الجمري البحراني
10-21-2004, 03:28 PM
"مطعم الساحة" للمرجع السيد محمد حسين فضل الله
قرية بالحجر البيروتي على اطراف الضاحية
السفير -- (الأربعاء، 20 تشرين أول «أكتوبر» 2004)
فاتن قبيسي
على اطراف الضاحية الجنوبية التي تغص بالمباني الاسمنتية والعمران الخرساني المتلاصق، ثمة قرية صغيرة تغزو بوداعة المنطقة الموغلة بالتمدن والجلبة، في وقت تجتاح فيه المدينة غالبية القرى. رائحة اشجار الصنوبر والزيزفون المنبعثة منها تطارد الغازات التي تلفظها عوادم السيارات، وخرير مياه العين يقاوم الضجيج المحيط بالمكان، وتفاصيل القرية القديمة تغري بالاستقالة من العصرنة والحداثة: فهنا بيت الفلاح اللبناني، وهناك الساحة حيث يجتمع اهالي الضيعة ويحيون ليالي السمر، وهنالك القلعة التي كان يسكنها النواطير لحراسة القرية من الغزوات واللصوص، اضافة الى العلّية والبركة والسطيحة والحارات والقبو والسوق القديم.
يصعب التفلت ولو للحظة من اجواء الريف لمجرد اجتيازعتبة “مطعم الساحة” الذي يلفه عبق التراث على امتداد 6800مترمربع من اصل المساحة الاجمالية للمشروع والبالغة 7800متر.. كل ادوات الضيعة وعدتها حاضرة بقوة: اجران الكبّة، المعصرة وخوابي الزيت والتنور والصاج والجرار الفخارية والمحدلة والجاروشة والطاحونة وصولاً الى زخارف حجرية قديمة.
توظيف بصري
ولعل ما يسرق العين هو توظيف بعض ادوات القرية في اطار بصري رائع يخدم المشهد العام، كأن يتحول النورج الى ثريات وطاولات وابواب ونوافذ، والخوابي الى قمريات تدخل النور والهواء الى الغرف، والطناجر الى حافظة للمصابيح، ودواليب الحنطور الى ثريات، والمندلونات الى نوافذ، وآلات الخياطة “سنجر” الى طاولات وموائد.
ولعل ابرز ما يتبادر الى ذهن زائر المكان هو سؤال حول كيفية توفير هذه الادوات والعدة، وتجميع 145 الف حجر صخري تشكل الواجهة الخارجية للمشروع، وكيفية استحالة هذه البقعة الجغرافية الى قرية نموذجية بعدما كانت مكباً للنفايات على مدخل بيروت الجنوبي قبل حوالى السنتين.
من البديهي ان يتحول المشروع الى ما يشبه الهاجس لدى صاحب فكرته، مدير عام “مجموعة سنابل للدراسات الحضرية والتصميم المعماري” جمال مكة، وهو المهندس الذي نفّذ كل مشاريع “جمعية المبرات الخيرية” التي اسسها المرجع الشيعي السيد محمد حسين فضل الله. ببساطة يطوف مكة في القرى اللبنانية ليلملم منها كل ما يرمز الى هويتها والمهدد يوماً بالاندثار. شيء شبيه بالوله يدفعه احياناً الى السفر، ليقتفي اثر بعض الاسلحة القديمة في اليمن او عدد من الحناطير في مصرعلى سبيل المثال. ويحصد في جولاته مقتنيات اثرية حجرية وغير حجرية تعود الى مئات السنين، كبعض المندلونات التي يفوق عمر احدها 600 سنة، وينتمي آخر الى العهد البيزنطي اي الى حوالى 1200 سنة. ولكن ليس هذا كل شيء، بل ان الاهم هو استغلال بعض المواد الذاهبة الى النفايات كالحجر والزجاج الملون المستخدم في النوافذ، واعادة تدويرها وبنائها من جديد. من هنا تم الاستحصال على 145 الف حجر من23 منزلاً هُدمت في بيروت، بحيث اقتصرت الكلفة على الشحن وعملية التوضيب.
حكاية المشروع
والقصة تبدأ من “سور الضيعة” حيث الجدارية تحكي حكاية القرية اللبنانية، والمحطة الاولى هي الخيمة حيث تلون انغام مهباج بائع القهوة العربية “ابو علي” الجلسة الشرقية، اما الساحة القروية فمستحضرة هنا بكل تفاصيلها، فهنا البيوتات الصغيرة كبيت “ابو فارس” وبيت “ابو كمال” كرمز الى البيوت ذات القناطرالقروية المتقاربة، وهناك ناعورة المياه والعرزال، ثم المتحف الذي يستوعب معارض لرسامين وفنانين وكان افتتحه وزير الثقافة غازي العريضي، والبيدر وهو عبارة عن قاعة لتعليم الرسم. وبموازاة ذلك تُخصص واحة للاطفال قيد الانجاز وتجمع بين الحضانة والملعب ومدينة الملاهي. ولا يفوت الزائر قاعة “السلملك” التي تزنر جدرانها الاسلحة القديمة، بما في ذلك اول بندقية عربية تعود الى القرن السابع عشر، ويتم فيها احياء امسيات زجلية واعراس، فيما يغوص بيت الفلاح “ابو احمد” اكثر فاكثر في اجواء الريف من خلال رزم الدخان المعلقة على الجدار وتوزع عدد من الكوارات لتخزين المونة، والخوابي لتخزين الحليب واللبنة، فيما يُرفع على الرف جهاز الراديو القديم “البدائي”.
وفي الطابق الثاني يتم وضع اللمسات الاخيرة على “بيت الشعر العربي”، ويضم مكتبة تحوي كل دواوين الشعر العربي منذ العصر الجاهلي وحتى اليوم، مع تخصيص مكان لتعليم الاطفال والفتية القاء الشعر، ومن المقرر ان يفتتحه الشاعر المصري عبد الرحمن الابنودي قريباً.
كيف انبثقت فكرة انشاء المشروع التابع ل”جمعية المبرات الخيرية” والذي يعود ريعه الى الايتام؟
المهندس جمال مكة
يقول المهندس جمال مكة الذي يعمل على رأس فريق مكون من حوالى 50 مهندساً: “كنت قد طرحت سؤالاً على نفسي حول امكانية اقامة مشروع سياحي علماً ان هناك حوالى 500 مشروع سياحي وترفيهي على صعيد قطاع الخدمات، كما ان المكان لم يكن يتمتع باي مقومات طبيعية، فلا يحدّه بحر او جبل، ولا اي محمية طبيعية، بل على العكس كان محاطاً بتجمعات من الخرسانات المسلحة البشعة جداً ، والذي يؤدي الى تلوث بصري شائع في العالم الثالث. ثم اننا متهمون للاسف باستيراد العمارات من الخارج بما لا يعكس ثقافتنا وتقاليدنا، اضافة الى انه كان هناك حاجة لفرض وجود الجمعية التي تحتضن الايتام وتقدم الخدمات الاجتماعية ضمن هذه الفسيفساء في لبنان. فكان لا بد من ان نكون حاضرين على المستوى الخدماتي والسياحي من منطلق الخلفية الثقافية للحركة الاسلامية المعاصرة، كل ذلك دفعنا الى ابتداع فكرة تستند الى نقطة موجودة في مؤخرة دماغ كل انسان، وهي الحنين الى الماضي. وهذا ما تحدث عنه الكاتب اللبناني انيس فريحة في العام 1957 في كتابه: “القرية اللبنانية حضارة على طريق الزوال” محذراً فيه من اندثار القرى. وقد استعنّا كمعماريين بخيال الكاتب وجسدناه في هذا المكان.
ويؤكد مكة ان المشروع استقطب حتى اليوم 800 الف زائر من كافة المناطق اللبنانية، مشيراً الى انه قام على جهود 300 عامل، وانه امّن فرص عمل لحوالى 200 موظف.
ويقول مدير عام الجمعية السيد محمد باقر فضل الله ل”السفير” ان الهدف من انشاء المشروع ليس منافسة التجار، بل خلق فكرة جديدة تعزز التراث، وتساهم بحل مشكلة اساسية بالنسبة الى الجمعية التي لا تُدعم من الدولة ولا من اي جهة سياسية اخرى.
وفيما يتجنب اعطاء رقم حول كلفة المشروع، يقول انه موّل ذاته مادياً، اي انه حصل بداية على الاموال من خلال “محطة الايتام” التابعة ايضاً الى جمعية المبرات، وكان كلما يتطور مادياً يتم توسيعه.
ويلفت النظر الى ان المشروع يدل على ان الاسلام ليس دعوة للآخرة فقط، بل دعوة للحياة والعودة الى التراث والحفاظ على الهوية التراثية والمشرقية والاسلامية التي تستطيع ان تتفاعل مع الحضارات الاخرى من دون ان تفقد خصوصيتها، بل ان تنتج من خلال هذا التفاعل حضارة وليدة.
المصدر
http://www.bintjbeil.com/A/news/2004/1020_assaha.html
او
http://70.84.12.171/showthread.php?threadid=106135
او
http://70.84.12.171/showthread.php?threadid=105956
قرية بالحجر البيروتي على اطراف الضاحية
السفير -- (الأربعاء، 20 تشرين أول «أكتوبر» 2004)
فاتن قبيسي
على اطراف الضاحية الجنوبية التي تغص بالمباني الاسمنتية والعمران الخرساني المتلاصق، ثمة قرية صغيرة تغزو بوداعة المنطقة الموغلة بالتمدن والجلبة، في وقت تجتاح فيه المدينة غالبية القرى. رائحة اشجار الصنوبر والزيزفون المنبعثة منها تطارد الغازات التي تلفظها عوادم السيارات، وخرير مياه العين يقاوم الضجيج المحيط بالمكان، وتفاصيل القرية القديمة تغري بالاستقالة من العصرنة والحداثة: فهنا بيت الفلاح اللبناني، وهناك الساحة حيث يجتمع اهالي الضيعة ويحيون ليالي السمر، وهنالك القلعة التي كان يسكنها النواطير لحراسة القرية من الغزوات واللصوص، اضافة الى العلّية والبركة والسطيحة والحارات والقبو والسوق القديم.
يصعب التفلت ولو للحظة من اجواء الريف لمجرد اجتيازعتبة “مطعم الساحة” الذي يلفه عبق التراث على امتداد 6800مترمربع من اصل المساحة الاجمالية للمشروع والبالغة 7800متر.. كل ادوات الضيعة وعدتها حاضرة بقوة: اجران الكبّة، المعصرة وخوابي الزيت والتنور والصاج والجرار الفخارية والمحدلة والجاروشة والطاحونة وصولاً الى زخارف حجرية قديمة.
توظيف بصري
ولعل ما يسرق العين هو توظيف بعض ادوات القرية في اطار بصري رائع يخدم المشهد العام، كأن يتحول النورج الى ثريات وطاولات وابواب ونوافذ، والخوابي الى قمريات تدخل النور والهواء الى الغرف، والطناجر الى حافظة للمصابيح، ودواليب الحنطور الى ثريات، والمندلونات الى نوافذ، وآلات الخياطة “سنجر” الى طاولات وموائد.
ولعل ابرز ما يتبادر الى ذهن زائر المكان هو سؤال حول كيفية توفير هذه الادوات والعدة، وتجميع 145 الف حجر صخري تشكل الواجهة الخارجية للمشروع، وكيفية استحالة هذه البقعة الجغرافية الى قرية نموذجية بعدما كانت مكباً للنفايات على مدخل بيروت الجنوبي قبل حوالى السنتين.
من البديهي ان يتحول المشروع الى ما يشبه الهاجس لدى صاحب فكرته، مدير عام “مجموعة سنابل للدراسات الحضرية والتصميم المعماري” جمال مكة، وهو المهندس الذي نفّذ كل مشاريع “جمعية المبرات الخيرية” التي اسسها المرجع الشيعي السيد محمد حسين فضل الله. ببساطة يطوف مكة في القرى اللبنانية ليلملم منها كل ما يرمز الى هويتها والمهدد يوماً بالاندثار. شيء شبيه بالوله يدفعه احياناً الى السفر، ليقتفي اثر بعض الاسلحة القديمة في اليمن او عدد من الحناطير في مصرعلى سبيل المثال. ويحصد في جولاته مقتنيات اثرية حجرية وغير حجرية تعود الى مئات السنين، كبعض المندلونات التي يفوق عمر احدها 600 سنة، وينتمي آخر الى العهد البيزنطي اي الى حوالى 1200 سنة. ولكن ليس هذا كل شيء، بل ان الاهم هو استغلال بعض المواد الذاهبة الى النفايات كالحجر والزجاج الملون المستخدم في النوافذ، واعادة تدويرها وبنائها من جديد. من هنا تم الاستحصال على 145 الف حجر من23 منزلاً هُدمت في بيروت، بحيث اقتصرت الكلفة على الشحن وعملية التوضيب.
حكاية المشروع
والقصة تبدأ من “سور الضيعة” حيث الجدارية تحكي حكاية القرية اللبنانية، والمحطة الاولى هي الخيمة حيث تلون انغام مهباج بائع القهوة العربية “ابو علي” الجلسة الشرقية، اما الساحة القروية فمستحضرة هنا بكل تفاصيلها، فهنا البيوتات الصغيرة كبيت “ابو فارس” وبيت “ابو كمال” كرمز الى البيوت ذات القناطرالقروية المتقاربة، وهناك ناعورة المياه والعرزال، ثم المتحف الذي يستوعب معارض لرسامين وفنانين وكان افتتحه وزير الثقافة غازي العريضي، والبيدر وهو عبارة عن قاعة لتعليم الرسم. وبموازاة ذلك تُخصص واحة للاطفال قيد الانجاز وتجمع بين الحضانة والملعب ومدينة الملاهي. ولا يفوت الزائر قاعة “السلملك” التي تزنر جدرانها الاسلحة القديمة، بما في ذلك اول بندقية عربية تعود الى القرن السابع عشر، ويتم فيها احياء امسيات زجلية واعراس، فيما يغوص بيت الفلاح “ابو احمد” اكثر فاكثر في اجواء الريف من خلال رزم الدخان المعلقة على الجدار وتوزع عدد من الكوارات لتخزين المونة، والخوابي لتخزين الحليب واللبنة، فيما يُرفع على الرف جهاز الراديو القديم “البدائي”.
وفي الطابق الثاني يتم وضع اللمسات الاخيرة على “بيت الشعر العربي”، ويضم مكتبة تحوي كل دواوين الشعر العربي منذ العصر الجاهلي وحتى اليوم، مع تخصيص مكان لتعليم الاطفال والفتية القاء الشعر، ومن المقرر ان يفتتحه الشاعر المصري عبد الرحمن الابنودي قريباً.
كيف انبثقت فكرة انشاء المشروع التابع ل”جمعية المبرات الخيرية” والذي يعود ريعه الى الايتام؟
المهندس جمال مكة
يقول المهندس جمال مكة الذي يعمل على رأس فريق مكون من حوالى 50 مهندساً: “كنت قد طرحت سؤالاً على نفسي حول امكانية اقامة مشروع سياحي علماً ان هناك حوالى 500 مشروع سياحي وترفيهي على صعيد قطاع الخدمات، كما ان المكان لم يكن يتمتع باي مقومات طبيعية، فلا يحدّه بحر او جبل، ولا اي محمية طبيعية، بل على العكس كان محاطاً بتجمعات من الخرسانات المسلحة البشعة جداً ، والذي يؤدي الى تلوث بصري شائع في العالم الثالث. ثم اننا متهمون للاسف باستيراد العمارات من الخارج بما لا يعكس ثقافتنا وتقاليدنا، اضافة الى انه كان هناك حاجة لفرض وجود الجمعية التي تحتضن الايتام وتقدم الخدمات الاجتماعية ضمن هذه الفسيفساء في لبنان. فكان لا بد من ان نكون حاضرين على المستوى الخدماتي والسياحي من منطلق الخلفية الثقافية للحركة الاسلامية المعاصرة، كل ذلك دفعنا الى ابتداع فكرة تستند الى نقطة موجودة في مؤخرة دماغ كل انسان، وهي الحنين الى الماضي. وهذا ما تحدث عنه الكاتب اللبناني انيس فريحة في العام 1957 في كتابه: “القرية اللبنانية حضارة على طريق الزوال” محذراً فيه من اندثار القرى. وقد استعنّا كمعماريين بخيال الكاتب وجسدناه في هذا المكان.
ويؤكد مكة ان المشروع استقطب حتى اليوم 800 الف زائر من كافة المناطق اللبنانية، مشيراً الى انه قام على جهود 300 عامل، وانه امّن فرص عمل لحوالى 200 موظف.
ويقول مدير عام الجمعية السيد محمد باقر فضل الله ل”السفير” ان الهدف من انشاء المشروع ليس منافسة التجار، بل خلق فكرة جديدة تعزز التراث، وتساهم بحل مشكلة اساسية بالنسبة الى الجمعية التي لا تُدعم من الدولة ولا من اي جهة سياسية اخرى.
وفيما يتجنب اعطاء رقم حول كلفة المشروع، يقول انه موّل ذاته مادياً، اي انه حصل بداية على الاموال من خلال “محطة الايتام” التابعة ايضاً الى جمعية المبرات، وكان كلما يتطور مادياً يتم توسيعه.
ويلفت النظر الى ان المشروع يدل على ان الاسلام ليس دعوة للآخرة فقط، بل دعوة للحياة والعودة الى التراث والحفاظ على الهوية التراثية والمشرقية والاسلامية التي تستطيع ان تتفاعل مع الحضارات الاخرى من دون ان تفقد خصوصيتها، بل ان تنتج من خلال هذا التفاعل حضارة وليدة.
المصدر
http://www.bintjbeil.com/A/news/2004/1020_assaha.html
او
http://70.84.12.171/showthread.php?threadid=106135
او
http://70.84.12.171/showthread.php?threadid=105956