سيد مرحوم
10-10-2004, 08:56 PM
الدور التأسيسي للأئمة (ع) في إ رساء منهج
العقل
في ضوء رسالة الإمام الكاظم(ع) إلى هشام بن الحكم،
http://www.alriyadh.com.sa/Contents/04-10-2003/Mainpage/images/P24.jpg
محمد حسين فضل الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآلهِ الطيبين الطاهرين، وصحبهِ الـمُنتجبين، وعلى جميع أنبياءِ الله الـمُرسلين.
تحدَّثنا في وقت سابق عن قيمة العقل في الإسلام من خلال الكتاب والسُنّة، سواء في حديث النبي محمد (ص) أو حديث الإمام علي (ع)، وفي هذا الحديث نلتقي بالإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) في وصيّة مميّزة خاطب بها هشام بن الحكم الذي كان يحظى باحترام الأئمّة (ع) له من خلال أنّه يمتلك الثقافة الواسعة في علم الكلام، والتي كانت تمكّنه من الدخول في الجدل العلمي العقلاني الموضوعي في الدفاع عن الخط الإسلامي الأصيل الذي يمثلّه الأئمة من أهل البيت (ع).
التأسيس الثقافي:
في هذه الوصية، نكتشف أسلوب الأئمة من أهل البيت (ع) في حركة المعرفة التي يقدمونها للناس، فهم لا يطلقون الفكرة بشكل ارتجالي أو بشكل بعيد عن القاعدة التي ترتكز عليها الفكرة، وإنما كانوا ـ كما نرى في هذه الوصية ـ يثقفون الناس بالفكرة من خلال تقديم الآيات القرآنية التي تفتح عقول الناس على المنهج القرآني في الاستدلال على حقائق العقيدة والحياة، ما نستوحي منه أنّه لا بدّ للقائمين على شؤون الثقافة الإسلامية، سواء من الفقهاء أو من المتكلمين، أن يقدِّموا الفكر الإسلامي للناس من خلال القاعدة التي يرتكز عليها الفكر الإسلامي؛ لأن القضية في المنهج الإسلامي للدعوة هي أنْ يملك المسلمون الثقافة العميقة الواسعة التي يمكن أن يتحول المسلم من خلالها إلى داعية للإسلام، وإلى محاوِرٍ للآخرين الذين يثيرون الشبهات.
إن المسألة التي لابد أنْ يعمل لها القائمون على شؤون الثقافة الإسلامية هي تثقيف الأمة كلٌّ بحسبه، وهذا ما نستوحيه من مسألة تدبّر القرآن التي أراد الله سبحانه وتعالى للأمّة أن تمارسها وهي تقرأ القرآن، فقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}(النساء/82)، وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(محمد/24)، أن تقرأ الأمة القرآن الكريم قراءة فكر وتدبّر حتى تتثقف بالقرآن. ولهذا فإنّ ما درج عليه الناس من إعطاء الفكرة أو الفتوى من دون تقديم الدليل والحجة والبرهان، ليس منسجماً مع المنهج القرآني الذي يرتكز على أنْ تأخذ الأمة بأسباب العلم، باعتبار أنّ العلم هو القيمة، وأن تتحرك في خط العقل باعتبار أن العقل هو الحجة.
وعندما ندرس طريقة الأئمة من أهل البيت (ع) في ما تركوه لنا من تراث، فإننا نجد أنهم وهم يعملون على تثقيف الأمة، كانوا لا يتعقّدون من سؤال، وقد ورد عندنا أنّ الإمام الباقر (ع) كان يطلب من أصحابه أنّه إذا حدّثهم بحديث، أن يسألوه عن أساسه في كتاب الله، ليعرّفهم كيف يستنتجون الفكرة من كتاب الله سبحانه وتعالى، ويشجعهم على أنْ يناقشوا العلماء، وأنْ يسألوهم في ما يملكون علمه، بما يملكون من طاقة التعلّم.
الإمام الكاظم (ع) ووصيّته لهشام:
عن هشام بن الحكم قال: ((قال لي أبو الحسن بن موسى بن جعفر (ع): يا هشام، إن الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ}..)).
إن الإمام الكاظم (ع) في ما نستوحيه من كلامه، يستوحي من هذه الآية الكريمة، أن الله سبحانه وتعالى أراد للناس أن يستمعوا إلى كل ما يُقدَّم إليهم من قول، سواء كان هذا القول قولاً يتمثّل في آيات الله تعالى في القرآن الكريم، أو يتمثّل في ما جاء عن النبي (ص) والأئمة من أهل البيت (ع)، الذين عاشوا كل عقل رسول الله (ص) وكل فكره وكل علمه، فهم ليسوا مجرّد رواة، ولكنهم عاشوا الإسلام كله على قاعدة الحق، أو أن يستمع الناس إلى كل من يملك علماً، في أي اختصاص من اختصاصات العلم، وفرق بين أن تسمع وأنْ تستمع؛ لأن مسألة السماع هي أن تزحف الكلمة من خلال قائلها إلى أذنك من دون اختيار، تماماً كالإنسان الذي يمر في الشارع أو يجلس في مجلس والناس يتحدثون، فلا يركّز فكره على الحديث، وإنما يمر به مرور الكرام. أما الاستماع، فهو أنْ تسمع عن إرادة، وأن توجّه عقلك إلى كلّ ما يدخل إلى سمعك، وأن تستمع إليه بأن توجّه ذاتك إلى ما يتحدث به الآخرون. {فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ}، بحيث يفكرون فيه، ويدرسونه، ويتعرفون فيه الخطأ والصواب، والحسن والأحسن، لينهجوا المنهج العلمي في ما استمعوه، ليختاروا الأحسن في الفكرة، والأحسن في الخطّة، والأحسن في حركة الواقع، وما إلى ذلك.
ولماذا يبشّر الله سبحانه وتعالى هؤلاء؟ لأن هؤلاء هم الذين يكتسبون العلم من خلال ما يستمعون إليه، وهم الذين يحوّلون ما يلتزمون به من حقائق العلم عندما يميّزون بين كلام وكلام، ليختاروا الكلام الأحسن والأفضل والأجدى والأنفع. هؤلاء هم الذين تقوم الحياة على أساس وجودهم، لأن المجتمع ـ أي مجتمع ـ عندما يكون مجتمعاً يفكّر ويقارن بين الأفكار، ويوازن بينها، ويختار الفكر الأحسن ليجسده في حياته، عندما يكون المجتمع كله في هذا الاتجاه، فإن من الطبيعي أن يكون مجتمعاً متقدّماً منفتحاً مثقفاً واعياً، لا يأخذ إلاّ بما يكون في المستوى الأعلى من المعرفة، والأفضل في الحياة. ولذلك كانت البشارة من الله سبحانه وتعالى لمثل هؤلاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أنْ يكون الإنسان الذي يختزن العلم في كلِّ عقله ووجدانه، ويريد للإنسان أنْ يحوّل العلم إلى حركة للحياة، قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}(الرعد/17)، وما ينفع الناس هو الذي يملك العناصر التي يمكن أنْ تعطي الحياة قوة وتميّزاً وحركة. ثم تتابع الآية الكريمة: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ الله} عندما فتح عقولهم على الحقيقة، {وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ} أولو العقول.
وهذا هو الذي أراد الإمام (ع) الإيحاء به إلى هشام بن الحكم، ليقول له: اجعل عقلك في المستوى الذي يستطيع من خلاله أن ينتج الفكر الأفضل. وحرِّك حياتك في الاتجاه الذي تتبع فيه الفكر الأفضل، وهذه هي مسألة العقل؛ لأن قصّة العقل ليست في الفكر التجريدي الذي لا علاقة له بالحياة، كالكثيرين من الناس الذين يفكرون تجريدياً في أمور لا علاقة لها بالحياة العقيدية والعملية، وإنما تكون في مفردات ليس لها أي دور في تقدم الإنسان وتطوّره ونموّه، أي أن يكون العقل قائداً للحياة، ومن الطبيعي أن قيادة الحياة لا بد أن تكون بالفكر الذي يوجّه الحياة ويخدمها.
ويتابع الإمام الكاظم (ع):
((يا هشام: إنَّ الله تبارك وتعالى أكمل للنّاس الحجج بالعقول..))،
وهنا أراد الإمام(ع) أن يبيّن في هذه الوصيَّة وسائل الهداية للإنسان، وكيف يقيم الله الحجة عليه، وما هي الآليّة التي أودعها الله تعالى في الإنسان لينتج منها ما يكون حجّةً له بين يدي الله سبحانه وتعالى. إنَّ الله تعالى خلق العقول للناس لتتحرّك، ولتصل إلى مواقع الحجَّة بين الإنسان وبين ربّه، والحجة بين الإنسان وبين الإنسان الآخر. فالعقل هو حجَّة الله سبحانه وتعالى على العباد، وهو حجَّة الله تعالى للعباد...
((.. ونصر النبيين بالبيان...)) وفي نسخة أخرى ((وأفضى إليهم بالبيان)).
أمَّا النبيّون فدورهم هو أن يحملوا الرّسالة، وأن يبيّنوها للناس بكلِّ تفاصيلها. فالله تعالى يعلّمهم الكتاب والحكمة، بحيث يبيّن لهم أسرار الكتاب بكل معانيه وإيحاءاته، والحكمة بكل حركيّتها في عالم وعي الكتاب في الواقع؛ لأن الحكمة كما ورد في تعريفها: (وضع الشيء في موضعه)، ومن هنا فقد يُقال: إن الكتاب هو خط النظرية، وإن الحكمة هي خط التطبيق. فدور الأنبياء هو دور البيان، قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}(الغاشية/21-22)، وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى} /(الأعلى/9)، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(الذاريات/55)، وقال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا الله وَكَفَى بِالله حَسِيبًا}(الأحزاب/39)، وقال تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُو الأَلْبَابِ}(إبراهيم/52)، وإلى آخر ما يتحدَّث به القرآن الكريم عن البلاغة.
فالأنبياء عندما يبيّنون للناس حقائق الوحي، في كلِّ ما أراد الله سبحانه وتعالى للناس أن يفهموه وأن يعقلوه، وأن يعملوا على أساسه، فإن الأنبياء عندما يبيّنون ذلك للناس، ويدخل هذا البيان النبوي في عقولهم، وفي قلوبهم، فإنّ النبيين ينتصرون بذلك، لأنّ البيان يمثّل الوسيلة التي يريد الله للناس أن يأخذوا بها من أجل الوصول إلى حقائق العقيدة والشريعة والحياة، مما أفضى إليهم من وحي الرسالات في الكتب التي أنزلها على رسله، وفي الوصايا التي ألهمهم إيَّاها.
من العقل إلى الإيمان:
(( ..ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة..))،
أيّ أثبت لهم ربوبيّته في كل معاني الربوبيّة، في الخالقية والرازقيّة وما إلى ذلك.. وأثبت ذلك بالأدلّة، فالله سبحانه وتعالى عرّف الناس ربوبيّته بما قدّمه لهم من الأدلّة التي أراد للعقل أن يفكر فيها وينفتح عليها؛ لأنه تعالى تحدث في القرآن الكريم عن عناوين الأدلة في ما خلقه الله من الظواهر الكونية التي تدل على عظمته في خلقه، والتي تنفتح على كل أسرار الإبداع، وأراد للعقل أن يفكّر في ذلك، وهذا ما قدّم فيه الإمام موسى الكاظم (ع) الأمثلة والنماذج، في الأدلة التي قدّمها الله تعالى ليفكّر فيها الإنسان،
فقال الإمام تالياً آيات الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ الله مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(البقرة/163ـ164).
إنَّ هذه العناوين التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الكون كله، في نطاق النظام الكوني، وفي كلِّ هذه الظواهر الكونية، مما أراد الوصول إلى تعقُّلها من خلال دراسة أسرارها، ومعرفة ما تعطيه من النفع للناس، وما ركّب فيها من عناصر القدرة؛ هذه الظواهر على الإنسان أن يدرسها في عقله، فمن الطبيعي أن العقل عندما يريد دراسة كلِّ هذه الظواهر؛ عندما يتطلع إلى حركة الزمن وتنوّعه في اختلاف الليل والنهار، أو عندما يتطلع إلى السماوات بكل أفلاكها وعوالمها التي لا يزال الإنسان يزحف في جهله ليلتقي بأكثر من موقع للعلم ليتعرف عليها، وهكذا بالنسبة إلى الأرض في كل مواقع القدرة فيها، وبالنسبة إلى النظام الذي جعل الله تعالى فيه السفن تتحرك في البحر بما ينفع الناس، ونظام الأمطار التي تحيي الأرض بعد موتها، والسحاب المسخّر بين السماء والأرض... إنَّ العقل عندما يريد أن ينفتح على هذه الظواهر ويدرسها، فإن من الطبيعي أنّ هذا الانفتاح لن يكون مجرَّد نظرة تجريدية تأمّليّة، بل لابد أن يدرس المسألة على أساس التجربة لينفذ إلى التجربة التي هي مصدر من مصادر المعرفة، ليتعرّف طبيعة القوانين التي تحكم كلَّ هذه الظواهر الكونية، ليتعرّفها بالحسِّ تارةً في ما يكتشفه من أسرارها حسيّاً، أو من خلال طبيعة المعادلات التي يمكن له من خلالها أن يفهم أسرار هذه الظاهرة أو تلك.
ومن هنا نستطيع أن نأخذ فكرة وهي:
أن الإيمان يمر بطريق العلم، خلافاً للذين يعتقدون أن الإنسان كلما ازداد علماً كلما ضعف إيمانه، وأن الإنسان كلما ازداد جهلاً قوي إيمانه. وعلى خلاف بعض الناس الذي يتحرّك ويتحدّث ويقول: إن إيماني هو إيمان العجائز، للتدليل على أن إيمان العجائز أكثر صفاءً. ولكن المسألة ليست كذلك، فإنه كلما ازداد الإنسان علماً كلما ازداد إيماناً؛ لأنه كلما ازداد علماً ازداد معرفةً بالله تعالى من خلال معرفته بأسرار عظمة الله سبحانه وتعالى في خلقه، وامتدادات نِعَم الله في حياته، وما إلى ذلك.. ولذلك فإنَّ الله سبحانه وتعالى ربط هذه الأمور وجعلها آيات وأدلة لقوم يعقلون ويعيشون حركية العقل في نظرتهم إلى الظواهر، وفي نفاذهم إلى أسرارها، بما يستحضر من مفردات العلم التي تعرّفه القوانين التي أودعها الله تعالى في الكون، ليعرف الإنسان من خلال ذلك أنَّ الكون لم يخلق عبثاً، فقد قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}(المؤمنون/115)، ولم ينطلق من الصدفة، بل إنه انطلق من خلال نظام دقيق يدلُّ على عظمة الله جلّ وعلا، كما يقول الشاعر:
وفي كل شيء له آية تدلُّ على أنه واحد
ويبقى لنا من الحديث الكثير في حديث الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع). ومن خلال ذلك، أحبُّ أن أشير إلى نقطة، وهي أن علينا أن نفهم أئمتنا من خلال ما تركوه لنا من تراث العلم، وألاّ نحجّمهم، لتكون مسألتنا معهم مجرد مسألة تتصل بالجانب الغيـبي، وإن كان هناك شيء من الغيب في بعض ما يأخذون به، أو في جانب المأساة. إن خطَّ الإمامة هو خطّ الإسلام الحضاري الذي نريد أن نقدمه للعالم لنقول له: إن الأئمة من أهل البيت (ع) جاءوا من أجل صنع الحضارة الروحية والعلمية للناس كافّةً في خط الإسلام الأصيل، وبذلك نستطيع أن نجعل ارتباطنا بالأئمة (ع) ارتباط فكر وعلم وروحانية، لنقرِّب الناس إليهم، ولنقرِّب عقولنا إليهم.
والحمد للّه ربِّ العالمين
----------------
بقية شرح الرسالة سيكون في الحلقة الثانية انشلء الله تعالى
العقل
في ضوء رسالة الإمام الكاظم(ع) إلى هشام بن الحكم،
http://www.alriyadh.com.sa/Contents/04-10-2003/Mainpage/images/P24.jpg
محمد حسين فضل الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآلهِ الطيبين الطاهرين، وصحبهِ الـمُنتجبين، وعلى جميع أنبياءِ الله الـمُرسلين.
تحدَّثنا في وقت سابق عن قيمة العقل في الإسلام من خلال الكتاب والسُنّة، سواء في حديث النبي محمد (ص) أو حديث الإمام علي (ع)، وفي هذا الحديث نلتقي بالإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) في وصيّة مميّزة خاطب بها هشام بن الحكم الذي كان يحظى باحترام الأئمّة (ع) له من خلال أنّه يمتلك الثقافة الواسعة في علم الكلام، والتي كانت تمكّنه من الدخول في الجدل العلمي العقلاني الموضوعي في الدفاع عن الخط الإسلامي الأصيل الذي يمثلّه الأئمة من أهل البيت (ع).
التأسيس الثقافي:
في هذه الوصية، نكتشف أسلوب الأئمة من أهل البيت (ع) في حركة المعرفة التي يقدمونها للناس، فهم لا يطلقون الفكرة بشكل ارتجالي أو بشكل بعيد عن القاعدة التي ترتكز عليها الفكرة، وإنما كانوا ـ كما نرى في هذه الوصية ـ يثقفون الناس بالفكرة من خلال تقديم الآيات القرآنية التي تفتح عقول الناس على المنهج القرآني في الاستدلال على حقائق العقيدة والحياة، ما نستوحي منه أنّه لا بدّ للقائمين على شؤون الثقافة الإسلامية، سواء من الفقهاء أو من المتكلمين، أن يقدِّموا الفكر الإسلامي للناس من خلال القاعدة التي يرتكز عليها الفكر الإسلامي؛ لأن القضية في المنهج الإسلامي للدعوة هي أنْ يملك المسلمون الثقافة العميقة الواسعة التي يمكن أن يتحول المسلم من خلالها إلى داعية للإسلام، وإلى محاوِرٍ للآخرين الذين يثيرون الشبهات.
إن المسألة التي لابد أنْ يعمل لها القائمون على شؤون الثقافة الإسلامية هي تثقيف الأمة كلٌّ بحسبه، وهذا ما نستوحيه من مسألة تدبّر القرآن التي أراد الله سبحانه وتعالى للأمّة أن تمارسها وهي تقرأ القرآن، فقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}(النساء/82)، وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(محمد/24)، أن تقرأ الأمة القرآن الكريم قراءة فكر وتدبّر حتى تتثقف بالقرآن. ولهذا فإنّ ما درج عليه الناس من إعطاء الفكرة أو الفتوى من دون تقديم الدليل والحجة والبرهان، ليس منسجماً مع المنهج القرآني الذي يرتكز على أنْ تأخذ الأمة بأسباب العلم، باعتبار أنّ العلم هو القيمة، وأن تتحرك في خط العقل باعتبار أن العقل هو الحجة.
وعندما ندرس طريقة الأئمة من أهل البيت (ع) في ما تركوه لنا من تراث، فإننا نجد أنهم وهم يعملون على تثقيف الأمة، كانوا لا يتعقّدون من سؤال، وقد ورد عندنا أنّ الإمام الباقر (ع) كان يطلب من أصحابه أنّه إذا حدّثهم بحديث، أن يسألوه عن أساسه في كتاب الله، ليعرّفهم كيف يستنتجون الفكرة من كتاب الله سبحانه وتعالى، ويشجعهم على أنْ يناقشوا العلماء، وأنْ يسألوهم في ما يملكون علمه، بما يملكون من طاقة التعلّم.
الإمام الكاظم (ع) ووصيّته لهشام:
عن هشام بن الحكم قال: ((قال لي أبو الحسن بن موسى بن جعفر (ع): يا هشام، إن الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ}..)).
إن الإمام الكاظم (ع) في ما نستوحيه من كلامه، يستوحي من هذه الآية الكريمة، أن الله سبحانه وتعالى أراد للناس أن يستمعوا إلى كل ما يُقدَّم إليهم من قول، سواء كان هذا القول قولاً يتمثّل في آيات الله تعالى في القرآن الكريم، أو يتمثّل في ما جاء عن النبي (ص) والأئمة من أهل البيت (ع)، الذين عاشوا كل عقل رسول الله (ص) وكل فكره وكل علمه، فهم ليسوا مجرّد رواة، ولكنهم عاشوا الإسلام كله على قاعدة الحق، أو أن يستمع الناس إلى كل من يملك علماً، في أي اختصاص من اختصاصات العلم، وفرق بين أن تسمع وأنْ تستمع؛ لأن مسألة السماع هي أن تزحف الكلمة من خلال قائلها إلى أذنك من دون اختيار، تماماً كالإنسان الذي يمر في الشارع أو يجلس في مجلس والناس يتحدثون، فلا يركّز فكره على الحديث، وإنما يمر به مرور الكرام. أما الاستماع، فهو أنْ تسمع عن إرادة، وأن توجّه عقلك إلى كلّ ما يدخل إلى سمعك، وأن تستمع إليه بأن توجّه ذاتك إلى ما يتحدث به الآخرون. {فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ}، بحيث يفكرون فيه، ويدرسونه، ويتعرفون فيه الخطأ والصواب، والحسن والأحسن، لينهجوا المنهج العلمي في ما استمعوه، ليختاروا الأحسن في الفكرة، والأحسن في الخطّة، والأحسن في حركة الواقع، وما إلى ذلك.
ولماذا يبشّر الله سبحانه وتعالى هؤلاء؟ لأن هؤلاء هم الذين يكتسبون العلم من خلال ما يستمعون إليه، وهم الذين يحوّلون ما يلتزمون به من حقائق العلم عندما يميّزون بين كلام وكلام، ليختاروا الكلام الأحسن والأفضل والأجدى والأنفع. هؤلاء هم الذين تقوم الحياة على أساس وجودهم، لأن المجتمع ـ أي مجتمع ـ عندما يكون مجتمعاً يفكّر ويقارن بين الأفكار، ويوازن بينها، ويختار الفكر الأحسن ليجسده في حياته، عندما يكون المجتمع كله في هذا الاتجاه، فإن من الطبيعي أن يكون مجتمعاً متقدّماً منفتحاً مثقفاً واعياً، لا يأخذ إلاّ بما يكون في المستوى الأعلى من المعرفة، والأفضل في الحياة. ولذلك كانت البشارة من الله سبحانه وتعالى لمثل هؤلاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أنْ يكون الإنسان الذي يختزن العلم في كلِّ عقله ووجدانه، ويريد للإنسان أنْ يحوّل العلم إلى حركة للحياة، قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}(الرعد/17)، وما ينفع الناس هو الذي يملك العناصر التي يمكن أنْ تعطي الحياة قوة وتميّزاً وحركة. ثم تتابع الآية الكريمة: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ الله} عندما فتح عقولهم على الحقيقة، {وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ} أولو العقول.
وهذا هو الذي أراد الإمام (ع) الإيحاء به إلى هشام بن الحكم، ليقول له: اجعل عقلك في المستوى الذي يستطيع من خلاله أن ينتج الفكر الأفضل. وحرِّك حياتك في الاتجاه الذي تتبع فيه الفكر الأفضل، وهذه هي مسألة العقل؛ لأن قصّة العقل ليست في الفكر التجريدي الذي لا علاقة له بالحياة، كالكثيرين من الناس الذين يفكرون تجريدياً في أمور لا علاقة لها بالحياة العقيدية والعملية، وإنما تكون في مفردات ليس لها أي دور في تقدم الإنسان وتطوّره ونموّه، أي أن يكون العقل قائداً للحياة، ومن الطبيعي أن قيادة الحياة لا بد أن تكون بالفكر الذي يوجّه الحياة ويخدمها.
ويتابع الإمام الكاظم (ع):
((يا هشام: إنَّ الله تبارك وتعالى أكمل للنّاس الحجج بالعقول..))،
وهنا أراد الإمام(ع) أن يبيّن في هذه الوصيَّة وسائل الهداية للإنسان، وكيف يقيم الله الحجة عليه، وما هي الآليّة التي أودعها الله تعالى في الإنسان لينتج منها ما يكون حجّةً له بين يدي الله سبحانه وتعالى. إنَّ الله تعالى خلق العقول للناس لتتحرّك، ولتصل إلى مواقع الحجَّة بين الإنسان وبين ربّه، والحجة بين الإنسان وبين الإنسان الآخر. فالعقل هو حجَّة الله سبحانه وتعالى على العباد، وهو حجَّة الله تعالى للعباد...
((.. ونصر النبيين بالبيان...)) وفي نسخة أخرى ((وأفضى إليهم بالبيان)).
أمَّا النبيّون فدورهم هو أن يحملوا الرّسالة، وأن يبيّنوها للناس بكلِّ تفاصيلها. فالله تعالى يعلّمهم الكتاب والحكمة، بحيث يبيّن لهم أسرار الكتاب بكل معانيه وإيحاءاته، والحكمة بكل حركيّتها في عالم وعي الكتاب في الواقع؛ لأن الحكمة كما ورد في تعريفها: (وضع الشيء في موضعه)، ومن هنا فقد يُقال: إن الكتاب هو خط النظرية، وإن الحكمة هي خط التطبيق. فدور الأنبياء هو دور البيان، قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}(الغاشية/21-22)، وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى} /(الأعلى/9)، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(الذاريات/55)، وقال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا الله وَكَفَى بِالله حَسِيبًا}(الأحزاب/39)، وقال تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُو الأَلْبَابِ}(إبراهيم/52)، وإلى آخر ما يتحدَّث به القرآن الكريم عن البلاغة.
فالأنبياء عندما يبيّنون للناس حقائق الوحي، في كلِّ ما أراد الله سبحانه وتعالى للناس أن يفهموه وأن يعقلوه، وأن يعملوا على أساسه، فإن الأنبياء عندما يبيّنون ذلك للناس، ويدخل هذا البيان النبوي في عقولهم، وفي قلوبهم، فإنّ النبيين ينتصرون بذلك، لأنّ البيان يمثّل الوسيلة التي يريد الله للناس أن يأخذوا بها من أجل الوصول إلى حقائق العقيدة والشريعة والحياة، مما أفضى إليهم من وحي الرسالات في الكتب التي أنزلها على رسله، وفي الوصايا التي ألهمهم إيَّاها.
من العقل إلى الإيمان:
(( ..ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة..))،
أيّ أثبت لهم ربوبيّته في كل معاني الربوبيّة، في الخالقية والرازقيّة وما إلى ذلك.. وأثبت ذلك بالأدلّة، فالله سبحانه وتعالى عرّف الناس ربوبيّته بما قدّمه لهم من الأدلّة التي أراد للعقل أن يفكر فيها وينفتح عليها؛ لأنه تعالى تحدث في القرآن الكريم عن عناوين الأدلة في ما خلقه الله من الظواهر الكونية التي تدل على عظمته في خلقه، والتي تنفتح على كل أسرار الإبداع، وأراد للعقل أن يفكّر في ذلك، وهذا ما قدّم فيه الإمام موسى الكاظم (ع) الأمثلة والنماذج، في الأدلة التي قدّمها الله تعالى ليفكّر فيها الإنسان،
فقال الإمام تالياً آيات الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ الله مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(البقرة/163ـ164).
إنَّ هذه العناوين التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الكون كله، في نطاق النظام الكوني، وفي كلِّ هذه الظواهر الكونية، مما أراد الوصول إلى تعقُّلها من خلال دراسة أسرارها، ومعرفة ما تعطيه من النفع للناس، وما ركّب فيها من عناصر القدرة؛ هذه الظواهر على الإنسان أن يدرسها في عقله، فمن الطبيعي أن العقل عندما يريد دراسة كلِّ هذه الظواهر؛ عندما يتطلع إلى حركة الزمن وتنوّعه في اختلاف الليل والنهار، أو عندما يتطلع إلى السماوات بكل أفلاكها وعوالمها التي لا يزال الإنسان يزحف في جهله ليلتقي بأكثر من موقع للعلم ليتعرف عليها، وهكذا بالنسبة إلى الأرض في كل مواقع القدرة فيها، وبالنسبة إلى النظام الذي جعل الله تعالى فيه السفن تتحرك في البحر بما ينفع الناس، ونظام الأمطار التي تحيي الأرض بعد موتها، والسحاب المسخّر بين السماء والأرض... إنَّ العقل عندما يريد أن ينفتح على هذه الظواهر ويدرسها، فإن من الطبيعي أنّ هذا الانفتاح لن يكون مجرَّد نظرة تجريدية تأمّليّة، بل لابد أن يدرس المسألة على أساس التجربة لينفذ إلى التجربة التي هي مصدر من مصادر المعرفة، ليتعرّف طبيعة القوانين التي تحكم كلَّ هذه الظواهر الكونية، ليتعرّفها بالحسِّ تارةً في ما يكتشفه من أسرارها حسيّاً، أو من خلال طبيعة المعادلات التي يمكن له من خلالها أن يفهم أسرار هذه الظاهرة أو تلك.
ومن هنا نستطيع أن نأخذ فكرة وهي:
أن الإيمان يمر بطريق العلم، خلافاً للذين يعتقدون أن الإنسان كلما ازداد علماً كلما ضعف إيمانه، وأن الإنسان كلما ازداد جهلاً قوي إيمانه. وعلى خلاف بعض الناس الذي يتحرّك ويتحدّث ويقول: إن إيماني هو إيمان العجائز، للتدليل على أن إيمان العجائز أكثر صفاءً. ولكن المسألة ليست كذلك، فإنه كلما ازداد الإنسان علماً كلما ازداد إيماناً؛ لأنه كلما ازداد علماً ازداد معرفةً بالله تعالى من خلال معرفته بأسرار عظمة الله سبحانه وتعالى في خلقه، وامتدادات نِعَم الله في حياته، وما إلى ذلك.. ولذلك فإنَّ الله سبحانه وتعالى ربط هذه الأمور وجعلها آيات وأدلة لقوم يعقلون ويعيشون حركية العقل في نظرتهم إلى الظواهر، وفي نفاذهم إلى أسرارها، بما يستحضر من مفردات العلم التي تعرّفه القوانين التي أودعها الله تعالى في الكون، ليعرف الإنسان من خلال ذلك أنَّ الكون لم يخلق عبثاً، فقد قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}(المؤمنون/115)، ولم ينطلق من الصدفة، بل إنه انطلق من خلال نظام دقيق يدلُّ على عظمة الله جلّ وعلا، كما يقول الشاعر:
وفي كل شيء له آية تدلُّ على أنه واحد
ويبقى لنا من الحديث الكثير في حديث الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع). ومن خلال ذلك، أحبُّ أن أشير إلى نقطة، وهي أن علينا أن نفهم أئمتنا من خلال ما تركوه لنا من تراث العلم، وألاّ نحجّمهم، لتكون مسألتنا معهم مجرد مسألة تتصل بالجانب الغيـبي، وإن كان هناك شيء من الغيب في بعض ما يأخذون به، أو في جانب المأساة. إن خطَّ الإمامة هو خطّ الإسلام الحضاري الذي نريد أن نقدمه للعالم لنقول له: إن الأئمة من أهل البيت (ع) جاءوا من أجل صنع الحضارة الروحية والعلمية للناس كافّةً في خط الإسلام الأصيل، وبذلك نستطيع أن نجعل ارتباطنا بالأئمة (ع) ارتباط فكر وعلم وروحانية، لنقرِّب الناس إليهم، ولنقرِّب عقولنا إليهم.
والحمد للّه ربِّ العالمين
----------------
بقية شرح الرسالة سيكون في الحلقة الثانية انشلء الله تعالى