مجاهدون
10-19-2004, 03:55 PM
رشيد الخيُّون**
باحث عراقي
في حياة وممات الشيخ معروف بن فيروز الكرخي أكثر من دلالة، تشير بوضوح إلى التنافذ والتعايش الديني والمذهبي بين الناس، فهو الصابئي، وقيل المسيحي، ثم المسلم الشيعي ثم السنَّي فالمتصوف، والراقد في دير تحول بالكامل إلى اسمه. دخل الإسلام عن طريق الإمام علي بن موسى الرضا، وظل قائماً على بابه، بهذا يكون قريباً من الشيعة بالمسافة نفسها التي قرب بها من السنَّة، بعد أن تحول إلى باب الإمام أحمد بن حنبل. قال الأخير بحقه رداً على مَنْ نعته بعبارة «قصير العلم»:
إمسك! «هل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف»؟ حسب ابن نباتة في «سرح العيون»، شيعت بغداد في ساعة واحدة زاهداً كبيراً وشاعراً كبيراً، الكرخي وأبا نواس، وربما دُفنا في مكان واحد. قال أبو العتاهية الشاعر: «توفي (أبو نواس) ببغداد سنة مائتين، هو ومعروف الكرخي في يوم واحد، فخرج مع جنازة معروف ثلثمائة ألف، ولم يخرج مع جنازة أبي نواس غير رجل واحد، فلما دفن معروف، قال قائل: أليس جمعنا وأبا نواس الإسلام! ودعا الناس فصلوا عليه، فرئي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بصلاة الذين صلوا على معروف وعليَّ».
من بين أضرحة بغداد سلم ضريح الشيخ معروف من التخريب، الذي تناوبه العثمانيون والإيرانيون، بعد أن سلم قبلها من موجات المجتاحين لبغداد. ولعلَّ في ذلك إيماءة أخرى إلى أن صاحب الضريح ظل معروفاً بين الناس فوق الميول والاتجاهات. هذا ما شهد به أبو حيان التوحيدي في «مثالب الوزيرين» وهو يذكر الوزير الصاحب بن عباد، موضحاً موقفه من المتكلمين:
«ما قولي هذا فيهم إلا قولك يوم اجتماعنا في مقبرة معروف الكرخي لبعض الشيعة»، أي أن الضريح كان يستضيف مناظرات بين مختلفين فكراً ومذهباً، وليس هناك ما يحجب الشيعة من زيادة ضريح الكرخي، مثلما هو الحاجز النفسي التام اليوم. نحسد نحن أبناء الألفية الثالثة أهل زمان معروف الكرخي على وجوده بينهم، فهو المتسامح المضيء، بينما ابتلي زماننا بعقول لا تحسن غير صناعة الظلام والتكفير. قال أبو القاسم القشيري في رسالته:
«سمعت إبراهيم الأطروش يقول: كنا قعوداً ببغداد مع معروف الكرخي على نهر دجلة، إذ مر بنا قوم أحداث في زورق يضربون بالدف ويشربون ويلعبون، فقلنا لمعروف: ألا تراهم كيف يعصون الله مجاهرين؟ أدع الله تعالى عليهم، فوضع يديه وقال: إلهي كما فرحتهم في الدنيا ففرحهم في الآخرة، فقلنا: إنما سألناك أن تدعو عليهم! فقال: إذا فرحهم في الآخرة تاب عليهم».
وحسب ابن الجوزي في المناقب، عبر راهب الدير المجاور لقبر الكرخي عن شعور المسيحيين الطيب نحو معروف الكرخي، بالقول وهو يتأمل كثرة مشيعي جنازته: «لو أن أحدكم فعل فعله لكان مثله». ويذكره الباحث المسيحي يعقوب سركيس في «مباحث عراقية»، وهو يتحدث عن عمارة مسجده، دون مجاملة لأحد «قدس الله روحه». وقال الحنفي في «الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية»: لما أعترض أحد مريدي الشيخ معروف على أسفه لعدم تمكنه من الصلاة على جنازة الإمام أبي يوسف بقوله:
«أنت تأسف على رجل من أصحاب السُّلطان يلي القضاء، ويرغب في الدنيا إن لم تحضر جنازته»؟ أجابه بالقول: «رأيت البارحة كأني دخلت الجنة، فرأيت قصراً قد فرشت مجالسه، وأرخيت ستوره، وقام ولدانه، فقلت لمن هذا القصر؟ فقالوا ليعقوب بن إبراهيم الأنصاري أبي يوسف، فقلت سبحان الله بما استحق هذا من الله؟ فقالوا: بتعليمه الناس العلم، وصبره على أذاهم.
«أليس لما تقدم صلة بفضاء التسامح عند الشيخ معروف، وقربه من الجميع؟».
لو قُدر وفتحت مقبرة الشيخ معروف تاريخها، وهو دفينها منذ السنة المائتين من الهجرة، يوم كانت مقبرة للجلاثقة، وحتى هذه اللحظة وهي خاصة بأموات البغداديين من أهل السنَّة، فما ستتحدث عن تبدل العصور وتلاقي الأضداد، وكيف اختصرت تاريخها بقبر واسم الشيخ معروف؟
باحث عراقي
في حياة وممات الشيخ معروف بن فيروز الكرخي أكثر من دلالة، تشير بوضوح إلى التنافذ والتعايش الديني والمذهبي بين الناس، فهو الصابئي، وقيل المسيحي، ثم المسلم الشيعي ثم السنَّي فالمتصوف، والراقد في دير تحول بالكامل إلى اسمه. دخل الإسلام عن طريق الإمام علي بن موسى الرضا، وظل قائماً على بابه، بهذا يكون قريباً من الشيعة بالمسافة نفسها التي قرب بها من السنَّة، بعد أن تحول إلى باب الإمام أحمد بن حنبل. قال الأخير بحقه رداً على مَنْ نعته بعبارة «قصير العلم»:
إمسك! «هل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف»؟ حسب ابن نباتة في «سرح العيون»، شيعت بغداد في ساعة واحدة زاهداً كبيراً وشاعراً كبيراً، الكرخي وأبا نواس، وربما دُفنا في مكان واحد. قال أبو العتاهية الشاعر: «توفي (أبو نواس) ببغداد سنة مائتين، هو ومعروف الكرخي في يوم واحد، فخرج مع جنازة معروف ثلثمائة ألف، ولم يخرج مع جنازة أبي نواس غير رجل واحد، فلما دفن معروف، قال قائل: أليس جمعنا وأبا نواس الإسلام! ودعا الناس فصلوا عليه، فرئي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بصلاة الذين صلوا على معروف وعليَّ».
من بين أضرحة بغداد سلم ضريح الشيخ معروف من التخريب، الذي تناوبه العثمانيون والإيرانيون، بعد أن سلم قبلها من موجات المجتاحين لبغداد. ولعلَّ في ذلك إيماءة أخرى إلى أن صاحب الضريح ظل معروفاً بين الناس فوق الميول والاتجاهات. هذا ما شهد به أبو حيان التوحيدي في «مثالب الوزيرين» وهو يذكر الوزير الصاحب بن عباد، موضحاً موقفه من المتكلمين:
«ما قولي هذا فيهم إلا قولك يوم اجتماعنا في مقبرة معروف الكرخي لبعض الشيعة»، أي أن الضريح كان يستضيف مناظرات بين مختلفين فكراً ومذهباً، وليس هناك ما يحجب الشيعة من زيادة ضريح الكرخي، مثلما هو الحاجز النفسي التام اليوم. نحسد نحن أبناء الألفية الثالثة أهل زمان معروف الكرخي على وجوده بينهم، فهو المتسامح المضيء، بينما ابتلي زماننا بعقول لا تحسن غير صناعة الظلام والتكفير. قال أبو القاسم القشيري في رسالته:
«سمعت إبراهيم الأطروش يقول: كنا قعوداً ببغداد مع معروف الكرخي على نهر دجلة، إذ مر بنا قوم أحداث في زورق يضربون بالدف ويشربون ويلعبون، فقلنا لمعروف: ألا تراهم كيف يعصون الله مجاهرين؟ أدع الله تعالى عليهم، فوضع يديه وقال: إلهي كما فرحتهم في الدنيا ففرحهم في الآخرة، فقلنا: إنما سألناك أن تدعو عليهم! فقال: إذا فرحهم في الآخرة تاب عليهم».
وحسب ابن الجوزي في المناقب، عبر راهب الدير المجاور لقبر الكرخي عن شعور المسيحيين الطيب نحو معروف الكرخي، بالقول وهو يتأمل كثرة مشيعي جنازته: «لو أن أحدكم فعل فعله لكان مثله». ويذكره الباحث المسيحي يعقوب سركيس في «مباحث عراقية»، وهو يتحدث عن عمارة مسجده، دون مجاملة لأحد «قدس الله روحه». وقال الحنفي في «الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية»: لما أعترض أحد مريدي الشيخ معروف على أسفه لعدم تمكنه من الصلاة على جنازة الإمام أبي يوسف بقوله:
«أنت تأسف على رجل من أصحاب السُّلطان يلي القضاء، ويرغب في الدنيا إن لم تحضر جنازته»؟ أجابه بالقول: «رأيت البارحة كأني دخلت الجنة، فرأيت قصراً قد فرشت مجالسه، وأرخيت ستوره، وقام ولدانه، فقلت لمن هذا القصر؟ فقالوا ليعقوب بن إبراهيم الأنصاري أبي يوسف، فقلت سبحان الله بما استحق هذا من الله؟ فقالوا: بتعليمه الناس العلم، وصبره على أذاهم.
«أليس لما تقدم صلة بفضاء التسامح عند الشيخ معروف، وقربه من الجميع؟».
لو قُدر وفتحت مقبرة الشيخ معروف تاريخها، وهو دفينها منذ السنة المائتين من الهجرة، يوم كانت مقبرة للجلاثقة، وحتى هذه اللحظة وهي خاصة بأموات البغداديين من أهل السنَّة، فما ستتحدث عن تبدل العصور وتلاقي الأضداد، وكيف اختصرت تاريخها بقبر واسم الشيخ معروف؟