جمال
10-27-2004, 03:54 PM
في الحلقة الرابعة والاخيرة لذكرياته التي خص بها «الشرق الأوسط» يروي وزير الخارجية السوداني مصطفى عثمان اسماعيل، تفاصيل لقائه مع الرئيس العراقي السابق صدام حسين بشأن موضوع الاسرى الكويتيين، فقال ان صدام غضب عندما فتح معه الموضوع، وقال له "ان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات كان يجلس في المقعد الذي كنت تجلس فيه، وتطرق لنفس الموضوع، أتدري بماذا اجبته؟ قلت له «ما شأنك انت بهذا الموضوع».
واضاف ان صدام رغم ذلك كلف وزير خارجيته بمناقشة الموضوع معي.. وتم تسليمي قائمة بأسماء 500 اسير تم تسليمها للجامعة العربية. وروى ايضا تفاصيل لقائه في الكويت، التي زارها للمرة الاولى بعد حرب الخليج الثانية، مع ولي العهد الشيخ سعد العبد الله الذي كان يصنف بانه أشد المسؤولين الكويتيين غضبا على الدول التي وقفت مع العراق في حرب الخليج الثانية، فقال ان الشيخ سعد تعمد مقابلتي بفتور وصمت، حتى فاجأته بقولي: «احنا دول الضد.. طال عمرك» فانفجر الشيخ سعد ضاحكا، وابلغه ان الكويت الغت قائمة دول الضد. بعد الغزو العراقي للكويت، وكانت العلاقات بين السودان والكويت قد انقطعت تماما جاءت مجموعة من اهالي الاسرى الكويتيين الى الخرطوم وألحوا علينا باعتبار ان هناك علاقات جيدة بين العراق والسودان ان نتحدث مع الرئيس العراقي في محاولة انسانية لاطلاق سراح الاسرى الكويتيين.
وبعد حوار طويل معهم لاصرارهم قابلت الرئيس البشير وحكيت له الموضوع، وطلبت منه رسالة خطية للرئيس العراقي صدام حسين لتعييني في هذه المهمة، وحذرني الرئيس من ان الاخوان في الكويت قد لا يفهمونها بهذا المفهوم الذي نصبو اليه، بل ان الاعلام الكويتي قد يجعل منها مادة لتأجيج الوضع المتأزم اصلا بيننا، ولكنه عندما وجدني مصرا اعطاني الرسالة للرئيس العراقي السابق صدام حسين، وتحركت من الخرطوم الى الاردن، ومن هنالك تحركت برا حتى الحدود العراقية ثم برا ايضا الى بغداد، حيث قضينا يوما كاملا في الطريق، وفي اليوم التالي ابلغوني بموعد مقابلة الرئيس العراقي صدام حسين، وكان الوقت ظهرا وبعد التحية المعتادة سلمته رسالة الرئيس، وكانت الرسالة تقدمني اليه، بدأت اشرح له المهمة وألح عليه في اطلاق سراح هؤلاء الاسرى لاسباب انسانية حتى يخلق ذلك اجواء مواتية.
صمت قليلا، وشعرت بأن تقاطيع وجهه تتغير وبدأ الغضب ظاهرا عليه، وقال لي قبل اسبوع كان يجلس في هذا الكرسي الذي تجلس عليه الريس ياسر عرفات، وتطرق لنفس هذا الموضوع، وسألني اتدري بماذا اجبته؟ قلت له ما شأنك انت بهذا الموضوع؟
وفهمت الرسالة جيدا، وان الرجل لا يريدني ان استرسل في الموضوع، وبدأ الاخوة العراقيون الحضور يشيرون الي بانهاء الموضوع، ولكني بدأت مرحلة جديدة من النقاش في ذات الاتجاه فرد علي، اذا انت مصر على مواصلة هذا الموضوع، دعنا نصلي العصر ونعود مرة اخرى.
فخرجنا للغرفة المجاورة وصلينا وهو يؤمنا في صلاة طويلة، وكأن لسان حاله ان اكف عن هذا الموضوع، وبعد الصلاة اطال الدعاء مليا، وعندما فرغنا سألني هل ما زلت تريد مناقشة الموضوع، قلت نعم، امر بعدها احد مساعديه بأن يرتب لي لقاء مع وزير الخارجية وكذلك مع وكيل الخارجية للشؤون القانونية رياض العين، وفعلا تم اللقاء وكان جيدا وسلمني الاخوة العراقيون قائمة بأسماء الاسرى (500)، وقالوا لي ولكن لا بد ان تتأكد منها، فبعضهم قد يكون لا يزال باقيا في السجون وبعضهم قد اختفى او قتل ولكن لتأكيد التعاون نسلمك القائمة وهي القائمة التي لدينا، وعدت الى السودان، والتقيت بالرئيس ونقلت ما دار في بغداد، وقال لي فعلت جيدا، لكني كنت اخشى عليك من فهم بعض الاخوة في الكويت، وقلت له انه كان لدي احساس باني سأعالج الموضوع، ثم سافرت للقاهرة والتقيت بأمين عام الجامعة العربية الدكتور عصمت عبد المجيد وسردت عليه ما حصل وسلمته القائمة وابلغته ان مهمتي قد انتهت عند هذا الحد لتبدأ مهمة الجامعة العربية.
* في الكويت طال عمرك: «احنا دول الضد»!
* كما هو معلوم بعد حرب الخليج، وكانت العلاقات مقطوعة بين السودان والكويت، وكنا قد صنفنا ضمن دول الضد التي كانت تضم الاردن وفلسطين واليمن والسودان، وكنا نعلم ان القادة الكويتيين غاضبون بشدة علينا، خاصة ولي العهد الشيخ سعد بن عبد الله الصباح رئيس الوزراء، وبعد اتصالات تمت بيني وبين الشيخ صباح احمد الصباح، تم الاتفاق على زيارتي للكويت، وكانت تلك اول زيارة لمسؤول سوداني للكويت بعد غزو العراق للكويت.
وفي هذه الزيارة سلمت امير الكويت رسالة خطية من الرئيس البشير، والتقيت الشيخ الصباح وزير الخارجية وكانت الزيارة مفيدة جدا، فهو يتمتع بحس سياسي ودبلوماسي عال وتجنبت ان التقي بالشيخ سعد ولي العهد ورئيس الوزراء لمواقفه المعروفة وغضبه على دول الضد وعلى الاخص السودان، الا ان الشيخ الصباح اصر على لقائي بالشيخ سعد، فتوكلت على الله وذهبت لمكتبه بمجلس الوزراء للقائه وسلم عليّ سلاما فاترا وجلس، وجلست على مقعد بجواره ثم التفت الى الجانب الآخر متجنبا النظر نحوي، وساد اللقاء صمت شديد، وكاد ان ينتهي الاجتماع او ينفجر، وفجأة بادرته قائلا «طال عمرك احنا دول الضد» فأطلق بعدها الشيخ سعد ضحكة عالية جدا، وقال لي خلاص خلينا دول الضد، وفي نفس الوقت ابلغ الشيخ صباح النواب في البرلمان ان ولي العهد ابلغ وزير خارجية السودان، ان الكويت (الغت قائمة الضد). واستمر الشيخ سعد يعاتبني على موقف السودان، ويقول ان الكويتيين شاهدوا السودانيين يقاتلون مع الجيش العراقي اهل الكويت.
وقلت له طال عمرك، اذا حدث لا قدر الله واعاد العراق غزوه للكويت فستجد هؤلاء السودانيين يقومون بنفس هذا العمل، فاستغرب تماما، وواصلت حديثي واذا حدث ولا قدر الله ان غزا العراق السودان، فستجد هؤلاء السودانيين مع الجيش العراقي في غزو بلدهم، وقال كيف يكون ذلك أليست عندهم وطنية؟».
قلت له: طال عمرك، هؤلاء بعثيون استقروا في العراق وتم تجنيدهم في الجيش العراقي ويطلق عليهم الفيلق السوداني، ولا علاقة لهم بالسودان، فكيف تحاسب الحكومة السودانية على ما فعلوه؟
وبدا الرجل متفهما لما حدث، وكان لقاء مهما جدا في مسيرة وعودة العلاقات الاخوية المتميزة السودانية ـ الكويتية.
* الرئيس مبارك: «أنتم يا بتوع الترابي»
* كانت العلاقات المصرية ـ السودانية بعد حادثة اديس ابابا مايو 1995، قد وصلت الى اسوأ اوضاعها والى مدى لم تعرفه طوال تاريخها.
فكرنا كيف يمكن ان نحدث الاختراق لهذا الوضع المتأزم، خاصة بعد الغزو الثلاثي (اريتريا واثيوبيا واوغندا في يناير 1997) للسودان، وكان الشهيد الزبير النائب الاول لرئيس الجمهورية آنذاك على علاقة طيبة بالاخوة المصريين حيث انه تلقى بعض دراساته لديهم، ويكنون له نوعا من الود فعملت على ترتيب زيارة النائب الاول للقاهرة، واذكر انني كنت في مهمة للمملكة العربية السعودية وطلبت من المراسم الترتيب للزيارة باعتبار انني سأعود في اليوم التالي لارافق الزبير للقاهرة، واخطرني مدير المراسم ان المصريين يطلبون اسماء الوفد المرافق بالاضافة الى الـV.I.P فقلت له سأعلمكم بالاسماء، ثم نسيت هذا الموضوع، وكان هذا في مطلع عام 1998، وجاء الترتيب للزيارة ان تكون الزيارة لساعات ومن المطار يترك الوفد مع الرئيس حسني مبارك ثم نعود للمطار للمغادرة، وتحركنا من الخرطوم وعندما اقتربنا من مطار القاهرة، كان موظف الخدمات بالطائرة يقدم قهوة سودانية لركاب الطائرة.
وبينما هو يفعل ذلك بدأ الزبير ترتيب عمامته وفي هذا الاثناء ومن دون ان ينتبه قام بضرب الصينية وعليها القهوة التي يحملها المضيف، وانسكبت القهوة على البدلة، وبدأ المضيف يردد عبارات الاعتذار وانا صامت، وبدأ الزبير يخاطبني بانه هو السبب وليس المضيف ثم واصل الزبير ماذا نفعل لك؟ قلت له، ليست المشكلة في القهوة، المشكلة ان هذه البدلة الوحيدة التي معي وسألني ما معاك شنطة، فقلت لا، وحاولنا تجريب بدلة مدير المكتب ولكنه كان نحيف الجسم ولم تكن مناسبة، وطلبنا من قائد الطائرة ان يستمر في التحليق وبدأنا ننظف البدلة ونمسح القهوة عنها ونجففها، وبعد ان نزلنا في المطار لاحظنا ان رجال الامن المصريين والمراسم المصرية في اضطراب شديد سألوني هل هذا هو كل الوفد ونحن نجيب بنعم، تقدم مدير المراسم المصري قائلا، امال فين الـV.I.P وتذكرت في الحال انني طلبت من المراسم السودانية ابقاء مكان الـ V.I.Pبالقائمة شاغرا حتى نضيف الاسم في ما بعد ولاحقا عرفت انهم كانوا يعتقدون (أي المصريون) ان هذه الشخصية V.I.P هي الدكتور الترابي، واننا اخفينا عنهم الاسم عن قصد وكانت هذه الحادثة الثانية في هذه الرحلة.
وبعد ان دخلنا على الرئيس حسني مبارك سلم على الشهيد الزبير بحرارة وتوجه اليه بلوم وعتاب شديدين قائلا كده برضه يالزبير كل المدة ما تجيناش ولا تزورنا، ضحك الزبير كثيرا، ولكنه في نفس الوقت اشار نحوي وقال للرئيس مبارك، السبب كله من الجماعة ديل وتوجه اليّ الرئيس مبارك معاتبا وبشدة، «اه دول الجماعة بتوع الترابي»، فتدخلت مخاطبا الرئيس مبارك ان النائب الاول لم ينس علاقته بكم بل اكثر من مرة طلب مني ان ارتب له هذه الزيارة، ولكنني كنت اقول له ان العلاقات فاترة، وان الرأي العام ربما لن يقبل وان عليه ان يتريث، فاذا بالرئيس مبارك ينهض قائما، وينادي مدير المراسم ويقول للشهيد الزبير، والله ما انت ماشي ترتاحوا في القصر بالاسكندرية.
وبينما هو يتحدث مع مدير المراسم وترتيب الرحلة للاسكندرية، بدأت اعد لتأجيل هذا الامر ولجأت للزبير وقلت له اننا يجب ان نراعي الرأي العام، ووضع رجله على رجلي وداس عليها قائلا، انا عارف مشكلتك، وبحلها ليك وهو يقصد (البدلة) الوحيدة، خرجنا من اللقاء وسافرنا للاسكندرية، في ضيافة القصر الرئاسي، ووضع لنا برنامج لزيارة الآثار، واحتفى بنا محافظ الاسكندرية محمد عبد السلام، وفي اليوم الثاني تحدثت للنائب الاول وقلت له لا بد ان نعود لان ناس الخرطوم سيكونون في حيرة ونكون نحن في اجازة فرد علي قائلا، وهو يضحك يا اخي انت لا تستريح ولا تريح الغير، وقلت له، حتى الآن استجبت لرغبة الرئيس مبارك، واقترح اتصالك به وشكره لنعود الى الخرطوم فاتصل بالرئيس مبارك واخبرني في ما بعد، انه عندما تحدث مع الرئيس مبارك، صاح فيه قائلا، يا الزبير ارتاحوا من اللي انتو فيه ده. وكانت هذه الزيارة وهي الاخيرة للزبير بداية لانفراج للعلاقات السودانية ـ المصرية. رحم الله الشهيد الزبير فقد كان رجلا ودودا مرحا، وحاضر البديهة اذا تحدث اليك بأي حديث بدا عفويا، ولكنه من القلب، واذكر مرة انه كان في زيارة الى الباوقة بالشمالية، ولاحظ ان الفنانين يتداولون الغناء وقصائد الحب والغزل ويكررون في اوصافهم لفظة التفاح ويقصدون بذلك صدور الفتيات والشهيد الزبير بصدقه وعفويته لم يشك بأن المقصود ليس سوى التفاح الفاكهة المعروفة، وفي برنامج زيارته تلك وقف يسأل الجميع (وين جناين التفاح) وهو يشير الى تغنيهم بذلك ورد عليه احد الحضور «يا سعادتك التفاح في البيوت»، ولما عرف الحقيقة والتعريف في ما بعد شعر بحرج شديد واعتذر للجميع. ألا رحم الله الزبير الانسان الصدوق الذي لا يقول الا ما يعتقد.
* قرار رفع العقوبات عن السودان هو أهم نجاح للدبلوماسية السودانية
* ان اهم قرار نجحت الدبلوماسية السودانية في تقديري في استصداره هو قرار رفع العقوبات الدولية على السودان من قبل مجلس الامن، فالقرار كان له مغزاه السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي على السودان، فمن حيث التوقيت جاء القرار بعد اقل من ثلاثة اشهر من احداث الحادي عشر من سبتمبر (ايلول)، والحملة الدولية على الارهاب بقيادة الولايات المتحدة الاميركية حيث رفع الرئيس جورج بوش في هذه الحملة شعار «اما ان تكون معنا او مع الارهاب»، اضافة الى ذلك فان السودان فرضت عليه العقوبات الدولية باتهامه برعاية الارهاب ومشاركته في محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في صيف عام 1993 بأديس أبابا، كما ان السودان كان وقتها في القائمة الاميركية للدول الراعية للارهاب.
وظل عدد من دول الجوار الافريقي تستفيد من هذين القرارين في ايذاء السودان ومن بين هذه الدول أوغندا واريتريا، وجاء القرار بردا وسلاما على السودان فبرأه من تهمة تبحث عن من يدمغه بها، وهو بكل المقاييس وخاصة بعد ان تحولت الحرب على الارهاب ضد الانظمة الاسلامية مهما كان نوعها في السعودية او ايران او المنظمات الاسلامية مهما كانت اهدافها ونشاطاتها، وكان السودان نتيجة لهذه المواصفات هو اول المرشحين، اضف الى ذلك ان صدور القرار من مجلس الامن ساعد، واسهم في تسريع التطبيع والتطوير مع عدد من الدول وعلى رأسها جمهورية مصر العربية، ومع اثيوبيا وهما من تسببتا في فرض هذه العقوبات، كما ان رفع العقوبات الدولية عن السودان فتح الباب امام العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية مع العديد من الدول الاوروبية والآسيوية.
وفي تقديري يمثل هذا القرار اهم قرار نجحت فيه الدبلوماسية السودانية، فمن تداعياته المهمة، عودة السودان لعضوية صندوق النقد الدولي بعد عقوبات اقتصادية فرضت عليه على مدى سنين، وكذلك رفع اسم السودان من اللجنة الدولية لحقوق الانسان، بعد ان ظل اسمه يتكرر ضمن الدول المنتهكة لحقوق الانسان، وأهمية القرارين الآخرين يأتي بنجاح الوصول اليهما رغم المعارضة المستميتة من جانب الولايات المتحدة وبعض حلفائها مثل استراليا واسرائيل.
هنالك قرارات اخرى ايضا لا يتسع المجال لذكرها ومنها قرار دخول السودان في عضوية اللجنة الدولية لحقوق الانسان رغم المعارضة الشديدة للولايات المتحدة.
واضاف ان صدام رغم ذلك كلف وزير خارجيته بمناقشة الموضوع معي.. وتم تسليمي قائمة بأسماء 500 اسير تم تسليمها للجامعة العربية. وروى ايضا تفاصيل لقائه في الكويت، التي زارها للمرة الاولى بعد حرب الخليج الثانية، مع ولي العهد الشيخ سعد العبد الله الذي كان يصنف بانه أشد المسؤولين الكويتيين غضبا على الدول التي وقفت مع العراق في حرب الخليج الثانية، فقال ان الشيخ سعد تعمد مقابلتي بفتور وصمت، حتى فاجأته بقولي: «احنا دول الضد.. طال عمرك» فانفجر الشيخ سعد ضاحكا، وابلغه ان الكويت الغت قائمة دول الضد. بعد الغزو العراقي للكويت، وكانت العلاقات بين السودان والكويت قد انقطعت تماما جاءت مجموعة من اهالي الاسرى الكويتيين الى الخرطوم وألحوا علينا باعتبار ان هناك علاقات جيدة بين العراق والسودان ان نتحدث مع الرئيس العراقي في محاولة انسانية لاطلاق سراح الاسرى الكويتيين.
وبعد حوار طويل معهم لاصرارهم قابلت الرئيس البشير وحكيت له الموضوع، وطلبت منه رسالة خطية للرئيس العراقي صدام حسين لتعييني في هذه المهمة، وحذرني الرئيس من ان الاخوان في الكويت قد لا يفهمونها بهذا المفهوم الذي نصبو اليه، بل ان الاعلام الكويتي قد يجعل منها مادة لتأجيج الوضع المتأزم اصلا بيننا، ولكنه عندما وجدني مصرا اعطاني الرسالة للرئيس العراقي السابق صدام حسين، وتحركت من الخرطوم الى الاردن، ومن هنالك تحركت برا حتى الحدود العراقية ثم برا ايضا الى بغداد، حيث قضينا يوما كاملا في الطريق، وفي اليوم التالي ابلغوني بموعد مقابلة الرئيس العراقي صدام حسين، وكان الوقت ظهرا وبعد التحية المعتادة سلمته رسالة الرئيس، وكانت الرسالة تقدمني اليه، بدأت اشرح له المهمة وألح عليه في اطلاق سراح هؤلاء الاسرى لاسباب انسانية حتى يخلق ذلك اجواء مواتية.
صمت قليلا، وشعرت بأن تقاطيع وجهه تتغير وبدأ الغضب ظاهرا عليه، وقال لي قبل اسبوع كان يجلس في هذا الكرسي الذي تجلس عليه الريس ياسر عرفات، وتطرق لنفس هذا الموضوع، وسألني اتدري بماذا اجبته؟ قلت له ما شأنك انت بهذا الموضوع؟
وفهمت الرسالة جيدا، وان الرجل لا يريدني ان استرسل في الموضوع، وبدأ الاخوة العراقيون الحضور يشيرون الي بانهاء الموضوع، ولكني بدأت مرحلة جديدة من النقاش في ذات الاتجاه فرد علي، اذا انت مصر على مواصلة هذا الموضوع، دعنا نصلي العصر ونعود مرة اخرى.
فخرجنا للغرفة المجاورة وصلينا وهو يؤمنا في صلاة طويلة، وكأن لسان حاله ان اكف عن هذا الموضوع، وبعد الصلاة اطال الدعاء مليا، وعندما فرغنا سألني هل ما زلت تريد مناقشة الموضوع، قلت نعم، امر بعدها احد مساعديه بأن يرتب لي لقاء مع وزير الخارجية وكذلك مع وكيل الخارجية للشؤون القانونية رياض العين، وفعلا تم اللقاء وكان جيدا وسلمني الاخوة العراقيون قائمة بأسماء الاسرى (500)، وقالوا لي ولكن لا بد ان تتأكد منها، فبعضهم قد يكون لا يزال باقيا في السجون وبعضهم قد اختفى او قتل ولكن لتأكيد التعاون نسلمك القائمة وهي القائمة التي لدينا، وعدت الى السودان، والتقيت بالرئيس ونقلت ما دار في بغداد، وقال لي فعلت جيدا، لكني كنت اخشى عليك من فهم بعض الاخوة في الكويت، وقلت له انه كان لدي احساس باني سأعالج الموضوع، ثم سافرت للقاهرة والتقيت بأمين عام الجامعة العربية الدكتور عصمت عبد المجيد وسردت عليه ما حصل وسلمته القائمة وابلغته ان مهمتي قد انتهت عند هذا الحد لتبدأ مهمة الجامعة العربية.
* في الكويت طال عمرك: «احنا دول الضد»!
* كما هو معلوم بعد حرب الخليج، وكانت العلاقات مقطوعة بين السودان والكويت، وكنا قد صنفنا ضمن دول الضد التي كانت تضم الاردن وفلسطين واليمن والسودان، وكنا نعلم ان القادة الكويتيين غاضبون بشدة علينا، خاصة ولي العهد الشيخ سعد بن عبد الله الصباح رئيس الوزراء، وبعد اتصالات تمت بيني وبين الشيخ صباح احمد الصباح، تم الاتفاق على زيارتي للكويت، وكانت تلك اول زيارة لمسؤول سوداني للكويت بعد غزو العراق للكويت.
وفي هذه الزيارة سلمت امير الكويت رسالة خطية من الرئيس البشير، والتقيت الشيخ الصباح وزير الخارجية وكانت الزيارة مفيدة جدا، فهو يتمتع بحس سياسي ودبلوماسي عال وتجنبت ان التقي بالشيخ سعد ولي العهد ورئيس الوزراء لمواقفه المعروفة وغضبه على دول الضد وعلى الاخص السودان، الا ان الشيخ الصباح اصر على لقائي بالشيخ سعد، فتوكلت على الله وذهبت لمكتبه بمجلس الوزراء للقائه وسلم عليّ سلاما فاترا وجلس، وجلست على مقعد بجواره ثم التفت الى الجانب الآخر متجنبا النظر نحوي، وساد اللقاء صمت شديد، وكاد ان ينتهي الاجتماع او ينفجر، وفجأة بادرته قائلا «طال عمرك احنا دول الضد» فأطلق بعدها الشيخ سعد ضحكة عالية جدا، وقال لي خلاص خلينا دول الضد، وفي نفس الوقت ابلغ الشيخ صباح النواب في البرلمان ان ولي العهد ابلغ وزير خارجية السودان، ان الكويت (الغت قائمة الضد). واستمر الشيخ سعد يعاتبني على موقف السودان، ويقول ان الكويتيين شاهدوا السودانيين يقاتلون مع الجيش العراقي اهل الكويت.
وقلت له طال عمرك، اذا حدث لا قدر الله واعاد العراق غزوه للكويت فستجد هؤلاء السودانيين يقومون بنفس هذا العمل، فاستغرب تماما، وواصلت حديثي واذا حدث ولا قدر الله ان غزا العراق السودان، فستجد هؤلاء السودانيين مع الجيش العراقي في غزو بلدهم، وقال كيف يكون ذلك أليست عندهم وطنية؟».
قلت له: طال عمرك، هؤلاء بعثيون استقروا في العراق وتم تجنيدهم في الجيش العراقي ويطلق عليهم الفيلق السوداني، ولا علاقة لهم بالسودان، فكيف تحاسب الحكومة السودانية على ما فعلوه؟
وبدا الرجل متفهما لما حدث، وكان لقاء مهما جدا في مسيرة وعودة العلاقات الاخوية المتميزة السودانية ـ الكويتية.
* الرئيس مبارك: «أنتم يا بتوع الترابي»
* كانت العلاقات المصرية ـ السودانية بعد حادثة اديس ابابا مايو 1995، قد وصلت الى اسوأ اوضاعها والى مدى لم تعرفه طوال تاريخها.
فكرنا كيف يمكن ان نحدث الاختراق لهذا الوضع المتأزم، خاصة بعد الغزو الثلاثي (اريتريا واثيوبيا واوغندا في يناير 1997) للسودان، وكان الشهيد الزبير النائب الاول لرئيس الجمهورية آنذاك على علاقة طيبة بالاخوة المصريين حيث انه تلقى بعض دراساته لديهم، ويكنون له نوعا من الود فعملت على ترتيب زيارة النائب الاول للقاهرة، واذكر انني كنت في مهمة للمملكة العربية السعودية وطلبت من المراسم الترتيب للزيارة باعتبار انني سأعود في اليوم التالي لارافق الزبير للقاهرة، واخطرني مدير المراسم ان المصريين يطلبون اسماء الوفد المرافق بالاضافة الى الـV.I.P فقلت له سأعلمكم بالاسماء، ثم نسيت هذا الموضوع، وكان هذا في مطلع عام 1998، وجاء الترتيب للزيارة ان تكون الزيارة لساعات ومن المطار يترك الوفد مع الرئيس حسني مبارك ثم نعود للمطار للمغادرة، وتحركنا من الخرطوم وعندما اقتربنا من مطار القاهرة، كان موظف الخدمات بالطائرة يقدم قهوة سودانية لركاب الطائرة.
وبينما هو يفعل ذلك بدأ الزبير ترتيب عمامته وفي هذا الاثناء ومن دون ان ينتبه قام بضرب الصينية وعليها القهوة التي يحملها المضيف، وانسكبت القهوة على البدلة، وبدأ المضيف يردد عبارات الاعتذار وانا صامت، وبدأ الزبير يخاطبني بانه هو السبب وليس المضيف ثم واصل الزبير ماذا نفعل لك؟ قلت له، ليست المشكلة في القهوة، المشكلة ان هذه البدلة الوحيدة التي معي وسألني ما معاك شنطة، فقلت لا، وحاولنا تجريب بدلة مدير المكتب ولكنه كان نحيف الجسم ولم تكن مناسبة، وطلبنا من قائد الطائرة ان يستمر في التحليق وبدأنا ننظف البدلة ونمسح القهوة عنها ونجففها، وبعد ان نزلنا في المطار لاحظنا ان رجال الامن المصريين والمراسم المصرية في اضطراب شديد سألوني هل هذا هو كل الوفد ونحن نجيب بنعم، تقدم مدير المراسم المصري قائلا، امال فين الـV.I.P وتذكرت في الحال انني طلبت من المراسم السودانية ابقاء مكان الـ V.I.Pبالقائمة شاغرا حتى نضيف الاسم في ما بعد ولاحقا عرفت انهم كانوا يعتقدون (أي المصريون) ان هذه الشخصية V.I.P هي الدكتور الترابي، واننا اخفينا عنهم الاسم عن قصد وكانت هذه الحادثة الثانية في هذه الرحلة.
وبعد ان دخلنا على الرئيس حسني مبارك سلم على الشهيد الزبير بحرارة وتوجه اليه بلوم وعتاب شديدين قائلا كده برضه يالزبير كل المدة ما تجيناش ولا تزورنا، ضحك الزبير كثيرا، ولكنه في نفس الوقت اشار نحوي وقال للرئيس مبارك، السبب كله من الجماعة ديل وتوجه اليّ الرئيس مبارك معاتبا وبشدة، «اه دول الجماعة بتوع الترابي»، فتدخلت مخاطبا الرئيس مبارك ان النائب الاول لم ينس علاقته بكم بل اكثر من مرة طلب مني ان ارتب له هذه الزيارة، ولكنني كنت اقول له ان العلاقات فاترة، وان الرأي العام ربما لن يقبل وان عليه ان يتريث، فاذا بالرئيس مبارك ينهض قائما، وينادي مدير المراسم ويقول للشهيد الزبير، والله ما انت ماشي ترتاحوا في القصر بالاسكندرية.
وبينما هو يتحدث مع مدير المراسم وترتيب الرحلة للاسكندرية، بدأت اعد لتأجيل هذا الامر ولجأت للزبير وقلت له اننا يجب ان نراعي الرأي العام، ووضع رجله على رجلي وداس عليها قائلا، انا عارف مشكلتك، وبحلها ليك وهو يقصد (البدلة) الوحيدة، خرجنا من اللقاء وسافرنا للاسكندرية، في ضيافة القصر الرئاسي، ووضع لنا برنامج لزيارة الآثار، واحتفى بنا محافظ الاسكندرية محمد عبد السلام، وفي اليوم الثاني تحدثت للنائب الاول وقلت له لا بد ان نعود لان ناس الخرطوم سيكونون في حيرة ونكون نحن في اجازة فرد علي قائلا، وهو يضحك يا اخي انت لا تستريح ولا تريح الغير، وقلت له، حتى الآن استجبت لرغبة الرئيس مبارك، واقترح اتصالك به وشكره لنعود الى الخرطوم فاتصل بالرئيس مبارك واخبرني في ما بعد، انه عندما تحدث مع الرئيس مبارك، صاح فيه قائلا، يا الزبير ارتاحوا من اللي انتو فيه ده. وكانت هذه الزيارة وهي الاخيرة للزبير بداية لانفراج للعلاقات السودانية ـ المصرية. رحم الله الشهيد الزبير فقد كان رجلا ودودا مرحا، وحاضر البديهة اذا تحدث اليك بأي حديث بدا عفويا، ولكنه من القلب، واذكر مرة انه كان في زيارة الى الباوقة بالشمالية، ولاحظ ان الفنانين يتداولون الغناء وقصائد الحب والغزل ويكررون في اوصافهم لفظة التفاح ويقصدون بذلك صدور الفتيات والشهيد الزبير بصدقه وعفويته لم يشك بأن المقصود ليس سوى التفاح الفاكهة المعروفة، وفي برنامج زيارته تلك وقف يسأل الجميع (وين جناين التفاح) وهو يشير الى تغنيهم بذلك ورد عليه احد الحضور «يا سعادتك التفاح في البيوت»، ولما عرف الحقيقة والتعريف في ما بعد شعر بحرج شديد واعتذر للجميع. ألا رحم الله الزبير الانسان الصدوق الذي لا يقول الا ما يعتقد.
* قرار رفع العقوبات عن السودان هو أهم نجاح للدبلوماسية السودانية
* ان اهم قرار نجحت الدبلوماسية السودانية في تقديري في استصداره هو قرار رفع العقوبات الدولية على السودان من قبل مجلس الامن، فالقرار كان له مغزاه السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي على السودان، فمن حيث التوقيت جاء القرار بعد اقل من ثلاثة اشهر من احداث الحادي عشر من سبتمبر (ايلول)، والحملة الدولية على الارهاب بقيادة الولايات المتحدة الاميركية حيث رفع الرئيس جورج بوش في هذه الحملة شعار «اما ان تكون معنا او مع الارهاب»، اضافة الى ذلك فان السودان فرضت عليه العقوبات الدولية باتهامه برعاية الارهاب ومشاركته في محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في صيف عام 1993 بأديس أبابا، كما ان السودان كان وقتها في القائمة الاميركية للدول الراعية للارهاب.
وظل عدد من دول الجوار الافريقي تستفيد من هذين القرارين في ايذاء السودان ومن بين هذه الدول أوغندا واريتريا، وجاء القرار بردا وسلاما على السودان فبرأه من تهمة تبحث عن من يدمغه بها، وهو بكل المقاييس وخاصة بعد ان تحولت الحرب على الارهاب ضد الانظمة الاسلامية مهما كان نوعها في السعودية او ايران او المنظمات الاسلامية مهما كانت اهدافها ونشاطاتها، وكان السودان نتيجة لهذه المواصفات هو اول المرشحين، اضف الى ذلك ان صدور القرار من مجلس الامن ساعد، واسهم في تسريع التطبيع والتطوير مع عدد من الدول وعلى رأسها جمهورية مصر العربية، ومع اثيوبيا وهما من تسببتا في فرض هذه العقوبات، كما ان رفع العقوبات الدولية عن السودان فتح الباب امام العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية مع العديد من الدول الاوروبية والآسيوية.
وفي تقديري يمثل هذا القرار اهم قرار نجحت فيه الدبلوماسية السودانية، فمن تداعياته المهمة، عودة السودان لعضوية صندوق النقد الدولي بعد عقوبات اقتصادية فرضت عليه على مدى سنين، وكذلك رفع اسم السودان من اللجنة الدولية لحقوق الانسان، بعد ان ظل اسمه يتكرر ضمن الدول المنتهكة لحقوق الانسان، وأهمية القرارين الآخرين يأتي بنجاح الوصول اليهما رغم المعارضة المستميتة من جانب الولايات المتحدة وبعض حلفائها مثل استراليا واسرائيل.
هنالك قرارات اخرى ايضا لا يتسع المجال لذكرها ومنها قرار دخول السودان في عضوية اللجنة الدولية لحقوق الانسان رغم المعارضة الشديدة للولايات المتحدة.