنفّس للمتطرّفين الإسلاميين وطهران. قوات الأمن المصرية كانت من بين الأشد عدوانية في العمل على مواجهة حماس وحزب الله .
(ما يؤلم الرجال والنساء وكذلك القيادة في مصر يؤلمنا جميعاً، وأن موقفنا مع مصر هو حاجة ملحّة)، كما قال وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، في زيارته الى العراق.. (ولكن اعتراضنا على عدد من الأطراف التي قد تحاول إستثمار الوضع لصالح أجندة خارجية).
قال مسؤولون أميركيون بأن قرار السيد أوباما بالإبتعاد عن السيد مبارك قد أثار غضباً في دول عربية، والتي يخشى أن تمارس الولايات المتحدة الضغط عليهم في وقت لاحق.
إن القراءة السائدة لدى حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين في المنطقة هي أن الولايات المتحدة (قذفت بمبارك تحت الحافلة)، كما يقول مسؤول أميركي رفيع، ويضيف (ومن الإنصاف القول بأن هناك بالتأكيد قلقاً).
وقال مسؤول أميركي آخر بأن إدارة أوباما تفهّمت قلق العرب بأن الإسلاميين قد يسعون للإستفادة من الانتخابات المصرية لكسب السلطة، ولكنه قال بأن الدول العربية رغم حاجتها لترميم أنظمتها السياسية البالية، يقوم مسؤولون بإعادة تقييم الى أي حد يمكنها الانخراط في حوار مع الاخوان المسلمين. قال المتحدّث بإسم البيت الأبيض تومي فيتور بأن ما يثير الإهتمام حقاً هو (أصوات الشعب المصري).
وفي إطار إستدعاء المشهد المعد قبل الثورة العربية، نستعيد هنا ما ورد في مقالة مجلة (ذي إيكونوميست) البريطانية المنشور في 2 كانون الأول (ديسمبر) 2010، بعنوان (ديمقراطية العرب..بضاعة مازالت في هيئة عرض ناقص). وجاء في المقال بأن الخريف كان موسماً ناشطاً بالنسبة للديمقراطية العربية ـ أو على الأقل النظير لها. البحرين، مصر، الأردن قد أجرت جميعاً إنتخابات عامة صاخبة، وانتخب السياسيون العراقيون في آذار (مارس) (2010) في نهاية المطاف، الأمر الذي يقترب من نهاية المساومة على كيفية تقسيم الحصص. ولكن ليس من بين هذه التجارب ما يبدو أنها تؤسس لتغيير ديمقراطي عميق.
حتى بإضافة الإنتخابات التي جرت في السنوات القليلة الماضية في أماكن منقسمة مثل الجزائر، والكويت، ولبنان، والمغرب، وتونس، واليمن، بأن ممارسة الديمقراطية عبر العالم العربي تظهر بأنها تنتج في الغالب النتيجة نفسها: تخليد حكم الرجال الأقوياء النافذين، وتوصيم، وأحياناً (ردكلة = تشجيع نزعة التطرّف) للقوى المعارضة لهم، وتقليل شأن كلمة ديمقراطية، الى النقطة التي يكون هناك غالباً إختلاف ملحوظ وقليل بين البلدان العربية التي تزعم بأنها تمارسها، وبين تلك، مثل السعودية، التي لا تقوم حتى بالتظاهر بممارسة الديمقراطية.
عقدان على نهاية الحرب الباردة حفّزت موجة عالمية من الدمقرطة، وبعد قرابة عقد من محاولة جورج بوش لتحريك موجة مأمولة لديه، يبقى العرب كما يبدو محصّنين، على غير العادة، إزاء انتشار الديمقراطية. فمن بين 22 بلداً في الجامعة العربية (وعدد منها للإنصاف هم في الحقيقة غير عرب)، هناك ثلاث بلدان فقط يمكن لها أن تزعم بأنها ديمقراطيات حقيقية، وحتى هذه البلدان فيها عيوب كبيرة.
العراق، بالرغم من استمرار سفك الدماء، يبدو أنه قد انزاح من حكم الحزب الواحد، ولكنه يفتقر الى اجماع عابر للمذاهب ومؤسسات محتشمة. لبنان يقوم بتعزيز مجتمع تعددي ومنفتح، رغم كونه متشققاً وخاضعاً للاستقطاب بين وداخل الطوائف ومشدود للميول الإقطاعية لدى العوائل القويّة. وقد انتخب الفلسطينيون بحرية مجلساً تشريعياً في العام 2006، ولكن الحزب الفائز تمّ منعه من مزاولة السلطة في المناطق المقسّمة. الآن، لدى كل بلد عربي شكل من السلطة التشريعية التمثيلية، وإن كان أغلبها لديه صلاحية ضئيلة وأن بعضها، مثل السعودية، يتم تعيّينه من قبل الملك.
ويسمح بعض هذه الحكومات الشمولية المزيد من التعددية أكثر من الأخرى. المغرب، على سبيل المثال، قد وسّعت من مساحة النقاش. آخرون، مثل الكويت، تسمح ببرلمان منتخب بصورة مباشرة، ولكن العائلة الحاكمة، التي لا تزال تمسك بزمام الأمر، كانت غالباً ما تتجاوز السلطة التشريعية التي تتبعها. العديد من المشيخات الخليجية الصغيرة تسعى تدريجياً لمنح شعوبها المزيد لإبداء الرأي. ولكن حين يأخذ الحراك الديمقراطي دفعة قوية، فإن الملكيات الحاكمة ملزمة بالتصدي للديمقراطية، للخوف بأنها قد تكون تسقط في يوم ما في حال كان للشعب خيار حقيقي.
وسواء كانت ملكيات أو جمهوريات، فإن الدولة العربية تميل الى التصرّف بطريقة مماثلة. وبحسب لاري دايموند، البروفسور في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا والخبير في موضوع الدمقرطة، بأن الجامعة العربية أصبحت، في جوهرها، نادي المستبدّين. وحتى في الأحوال التي تمّ فيها فرض الاصلاحات الديمقراطية، فإن سبيلهم يبدو أكثر دائرياً منه خطيّاً. قد يسمح لكثير من المعارضين، وقد تطبّق ممارسات مثل الإنتخابات، ولكن هي عادة لتزيين النافذة، والتنفيس، وذلك فقط في وقت يشعر فيه الحكّام المستبدّون بأنهم مهدّدون.
كثير من البلدان العربية هي كيانات مصطنعة أنشئت من قبل الإمبرياليات الأوروبية، وركّزت بالضرورة طاقاتها على بناء الدولة بدلاً من تشجيع المواطنين على المشاركة. يشير آخرون الى العامل الجيوبوليتيكي، ويشدّدون على ـ من بين أشياء أخرى ـ أن الحكّام العرب يستعملون صراعهم الدائم مع اسرائيل لتبرير القمع في الداخل. ولايزال يتمسّك آخرون بالرأي القائل بأن القوى الغربية، وبصورة رئيسية أميركا، قد ساندت الديكتاتوريات العربية لتأمين تدفّق النفط.
كل هذه المناقشات تحظى بجدارة ما ولكن بحاجة الى تحديد وزنها. وكما أظهر العديد من استطلاعات الرأي، فإن العرب كما يبدو متحمّسون لفكرة الديمقراطية. ولكن ما يفهم من الديمقراطية، في منطقة ليس فيها سوى أمثلة ضئيلة، يبقى مفتوحاً على السؤال.
كثير من العرب من ذوي الميول الليبرالية، على سبيل المثال، يفضّل الحكم التسلّطي على النوعية المجهولة للدولة الاسلامية الديمقراطية الافتراضية، وهو شيء يعتقد السيد دايموند في مقالة له مؤخراً، بأن 40 ـ 50% من الناس في أربع بلدان عربية يرغبون في ذلك. ولحظ بأن المنطقة الأخرى التي جاءت في مرحلة متأخرة الى الديمقراطية، أي أميركا اللاتينية، كانت ملجومة بالخوف بين النخبة من الأيديولوجيات الثورية اليسارية. في المقابل، فإن شادي حميد من معهد بروكنز، ومقره في واشنطن يقول بأن الاخوان المسلمين، والتي سحقت في الانتخابات المزيّفة في مصر، أخفقت في أن تكون أداة تغيير.
إن التأثير الشرير للنفط، الى جانب عوامل أخرى مثل المساعدات الأجنبية، من السهل قياسه. وحتى الدول النفطية غير العربية، مثل أنغولا، وروسيا، وفنزويلا تبدو عرضة لحكم الرجل القوي. وهذا ليس لأن الدخل يحرر الدول من المساومة مع مواطنينها فحسب، ولكن أيضاً لأن أي نقل للسلطة يعني بأن الحكّام سيفقدون مباشرة المكافأة بأكملها، ما يجعلهم جميعاً الأحرص على الاحتفاظ بها. تصبح السياسة لعبة صفرية.
ولكن ربما العامل الأكبر هو أن مهارة المستبدّين العرب في الاحتفاظ بمقاعدهم قد تعزّزت الآن بواسطة العادة. فقد تعوّد معظم الناس على حكم تسلّطي كحقيقة من حقائق الحياة. وبحسبما كان يندب فلاّح في منطقة الفيوم المصرية، محتجّاً على الكثير من المرشّحين الذين يتنافسون على أماكن في بطاقة تأييد الحكومة (الأمور كانت أسهل بكثير قبل جيل، حين كان علينا جميعاً التصويت لنفس الرجل).
لابد أن ما جرى في تونس في نهاية كانون الأول (ديسمبر) الماضي وأدى الى الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي، ثم انتقل الى مصر في 25 كانون الثاني (يناير) الماضي سيجعل الفريق الذي أعدّ المقالة يعيد النظر فيما ذكره عن الشعوب العربية، فقد شهدت المنطقة العربية تحوّلات ثقافية كبيرة وعميقة، ولم تعد النظرة النمطية كافية لفهم الواقع العربي.
إن ما حصل في تونس ومصر ليس استثناءً فقد يتكرر في أي بلد عربي آخر، فالإستبداد واحد مهما كانت الاشكال التي يبرز فيها، ولكن موقف الشعوب العربية من المحيط الى الخليج الفارسي هو الآن واحد، ولذلك فإن ثورتي تونس ومصر هما الآن يحظيان بتأييد الشعوب وتتمنى ألا يقف قطار الثورة حتى يأخذ في طريقه كل الحكام العرب. وقد سلكت الثورة طريقها الى ليبيا واليمن والبحرين، وهناك دول أخرى تنتظر.
رد الفعل السعودي على الثورات
لم يتأخر الرد السعودي كثيراً على الثورة الشعبية في مصر، وكأن آل سعود معنيّون دون سواهم في مثل هذه الثورة، التي يخشون وقوعها، ولكنهم مقتنعون تماماً بأنها قدرٌ لا يمكنهم الفرار منه، وإن ما يقومون به ليس سوى تأجيل موعد الثورة عبر ضبط لعبة العصا والجزرة، والتي بدأت منذ عودة الملك عبد الله إلى الديار وإعلانه عن تقديمات إجتماعية بقيمة 36 مليار دولار والتي واجهت موجة انتقادات ساخرة في الداخل والخارج، فيما واجه بيان وزارة الداخلية بحظر التظاهر ومنع التجوّل في 11 مارس والاعلانات اللاحقة الصادرة من هيئة كبار العلماء، ومجلس الشورى، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتحريم التظاهر والتهديد باستعمال القوة، كل ذلك واجه انتقادات دولية وأولها الإدارة الأميركية التي أقرّت بحق التظاهر في كل أرجاء العالم، وشدّدت على هذا الحق في السعودية. تشديد الإجراءات القمعية، وشراء ولاء بعض الأفراد ، لن توقف في نهاية المطاف الأجل الثوري المحتوم.
الملك عبد الله، الذي كان يراقب ما يدور في مصر من ثورة شعبية يقودها الشباب من منتجعه في أغادير، وصف الجماهير المصرية المطالبة بالتغيير بـ (المندّسة) كما وصف مظاهراتهم بـ (الخبيثة). إنها توصيفات من يصنّف نفسه بـ (الإصلاحي) هكذا يصف من يطالبون بالإصلاح والتغيير. وما كان يبعث على الإزدراء قول الملك بأن (المملكة العربية السعودية شعباً وحكومة إذ تشجب ذلك وتدينه بقوة فإنها في نفس الوقت تقف بكل إمكاناتها مع حكومة مصر وشعبها الشقيق). فهل استطلع آراء الشعب حتى يتحدث بإسمهم، وأن يشجب ثورة مصر بإسم الشعب!
فتاوى تحت الطلب.. والدفاع عن الذات
لم يكن مستغرباَ أن تبادر المؤسسة الدينية بكبار علمائها الى استصدار فتاوى تحرّم التظاهر، وتستحظر كل الفتاوى السابقة، فقد اعتاد الناس على مثل هذه الفتاوى التي تستعمل ليس للدفاع عن النظام السعودي، بل هي دفاع أولاً عن الذات، لأن هؤلاء العلماء يدركون بأن زوال نظام آل سعود أو تآكل سلطانهم يعني زوال نفوذ العلماء وتآكله، فهم يدافعون عن أنفسهم. وما يثير الشفقة هو أن يستعمل المفتي العام للمملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ نفس تعبيرات الملك لصوغ فتوى دينية، ما يكشف عن أنه كان يدافع عن مملكة آل سعود وليس بيان الحق كما يحاول الزعم. فقد نشرت الصحف السعودية في 5 شباط (فبراير) الجاري مقتطفات مما جاء في خطبة الجمعة في الرياض للمفتي آل الشيخ يندّد فيها بالاحتجاجات المناهضة للحكومات في مصر وتونس وأماكن أخرى ووصفها بأنها (مؤامرة من أعداء الاسلام لنشر الفوضى). وحذّر من أن الإحتجاجات هذه (لتقسيم الدول العربية والإسلامية).
واعتبر آل الشيخ أن (المظاهرات لا هدف لها حقيقياً ولا حقيقة لها، إنما هي أمور جيء بها لضرب الأمة في صميمها وتشتيت شملها والسيطرة عليها وتفريق كلمتها وتقسيم بلادها يعلم ذلك من يعلمه ويجهل ذلك من يجهله). وأشار إلى أن تظاهرات التعبير عن الرأي (لها عواقب وخيمة ونتائج سيئة، بها تسفك الدماء وتنتهك الأعراض وتسلب الأموال ويعيش الناس في رعب وخوف وضلال). وقال آل الشيخ الذي تمّ تعيينه بقرار من الملك، إن تظاهرات ومسيرات التعبير عن الرأي ومحاربة الفساد إنما هي (فوضويات إنما جاءت بتدبير من أعداء الإسلام، فلنكن على حذر ولا يخدعنا ما نسمعه أو يروج لنا، فالمقصود منها إضعاف الشعوب والسيطرة عليها وإشغالها بالترّهات عن مقاصدها وغايتها).
كما انتقد المفتي وسائل الإعلام التي غطّت التظاهرات في مصر، ونشرت صوراً كشفت تجاوزات كبيرة إرتكبها النظام المصري في حق المتظاهرين في ميدان التحرير، ووصف تلك الفضائيات بأنها (جائرة).
ولكن ما هو مستغرب في تصريح المفتي توصيفه مصر بأنها (تعيش حالة ازدهار اقتصادي)، وأن التظاهرات التي تطالب بإسقاط النظام وإحداث إصلاحات (ليست لهدف معين، وإنما غاية بعيدة المدى لضرب الأمة في صميمها وتشتيت شملها وضرب اقتصادها وتحويلها من دول قوية إلى متخلفة نامية حسب ما يخططون).
وعلى غرار تصريحات سابقة له في التظاهرات الاحتجاجية على الموقف العربي المتخاذل إزاء العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة في ديسمبر 2008 ـ يناير 2009، حيث اعتبر التظاهر عملاً غوغائياً، فإنه وصف المظاهرات بأنها عمل فاسد وأنها قد تستغل من قبل الحركات الحزبية والحركات المنحرفة التي تطالب بمحاربة الفساد والإصلاح دون الإشارة الى فساد الأنظمة السياسية التي ثارت عليها الشعوب، والذي أدى الى حدوث تل التظاهرات.
الآن وقد انتصرت الثورة في مصر، هل استوعب المفتي ما قاله وما كشفت عنه وثائق أمن الدولة من فساد مالي وأخلاقي لرموز النظام السابق، هل يستغفر المفتي من ذنب الدفاع عن نظام فاسد مجرم ودموي، بناء على أكاذيب أطلقها مثل أن الثورة كانت بتدبير أعداء الإسلام، وأن مصر كانت تعيش حالة ازدهار اقتصادي، وقد تبيّن حجم المسروقات الفلكية التي كانت في عهد مبارك المخلوع.
يتكشّف اليوم حجم طبيعة تماهي العلماء مع النظام الاستبدادي والقمعي لآل سعود، بما يحيلهم شركاء في الظلم والجريمة، وسيتحمّلون كل قطرة دم تسفكها قوات الأمن السعودية بموجب فتاوى علماء المؤسسة الدينية، وليكفّوا عن الضحك على الذات باعتماد مبدأ المجتهد إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر، فالصواب والخطأ لا يكون على حساب دماء الناس، فضلاً عن أن القضية اليوم ليست بالمتشابهات، فالحلال بيّن والحرام بيّن، تماماً كما الظلم بيّن والعدل بيّن والحق بيّن والباطل بيّن.
*الحجاز- محمد شمس
من هو القادم؟
سؤال جرى تداوله في الإعلام الدولي فور سقوط فرعون مصر وتموّج السؤال وسط الشعوب العربية، التي رقابت ما يجري في مصر بعد تونس، ثم الثورات في ليبيا واليمن والبحرين، وقد التقطت مجلة (ذي ايكونوميست) البريطانية السؤال لتستعمله في مقالة لها في استشراف مستقبل الأنظمة العربية. فلم تكد تنهي تونس منجزها الثوري، حتى برزت أسماء دول أخرى مرشّحة لهبّات شعبية، وكان في مقدمها مصر واليمن والسعودية، التي تخضع لموجة انتقادات واسعة في الشارع العربي بعد أن تحوّلت إلى مأوى للطغاة.
السعودية بحسب تصنيف الديمقراطية للعام 2010 والذي أجرته (ايكونوميست انتجلنس يونيت) جاءت في مرتبة 160 من أصل 167 بلداً مصنّفاً في العالم، أي أنها تأتي في مرتبة بعد كل من جيبوتي وليبيا، التي تشهد ثورة شعبية وقد دخلت المرحلة الأخيرة من تحقيق النصر الثوري لصالح الشعب.
بحسب تقديرات الجامعة العربية لعام 2010 فإن عدد السكان في السعودية يصل الى 27.1 مليون نسمة، وأن نسبة السكّان الذين تقّل أعمارهم عن 25 سنة تصل إلى 50.8 % وأن دخل الفرد يصل الى 22.9 دولار، وهو الأقل على مستوى دول مجلس التعاون في الخليج الفارسي، حيث يصل دخل الفرد في الكويت الى 40.6 دولاراً، وفي البحرين الى 24.0 دولاراً، وفي قطر الى 66.9 دولاراً، وفي الإمارات الى 27.2 دولاراً، وفي عمان الى 23.3 دولاراً (أنظر: الثورة في مصر: هل نهاية أم بداية؟، مجلة الإكونوميست بتاريخ 3 شباط (فبراير) 2011).
وفي تصنيف للأداء الفقير للدول الأعضاء في الجامعة العربية، من المفاجىء أن السعودية احتلّت المرتبة الأخيرة (160) من بين الدول العربية في مستوى الديمقراطية، أي أنها الأسوأ على الإطلاق عربياً، ولا تبتعد كثيراً عن الأسوأ عالمياً (178 دولة مصنّفة)، وأن حرية الصحافة في السعودية هي أيضاً بدرجة عالية من السوء حيث حصلت على درجة (178)، أي ما قبل تونس (قبل الثورة) وليبيا والأراضي الفلسطينية.
صحيفة وول ستريت جورنال نشرت مقالاً في 4 شباط (فبراير) لكل من أدام إنتوس وجوليان بارنيز وجاي سولومون بعنوان (الضغط الأميركي على مبارك يحدث شرخاً مع الحلفاء العرب)، ونجد من المناسب الإضاءة عليه لما يتضمّن حقائق جديرة بالتأمل:
محاولة الرئيس باراك أوباما لإزاحة وبصورة عاجلة الرئيس المصري حسني مبارك لصالح حكومة انتقالية أحدثت شرخاً مع حلفاء عرب رئيسيين، أي السعودية والإمارات العربية المتّحدة، واللتين تخشيان بأن تفتح الولايات المتحدة الباب للجماعات الإسلامية لكسب نفوذ وزعزعة استقرار المنطقة.
وفي مواجهة تأثير تداعيات الحوادث في مصر، بعثت كل من السعودية والإمارات العربية المتحدة رسائل عامة وخاصة للتضامن مع مبارك ونائبه، رئيس الاستخبارات لفترة طويلة عمر سليمان، بحسب ما يقول دبلوماسيون. الرسائل استهدفت دعم الرئيس وسليمان لإدارة الإنتقال وضمان أن الإسلاميين لا يمكن أن يملؤوا فراغ السلطة المحتمل.
دعم دول عربية أمدّ مبارك بجرعة ارتياح، حيث أعلن بأنه لن يشارك في إنتخابات سبتمبر. قد يفسّر ذلك جزئياً لماذا صدّ الرئيس المصري دعوة السيد أوباما لانتقال فوري للسلطة بحيث تشمل المعارضة.
يكشف جلد الظهر كيف أن المأزق في مصر يعيد تشكيل، وعلى نحو عاجل، السياسة الأميركية في المنطقة. في تصنيف نفسها ضد مبارك، الحليف الأميركي لعقود، فإن الولايات المتحدة تواجه الآن الدولة المضطربة من بين الحكومات العربية الصديقة الأخرى، والذي قدّم دعماً لفترة طويلة لأهداف السياسة الأميركية.
وفي ضوء مثل هذا السيناريو، حذّر المدافعون عن الحال القائم في الشرق الأوسط بأن ذلك ممكنٌ، ويكشف كيف أن خيارات السيد أوباما كانت، بمعنى ما، غير مريحة. فقد واجه الرئيس انتقادات في مرحلة مبكرة من الانتفاضة لعدم وقوفه بصورة واضحة الى جانب معارضي الحكومة. الآن، وقد فعل ذلك، ربما قد يكون أربك شركاء إقليميين أساسيين للولايات المتحدة. الناس المطّلعون على الوضع قالوا بأن اسرائيل، الحليف الأقرب للولايات المتحدة، قد ردّدت بصورة خاصة أصداء مصادر قلق العرب حول اندفاع الولايات المتحدة لإزاحة مبارك، والتي تشعر بقلق من تقليل واشنطن من شأن الدعم المصري المحلي للإخوان المسلمين والأحزاب الاسلامية.
ومن غير الواضح كم هو التأثير لدى السعوديين على نظام مبارك في القاهرة، بالنظر الى أن حجم دعمها المالي لمصر غير معروف. تقدّم الولايات المتحدة للقاهرة حوالي 2 مليار دولار سنوياً. مصر والسعودية هما شريكان تجاريان رئيسيان، ويقول الخبراء بأن لدى الأجهزة الاستخباراتية السعودية والمصرية روابط وثيقة.
الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز آل سعود انتقد بقسوة المتظاهرين المصريين في بيان بثّته وكالة الأنباء السعودية الرسمية، ووصفهم بأنهم (مندسّون) بهدف زعزعة الإستقرار في مصر والمنطقة، واتّهمهم بإثارة (فتنة خبيثة).
يقول ريتشارد فونتين، وهو محلل يعمل في مركز الأمن الأميركي الجديد ومستشار سابق للسيناتور الجمهوري جون ماكين، النائب عن أريزونا، (لست بحاجة لقراءة ما بين السطور كيما ترى (السعوديين) بأنهم يفضّلون الإستقرار).
مسؤولون رسميون من الإمارات العربية المتّحدة، وهي حليف إقليمي رئيسي آخر ـ للولايات المتحدة ـ قالوا في الأيام الأولى بأن إطاحة حكومة مبارك يهدّد بتقديم جرعة تنفّس للمتطرّفين الإسلاميين وطهران. قوات الأمن المصرية كانت من بين الأشد عدوانية في العمل على مواجهة حماس وحزب الله .
(ما يؤلم الرجال والنساء وكذلك القيادة في مصر يؤلمنا جميعاً، وأن موقفنا مع مصر هو حاجة ملحّة)، كما قال وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، في زيارته الى العراق.. (ولكن اعتراضنا على عدد من الأطراف التي قد تحاول إستثمار الوضع لصالح أجندة خارجية).
قال مسؤولون أميركيون بأن قرار السيد أوباما بالإبتعاد عن السيد مبارك قد أثار غضباً في دول عربية، والتي يخشى أن تمارس الولايات المتحدة الضغط عليهم في وقت لاحق.
إن القراءة السائدة لدى حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين في المنطقة هي أن الولايات المتحدة (قذفت بمبارك تحت الحافلة)، كما يقول مسؤول أميركي رفيع، ويضيف (ومن الإنصاف القول بأن هناك بالتأكيد قلقاً).
وقال مسؤول أميركي آخر بأن إدارة أوباما تفهّمت قلق العرب بأن الإسلاميين قد يسعون للإستفادة من الانتخابات المصرية لكسب السلطة، ولكنه قال بأن الدول العربية رغم حاجتها لترميم أنظمتها السياسية البالية، يقوم مسؤولون بإعادة تقييم الى أي حد يمكنها الانخراط في حوار مع الاخوان المسلمين. قال المتحدّث بإسم البيت الأبيض تومي فيتور بأن ما يثير الإهتمام حقاً هو (أصوات الشعب المصري).
وفي إطار إستدعاء المشهد المعد قبل الثورة العربية، نستعيد هنا ما ورد في مقالة مجلة (ذي إيكونوميست) البريطانية المنشور في 2 كانون الأول (ديسمبر) 2010، بعنوان (ديمقراطية العرب..بضاعة مازالت في هيئة عرض ناقص). وجاء في المقال بأن الخريف كان موسماً ناشطاً بالنسبة للديمقراطية العربية ـ أو على الأقل النظير لها. البحرين، مصر، الأردن قد أجرت جميعاً إنتخابات عامة صاخبة، وانتخب السياسيون العراقيون في آذار (مارس) (2010) في نهاية المطاف، الأمر الذي يقترب من نهاية المساومة على كيفية تقسيم الحصص. ولكن ليس من بين هذه التجارب ما يبدو أنها تؤسس لتغيير ديمقراطي عميق.
حتى بإضافة الإنتخابات التي جرت في السنوات القليلة الماضية في أماكن منقسمة مثل الجزائر، والكويت، ولبنان، والمغرب، وتونس، واليمن، بأن ممارسة الديمقراطية عبر العالم العربي تظهر بأنها تنتج في الغالب النتيجة نفسها: تخليد حكم الرجال الأقوياء النافذين، وتوصيم، وأحياناً (ردكلة = تشجيع نزعة التطرّف) للقوى المعارضة لهم، وتقليل شأن كلمة ديمقراطية، الى النقطة التي يكون هناك غالباً إختلاف ملحوظ وقليل بين البلدان العربية التي تزعم بأنها تمارسها، وبين تلك، مثل السعودية، التي لا تقوم حتى بالتظاهر بممارسة الديمقراطية.
عقدان على نهاية الحرب الباردة حفّزت موجة عالمية من الدمقرطة، وبعد قرابة عقد من محاولة جورج بوش لتحريك موجة مأمولة لديه، يبقى العرب كما يبدو محصّنين، على غير العادة، إزاء انتشار الديمقراطية. فمن بين 22 بلداً في الجامعة العربية (وعدد منها للإنصاف هم في الحقيقة غير عرب)، هناك ثلاث بلدان فقط يمكن لها أن تزعم بأنها ديمقراطيات حقيقية، وحتى هذه البلدان فيها عيوب كبيرة.
العراق، بالرغم من استمرار سفك الدماء، يبدو أنه قد انزاح من حكم الحزب الواحد، ولكنه يفتقر الى اجماع عابر للمذاهب ومؤسسات محتشمة. لبنان يقوم بتعزيز مجتمع تعددي ومنفتح، رغم كونه متشققاً وخاضعاً للاستقطاب بين وداخل الطوائف ومشدود للميول الإقطاعية لدى العوائل القويّة. وقد انتخب الفلسطينيون بحرية مجلساً تشريعياً في العام 2006، ولكن الحزب الفائز تمّ منعه من مزاولة السلطة في المناطق المقسّمة. الآن، لدى كل بلد عربي شكل من السلطة التشريعية التمثيلية، وإن كان أغلبها لديه صلاحية ضئيلة وأن بعضها، مثل السعودية، يتم تعيّينه من قبل الملك.
ويسمح بعض هذه الحكومات الشمولية المزيد من التعددية أكثر من الأخرى. المغرب، على سبيل المثال، قد وسّعت من مساحة النقاش. آخرون، مثل الكويت، تسمح ببرلمان منتخب بصورة مباشرة، ولكن العائلة الحاكمة، التي لا تزال تمسك بزمام الأمر، كانت غالباً ما تتجاوز السلطة التشريعية التي تتبعها. العديد من المشيخات الخليجية الصغيرة تسعى تدريجياً لمنح شعوبها المزيد لإبداء الرأي. ولكن حين يأخذ الحراك الديمقراطي دفعة قوية، فإن الملكيات الحاكمة ملزمة بالتصدي للديمقراطية، للخوف بأنها قد تكون تسقط في يوم ما في حال كان للشعب خيار حقيقي.
وسواء كانت ملكيات أو جمهوريات، فإن الدولة العربية تميل الى التصرّف بطريقة مماثلة. وبحسب لاري دايموند، البروفسور في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا والخبير في موضوع الدمقرطة، بأن الجامعة العربية أصبحت، في جوهرها، نادي المستبدّين. وحتى في الأحوال التي تمّ فيها فرض الاصلاحات الديمقراطية، فإن سبيلهم يبدو أكثر دائرياً منه خطيّاً. قد يسمح لكثير من المعارضين، وقد تطبّق ممارسات مثل الإنتخابات، ولكن هي عادة لتزيين النافذة، والتنفيس، وذلك فقط في وقت يشعر فيه الحكّام المستبدّون بأنهم مهدّدون.
كثير من البلدان العربية هي كيانات مصطنعة أنشئت من قبل الإمبرياليات الأوروبية، وركّزت بالضرورة طاقاتها على بناء الدولة بدلاً من تشجيع المواطنين على المشاركة. يشير آخرون الى العامل الجيوبوليتيكي، ويشدّدون على ـ من بين أشياء أخرى ـ أن الحكّام العرب يستعملون صراعهم الدائم مع اسرائيل لتبرير القمع في الداخل. ولايزال يتمسّك آخرون بالرأي القائل بأن القوى الغربية، وبصورة رئيسية أميركا، قد ساندت الديكتاتوريات العربية لتأمين تدفّق النفط.
كل هذه المناقشات تحظى بجدارة ما ولكن بحاجة الى تحديد وزنها. وكما أظهر العديد من استطلاعات الرأي، فإن العرب كما يبدو متحمّسون لفكرة الديمقراطية. ولكن ما يفهم من الديمقراطية، في منطقة ليس فيها سوى أمثلة ضئيلة، يبقى مفتوحاً على السؤال.
كثير من العرب من ذوي الميول الليبرالية، على سبيل المثال، يفضّل الحكم التسلّطي على النوعية المجهولة للدولة الاسلامية الديمقراطية الافتراضية، وهو شيء يعتقد السيد دايموند في مقالة له مؤخراً، بأن 40 ـ 50% من الناس في أربع بلدان عربية يرغبون في ذلك. ولحظ بأن المنطقة الأخرى التي جاءت في مرحلة متأخرة الى الديمقراطية، أي أميركا اللاتينية، كانت ملجومة بالخوف بين النخبة من الأيديولوجيات الثورية اليسارية. في المقابل، فإن شادي حميد من معهد بروكنز، ومقره في واشنطن يقول بأن الاخوان المسلمين، والتي سحقت في الانتخابات المزيّفة في مصر، أخفقت في أن تكون أداة تغيير.
إن التأثير الشرير للنفط، الى جانب عوامل أخرى مثل المساعدات الأجنبية، من السهل قياسه. وحتى الدول النفطية غير العربية، مثل أنغولا، وروسيا، وفنزويلا تبدو عرضة لحكم الرجل القوي. وهذا ليس لأن الدخل يحرر الدول من المساومة مع مواطنينها فحسب، ولكن أيضاً لأن أي نقل للسلطة يعني بأن الحكّام سيفقدون مباشرة المكافأة بأكملها، ما يجعلهم جميعاً الأحرص على الاحتفاظ بها. تصبح السياسة لعبة صفرية.
ولكن ربما العامل الأكبر هو أن مهارة المستبدّين العرب في الاحتفاظ بمقاعدهم قد تعزّزت الآن بواسطة العادة. فقد تعوّد معظم الناس على حكم تسلّطي كحقيقة من حقائق الحياة. وبحسبما كان يندب فلاّح في منطقة الفيوم المصرية، محتجّاً على الكثير من المرشّحين الذين يتنافسون على أماكن في بطاقة تأييد الحكومة (الأمور كانت أسهل بكثير قبل جيل، حين كان علينا جميعاً التصويت لنفس الرجل).
لابد أن ما جرى في تونس في نهاية كانون الأول (ديسمبر) الماضي وأدى الى الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي، ثم انتقل الى مصر في 25 كانون الثاني (يناير) الماضي سيجعل الفريق الذي أعدّ المقالة يعيد النظر فيما ذكره عن الشعوب العربية، فقد شهدت المنطقة العربية تحوّلات ثقافية كبيرة وعميقة، ولم تعد النظرة النمطية كافية لفهم الواقع العربي.
إن ما حصل في تونس ومصر ليس استثناءً فقد يتكرر في أي بلد عربي آخر، فالإستبداد واحد مهما كانت الاشكال التي يبرز فيها، ولكن موقف الشعوب العربية من المحيط الى الخليج الفارسي هو الآن واحد، ولذلك فإن ثورتي تونس ومصر هما الآن يحظيان بتأييد الشعوب وتتمنى ألا يقف قطار الثورة حتى يأخذ في طريقه كل الحكام العرب. وقد سلكت الثورة طريقها الى ليبيا واليمن والبحرين، وهناك دول أخرى تنتظر.
رد الفعل السعودي على الثورات
لم يتأخر الرد السعودي كثيراً على الثورة الشعبية في مصر، وكأن آل سعود معنيّون دون سواهم في مثل هذه الثورة، التي يخشون وقوعها، ولكنهم مقتنعون تماماً بأنها قدرٌ لا يمكنهم الفرار منه، وإن ما يقومون به ليس سوى تأجيل موعد الثورة عبر ضبط لعبة العصا والجزرة، والتي بدأت منذ عودة الملك عبد الله إلى الديار وإعلانه عن تقديمات إجتماعية بقيمة 36 مليار دولار والتي واجهت موجة انتقادات ساخرة في الداخل والخارج، فيما واجه بيان وزارة الداخلية بحظر التظاهر ومنع التجوّل في 11 مارس والاعلانات اللاحقة الصادرة من هيئة كبار العلماء، ومجلس الشورى، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتحريم التظاهر والتهديد باستعمال القوة، كل ذلك واجه انتقادات دولية وأولها الإدارة الأميركية التي أقرّت بحق التظاهر في كل أرجاء العالم، وشدّدت على هذا الحق في السعودية. تشديد الإجراءات القمعية، وشراء ولاء بعض الأفراد ، لن توقف في نهاية المطاف الأجل الثوري المحتوم.
الملك عبد الله، الذي كان يراقب ما يدور في مصر من ثورة شعبية يقودها الشباب من منتجعه في أغادير، وصف الجماهير المصرية المطالبة بالتغيير بـ (المندّسة) كما وصف مظاهراتهم بـ (الخبيثة). إنها توصيفات من يصنّف نفسه بـ (الإصلاحي) هكذا يصف من يطالبون بالإصلاح والتغيير. وما كان يبعث على الإزدراء قول الملك بأن (المملكة العربية السعودية شعباً وحكومة إذ تشجب ذلك وتدينه بقوة فإنها في نفس الوقت تقف بكل إمكاناتها مع حكومة مصر وشعبها الشقيق). فهل استطلع آراء الشعب حتى يتحدث بإسمهم، وأن يشجب ثورة مصر بإسم الشعب!
فتاوى تحت الطلب.. والدفاع عن الذات
لم يكن مستغرباَ أن تبادر المؤسسة الدينية بكبار علمائها الى استصدار فتاوى تحرّم التظاهر، وتستحظر كل الفتاوى السابقة، فقد اعتاد الناس على مثل هذه الفتاوى التي تستعمل ليس للدفاع عن النظام السعودي، بل هي دفاع أولاً عن الذات، لأن هؤلاء العلماء يدركون بأن زوال نظام آل سعود أو تآكل سلطانهم يعني زوال نفوذ العلماء وتآكله، فهم يدافعون عن أنفسهم. وما يثير الشفقة هو أن يستعمل المفتي العام للمملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ نفس تعبيرات الملك لصوغ فتوى دينية، ما يكشف عن أنه كان يدافع عن مملكة آل سعود وليس بيان الحق كما يحاول الزعم. فقد نشرت الصحف السعودية في 5 شباط (فبراير) الجاري مقتطفات مما جاء في خطبة الجمعة في الرياض للمفتي آل الشيخ يندّد فيها بالاحتجاجات المناهضة للحكومات في مصر وتونس وأماكن أخرى ووصفها بأنها (مؤامرة من أعداء الاسلام لنشر الفوضى). وحذّر من أن الإحتجاجات هذه (لتقسيم الدول العربية والإسلامية).
واعتبر آل الشيخ أن (المظاهرات لا هدف لها حقيقياً ولا حقيقة لها، إنما هي أمور جيء بها لضرب الأمة في صميمها وتشتيت شملها والسيطرة عليها وتفريق كلمتها وتقسيم بلادها يعلم ذلك من يعلمه ويجهل ذلك من يجهله). وأشار إلى أن تظاهرات التعبير عن الرأي (لها عواقب وخيمة ونتائج سيئة، بها تسفك الدماء وتنتهك الأعراض وتسلب الأموال ويعيش الناس في رعب وخوف وضلال). وقال آل الشيخ الذي تمّ تعيينه بقرار من الملك، إن تظاهرات ومسيرات التعبير عن الرأي ومحاربة الفساد إنما هي (فوضويات إنما جاءت بتدبير من أعداء الإسلام، فلنكن على حذر ولا يخدعنا ما نسمعه أو يروج لنا، فالمقصود منها إضعاف الشعوب والسيطرة عليها وإشغالها بالترّهات عن مقاصدها وغايتها).
كما انتقد المفتي وسائل الإعلام التي غطّت التظاهرات في مصر، ونشرت صوراً كشفت تجاوزات كبيرة إرتكبها النظام المصري في حق المتظاهرين في ميدان التحرير، ووصف تلك الفضائيات بأنها (جائرة).
ولكن ما هو مستغرب في تصريح المفتي توصيفه مصر بأنها (تعيش حالة ازدهار اقتصادي)، وأن التظاهرات التي تطالب بإسقاط النظام وإحداث إصلاحات (ليست لهدف معين، وإنما غاية بعيدة المدى لضرب الأمة في صميمها وتشتيت شملها وضرب اقتصادها وتحويلها من دول قوية إلى متخلفة نامية حسب ما يخططون).
وعلى غرار تصريحات سابقة له في التظاهرات الاحتجاجية على الموقف العربي المتخاذل إزاء العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة في ديسمبر 2008 ـ يناير 2009، حيث اعتبر التظاهر عملاً غوغائياً، فإنه وصف المظاهرات بأنها عمل فاسد وأنها قد تستغل من قبل الحركات الحزبية والحركات المنحرفة التي تطالب بمحاربة الفساد والإصلاح دون الإشارة الى فساد الأنظمة السياسية التي ثارت عليها الشعوب، والذي أدى الى حدوث تل التظاهرات.
الآن وقد انتصرت الثورة في مصر، هل استوعب المفتي ما قاله وما كشفت عنه وثائق أمن الدولة من فساد مالي وأخلاقي لرموز النظام السابق، هل يستغفر المفتي من ذنب الدفاع عن نظام فاسد مجرم ودموي، بناء على أكاذيب أطلقها مثل أن الثورة كانت بتدبير أعداء الإسلام، وأن مصر كانت تعيش حالة ازدهار اقتصادي، وقد تبيّن حجم المسروقات الفلكية التي كانت في عهد مبارك المخلوع.
يتكشّف اليوم حجم طبيعة تماهي العلماء مع النظام الاستبدادي والقمعي لآل سعود، بما يحيلهم شركاء في الظلم والجريمة، وسيتحمّلون كل قطرة دم تسفكها قوات الأمن السعودية بموجب فتاوى علماء المؤسسة الدينية، وليكفّوا عن الضحك على الذات باعتماد مبدأ المجتهد إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر، فالصواب والخطأ لا يكون على حساب دماء الناس، فضلاً عن أن القضية اليوم ليست بالمتشابهات، فالحلال بيّن والحرام بيّن، تماماً كما الظلم بيّن والعدل بيّن والحق بيّن والباطل بيّن.
*الحجاز- محمد شمس