الدكتور عادل رضا
10-30-2004, 03:49 AM
دعا إلى تحرير الاجتهاد من الخضوع للسلف
"الدستور" تقرأ المشهد السياسي اللبناني
السيد محمد حسين فضل الله: العراق يمتلك المناعة ضد الفتنة
أكثر من سؤال كبير يطرح نفسه عند قراءة المشهد السياسي اللبناني الحالي، فهناك تفاعلات بعضها فوق الرماد وأغلبها تحت الرماد، لكنها تنبىء بأن الموقف يعد بأحداث كبيرة، وسيكون لها تأثير ليس على لبنان وحده، وإنما على محيطه العربي وإن بدرجات متفاوتة.
التّمديد الرئاسي وما أحدثه من تأثيرات عالمية وصلت إلى مجلس الأمن... الاستقالات من الحكومة احتجاجاً على التمديد، وما يطرح حالياً بشأن إعادة تشكيل الحكومة ومن سيشارك ومن سيقاطع من تيارات وأحزاب، والحادث الأكثر تأثيراً على الجميع محاولة اغتيال الوزير المستقيل مروان حمادة وغيرها، تطرح عناوين رئيسة لمرحلة جديدة أكثر أهميةً من سابقتها، كونها تتميَّز بأنها نتيجة وسبب في وقت واحد لما ستسفر عنه تلك المعطيات، وما ستخضع له من تأثيرات قادمة من الإقليم، وما ستحدثه من تأثيرات على الإقليم. لهذا سعت "الدستور" إلى قراءة المشهد اللبناني بعيون صانعيه والمؤثرين فيه، من خلال لقاءات ساخنة وصريحة مع قادة التيّارات السياسيّة التي تصنع الحدث في لبنان.
طاف الحوار مع سماحة العلاّمة المرجع الإسلامي الكبير، السيد محمد حسين فضل الله، حول قضايا متعدّدة: سياسية وفكرية وفقهية، رغم ضيق الوقت المخصّص للقاء، وهو نصف ساعة!
وما إن دخلنا مكتبه في الحي الشعبي البيروتي "حارة حريك"، حتى باشرنا سماحته بالحديث عن فلسطين و"إدمانه" لقضيّتها منذ أكثر من خمسين عاماً. فسألناه عن الانتفاضة في عامها الخامس، لينطلق الحوار من ثم نحو ما رأيناه ملحّاً الآن من هموم العرب، حيث أعطى سماحته رأيه بصراحة واضحة، سواء في المسائل السياسية أو الفقهية العلمية، ليشمل الحوار: فلسطين وانتفاضتها، سياسة أمريكا، الفقه والاجتهاد، الشيعة والسنة، العراق، لبنان.
ينطلق العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله من فكر سياسي وديني منفتح وجريء، فكر ينطوي على نقدية ثقافية حيوية تغذيها تجربة رجل يطلُّ بوعي عميق على الخريطة السياسية للمنطقة، وفي ضوء ذلك، فهو يرى أن الاختلاف بين السنَّة والشيعة يجب أن يظلّ ضمن الوحدة لمواجهة التحديات، ويرى أن لبنان أريد له أن يكون بلد الاهتزاز السياسي، أما نضال الشعب الفلسطيني، فهو الأمثولة المشرفة بالنسبة إلى فضل الله... رجل الدين والعلم والسياسة والثقافة... معه كان هذا الحوار:
سنة خامسة انتفاضة!
* في مستهلّ السنة الخامسة للانتفاضة المجيدة، وقد باشرتها إسرائيل بمجازر ضارية، لكأنها تنتقم من عجزها عن إخمادها، ماذا تقولون في هذه المناسبة لأهل فلسطين؟
ـ أقول لكلِّ أحبّائنا من أبنائنا وإخواننا وأخواتنا في فلسطين، إنّ الرهان الإسرائيلي والأمريكي هو أن تسقطوا وأن تسقط إرادتكم في التحرير، وأن تسقط إنسانيتكم من الانطلاق نحو تأصيل وجودكم الإنساني كشعب يجاهد من أجل أن يشارك في صنع الحضارة والتقدم الإنساني، ولا سيّما أنَّ اليهود يعرفون أن الشعب الفلسطيني يمثِّل التحدي الكبير لمشروعهم في أن يكونوا الشعب المميَّز في المنطقة من الناحية العلمية، لأن من المعلوم لدى الوطن العربي، وامتداداً إلى أكثر من موقع في العالم، أن الشعب الفلسطيني يمتاز بأنه غني بالطلائع العلمية المثقفة التي تستطيع أن تصنع من هذا التقدم العلمي الكثير للمستقبل، بحيث تمثّل الموقع الذي يستطيع أن يخترع ويكتشف ويُبدع ويغني الوطن العربي كله، هذا أمر عرفناه منذ الخمسينات، فالشعب الفلسطيني يعتبر من أكثر الشعوب تقدماً في الوطن العربي.
لذلك فإنَّ صمودكم منذ الثلاثينات وحتى الآن، سواء في داخل فلسطين أو في العالم، إنما يتمثل في أن تبقى كلمة فلسطين تتوارثها الأجيال، وكلمة القدس في البال، وهي التحدي الكبير الذي يمثّل أكثر من صاروخ ينطلق ليقتل كثيراً من العنفوان الإسرائيلي. لذلك ليس لديكم ما تخسرونه إلا قيود الأسر، وقد يسقط الكثير من الشهداء كما سقط الآلاف منذ الانتفاضة وقبلها، وقد يجرح الكثيرون، وقد تدمَّر البيوت، ولكنّنا نعتقد أن الأجيال القادمة سوف تصنع من جديد شعباً مجاهداً منفتحاً، وسوف تزرع الأرض وتعمِّر البيوت وتنطلق الحرية.
أمريكا والأكاذيب الكبرى
* احتلّت أمريكا العراق وتقول إنها بصدد إعادة هيكلة المنطقة في ما تسميه الشرق الأوسط الكبير... ماذا ترى سماحتكم في مثل هذه الأطروحات، خصوصاً الدعوة إلى إشاعة الحرية والديمقراطية في المنطقة؟
ـ عندما ندرس المسألة في ضوء متابعتنا للسياسة الأمريكية في العالم، فإننا نلاحظ أن دراستنا للواقع الأمريكي في الداخل، لا تمثِّل هذا العمق لقضايا الحرية وحقوق الإنسان، ربما نرى أن هناك، في أمريكا، نوعاً من الديمقراطية التي يستطيع الشعب الأمريكي أن يختار فيها إدارته ويبدِّل رؤساءه، ولكننا عندما ندرك المؤثّرات التي يخضع لها هذا الشعب في ما يختاره، نجد الشركات الاحتكارية الكبرى هي التي تسيطر على مواقع القرار، وهي التي تختار الشخصيات التي تقدمها للشعب الأمريكي في حصار معين تحاصر فيه إرادة الشعب بفعل الشروط التي تؤكدها في هذا المرشح أو ذاك، وبفعل الإمكانات التي يحصل عليها هذا المرشح وذاك.
وهكذا نجد، كيف أن جماعة معيَّنةً كاللوبي اليهودي أو كالمحافظين الجدد تسيطر على كلِّ القرار الأمريكي، وتسيطر على كلِّ الممثلين للشعب الأمريكي، سواء في مجلس الشيوخ أو في مجلس النواب، ما يدل على أنها حرية في داخل مأزق، وليست حرية منفتحة بالمعنى الإنساني الذي يملك فيه الإنسان قراره، ويملك أن يؤكد قراره بعيداً عن سيطرة رأس المال وعن سيطرة الشركات الاحتكارية وما إلى ذلك.
عندما نتطلّع إلى أمريكا التي تتحدَّث عن الحرية وعن حقوق الإنسان، نصطدم بالأكاذيب الكبرى التي تبرّر حرباً يقتل فيها عشرات الألوف من شعوب العالم الثالث، ولا سيما ما حدث في العراق وما يحدث في فلسطين
إنّنا عندما نتطلّع إلى أمريكا التي تتحدَّث عن الحرية وعن حقوق الإنسان، نصطدم بالأكاذيب الكبرى التي تبرّر حرباً يقتل فيها عشرات الألوف من شعوب العالم الثالث، ولا سيما ما حدث في العراق وما يحدث في فلسطين. إن المشكلة هنا هي أن فاقد الشيء لا يعطيه، وأنّ أمريكا التي تدعم الدول الدكتاتورية منذ ستين سنة، "حسب اعتراف الرئيس بوش في خطابه في بداية العام"، والتي تعمل على أساس استغلال الشعوب ومنعها من أن تحقِّق الاكتفاء الذاتي، لا يمكن لها ولحلفائها من أن تصنع إصلاحاً، لأنَّ الإصلاح ينطلق عندما يصنع الشعب حريته ويؤكد قراره بنفسه، ولكننا نلاحظ أن أمريكا ومعها الدول السبع الكبرى، والتي ألحقت بها روسيا أخيراً، تعمل على أساس محاصرة الشعوب في اقتصادها وسياستها وأمنها تحت عنوان العولمة. لذلك نحن نعتقد أننا نعاني كثيراً من الأخطاء ومن الانحرافات التي صنعتها عقول التخلّف من جهة، والتي أكَّدها الاستكبار العالمي من جهة أخرى، ولكننا نعتقد أن أمريكا ليست هي المصلح الذي يمكن أن يصلح مثل هذه الأخطاء.
الأمَّة المحاصرة بأنظمتها...
* ولكنَّ أحوال العرب والمسلمين كما قلتم، ما زالت راسخةً في الظلم والاستبداد والقهر، كيف يمكن إصلاحها من منظورنا نحن، ولمصلحتنا؟
ـ علينا أن نفرِّق بين الأنظمة والأمَّة، لأن بعض الأنظمة تسيطر عليها أمريكا، كما هو الحال في الواقع السياسي العالمي.
ونحن نعرف أنَّ من المفارقات أن بعض البلدان العربية لا تسمح بالمظاهرات في الشارع، لأنها تخاف من أن تعبر الشعوب عن إرادتها وتطلّعاتها، وهكذا تحبس بعض البلدان العربية المظاهرات داخل أسوار الجامع وداخل أسوار الجامعة من أجل الإيحاء بأن الحرية هي التي يصرخ فيها المسجونون من دون أن يسمع أحد صوتهم! لذلك فإن الأمة لن تسكت، وهذا ما نلاحظه في الانتفاضات التي تتحرك هنا وهناك، سواء في مناخ الحرب أو في مناخات سياسية أخرى. ولعلَّنا عندما ندرس تجربة الشعب الفلسطيني التي قاربت ثلاثة أرباع القرن، نجد أن هذا الشعب يمثِّل إرادة الأمة وعنفوانها وعزّتها وكرامتها، وأنه مستعدٌّ للتضحية حتى التحرير، وهذا ما نلاحظه بالنسبة إلى العراق أو بالنسبة إلى الانتفاضات الصغيرة أو الكبيرة أو المعارضة هنا وهناك، حتى التي تقبع الآن في داخل السجون، نجد أن هناك مستقبلاً واعداً وأمّة واعدة يمكن أن تفتح أبواب المستقبل عندما تتخفَّف من كلِّ الضغوط التي تعيشها. إن الأمَّة لم تهزم ولكنَّها حوصرت، ولكنَّ الذي هُزم هم المهزومون تلقائياً، والذين وظِّفوا من أجل الإيحاء بالهزيمة.
إرادة المستقبل.. إرادة التغيير
* كيف يمكن للأمة أن تخرج من هذا الحصار، وأن تصنع حريتها وليس فقط تحررها؟
ـ إننا نتصوَّر أنّ على الطلائع الواعدة أن تنوّع التجربة، فقد أريد للأمَّة منذ الخمسينات وحتى الآن، أو منذ الحرب العالمية الثانية، أريد لها أن تعبِّر عن ثوريَّتها بطريقة الانقلابات العسكرية التي لا تمثِّل الأمَّة كلَّها، ولكنها تحاول أن تستغلَّ مشاعر الأمّةِ وأحاسيسها وتوقها إلى التحرّر والتخلّص من الواقع الفاسد، ولكنها تصطدم بعد ذلك بأنَّ الذين اعتبرتهم المحررين لها هم الذين تحوّلوا إلى سجّانين لقضاياها ولمصيرها.
إننا نعتقد أنه علينا أن نعمل على توعية الأمة بمختلف الوسائل، حتى نتخلص من الأمية السياسية والأمُية الدينية، لأننا نجد أن المشكلة تكمن في خطوط الخرافة وخطوط الغيب التجريدية، وخطوط التخلّف وما إلى ذلك. إننا بحاجة إلى نهضة ثقافية، سياسية، دينية، اجتماعية، بحيث تجعل الإنسان يفكر، كما إننا بحاجة إلى ثقافة الاعتراف بالآخر، لنتعلَّم كيف نتحاور عندما نختلف، وكيف يعذر بعضنا بعضاً في ما يراه، وكيف نحقِّق إنسانيّتنا في إنسانية الآخر، وكيف ندرس الثغرات التي يمكن أن ننفذ منها هنا وهناك. إن مرض الأمَّةِ في كثير من عناصرها السلبية هو مرض تاريخي، لذلك علينا أن نعمل على أساس أن نأخذ وقتنا في استعمال الدواء الشافي والنافع للمستقبل.
إننا بحاجة إلى نهضة ثقافية، سياسية، دينية، اجتماعية، بحيث تجعل الإنسان يفكر، و إلى ثقافة الاعتراف بالآخر، لنتعلَّم كيف نتحاور عندما نختلف
إنني أعتقد أن الأمة تختزن الكثير من العناصر، حتى إنني أزعم بأن أخذ الأمّة بأسباب العلم والتقدم إنما يكوّن جمهوراً من العلماء يستطيع أن يخترع ويكتشف ويصنع التقنيات ويأخذ بأسباب التكنولوجيا بالشكل الذي يحقق اكتفاءها الذاتي، كما فعلت إسرائيل عندما حقَّقت اكتفاءها الذاتي. أعتقد أننا قد نقترب من الخلاص في هذا المجال، لأنّ ما يضيق به الحاضر قد يتّسع له المستقبل، والمهم أن تكون لنا إرادة المستقبل في إرادة التغيير.
تحرير الاجتهاد
* قلتم إننا نعاني من أمُيّة دينية، ومن شيوع ثقافة الخرافة الغيبية التجريدية، هل تدعون إلى ثورة في تجديد الفقه بما يواكب العصر؟ وهل تشيرون حين تتكلمون عن الاعتراف بالآخر إلى ضرورة الأخذ بالديمقراطية؟
ـ أنا لا أحبُّ أن أستعمل كلمة الثورة، لأنها استهلكت حتى لم تعد تمثل شيئاً، بل أصبحت من الاستهلاكيات التي نستعملها من دون معنى. إنني أعتقد أن أفضل تعبير هو تعبير التغيير، {إنَّ الله لا يغيِّر ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسهم}[الرَّعد/11]، باعتبار أن الإنسان هو الذي يصنع التغيير، لأن الإنسان هو الذي تتجمَّع فيه كلُّ العناصر التي يمكن أن تفتح أكثر من نافذة حيَّة، لأن التغيير بالآليات الجامدة ليس فيه روح، ولكن التغيير من خلال حركية الإنسان هو الذي يعطي الآلية التي تحمل شيئاً من الروح.
لدينا مقدَّس واحد وهو النص بحرفيّته، ، لأن الكتاب معصوم، والسنّة معصومة في عقيدتنا كمسلمين جميعاً، ولكن فهم الكتاب وفهم السنّة هو بشري
أتصوَّر أن مسألة الاعتراف بالآخر قد تحمل معنى الشورى التي لا بد لنا أن نضع برنامجاً ومنهاجاً لها، لأنني لا أحب استعمال المصطلحات التي ولدت في مناخ آخر، باعتبار أنها ترتكز على فلسفة قد تختلف في بعض الجذور عن فلسفتنا مثلاً. فالديمقراطية تعني أن الشرعية وأن الحق هو ما تصنعه الأكثرية، أي إن الحقّ تابع للأكثرية، حتى لو كانت الأكثرية بنسبة واحد زائد على الخمسين بالمئة، ولكنّنا نلاحظ أن الديمقراطية حتى عند الذين شرَّعوها ونظَّروا لها، هي أقلُّ الأنظمة سوءاً وليست أحسن الأنظمة. إننا لسنا ضد الديمقراطية في المسألة السياسية باختيار الشعب لممثّليه، واختيار الشعب لخطّه السياسي ومحاسبة الحاكم وما إلى ذلك، ولكننا كمسلمين نملك بعض الثوابت التي لم يجعلها الله للخيارات العامة في هذا المجال.
ومن هنا ندخل إلى مسألة تجديد الفقه، إنَّنا نقول إنَّ الفقه انطلق من خلال اجتهاداتٍ في فهمِ الكتاب والسنّة، وعلى ضوء هذا، فإنَّا نقول إن ما فهمه القدماء ليس هو الحقيقة، نحن لدينا مقدَّس واحد وهو النص بحرفيّته، نص الكتاب ونص السنّة، هما المقدَّسان، لأن الكتاب معصوم، والسنّة معصومة في عقيدتنا كمسلمين جميعاً، ولكن فهم الكتاب وفهم السنّة هو بشري، ولهذا فإن القدماء من الفقهاء أو من المفكرين أو من الفلاسفة، لا يمثِّلون العصمة في فقههم، هم اجتهدوا وقد يخطئون في اجتهادهم وقد يصيبون، فعلينا أن نجتهد كما لو لم يكن هناك أيُّ اجتهاد، ما عندهم عندنا وما عندنا ليس عندهم، ولذلك نحن ندعو إلى أن نحرِّر الاجتهاد من الخضوع للسلف الصالح، مع تقديرنا للسلف الصالح، وليس معنى "أن لا نخضع" أننا نشجب الماضي كلّه، بل أن نفكّر في الماضي، كما فكر بعض الماضي في ماضٍ سبقه في هذا المقال. وعلى هذا الأساس، علينا أن نجتهد في الفقه تماماً كما نجتهد في كل العلوم الأخرى، لنختلف مع السابقين في ما نراه خطأً بالنسبة إلينا.
السنّة والشيعة.. وحدة التنوع
* نلاحظ أنَّ أمريكا وبعض القوى، ولتمزيق الأمَّة والهيمنة عليها، تحاول إذكاء فتنة بين الشيعة والسنّة، وخصوصاً في العراق. كيف ترون هذه المحاولة؟
ـ إننا نتصوَّر أنَّ مسألة السنّة والشيعة هي مسألة تنطلق من خلاف في وجهة النظر في بعض التفاصيل العقيدية والشرعية، في ما اختلف فيه المسلمون، وهي قضيَّة الإمامة والخلافة. هي مسألة تتصل ببعُد تاريخي: هل إن النبي عيَّن شخصاً أم لم يعيِّن؟ وعلينا أن نقرأ الكتاب، تفسيراً أو سنّةً، "نص الكتاب والسنة"، هل إن الله تحدَّث عن هذا في كتابه؟ وهل إنَّ النبي تحدَّث عن هذا في سنته أم لا؟ لأنَّ هذه القضيَّة هي قضية علميّة لا بدَّ أن تبحث بطريقة موضوعيّة بعيداً عن كلِّ الحساسيات والمشاعر والرواسب التاريخية التي أثقلت حركة التاريخ بالكثير من الدماء ومن الأحقاد ومن المنازعات وما إلى ذلك.
لذلك علينا أن نبحث هذه القضية بأبعادها العلمية كما نبحث النصوص القانونية في المسائل القانونية بتجرّد علمي، بحيث لا تكون القضية مربوطة بالجانب الذاتي لكلِّ واحد منا، بل مربوطة بالجانب الموضوعي للفكرة. وهناك أيضاً اختلافات فقهية، وهذه ليست بدعة من الحركة العلمية الفقهية، فالسنّة مختلفون، والشيعة مختلفون، وهناك اتفاق في الجانب الفقهي بنسبة 80بالمائة. وهناك أبحاث كلامية في الحسن والقبح العقليين وما إلى ذلك. وعندما ندرس تاريخ ممارسة الذين اختلفوا في تحريك خلافاتهم، نجد أنّ المسألة بين السنّة والشّيعة هي هل إنّ الإمامة للإمام علي(ع) أم للخليفة أبي بكر؟ وعندما ندرس التجربة، نرى أن الإمام علي(ع) كان مع الخلفاء، وكان مقتنعاً بحقه كما كانوا مقتنعين به، ولكنهم عندما رأوا القضية الإسلامية مهدَّدة وفي موقع التحدي من الآخرين، عاشوا الوحدة في مواجهة التحدّيات ضد الإسلام وفي تأصيل الخطوط الإسلامية في داخل الواقع الإسلامي.
نحن نقرأ نصاً للإمام علي في "نهج البلاغة" الذي جمعت فيه كلماته، يقول في كتابه إلى أهل مصر: "فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى إذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يريدون محق دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم هذه، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منا ما كان، كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنَّ الدين وتنهنه".
ونقرأ أيضاً في بعض تصريحاته(ع) يقول: "لأسلمنَّ ـ أو لأسالمنَّ ـ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة". ونحن نقرأ نصاً للخليفة عمر عندما يقول: "لولا عليُّ لهلك عمر"، "قضيّة ولا أبا حسن لها"، وذلك لأنّهم عندما كانوا يصطدمون ببعض المشاكل، كانوا يلجأون للإمام علي(ع) ليعطيهم الرأي والمشورة والنصيحة. ونحن نقرأ أن عمر عندما استشار المسلمين في الذهاب إلى الحرب في معركة المسلمين مع الفرس "نهاوند"، قال له المسلمون: لا بأس بذلك، ولكنّ عليّاً نصحه بأن لا يذهب خوفاً على حياته، وقال له: "أنت رأس هذا الأمر وسنامه".
نحن نقول دائماً للشّيعة وللسّنة: واجهوا التحديات الكبرى للمسلمين، جمَّدوا خلافاتكم من أجل أن تتوحّدوا في مواجهة تلك التحدّيات الكبرى التي تريد أن تسقط الإسلام وأهله
نحن نقول دائماً للشّيعة وللسّنة: إنكم تختلفون من خلال تلك المرحلة، فلنجعل تلك المرحلة أمامنا في طريقة الاختلاف بالوحدة، الوحدة مع الاختلاف نسمّيها وحدة التنوّع أو تنوّعاً في وحدة. إنهم واجهوا التحديات الكبرى للمسلمين، فجمَّدوا خلافاتهم من أجل أن يتوحّدوا في مواجهة تلك التحدّيات الكبرى التي تريد أن تسقط الإسلام وأهله، ونحن نواجه تحدّياتٍ أكبر مما واجهوا، ولذلك فإنَّ علينا أن نتوحَّد إسلامياً، وأن لا نستعيد الماضي، وأن يكون اختلافنا، إذا اختلفنا، علمياً وموضوعياً، لا يتحرَّك إلا من خلال المسؤولية العلمية. إنني أقول دائماً إنّه عندما يتحدث الشيعي عن شيعيّته فعليه أن يعتبر نفسه مسلماً شيعياً، وعندما يتحدث السني عن سنيّته عليه أن يعتبر أنه مسلم سنّي، حتى يتذكر الإسلام في مذهبيته، ولا يعتبر المذهبية بديلاً عن الإسلام في هذا المجال. إننا نعتقد أن التحديات الكبرى تفرض علينا أن نتوحَّد بوعي وإخلاص للإسلام وللمسلمين.
وبالنسبة للعراق، فهناك عمل مخابراتي إسرائيلي أمريكي يعمل على أساس إيجاد حرب أهلية، ونحن بالرغم من بعض السلبيات التي تحدث الآن في العراق مما يراد إثارته هنا وهناك، نعتقد أن العراق يملك مناعةً ضدَّ أية فتنة طائفية أو أي حرب أهلية.
* ويجب أن يتَّحد ضد المحتلّ؟
ـ القضية هي الآن قضية المحتلّ، وليست قضية خطوط مذهبية.
لبنان السياسي والأمني
* نشعر بقلق إزاء لبنان، والذي يجري فيه وما يراد له. نريد رأي سماحتكم حول المناخ الذي يعيشه لبنان؟
ـ أعتقد أن لبنان قد تجاوز مسألة الحرب، سواء كانت حرباً أهلية أو غير أهلية. إن الموقع الذي يعيش مناخ الحرب هو موقع الحدود مع فلسطين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وفي مواجهة الخطر الإسرائيلي. أما في لبنان، فقد كانت حروب لبنان حروباً خارجية، لقد كانت الحرب الأخيرة في لبنان حرب كيسنجر، الذي أراد تصفية القضية الفلسطينية في لبنان، وإخراج البندقية الفلسطينية منه، وقد نجح بإثارة الفتنة الطائفية في هذا المجال، ولكن الانتفاضة أعادت إنتاج القضية الفلسطينية بعد ذلك. لذلك لا أعتقد أن هناك أية ظروف ملائمة لأي حرب في لبنان، وسيبقى لبنان بلداً يعيش الاهتزاز السياسي، ولكنه يملك ضوابط داخلية تمنع من تحول هذا الاهتزاز السياسي إلى اهتزاز أمني. وما حدث في بعض المواقع يعتبر حالات طارئة لا إمتداد لها، وهذا ما لاحظناه كيف أن جميع الأطياف اللبنانية وقفت تستنكر ما حدث من دون فرق بين معارضة وموالاة. لذلك نحن نعتقد أن لبنان أريد له أن يبقى في هذا الاهتزاز السياسي، وليكون البلد الذي تتنفس فيه مشاكل المنطقة، والبلد الذي يشكّل مختبراً لكلِّ تيارات المنطقة، وكانت لي كلمة في أيام الحرب كنت أردّدها عن الواقع اللبناني: "لا تقسيم، لا انهيار، لا استقرار"!
حاوره في بيروت موفد الدستور
بسام الهلسه
صحيفة "الدستور" الأردنية، 19/10/2004، العدد:14472
"الدستور" تقرأ المشهد السياسي اللبناني
السيد محمد حسين فضل الله: العراق يمتلك المناعة ضد الفتنة
أكثر من سؤال كبير يطرح نفسه عند قراءة المشهد السياسي اللبناني الحالي، فهناك تفاعلات بعضها فوق الرماد وأغلبها تحت الرماد، لكنها تنبىء بأن الموقف يعد بأحداث كبيرة، وسيكون لها تأثير ليس على لبنان وحده، وإنما على محيطه العربي وإن بدرجات متفاوتة.
التّمديد الرئاسي وما أحدثه من تأثيرات عالمية وصلت إلى مجلس الأمن... الاستقالات من الحكومة احتجاجاً على التمديد، وما يطرح حالياً بشأن إعادة تشكيل الحكومة ومن سيشارك ومن سيقاطع من تيارات وأحزاب، والحادث الأكثر تأثيراً على الجميع محاولة اغتيال الوزير المستقيل مروان حمادة وغيرها، تطرح عناوين رئيسة لمرحلة جديدة أكثر أهميةً من سابقتها، كونها تتميَّز بأنها نتيجة وسبب في وقت واحد لما ستسفر عنه تلك المعطيات، وما ستخضع له من تأثيرات قادمة من الإقليم، وما ستحدثه من تأثيرات على الإقليم. لهذا سعت "الدستور" إلى قراءة المشهد اللبناني بعيون صانعيه والمؤثرين فيه، من خلال لقاءات ساخنة وصريحة مع قادة التيّارات السياسيّة التي تصنع الحدث في لبنان.
طاف الحوار مع سماحة العلاّمة المرجع الإسلامي الكبير، السيد محمد حسين فضل الله، حول قضايا متعدّدة: سياسية وفكرية وفقهية، رغم ضيق الوقت المخصّص للقاء، وهو نصف ساعة!
وما إن دخلنا مكتبه في الحي الشعبي البيروتي "حارة حريك"، حتى باشرنا سماحته بالحديث عن فلسطين و"إدمانه" لقضيّتها منذ أكثر من خمسين عاماً. فسألناه عن الانتفاضة في عامها الخامس، لينطلق الحوار من ثم نحو ما رأيناه ملحّاً الآن من هموم العرب، حيث أعطى سماحته رأيه بصراحة واضحة، سواء في المسائل السياسية أو الفقهية العلمية، ليشمل الحوار: فلسطين وانتفاضتها، سياسة أمريكا، الفقه والاجتهاد، الشيعة والسنة، العراق، لبنان.
ينطلق العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله من فكر سياسي وديني منفتح وجريء، فكر ينطوي على نقدية ثقافية حيوية تغذيها تجربة رجل يطلُّ بوعي عميق على الخريطة السياسية للمنطقة، وفي ضوء ذلك، فهو يرى أن الاختلاف بين السنَّة والشيعة يجب أن يظلّ ضمن الوحدة لمواجهة التحديات، ويرى أن لبنان أريد له أن يكون بلد الاهتزاز السياسي، أما نضال الشعب الفلسطيني، فهو الأمثولة المشرفة بالنسبة إلى فضل الله... رجل الدين والعلم والسياسة والثقافة... معه كان هذا الحوار:
سنة خامسة انتفاضة!
* في مستهلّ السنة الخامسة للانتفاضة المجيدة، وقد باشرتها إسرائيل بمجازر ضارية، لكأنها تنتقم من عجزها عن إخمادها، ماذا تقولون في هذه المناسبة لأهل فلسطين؟
ـ أقول لكلِّ أحبّائنا من أبنائنا وإخواننا وأخواتنا في فلسطين، إنّ الرهان الإسرائيلي والأمريكي هو أن تسقطوا وأن تسقط إرادتكم في التحرير، وأن تسقط إنسانيتكم من الانطلاق نحو تأصيل وجودكم الإنساني كشعب يجاهد من أجل أن يشارك في صنع الحضارة والتقدم الإنساني، ولا سيّما أنَّ اليهود يعرفون أن الشعب الفلسطيني يمثِّل التحدي الكبير لمشروعهم في أن يكونوا الشعب المميَّز في المنطقة من الناحية العلمية، لأن من المعلوم لدى الوطن العربي، وامتداداً إلى أكثر من موقع في العالم، أن الشعب الفلسطيني يمتاز بأنه غني بالطلائع العلمية المثقفة التي تستطيع أن تصنع من هذا التقدم العلمي الكثير للمستقبل، بحيث تمثّل الموقع الذي يستطيع أن يخترع ويكتشف ويُبدع ويغني الوطن العربي كله، هذا أمر عرفناه منذ الخمسينات، فالشعب الفلسطيني يعتبر من أكثر الشعوب تقدماً في الوطن العربي.
لذلك فإنَّ صمودكم منذ الثلاثينات وحتى الآن، سواء في داخل فلسطين أو في العالم، إنما يتمثل في أن تبقى كلمة فلسطين تتوارثها الأجيال، وكلمة القدس في البال، وهي التحدي الكبير الذي يمثّل أكثر من صاروخ ينطلق ليقتل كثيراً من العنفوان الإسرائيلي. لذلك ليس لديكم ما تخسرونه إلا قيود الأسر، وقد يسقط الكثير من الشهداء كما سقط الآلاف منذ الانتفاضة وقبلها، وقد يجرح الكثيرون، وقد تدمَّر البيوت، ولكنّنا نعتقد أن الأجيال القادمة سوف تصنع من جديد شعباً مجاهداً منفتحاً، وسوف تزرع الأرض وتعمِّر البيوت وتنطلق الحرية.
أمريكا والأكاذيب الكبرى
* احتلّت أمريكا العراق وتقول إنها بصدد إعادة هيكلة المنطقة في ما تسميه الشرق الأوسط الكبير... ماذا ترى سماحتكم في مثل هذه الأطروحات، خصوصاً الدعوة إلى إشاعة الحرية والديمقراطية في المنطقة؟
ـ عندما ندرس المسألة في ضوء متابعتنا للسياسة الأمريكية في العالم، فإننا نلاحظ أن دراستنا للواقع الأمريكي في الداخل، لا تمثِّل هذا العمق لقضايا الحرية وحقوق الإنسان، ربما نرى أن هناك، في أمريكا، نوعاً من الديمقراطية التي يستطيع الشعب الأمريكي أن يختار فيها إدارته ويبدِّل رؤساءه، ولكننا عندما ندرك المؤثّرات التي يخضع لها هذا الشعب في ما يختاره، نجد الشركات الاحتكارية الكبرى هي التي تسيطر على مواقع القرار، وهي التي تختار الشخصيات التي تقدمها للشعب الأمريكي في حصار معين تحاصر فيه إرادة الشعب بفعل الشروط التي تؤكدها في هذا المرشح أو ذاك، وبفعل الإمكانات التي يحصل عليها هذا المرشح وذاك.
وهكذا نجد، كيف أن جماعة معيَّنةً كاللوبي اليهودي أو كالمحافظين الجدد تسيطر على كلِّ القرار الأمريكي، وتسيطر على كلِّ الممثلين للشعب الأمريكي، سواء في مجلس الشيوخ أو في مجلس النواب، ما يدل على أنها حرية في داخل مأزق، وليست حرية منفتحة بالمعنى الإنساني الذي يملك فيه الإنسان قراره، ويملك أن يؤكد قراره بعيداً عن سيطرة رأس المال وعن سيطرة الشركات الاحتكارية وما إلى ذلك.
عندما نتطلّع إلى أمريكا التي تتحدَّث عن الحرية وعن حقوق الإنسان، نصطدم بالأكاذيب الكبرى التي تبرّر حرباً يقتل فيها عشرات الألوف من شعوب العالم الثالث، ولا سيما ما حدث في العراق وما يحدث في فلسطين
إنّنا عندما نتطلّع إلى أمريكا التي تتحدَّث عن الحرية وعن حقوق الإنسان، نصطدم بالأكاذيب الكبرى التي تبرّر حرباً يقتل فيها عشرات الألوف من شعوب العالم الثالث، ولا سيما ما حدث في العراق وما يحدث في فلسطين. إن المشكلة هنا هي أن فاقد الشيء لا يعطيه، وأنّ أمريكا التي تدعم الدول الدكتاتورية منذ ستين سنة، "حسب اعتراف الرئيس بوش في خطابه في بداية العام"، والتي تعمل على أساس استغلال الشعوب ومنعها من أن تحقِّق الاكتفاء الذاتي، لا يمكن لها ولحلفائها من أن تصنع إصلاحاً، لأنَّ الإصلاح ينطلق عندما يصنع الشعب حريته ويؤكد قراره بنفسه، ولكننا نلاحظ أن أمريكا ومعها الدول السبع الكبرى، والتي ألحقت بها روسيا أخيراً، تعمل على أساس محاصرة الشعوب في اقتصادها وسياستها وأمنها تحت عنوان العولمة. لذلك نحن نعتقد أننا نعاني كثيراً من الأخطاء ومن الانحرافات التي صنعتها عقول التخلّف من جهة، والتي أكَّدها الاستكبار العالمي من جهة أخرى، ولكننا نعتقد أن أمريكا ليست هي المصلح الذي يمكن أن يصلح مثل هذه الأخطاء.
الأمَّة المحاصرة بأنظمتها...
* ولكنَّ أحوال العرب والمسلمين كما قلتم، ما زالت راسخةً في الظلم والاستبداد والقهر، كيف يمكن إصلاحها من منظورنا نحن، ولمصلحتنا؟
ـ علينا أن نفرِّق بين الأنظمة والأمَّة، لأن بعض الأنظمة تسيطر عليها أمريكا، كما هو الحال في الواقع السياسي العالمي.
ونحن نعرف أنَّ من المفارقات أن بعض البلدان العربية لا تسمح بالمظاهرات في الشارع، لأنها تخاف من أن تعبر الشعوب عن إرادتها وتطلّعاتها، وهكذا تحبس بعض البلدان العربية المظاهرات داخل أسوار الجامع وداخل أسوار الجامعة من أجل الإيحاء بأن الحرية هي التي يصرخ فيها المسجونون من دون أن يسمع أحد صوتهم! لذلك فإن الأمة لن تسكت، وهذا ما نلاحظه في الانتفاضات التي تتحرك هنا وهناك، سواء في مناخ الحرب أو في مناخات سياسية أخرى. ولعلَّنا عندما ندرس تجربة الشعب الفلسطيني التي قاربت ثلاثة أرباع القرن، نجد أن هذا الشعب يمثِّل إرادة الأمة وعنفوانها وعزّتها وكرامتها، وأنه مستعدٌّ للتضحية حتى التحرير، وهذا ما نلاحظه بالنسبة إلى العراق أو بالنسبة إلى الانتفاضات الصغيرة أو الكبيرة أو المعارضة هنا وهناك، حتى التي تقبع الآن في داخل السجون، نجد أن هناك مستقبلاً واعداً وأمّة واعدة يمكن أن تفتح أبواب المستقبل عندما تتخفَّف من كلِّ الضغوط التي تعيشها. إن الأمَّة لم تهزم ولكنَّها حوصرت، ولكنَّ الذي هُزم هم المهزومون تلقائياً، والذين وظِّفوا من أجل الإيحاء بالهزيمة.
إرادة المستقبل.. إرادة التغيير
* كيف يمكن للأمة أن تخرج من هذا الحصار، وأن تصنع حريتها وليس فقط تحررها؟
ـ إننا نتصوَّر أنّ على الطلائع الواعدة أن تنوّع التجربة، فقد أريد للأمَّة منذ الخمسينات وحتى الآن، أو منذ الحرب العالمية الثانية، أريد لها أن تعبِّر عن ثوريَّتها بطريقة الانقلابات العسكرية التي لا تمثِّل الأمَّة كلَّها، ولكنها تحاول أن تستغلَّ مشاعر الأمّةِ وأحاسيسها وتوقها إلى التحرّر والتخلّص من الواقع الفاسد، ولكنها تصطدم بعد ذلك بأنَّ الذين اعتبرتهم المحررين لها هم الذين تحوّلوا إلى سجّانين لقضاياها ولمصيرها.
إننا نعتقد أنه علينا أن نعمل على توعية الأمة بمختلف الوسائل، حتى نتخلص من الأمية السياسية والأمُية الدينية، لأننا نجد أن المشكلة تكمن في خطوط الخرافة وخطوط الغيب التجريدية، وخطوط التخلّف وما إلى ذلك. إننا بحاجة إلى نهضة ثقافية، سياسية، دينية، اجتماعية، بحيث تجعل الإنسان يفكر، كما إننا بحاجة إلى ثقافة الاعتراف بالآخر، لنتعلَّم كيف نتحاور عندما نختلف، وكيف يعذر بعضنا بعضاً في ما يراه، وكيف نحقِّق إنسانيّتنا في إنسانية الآخر، وكيف ندرس الثغرات التي يمكن أن ننفذ منها هنا وهناك. إن مرض الأمَّةِ في كثير من عناصرها السلبية هو مرض تاريخي، لذلك علينا أن نعمل على أساس أن نأخذ وقتنا في استعمال الدواء الشافي والنافع للمستقبل.
إننا بحاجة إلى نهضة ثقافية، سياسية، دينية، اجتماعية، بحيث تجعل الإنسان يفكر، و إلى ثقافة الاعتراف بالآخر، لنتعلَّم كيف نتحاور عندما نختلف
إنني أعتقد أن الأمة تختزن الكثير من العناصر، حتى إنني أزعم بأن أخذ الأمّة بأسباب العلم والتقدم إنما يكوّن جمهوراً من العلماء يستطيع أن يخترع ويكتشف ويصنع التقنيات ويأخذ بأسباب التكنولوجيا بالشكل الذي يحقق اكتفاءها الذاتي، كما فعلت إسرائيل عندما حقَّقت اكتفاءها الذاتي. أعتقد أننا قد نقترب من الخلاص في هذا المجال، لأنّ ما يضيق به الحاضر قد يتّسع له المستقبل، والمهم أن تكون لنا إرادة المستقبل في إرادة التغيير.
تحرير الاجتهاد
* قلتم إننا نعاني من أمُيّة دينية، ومن شيوع ثقافة الخرافة الغيبية التجريدية، هل تدعون إلى ثورة في تجديد الفقه بما يواكب العصر؟ وهل تشيرون حين تتكلمون عن الاعتراف بالآخر إلى ضرورة الأخذ بالديمقراطية؟
ـ أنا لا أحبُّ أن أستعمل كلمة الثورة، لأنها استهلكت حتى لم تعد تمثل شيئاً، بل أصبحت من الاستهلاكيات التي نستعملها من دون معنى. إنني أعتقد أن أفضل تعبير هو تعبير التغيير، {إنَّ الله لا يغيِّر ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسهم}[الرَّعد/11]، باعتبار أن الإنسان هو الذي يصنع التغيير، لأن الإنسان هو الذي تتجمَّع فيه كلُّ العناصر التي يمكن أن تفتح أكثر من نافذة حيَّة، لأن التغيير بالآليات الجامدة ليس فيه روح، ولكن التغيير من خلال حركية الإنسان هو الذي يعطي الآلية التي تحمل شيئاً من الروح.
لدينا مقدَّس واحد وهو النص بحرفيّته، ، لأن الكتاب معصوم، والسنّة معصومة في عقيدتنا كمسلمين جميعاً، ولكن فهم الكتاب وفهم السنّة هو بشري
أتصوَّر أن مسألة الاعتراف بالآخر قد تحمل معنى الشورى التي لا بد لنا أن نضع برنامجاً ومنهاجاً لها، لأنني لا أحب استعمال المصطلحات التي ولدت في مناخ آخر، باعتبار أنها ترتكز على فلسفة قد تختلف في بعض الجذور عن فلسفتنا مثلاً. فالديمقراطية تعني أن الشرعية وأن الحق هو ما تصنعه الأكثرية، أي إن الحقّ تابع للأكثرية، حتى لو كانت الأكثرية بنسبة واحد زائد على الخمسين بالمئة، ولكنّنا نلاحظ أن الديمقراطية حتى عند الذين شرَّعوها ونظَّروا لها، هي أقلُّ الأنظمة سوءاً وليست أحسن الأنظمة. إننا لسنا ضد الديمقراطية في المسألة السياسية باختيار الشعب لممثّليه، واختيار الشعب لخطّه السياسي ومحاسبة الحاكم وما إلى ذلك، ولكننا كمسلمين نملك بعض الثوابت التي لم يجعلها الله للخيارات العامة في هذا المجال.
ومن هنا ندخل إلى مسألة تجديد الفقه، إنَّنا نقول إنَّ الفقه انطلق من خلال اجتهاداتٍ في فهمِ الكتاب والسنّة، وعلى ضوء هذا، فإنَّا نقول إن ما فهمه القدماء ليس هو الحقيقة، نحن لدينا مقدَّس واحد وهو النص بحرفيّته، نص الكتاب ونص السنّة، هما المقدَّسان، لأن الكتاب معصوم، والسنّة معصومة في عقيدتنا كمسلمين جميعاً، ولكن فهم الكتاب وفهم السنّة هو بشري، ولهذا فإن القدماء من الفقهاء أو من المفكرين أو من الفلاسفة، لا يمثِّلون العصمة في فقههم، هم اجتهدوا وقد يخطئون في اجتهادهم وقد يصيبون، فعلينا أن نجتهد كما لو لم يكن هناك أيُّ اجتهاد، ما عندهم عندنا وما عندنا ليس عندهم، ولذلك نحن ندعو إلى أن نحرِّر الاجتهاد من الخضوع للسلف الصالح، مع تقديرنا للسلف الصالح، وليس معنى "أن لا نخضع" أننا نشجب الماضي كلّه، بل أن نفكّر في الماضي، كما فكر بعض الماضي في ماضٍ سبقه في هذا المقال. وعلى هذا الأساس، علينا أن نجتهد في الفقه تماماً كما نجتهد في كل العلوم الأخرى، لنختلف مع السابقين في ما نراه خطأً بالنسبة إلينا.
السنّة والشيعة.. وحدة التنوع
* نلاحظ أنَّ أمريكا وبعض القوى، ولتمزيق الأمَّة والهيمنة عليها، تحاول إذكاء فتنة بين الشيعة والسنّة، وخصوصاً في العراق. كيف ترون هذه المحاولة؟
ـ إننا نتصوَّر أنَّ مسألة السنّة والشيعة هي مسألة تنطلق من خلاف في وجهة النظر في بعض التفاصيل العقيدية والشرعية، في ما اختلف فيه المسلمون، وهي قضيَّة الإمامة والخلافة. هي مسألة تتصل ببعُد تاريخي: هل إن النبي عيَّن شخصاً أم لم يعيِّن؟ وعلينا أن نقرأ الكتاب، تفسيراً أو سنّةً، "نص الكتاب والسنة"، هل إن الله تحدَّث عن هذا في كتابه؟ وهل إنَّ النبي تحدَّث عن هذا في سنته أم لا؟ لأنَّ هذه القضيَّة هي قضية علميّة لا بدَّ أن تبحث بطريقة موضوعيّة بعيداً عن كلِّ الحساسيات والمشاعر والرواسب التاريخية التي أثقلت حركة التاريخ بالكثير من الدماء ومن الأحقاد ومن المنازعات وما إلى ذلك.
لذلك علينا أن نبحث هذه القضية بأبعادها العلمية كما نبحث النصوص القانونية في المسائل القانونية بتجرّد علمي، بحيث لا تكون القضية مربوطة بالجانب الذاتي لكلِّ واحد منا، بل مربوطة بالجانب الموضوعي للفكرة. وهناك أيضاً اختلافات فقهية، وهذه ليست بدعة من الحركة العلمية الفقهية، فالسنّة مختلفون، والشيعة مختلفون، وهناك اتفاق في الجانب الفقهي بنسبة 80بالمائة. وهناك أبحاث كلامية في الحسن والقبح العقليين وما إلى ذلك. وعندما ندرس تاريخ ممارسة الذين اختلفوا في تحريك خلافاتهم، نجد أنّ المسألة بين السنّة والشّيعة هي هل إنّ الإمامة للإمام علي(ع) أم للخليفة أبي بكر؟ وعندما ندرس التجربة، نرى أن الإمام علي(ع) كان مع الخلفاء، وكان مقتنعاً بحقه كما كانوا مقتنعين به، ولكنهم عندما رأوا القضية الإسلامية مهدَّدة وفي موقع التحدي من الآخرين، عاشوا الوحدة في مواجهة التحدّيات ضد الإسلام وفي تأصيل الخطوط الإسلامية في داخل الواقع الإسلامي.
نحن نقرأ نصاً للإمام علي في "نهج البلاغة" الذي جمعت فيه كلماته، يقول في كتابه إلى أهل مصر: "فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى إذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يريدون محق دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم هذه، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منا ما كان، كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنَّ الدين وتنهنه".
ونقرأ أيضاً في بعض تصريحاته(ع) يقول: "لأسلمنَّ ـ أو لأسالمنَّ ـ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة". ونحن نقرأ نصاً للخليفة عمر عندما يقول: "لولا عليُّ لهلك عمر"، "قضيّة ولا أبا حسن لها"، وذلك لأنّهم عندما كانوا يصطدمون ببعض المشاكل، كانوا يلجأون للإمام علي(ع) ليعطيهم الرأي والمشورة والنصيحة. ونحن نقرأ أن عمر عندما استشار المسلمين في الذهاب إلى الحرب في معركة المسلمين مع الفرس "نهاوند"، قال له المسلمون: لا بأس بذلك، ولكنّ عليّاً نصحه بأن لا يذهب خوفاً على حياته، وقال له: "أنت رأس هذا الأمر وسنامه".
نحن نقول دائماً للشّيعة وللسّنة: واجهوا التحديات الكبرى للمسلمين، جمَّدوا خلافاتكم من أجل أن تتوحّدوا في مواجهة تلك التحدّيات الكبرى التي تريد أن تسقط الإسلام وأهله
نحن نقول دائماً للشّيعة وللسّنة: إنكم تختلفون من خلال تلك المرحلة، فلنجعل تلك المرحلة أمامنا في طريقة الاختلاف بالوحدة، الوحدة مع الاختلاف نسمّيها وحدة التنوّع أو تنوّعاً في وحدة. إنهم واجهوا التحديات الكبرى للمسلمين، فجمَّدوا خلافاتهم من أجل أن يتوحّدوا في مواجهة تلك التحدّيات الكبرى التي تريد أن تسقط الإسلام وأهله، ونحن نواجه تحدّياتٍ أكبر مما واجهوا، ولذلك فإنَّ علينا أن نتوحَّد إسلامياً، وأن لا نستعيد الماضي، وأن يكون اختلافنا، إذا اختلفنا، علمياً وموضوعياً، لا يتحرَّك إلا من خلال المسؤولية العلمية. إنني أقول دائماً إنّه عندما يتحدث الشيعي عن شيعيّته فعليه أن يعتبر نفسه مسلماً شيعياً، وعندما يتحدث السني عن سنيّته عليه أن يعتبر أنه مسلم سنّي، حتى يتذكر الإسلام في مذهبيته، ولا يعتبر المذهبية بديلاً عن الإسلام في هذا المجال. إننا نعتقد أن التحديات الكبرى تفرض علينا أن نتوحَّد بوعي وإخلاص للإسلام وللمسلمين.
وبالنسبة للعراق، فهناك عمل مخابراتي إسرائيلي أمريكي يعمل على أساس إيجاد حرب أهلية، ونحن بالرغم من بعض السلبيات التي تحدث الآن في العراق مما يراد إثارته هنا وهناك، نعتقد أن العراق يملك مناعةً ضدَّ أية فتنة طائفية أو أي حرب أهلية.
* ويجب أن يتَّحد ضد المحتلّ؟
ـ القضية هي الآن قضية المحتلّ، وليست قضية خطوط مذهبية.
لبنان السياسي والأمني
* نشعر بقلق إزاء لبنان، والذي يجري فيه وما يراد له. نريد رأي سماحتكم حول المناخ الذي يعيشه لبنان؟
ـ أعتقد أن لبنان قد تجاوز مسألة الحرب، سواء كانت حرباً أهلية أو غير أهلية. إن الموقع الذي يعيش مناخ الحرب هو موقع الحدود مع فلسطين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وفي مواجهة الخطر الإسرائيلي. أما في لبنان، فقد كانت حروب لبنان حروباً خارجية، لقد كانت الحرب الأخيرة في لبنان حرب كيسنجر، الذي أراد تصفية القضية الفلسطينية في لبنان، وإخراج البندقية الفلسطينية منه، وقد نجح بإثارة الفتنة الطائفية في هذا المجال، ولكن الانتفاضة أعادت إنتاج القضية الفلسطينية بعد ذلك. لذلك لا أعتقد أن هناك أية ظروف ملائمة لأي حرب في لبنان، وسيبقى لبنان بلداً يعيش الاهتزاز السياسي، ولكنه يملك ضوابط داخلية تمنع من تحول هذا الاهتزاز السياسي إلى اهتزاز أمني. وما حدث في بعض المواقع يعتبر حالات طارئة لا إمتداد لها، وهذا ما لاحظناه كيف أن جميع الأطياف اللبنانية وقفت تستنكر ما حدث من دون فرق بين معارضة وموالاة. لذلك نحن نعتقد أن لبنان أريد له أن يبقى في هذا الاهتزاز السياسي، وليكون البلد الذي تتنفس فيه مشاكل المنطقة، والبلد الذي يشكّل مختبراً لكلِّ تيارات المنطقة، وكانت لي كلمة في أيام الحرب كنت أردّدها عن الواقع اللبناني: "لا تقسيم، لا انهيار، لا استقرار"!
حاوره في بيروت موفد الدستور
بسام الهلسه
صحيفة "الدستور" الأردنية، 19/10/2004، العدد:14472