المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القصص... تشفي أولادنا وتحرّرهم



بهلول
02-11-2011, 12:32 AM
http://www.aljarida.com/AlJarida/Resources/ArticlesPictures/2011/02/10/195472_20823204_small.jpg


ارتعدنا أمام ساحرة شرّيرة أو أمام فارس مقنّع، وارتجفنا في الظلام؛ لقد خشينا أن تهبط الأرض عندما كان أهلنا يتشاجرون... انتابنا الخوف عند انتقالنا الى مدرسة الكبار، وخشينا، كما نخشى الموت، الوحدة في الملعب أثناء الفسحة عندما كنّا «الصغار الجدد» بينما الآخرون يلعبون بالحبلة. لقد حزنّا حزناً شديداً عند وفاة جدّنا.

كنّا نودّ معرفة السرّ الذي يجعلنا نخيف المسخ أو نمحو الوجع أو لا نشعر باليأس عندما يكفّّ من هم حولنا «عن التحدث إلينا». كم تمنّينا كشف السرّ كي لا نجهش بالبكاء إذا بكت أمّنا، أو كي نتقبّل فراق والدينا من دون أن نشعر بالذنب...


http://www.aljarida.com/AlJarida/Resources/ArticlesPictures/2011/02/10/195472_coverrrrrr_smaller.jpg

ربما يقول البعض: «لمَ هذه الصورة القاتمة بينما الطفولة عمر عجيب؟»، بل وأكثر من ذلك، الطفولة هي عمر العجائب، فأولادنا ليسوا منقطعين عن واقع هذا العالم ولا يعيشون فوق غيمة صغيرة. اليوم، أكثر من الأمس، يتعرّضون لوابل من الصور ويدخلون عالم الإنترنت وهم بعد في الحفاض. هم يواجهون، في كل حين، وقائع وتجارب مختلفة تجعلهم يكبرون، لكنّهم في الوقت نفسه يتعذّبون وهذا ليس سبقاً صحافيّاً.

في كتاب «100 قصة وقصة» الصادر عن «دار الفراشة» في بيروت نصائح حول أهمية الحكايات في نمو أولادنا النفسي والعقلي والاجتماعي...


http://www.aljarida.com/AlJarida/Resources/ArticlesPictures/2011/02/10/195472_1-23_smaller.jpg

نحن كبرنا، وبالكاد نذكر كم كنّا سريعي العطب في طفولتنا. كتبت فرنسواز دولتو عن هذه القابلّية للعطب، عن ضعف الأولاد... خصوصاً الذين التحقوا للتو بصفوف الحضانة والذين لا يسيطرون على أي نقطة مرجعيّة تتعلّق بالمكان أو الزمان ولا يعرفون حتّى حدود أجسادهم وإمكاناتها. قالت: «يجب أن نعلّم الأولاد حسّ الاتجاه وأن نعطيهم دروساً في الجغرافيا كي يتمكّنوا من تحديد مكان وجودهم، وبالتالي وجهة مسيرتهم». بالطبع، نحن نسينا ذلك كله. وبالطريقة عينها، نسينا معنى الخوف في الظلام، وعندما نرى أولادنا يلعبون ويبتسمون، هؤلاء الأطفال، فلذات أكبادنا، والذين نعتقد أنّنا نعرفهم حتى أخمص أقدامهم، ننسى أي أنواع المخاوف الخانقة قد يواجهون. فالأولاد يحسّون ويشعرون ويعرفون... وقد لا يبوحون لنا بذلك.

مهما حاولنا إخفاء حالتنا النفسّية وراء ابتسامة عريضة، فالأولاد يحسّون بتعبنا وإرهاقنا. يحسّون أننا قد تشاجرنا أو أننا على وشك الطلاق أو على شفير النوبة العصبيّة. يحسّون أن في العائلة اضطراباً ما. إنّهم يتمتّعون بالحاسة السادسة، لكن بالطبع لا يقولون شيئاً، بل يتابعون اللّعب بهدوء، بالدمية أو بالكمبيوتر أو بألعابهم الإلكترونية..... وفي داخلهم ما يشبه الهزة الأرضيّة.

أخفوا عنهم نبأ وفاة أو زيّنوا لهم حقيقة مزعجة، فيذكرونها في كلامهم، وبما أنه ما زال يصعب عليهم التعبير عمّا يشعرون به، يكتبون أحاسيسهم ويحوّلونها إلى مشاكل صحيّة فيتبوّلون في الفراش أو يصابون بالتهاب الحنجرة أو التهاب الأذنين المتكرّر... أو يطلقون انفعالاتهم على دمية الباربي!

اليوم، نعرف تماماً ما هو ثمن الصمت: الأسرار العائلية تفشى في جميع المجلاّت. لحسن الحظ ، لقد بات عالم السكوت والتقاليد من الماضي! لقد فهمنا تماماً أنه لا يصحّ السكوت أو تجاهل قلق الأولاد أو تمويه الحقيقة والتصرّف وكأنّ كلّ شيء على ما يرام.

دعونا لا نعامل أولادنا وكأنّهم ملائكة أو هررة صغيرة نتباهى بها في الصالونات. ولنكفّ عن القول لهم ونحن نضحك عالياً: «لكن ما بك عزيزي، ولماذا تتخيّل هذه الأمور؟ ما لنا ولهذا الكلام، فالقضيّة محلولة، اتفقنا؟»، أو نقول لهم: «طبعاًً لا، لن يحدث طلاق ما بيننا، أنا ووالدك. كل شيء على ما يرام وعلاقتنا جيّدة، اتفقنا؟ والآن إذهب واهتم بفروضك». تعود هذه العبارات إلى حقبة ما قبل التاريخ أو ما قبل التحليل النفساني.

كم من ولد انطوى على ذاته بسبب شعوره بالذنب بسبب عنفه الداخلي أو «أفكاره السيئة»؟ كم من أضرار سبّبت هذه العبارات على رغم أنها كانت في الأصل مهدّئة ومطمئنة؟... إذا رفضنا أن نحدّث الأولاد عما يقلقهم فنحن ندفعهم إلى الإحساس بالوحدة.

الدخول إلى لغتهم

من غير المجدي أن نعتمد أسلوب الوعظ والعقلانية والشرح فإن الأمور الجوهرية لا تبرهن، بل نراها بالقلب، نحكيها ونتخيّلها، كما في حكاية «العنكبوت ماتيلدا» التي كانت بحاجة إلى العطف ما جعلها تسرق كل ما تجد؛ أو كما في حكاية «رامي» الذي وقع ضحية الابتزاز فأعطى كل ما لديه كي يستطيع الانخراط في جماعة صفّه؛ أو «يارا» التي دخلت المستشفى لوقت غير محدّد؛ أو «ميلا» الجنيّة الصغيرة اليائسة بسبب طلاق والديها فتسأل نفسها عما إذا كانت قد ألحقت بهما الأذى عن طريق السحر، من دون إرادتها...

هذه الشخصيات جميعها ترسل الولد إلى ما يسمّى بمفعول المرآة حيث يرى انعكاساً لصورة تجربته الخاصة. إنها شخصيّات شكلت كي تحدّثه عن ذاته فتوضّح القلق والخوف اللّذين لم يصلا بعد إلى داخل وعيه. وبهذه السلسلة من الحكايات القصيرة، يستطيع الأهل محاربة الضغط الذي يقع على أولادم والتعاطي مع معاناة الطفل الحالية عن طريق اللعب والصورة.

بسبب ذلك، يساعد الخيال الولد على أن يسيطر بنفسه على القلق ويتخطّى الصعاب من دون أن يضطّر الى الخضوع, لأمرٍ أو لإيعازٍ ما من أهله.

العبارات على شكل «لا تقلق! لا تخف من الظلمة! هذا مثير للسخرية»، أو «على كل حال، لا يعني ذهابك إلى المدرسة أننا نهملك أو نتركك فماذا دار في مخيّلتك؟»... كلّها اصطلاحات اجتماعية تعيد الأولاد إلى أسئلتهم من دون أيّة أجابة عنها. لكننا نعلم تماماً أنّ الأولاد لا يحبون الاصطلاحات ولا العبارات أو الجمل المبطّنة، بالتالي فإنّ ذلك كله غير مجدٍ! فهذه الجمل لا تسترعي اهتمامهم لأنها تهدف فحسب إلى تنويم ما لا مجال لتنويمه (القلق والكآبة والحزن والعنف). إضافة إلى أنّ الولد يحب الحقيقة الواضحة ويرفض أن نعتبره مجرّد أبله نحاول تنويم ارتيابه.

نحن بما لدينا من اهتمامات تختلف تماماً عن اهتمامات الأولاد، علينا أن نحاول نسيان اهتماماتنا هذه لنعود وندخل عالم الصغار.

نعم، من الطبيعي أن يخاف الصغار من أن تسقط السماء على رؤوسهم أو أن يتركهم أهلهم ومن المدرسة والظلام والخطف... من الساحرة الشرّيرة والفارس المقنّع، لكن من الطبيعي أيضاً أن نحدّثهم عن ذلك كله.

«كيريكو يلعب لعبته»

الولد الذكي يعالج نفسه بنفسه...

لا يتأثّر الولد إلاّ قليلاً بالكلام المنمّق أو العقلانيّ، فهو بالكاد يتعلّم كيف أن اثنين زائد اثنين تساوي أربعة ولا يستطيع بعد أن يدخل قلقه في معادلة رياضيّة.

بالطبع، نستطيع أن نقول له: «هل تعلم يا أحمد أنّه من الطبيعي أن تشعر بالغيرة تجاه أخيك الصغير وأنت ابن الخمس سنوات فأنت تعيش في حالة صراع داخلي. إنّك تحب أخاك، لكنّك تشعر أننا لم نعد نحبّك وأنه قد حلّ مكانك»، أو نقول له: «نحن على وشك الطلاق، هذا هو واقع الحال إنّما هذا لا يمنع من أنّنا نحبّك».

بالطبع هذا أفضل من السكوت، ولا شك في أنّ الولد سيجد في هذا الكلام بعض العزاء، وأن هذه الكلمات القليلة تضمّد جروحه البليغة.

إنّما، في المقابل، إذا سردنا له حكاية ستدخل إلى أعماقه، إذ إنّه سيتخيّلها ويحلم بها ويجد العلاج بنفسه من خلالها. بعد ذلك، سيسمع صوتاً يهمس في أذنيه: «لا عليك فأنت تعلم تماماً أنّ ذلك غير مهم!»، وسيستمع الى هذا الصوت الآتي من أعماق كيانه.

يستطيع أولادنا أن يشفوا بأنفسهم... شرط أن نعطيهم الثقة بالذات. فشريط الرسوم المتحركة «كيريكو والساحرة» لميشال أوسولو ليس مجرّد قصة للأولاد بل قصة رائعة تدور حول الثقة بالنفس وحول الولوج الى عالم الكبار. لنتذكّر...

عندما تسمع الأم الطفل (كيريكو، في ما بعد) يتكلّم وهو في بطنها تشجّعه على أن يولد بنفسه فتقول له «إن الطفل الذي يتكلّم في بطن أمه يولد بنفسه». وعندما يخرج كيريكو بنفسه من أحشاء أمّه وهو الذي كان قد تأثّر بنصيحتها، تؤكّد هذه المرأة الافريقية اللطيفة قائلة: «الطفل الذي يولد بنفسه يستطيع أن يستحمّ لوحده»، وهذا ما يفعله كيريكو بالطبع! أخيراً، عندما يريد كيريكو، وهو الرجل الصغير الذي يبلغ بضع أقدام فقط، أن يحارب «كارابا» الساحرة الشرّيرة آكلة البشر، عليه أن يمرّ بتجربة قاسية لا يمرّ بها إلاّ الأبطال، وتدعى تجربة «وكر النمل ذو اللسعة الحارقة»، وكيف لا يعلم ذلك وهو الولد النبيه الفطن: من خلال تجربة النار هذه، سيربح رتبة البطل الراشد. غير أنّه يمرّ بحالة ريب في هذه اللحظة من تاريخ حياته فيسأل والأمل يملأ عينيه: «أمّاه، هل تظنين أنني جدير بدخول الوكر الكبير»؟ فتجيبه بهدوء: «نعم، أعتقد ذلك». وبالطبع يخرج كيريكو من هذه التجربة منتصراً... كذلك في التجارب اللاحقة بفضل الثقة التي أولاه إياها الكبار.

عندما يحين وقت مجابهة الساحرة، يعود كيريكو ويقول لجدّه: «أنا خائف، أرجوك أن تعطيني تعويذة تساعدني». فيجيب الجدّ وهو الحكيم العظيم: «لست بحاجة الى ذلك، قوتك تكمن في براءتك». وينتصر كيريكو، ترفعه عالياً الشعلة الصغيرة التي يقرأها في عيون الآخرين: شعلة لامعة بالثقة والحبّ والإعجاب، فالثقة التي نوليها للأولاد تشكّل لهم درعاً! بفضلها، بات كيريكو بطلاً ولن يتحوّل إلى كائن مسحور كما هي حال باقي الرجال، بل سيبقى حرّاً ويحرّر القرية.

ما الداعي لهذه الدورة التي دارها «كيريكو»؟ الأساس يكمن هنا، في الثقة التي نعطيها للولد. فلندعه يستمع ويحلم ويتخيّل... ويشفي ذاته بذاته. صحيح أنّ الأولاد ليسوا راشدين، إنما هم أحرار. فلنحترم إذاً حرّيتهم ولنمنحهم الحب والكثير من الثقة بالنفس أمّا الحكايات فبإمكانها مساعدتنا. فمن جهة، توفّر لنا إمكان التأثير، ومن جهة أخرى تترك للطفل مجالاً للتحكّم بالوضع وتسلّق الصخرة... والعبور إلى صخرة أخرى فيكبر ويصبح فارساً لا يعرف الخوف.

لماذا يحبون الحياة؟

حكاية حزينة للأيام الممطرة وحكاية فرحة للأيام المرحة. حماية الجنّ إذا كنّا قد تشاجرنا مع أمّنا أو حكاية الذئب إذا نخاف من الظلام... فالحكايات تشكّل جزءاً من عالم الصغار، منذ طفولتهم. هي حكايات تثير فينا الضحكة أو الابتسامة أو الخوف، حكايات من خلالها نؤدي دور شخص آخر، حكايات تثير فينا القشعريرة، لكنّها، في النهاية، حكايات تساعدنا في التغلّب على السكوت.

حكايات بدلاً من الصمت

لا يحتاج الأطفال الى الصمت إلاّ وقت النوم وليسوا بحاجة إليه كي يكبروا. لهذا، نراهم يحبون الثرثرة ويودّون الاستماع إلينا ونحن نحكي لهم حكايات. ابتداء من أي عمر هم يحبّون الحكايات؟ يبدأ شغفهم بالحكايات باكراً، منذ حوالى سنّ العشرة أشهر وربّما قبل ذلك. حتّى ولو أنّهم لا يفهمون كل شيء، نراهم يتنشّقون رائحة الكتاب أو يمزّقونه أو يدعكونه، وهذه ربّما وسيلة يخرجون بها من ورطتهم.

لنراقب طفلاً وهو يحمل كتاباً. فالكتاب يبدو له وكأنّه مفتاح على العالم. يستغرق في التمعّن به بشغف ويتفحّص جميع جوانبه وتبدو عليه علامات التساؤل، يتأمّله كما لو أنه شيء غريب جاء من عالم آخر، شيء يحتوي على «الكلمة الأخرى»، الكلمة الحقيقيّة التي بها يخرج الطفل إلى الكون.

هل يعي صغارنا منذ الآن أنّهم يجدون في الكتاب القوة والذكاء والسكينة؟ أو يجدون فيه منبع أسرار وحيل وإجابات ولعب على الألفاظ للضحك أو البكاء؟ أو ربّما يشعرون مسبقاً بما قاله مونتسكيو عن الأدب: «ما من حزن عميق إلاّ وتمحوه من داخلي ساعة من المطالعة»، فالمطالعة تهدّئ الآلام لأنّها تسمح لنا بالوصول الى ما هو كونيّ فتتخطى بذلك حدود أسرارنا الحقيرة.

بالطبع، لا يعبّر الأولاد بهذه الطريقة، لكنّهم يفكّرون: «آه، لقد حصل ذلك أيضاً لسندريلا ولست الولد الوحيد الذي يتخاصم مع إخوته». لا، ليس الولد الوحيد الذي يتمنّى لو يخنق أخاه الصغير أو يكره أمّه ويحبها في آن، أو الذي يتساءل لماذا يعود والده متأخّراً جدّاً. ليس وحده من يشعر بفراغ كبير في صدره عندما يتشاجر والداه... لنراقب عينيه: هما تلمعان عندما نقرأ له حكاية.

خروج من فخ الأنا

يتخطّى الولد، بفضل الحكايات، دائرة ذاته الضيّقة والمسلك الأناني الذي يسلكه هو أو تسلكه عائلته. ويعود إمكان التخطّي هذا، تحديداً، إلى أن الولد يتماثل مع بطل القصة. وقد كتبت مارت روبرت في مقدمة كتاب «حكايات» للكاتب غريم ما يلي: «تعرض الحكاية على الولد صورة عن العائلة البشريّة، ومملكة الحكايات ليست سوى عالم العائلة المقفل والمحدود». وأضافت: «تصف الحكاية، بشكل أساسي، العبور من سنّ الطفولة الى سنّ النضوج وهو عبور ضروريّ وعسير في آن، تعترضه عوائق عدّة».

مملكة، ملكة وملك. جحر وعائلة أرانب. تسقيفة وعائلة فئران... هذا يكفي لبناء حكاية وتدوينها وبلورتها. أليست المملكة كما الجحر أو التسقيفة، هي أيضاً، استعارة لنفسيّة الولد؟ أليست مسرحاً للنزاعات العائليّة؟ هذه الأمكنة هي التي تساعد الولد على التماثل ثم التعبير عمّا يجري في داخله من نزاعات. وبفضل هذه الحكايات، تلك التي تستهويه، يخرج الولد شيئاً فشيئاً من جحر القلق ويكفّ عن الشعور بالذنب وعن تكرار الأفكار السوداء التي تجعله ينطوي على ذاته أكثر فأكثر.

تشبه الحكاية ضوءاّ صغيراً في الظلام. تهمس إلى الولد بأنّه ليس وحيداً في الغابة المظلمة، وتساعده على وجود مخرج أو على تضميد جراحه الأولى. وإذا منع الأهل أولادهم من قراءة الحكايات المخيفة بحجّة وقايتهم من الخوف، فإنّهم في الواقع يسلّمونهم للواقع الأليم فيجابهونه من دون أي حماية.

حكاية حقيقيّة أم خرافة

«أهي حكاية حقيقيّة؟»، يسأل الولد وقد بدا عليه الشغف بهذه الحكاية. يجيب بعض الأهل: «طبعاً، إنها حقيقيّة، لكنّ أحداثها جرت منذ زمن بعيد جدّاً». عموماً، يحتار الأهل بأمر الإجابة عن هذا السؤال، لا سيّما إذا كانت الحكاية تروي أحداثاً مخيفة جداً كما في حكايات الجنّ التقليديّة. فحقيقة الحكايات مميّزة: حقيقة تخرج عن مفهوم الزمن، حقيقة لكلّ زمن، سارية الفعل في الماضي والحاضر والمستقبل وهي تستعين في ذلك بآليّة اللاوعي والانفعالات وغيرها.

أما اللغة الوحيدة التي تستهوي الأطفال فهي لغة الخيال. وقد كتب برونو باتالهام (Bruno Bettelheim) في كتابه حول التحليل النفساني للأساطير ما يلي: «يزعم البعض أن الأساطير مفسدة لأنّها لا تبيّن الصورة «الحقيقيّة» لواقع الحياة... لكن «الحقيقة» في حياة الأطفال قد تختلف تماماً عمّا هي عليه في حياة الكبار».

لغة الواقع

هل نتكلم حقاً مع ولدنا؟ ما الرسائل التي نوصلها إليه عندما نكلّمه في نهاية يوم حافل بالضغوطات؟ عندما نعود إلى المنزل، مساءً، متعبين عصبييّن ومعدمي الصبر، نتكلّم إليه بلغة «الواقع»: «هل كتبت فروضك؟، هيّا إلى المائدة، الطعام جاهز، نظّف أسنانك! رتّب غرفتك، هيّا، بسرعة، فأنت ذاهب إلى المدرسة غداً!»... وإذا احتجّ الولد أو بكى، نواجهه بالقول: «كفى، ألا ترى أنني متعب (ة)؟». ذلك كله هدفه منع الولد من طرح الأسئلة، إضافة إلى أنّ مجموعة هذه الملاحظات والأوامر وعبارات اللوم ليست «ظريفة»!

ماذا لو تكلّمنا معه لغة أخرى؟

مصالحة كبرى

ما الكلام الذي نستطيع اللجوء إليه إذا ساءت الأمور وتشاجرنا، فضايقنا ابننا وصرخنا في وجهه، أي كلام نعتمد؟ أنعتمد لهجة «الأهل- الأصحاب» التي قد تعكّر الأجواء، أم لهجة الأهل القساة التي تكلّمنا عنها سابقاً؟

أما الحكاية فقد تكون لنا بمثابة استراحة المحارب إذ نجلس معاً ونقرأ ونسرح في البعيد فننسى كل شيء، لبعض الوقت.

انفعال يوصل الرسالة

في حكاية «تفاحة»، الهرة الصغيرة التي كانت تعيش في عالم مستدير الشكل، نجد الكلام العادي والكلام المسموح به أو على العكس، الكلام غير المسموح به...

ماذا يعني الكلام المسموح به؟ إنه الكلام الاجتماعي وأحاديث الصالونات، الخطاب المعقّم الذي نرتاح إليه، نحن الكبار. كأن نقول مثلاً: «أنت رائع ويبدو على وجهك الارتياح... كيف حالك؟». فيجيب: «تمام، كل شيء على ما يرام».

وعلى العكس من ذلك، فإن للحكايات وقصص الأطفال وقعاً في الخيال كما لو أنّها تفتح ثغرة أعمق بكثير من تلك التي تفتحها «الكلمات المسموح بها». فتلك التي فيها الكلام المختلف، «اللاّاجتماعي»، المحمّل بالانفعال وبالموسيقى؛ هذه هي اللغة الوحيدة التي قد تهزّنا وتهزّ معنا أولادنا لأنّها تمتنع عن الرموز وتبغي الحقيقة.

الأطفال الذين يشمون رائحة الكتب على حق: فالكتاب هو فعلاً مفتاح للدخول إلى العواطف الغنيّة التي بها يشفى الطفل. فالأولاد يعلمون أنّهم سيرتجفون مع «الخنازير الثلاثة الصغيرة» (حكاية تبيّن مخاوف كثيرة من مخاوف الأولاد)، أو يبكون مع «بائعة الكبريت»، أو يغتاظون مع «ساندريلا».

وتفتح الانفعالات طريقاّ لمرور الرسالة. لكن، حذار! فالحكاية التي تُحكى من دون أي انفعال أشبه بخطاب بارد أو كلام عقلاني كثيراً ما يستعمله الكبار. أما الأولاد، فهم يتكلّمون بطريقة مختلفة.

حكاية وبوح أسرار

قد تكون الحكاية واسطة نحرّك بها رغبة أولادنا في البوح بما يختلج في داخلهم. فمن جهة، عندما نقرأ لهم حكاية، نتقرّب منهم. ومن جهة أخرى، تشكّل الحكاية وسيلة أو أساساً للتحادث معهم.

هل لاحظتم أن الأولاد يكرهون حشريّتنا الملحّة في معرفة خصوصيّاتهم؟ وغالباً ما يتركوننا نتخبّط مع أسئلتنا: «كيف كان نهارك يا عزيزي، ألن تخبرني شيئاً؟ هيّا هيّا، هل أصبح لديك رفاق؟ هل لعبت اليوم؟ والمعلّمة، هل هي لطيفة، أجبني هيّا!»...

والإجابة لا شيء، حائط من السكوت، وهذا أمر طبيعي: فالأولاد لا يحبّون إلاّ الأسئلة التي يطرحونها بأنفسهم، شأنهم شأن «الأمير الصغير». بهذه الطريقة، لا نحصل على أيّة نتيجة، فأسئلتنا التي تبدو لنا مفتوحة، هي في الواقع مقفلة، والأولاد يعلمون ذلك. نحن نودّ لو أنّهم يجيبون: «نعم يا أمي، لقد أمضيت نهاراً رائعاً. حزت في الإملاء خمسة على خمسة، ولعبت جيّداً في الملعب. لقد صادقت الكثير من الأولاد، وأكلت كما يجب في مطعم المدرسة».

هذا ما نتوقعه في إجاباتهم، بالطريقة نفسها التي اعتمدناها في كلامنا نحن الكبار، إذ نلجأ إلى الرموز المرائية المخادعة كما في: «كيف حالك؟ أنا على أحسن حال، وأنت؟»، أما الأولاد فهم لا يدخلون في هذه اللعبة أبداً!

تخيّلوا ولداً يلعب لعبة الحقيقة، فيقول ما يلي: «في مطعم المدرسة، شعرت بكتلة كبيرة في حلقي وأحسست بالوحدة إذ تذكّرت عطلة نهاية الأسبوع التي أمضيناها معاً للتو. أراد هاني أن يأخذ مني {عصرونيّتي» فأعطيته أيّاها لأنني كنت وحدي في ملعب المدرسة. أما المعلّمة، فقد جعلتني أملّ من عمليّات الجمع والطرح. وقد سألت نفسي لماذا لا نبقى نحن الأربعة مع بعضنا، على الدوام...».

لكن الولد لا يقول لنا ذلك. أولاً، لأنّه مغمور بالأجواء المدرسيّة ولا يستطيع التعبير عن شعوره بواسطة الكلمات، وثانياً لأن ابن الأربع أو الخمس أو الست سنوات لا يعرف الاستبطان، العملية التي تشاهد بها الذات ما يجري في الذهن.

في المقابل، إذا حكينا له حكاية عن شخصيّة أخرى تمثّله، كحكاية الأرنب الصغير الذي أمضى اليوم الأول في المدرسة بصعوبة، أو حكاية الفتاة الصغيرة التي لم تكن تريد أن تقول «إلى اللقاء»، فإنّنا بهذه الطريقة نجعل لسانه ينحلّ فجأة، ويعود ذلك، ببساطة، إلى أنّنا لا ننتظر منه شيئاّ.

سيقول لك مثلاً: «أنا أيضاً مررت بهذا. وقد داعبتني المعلّمة قبل القيلولة. لقد بكيت عندما ذهبت أنت، لكنني توقفت عن ذلك مباشرة بعد ذهابك». أو يقول: «في ذلك اليوم، كنت أنا أيضاً مثل بسام إذ كنت وحيداً وحزيناً في ملعب المدرسة وتمنيّت الموت. وأعتقد أنّني قد غفوت قليلاً على أحد المقاعد...». ويكمل الحكاية بكلمات خاصّة به.

ألم تلاحظوا أبداً كيف أنّ الحكايات ترغّب الأولاد في التعبير؟ فهم يفيضون بعلامات الاستفهام المبطّنة. وإذا أظهرنا، نحن الأهل، احترامنا لعالمهم ولم ندخل عنوة إلى حياتهم الخاصة، بوسعنا أن نأمل منهم التعبير بارتياح.

مثلاً، عندما يلعب الولد لعبة التمثال، يخرج قليلاً من ذاته، فهو صاحب «الأنا» ذات الحدود القابلة للسقوط. يعرف هويّته معرفة يشوبها الغموض ويتعاطف مع شخصيّة القصّة؛ ويتعذّب معها...

فلنحرّر الوحوش...

لنتكلّم عن قصص الهلع والخوف والقلق، القصص السوداء والرمادية، الحزينة أحياناً، تلك التي يولع بها الأولاد. فهم متعطشّون إلى الحرّية ويودّون التعرّف إلى جميع ألوان قوس قزح، وإلى اللون الزهري والأصفر والأزرق والبنفسجي والأسود.

نعلم تماماً عدم جدوى إعطاء الساحرات والشخصيّات المخيفة صبغة شيطانيّة ومحرّمة. الصغار يحبّون الديناصور ذا الأسنان الطويلة والوحش ذا النظرة الحادة القاسية وزوجة الأب النحيلة البشعة والغول المخيف. فكلّها ترسم وجهاً واضحاً عن القلق الذي قد يغمر الأولاد في بحر من الغموض. فوحش لم يوصف بوضوح قد يرعبهم، أما الوحش الحقيقي الهائل، الشرّير والموشوم فلا يخيفهم بل يساعدهم على التعبير عن القلق الكامن في باطنهم من دون أن يرافق ذلك شعور بالذنب.

وهذه طريقة فاعلة أفضل من أن نحدّثهم على الشكل التالي مثلاً: «لكن، عزيزي، لا تقلق فكل شيء سيكون على ما يرام. بالطبع، الطلاق لن يحصل بيننا...».

الحقيقة بشأن الموت

في كتابها «الكتب مفيدة للأطفال»، تحكي المحلّلة النفسية ماري بونافي حكاية فتاة صغيرة أخفيت عنها، عمداً، حقيقة الموت وحرمت من الألعاب التي يشتهيها الأولاد من نوع «بان، أنت ميت!». لذلك، عند دخولها المدرسة، في صف الحضانة، راح أترابها الصغار يستمتعون، مع شيء من الاحتيال، بتلقينها كلمات جديدة مثل: «القتل»، «الموت» وغيرهما.

بالطبع، تلقّت الطفلة المسكينة هذا بقلق عظيم، ما يدلّ على أنّ إخفاء الحقيقة أمر قاتل... فالولد قابل للعطب وهو يشعر بذلك. ماذا قد يحصل لو أن أحد والديه لم يعد هنا ليحميه؟ كيف سيعيش بعد ذلك؟ بمن يستطيع أن يضع ثقته في ما بعد؟ هذا هو نوع الأسئلة المطروحة والمحلولة في قصص الجنّ.

ماذا نهدف من وراء حكاية الساحرة الحزينة لفراق والديها أو حكاية الغيمة الخائفة أو حكاية موت الجد- الفأر؟ إننا، بهذه الحكايات، لا نشكّل القلق بل نحرّره، وبالتالي نعزّز عند الطفل الشعور بالثقة. هو ليس وحيداً ضائعاً في الغابة، لديه بعض الحجارة الصغيرة في جيبه، يرميها ويرسم بها معالم طريق العودة!

كتاب مساعد على التحوّل

لماذا لا يكون الكتاب، هو أيضاً، شيئاً تحوّليّاً؟ الكتاب كما القصة، هذا الشيء العجيب الذي يساعد الولد على أن يكبر، على أن «يصل إلى ذاته» كما تقول فرانسواز دولتو.

يعشق الأولاد قصة ما، وهي، عموماً، تتضمّن إجابات عن أسئلتهم، فيطالبون بها مرة ومرتين وثلاثاً و10 و15... حتى التخمة ويتعاملون معها كما لو كانت لعبة محبّبة فيداعبونها ويدلّلونها ويلتهمونها، وينامون على وقع كلماتها، يغمرونها بين أيديهم.

وليست هذه الكتب كتباً من قماش أو أوراقاً نمضغها، بل هي قصص بكل معنى الكلمة. هل هي قصص للعبور أو التحوّل؟ نعم، لأنها تساعد الولد على أن يكبر ويتحمّل الوحدة، إنّما بوجود أمّه.

ولد منسجم بالقراءة

راقبوا ولداً ابن ست أو سبع أو ثماني سنوات وهو يطالب بحكاية مسائية متعطّشاً إليها كما لو كان طفلاً. هل ستجيبونه: «لقد كبرت بما فيه الكفاية وباستطاعتك أن تقرأ وحدك»؟ أم أنّكم ستحضنونه، وتقبّلونه ثم تخفضون الضوء وتدخلون معه في اللعبة؟

هاتان الحالتان مختلفتان تماماً. عندما نقرأ له نشاطره، جسدّياً، محطة من العطف والمشاركة ونتّحد معه كما لو كنّا نحمله بين ذراعينا. نحمله مجدداً كما لو كان طفلاً ونرفعه عالياً؛ إنّنا نمدّ له يدنا. وإذا حاولتم الإجابة: «أتعلم؟ إنك تستطيع الآن أن تقرأ لوحدك»، فماذا تكون ردّة فعله؟ سيغضب كما لو أنكم حرمتموه أحد حقوقه الأساسيّة. فحقّه في أن تقرأوا له قصة هو شبيه بحقّه في المداعبة أو الحلوى أو غيرهما.

عندما نقرأ قصة لولد ابن سبع أو ثماني سنوات فنحن بالتالي نوافق على مساعدته في الأوقات العصيبة، عندما يكون تعباً وكأنّنا نقول: «نعم، أنت تجيد القراءة، لكن فلننس ذلك، هذا المساء، أموافق أنت؟». ألسنا نحمل أولادنا في ذراعينا، أحياناً، حتى و لو كانوا يستطيعون المشي؟ هذا الإحساس لديهم بانعدام الجاذبية لذيذ فعلينا ألاّ نحرمهم منه حتى ولو باتوا يجيدون القراءة.