المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القنوط والأمل.. على سلم الانتخابات .....خالص جلبي



مجاهدون
10-29-2004, 07:55 AM
خالص جلبي

جرت الانتخابات مؤخرا في بلد عربي، وكانت النتيجة، كما كان متوقعاً، فقد فاز الرئيس بنسبة 95% من الأصوات للمرة الخامسة، وهذا يعني نوماً هنيئا في كرسي الحكم ربع قرن من الزمن، كما التهم الحزب الحاكم غالب كراسي مجلس الشعب. ولكن يجب الاعتراف أنه في هذه المرة جرى شيء جديد في مسرحية الانتخابات العربية، فقد تم تعديل الديكور السياسي، فلم يبق الرئيس هو المرشح الوحيد، بل نافسه ثلاثة آخرون، ولم تكن نتيجة الانتخابات 100% كما حدث مع صدام المصدوم أو 99% بل 95%، أي أن الأمة كبر حجمها من صفر إلى واحد في المائة، والآن إلى خمسة في المائة.

وهذا التعديل الطفيف قد يدفع الآمال في هذا القنوط المقيم، وأن «الانتخابات» أصبحت فعلاً انتخابات. ولكن الجميع يعرف أن «المؤتمرات» هي مكان للمؤامرات، وأن الاجتماعات هدفها فرط الاجتماع. وأن «الانتخابات» كوميديا ظاهرها انتخاب، وحقيقتها بيعة كافور الإخشيدي إلى يوم التنادي.

وكل هذا الكلام يعرفه الجميع ولا جديد فيه، وفي علم النحو والصرف يجب أن نقول كلاما جديدا مفيدا. وكلام من هذا الطراز قد ينفع في تفريغ شحنة نفسية، ولكنه لا يقترب من الحل أكثر من معرفة فلاح من اعماق الأرياف بتشريح الكبد في مرض البلهارسيا.
ومن كشف عن مرض (البلهارسيا) في مصر كان طبيبا ألمانيا، درس دورة حياة يرقة الماء، وكيف تدخل الجلد أثناء دخول الترع الملوثة التي يبول فيها الجاهلون. ومرض البلهارسيا كشف عنه في مومياءات مصر في الآثار الفرعونية. ومع أن الطب الألماني كشف عن حقيقة المرض الفرعوني، وفك لغز نقل السلطة السلمي، ولكن العالم العربي واقف في مربع الزمن كما تركه الفرعون بيبي الثاني.

ولكن لم يحدث ما يحدث في العالم العربي؟ لماذا يمشي مجتمع ومواطنوه إلى الخلف على رؤوسهم بدون أن يشعروا بالدوار؟
والجواب مثلث الزوايا من «العناصر الخارجية» و«العجز الداخلي» و«الثقافة الميتة». ولفهم هذه المعضلة لا بد لنا من دخول علم الاجتماع السياسي، وقبلها يجب أن نستوعب حقيقة موجعة أشد من قولنج المرارة، أن المرض العربي واحد مع اختلاف الدرجة. فمسؤول عربي إعلامي يرى أن بلده قد تحول إلى قوة عظمى مثل الصين، كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد. وفي أولمبياد عام 2004 لم يحمل صورة رئيس دولته سوى فريق دولة عربية، بدون حرج، من أصل 200 دولة حضرت اللقاء، وهو يروي عمق تجذر الوثنية في بلاد العروبة.
وفي ظلام هذا الإحباط لا ينفعنا سوى استخدام قشرة الدماغ للتحليل، ومن يقنط من رحمة ربه هم الضالون.

وعندما دخلت أميركا إلى العراق لم تحرر العراق، بل أضافت فوق الاستبداد مرض الاحتلال، كما كشف عند مرضى الإيدز انتشار سرطان كابوزي العفلي في الجلد. ولم يكن معروفا سوى عند المسنين اليهود.

ومن أجمل ما قرأت عن تحليل دخول أميركا إلى العراق، أنها جاءت ليس لنشر الديمقراطية بل لقطع الطريق على العراق إن يتحول تحولا سليما إلى الديمقراطية. وأخوف ما تخاف منه أميركا هو يقظة الشعوب، والآن يتعاون على الدمار في العراق أربعة فرق إجرامية: الفكر البعثي الفاشي، والإسلامي المتطرف، والصهيونية، ودول مجاورة.

وغريب هذا اللقاء الذي يجمع فرقاء متشاكسين، ولكن قوانين السياسة تشبه إلى حد كبير قوانين الغابة، إذ يجتمع على الجثة في العادة الأسد وابن آوى والغربان والديدان والنمل. وعلى الجثة العراقية اجتمع اليوم الأسد الأميركي وابن آوى الصهيوني، والغراب العربي، والنمل الأصولي. فأما الصهيونية فتريد عراقاً مفتتا. والأنظمة العربية الشمولية تريد فشل التجربة العراقية بكل المقاييس، حتى تحمد الشعوب رب العزة والجلال على وضعها، فتعيد ترشيح رئيسها للمرة السادسة عشرة. والفكر القومي يبكي أطلال دولة فقدها كما بكى «امرئ القيس»، فهو يبغي تحصيلها ولو في الأحلام والدم. وقتل 49 شاباً في رمضان بطلقة في القذال. وأما الفكر الإسلامي المتطرف فهو يعيش في الزمن مقلوبا، بعد أن انفك عن إحداثيات التاريخ والجغرافيا.

ولكن قدر التاريخ أنه يمشي وفق سننه أكثر من رغبات الصهيونية، وأحلام البعثيين الفاشيين، أو رغبات دول الجوار، أو هلوسة الأصولية الإسلامية عن خلافة يفتتح فيها السلطان أول يوم حكمه بمحزنة عظمى; فيخنق اخوته التسعة عشر، بفتوى وبآية من القرآن يقول فيها أن الفتنة أشد من القتل.

وأميركا لو أرادت أن تحرج الطغاة في العالم العربي وتحرف مسارهم أو تقطع الطريق عليهم لفعلت، ولكن أميركا ليست عندها رسالة، وأوربا تمارس النفاق السياسي.
مع هذا فيجب ألا نلومهم وعلمنا القرآن ألا نلوم الشيطان، ويوم القيامة يتحول اللعين إلى خطيب مفوه فيقول للناس: فلا تلوموني ولوموا أنفسكم فلن ينفع أحد اليوم أحدا. ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي. إني كفرت بما أشركتموني من قبل.

ولأن القرآن لم يعد لنا شرعة ومنهاجا فنحن نعول على أميركا وننسى أنفسنا من معادلة التغيير. ونقرأ القرآن بعيون الموتى. والتغيير لا يحدث إلا من الداخل. هكذا جرت سنة الله في خلقه. ولكن بيننا وبين هذا الفهم مسافة ثلاث سنوات ضوئية.

فهذا هو العنصر الثاني أي «العجز الداخلي» في ولادة آلية «نقل السلطة السلمي»، والكف عن الكذب والتزوير في الانتخابات وهو موضوع موجع أكثر من قولنج المرارة والحالب.
وكما يقول جودت سعيد «لقد خسرنا الانتخابات ونعيش حياة الزور وشهادة الزور. وعندما يخرج المواطن من التزوير سيزول التزوير. وأريد مواطناً لا يزور ضميره في الانتخابات. إن أمانة الشهادة في الانتخابات ليست ذنباً ولا جريمة. وكان بالإمكان في زمن شراء أصوات الناخبين، ولكن أصبح من الضروري الآن إقناعهم وربما تسلسل الموضوع من: شراء الأصوات، إلى أخذ الأصوات بالتهديد والتخويف، إلى أخذ الأصوات بالتزوير والتلاعب، وفي المرحلة الأخيرة كان أخذ الأصوات بالإقناع، أو أنها متداخلة مع التلاعب بالدعاية، ويمكن تحويل الناس إلى موافقين برضاهم بتدجينهم»

وننتقل إلى العنصر الثالث وهو أشدها حساسية، وعن عناصر «الموت في الثقافة العربية». فنفس ابن خلدون صاحب الدماغ العبقري، يمكن أن تستخدم أفكاره في ترسيخ الاستبداد في العالم العربي، فقال بحكم «العصبية»، أي الحزب الحكومي الذي التهم مقاعد الشعب بدون شعب. وأفكاره على قدر عظمته إذا خرت كان لها وقع عظيم. فكما اعتبر الرجل الشمس غير ساخنة، مع أنها تغلي بدرجة حرارة تصل إلى المليون في باطنها; فيمكن أن يقول كما قال فقهاء العصر المملوكي، إن الحكم هو بالغلبة فمن نجح بالغش والخداع والمخابرات والجيش أن يستولي على الأمر، وجب على الفقهاء مبايعته، لأن الفتنة أشد من القتل، فيجب الحرص على عدم الفتنة، ويجب الحرص على الشخير العام.


إن موت الأمة الحالي يشبه موت جحا، فقد سأل زوجته يوماً كيف نعرف الحي من الميت؟ قالت له إذا بردت أطراف الجثة. وفي يوم برد شديد، خرج جحا على ظهر حماره، فازرقت أطرافه وجمدت من البرد; فقال في نفسه: لا شك أنني ميت، ثم إنه استلقى فجاءت عصبة من الذئاب فهجمت على الحمار، وابتدأت في افتراسه; فالتفت جحا إليهم وقال: تعلمون أيها المجرمون أني ميت والله لو كنت حيا لأدبتكم.

وإلى اللقاء للاحتفال بأيام الأفراح والملاح بعد سنوات إلى رئاسة أخرى، في مكان آخر في دنيا العروبة.