jameela
12-12-2010, 08:02 AM
جريرة أسقطت أمية
http://www.aldaronline.com/Dar/UploadAlDar/Article%20Pictures/2010/12/12/Pic%2003.jpg_thumb2.jpg
د . أنطون بارا
• ليس هناك سبب لسقوط أمية إلا واتصل بجريرة كربلاء مهما تعددت الأسباب
• مصرع الحسين «ع» هو الداء القاتل الذي سكن جثمان الدولة الأموية وقضى عليها
• يزيد ردد: «سلطنة الحسين كانت أهون عليّ من هذا المقام العالي الذي فاز به بنو هاشم
• زوجته اقتحمت مجلسه سافرة تصيح مستنكرة: «رأس ابن بنت رسول الله مصلوب على دارنا !»
شعلة الإباء والكرامة ورفض الضيم والغيرة على العقيدة التي أوقدها الحسين بن علي «ع» بملحمته الخالدة وأوضحها بحبر جديد من دم الشهادة المحررة المنقذة فوق ثرى الطف.. كانت يتيمة الدهور، ولم يسجل التاريخ شبيهاً لها لا في المعنى ولا في المبنى وارتقت بعنفوانها درجات فوق الملاحم التي تجاد بها الأنفس وتسترخص لها الأرواح، فكان «ع» شمعة الإسلام أضاءت ممثلة ضمير الأديان إلى أبد الدهور، وسيداً للشهداء لم تشهد له الأديان مثيلاً، وفسيلاً في تربة النبوة وغصناً مزهراً في الشجرة القدسية لآل البيت عليهم السلام.
http://www.aldaronline.com/Dar/UploadAlDar/Article%20Pictures/2010/12/12/(14).jpg
«يالثارات الحسين» عدالة السماء اقتصت من آثمي محرم .. ضربة بضربة .. وقتلة بقتلة
وقد كان انطفاؤه فوق ثرى الطف توهجاً لاشتعال أبدي، وخلدت ملحمته كعنوان صريح لقيمة الثبات على المبدأ ولعظمة المثالية في تمثل العقيدة، لذا غدا حبه كثائر واجباً علينا كبشر، وحبه كسبط نبوي جزءاً من نفثات ضمائرنا، وإنزاله في القلوب المنزلة العليا كسيد للشهداء فيه رضى للحنايا وإثلاج للصدور، وتكريس للنصر الحقيقي المنسجم مع التوجه الينبوعي الطاهر. وتظل صرخة العقيلة زينب «ع» راية كربلاء الخفاقة على مر الدهور.
ليس ثمة من سبب لسقوط عرش أمية إلا واتصل بجريرة كربلاء، وليس أقل تبصراً لدى بحث أسباب سقوط أمية، من ردها إلى عوامل أخرى تبعد أو تقرب من كربلاء، حتى في أخذ المؤرخين لهذه العوامل بالتسجيل أو التحليل.. يأخذونها على أنها عوامل منفصلة بحد ذاتها، لها خصائصها الكاملة التي إذا اجتمعت شكلت عاملاً وسبباً لما جرى.
ولكن المدقق البصير لهذه العوامل التي تبدو للعيان متباعدة لا تمت لبعضها بصلة.. يجد أن ثمة خيطاً رفيعاً غير منظور يربط بعضها ببعض، ويشدها لتكون في النهاية سلسلة واحدة متعددة الحلقات.
ورد أسباب سقوط أمية إلى عوامل تبعد عن جرائر كربلاء.. لهو إغماط لقدسية هذه الملحمة، وكفر بيِّن لعلل العناية الإلهية، وإلغاء عمدي لكل الشهادات التي سبقتها، وعدم إيمان بنبوءات الرسل والأوصياء.
http://www.aldaronline.com/Dar/UploadAlDar/Article%20Pictures/2010/12/12/P41-01.jpg
الشهيد يطلب من المتوحشين شربة ماء للرضيع عبد الله .. فيرسل له حرملة سهماً قاتلاً
وسنعرض بالتفصيل للآراء التي تصدت لتحليل أسباب سقوط العرش الأموي، ولكن قبل أن نخوض في هذه الآراء سنذكر لكل من سبق واطلع عليها، بأن إحدى معجزات استشهاد الحسين كان سقوط أمية، وهي معجزة زمنية لم تكن هدفاً بحد ذاتها لشهادة الحسين بل لحقت فيما لحقت به من معجزات أكبر منها.. ففي ميزان الإعجاز، أيهما أعظم أثراً.. المعجزة التي حققتها هذه الشهادة في ضمير الأمة الإسلامية.. أم معجزة سقوط أمية؟ طبعاًً الجواب سيدور حول عظمة المعجزة الأولى، فهي الأصل الذي هدفت له ملحمة كربلاء، أما المعجزتان اللتان تقدمتها إحداهما ولحقت بها الأخرى.. (1) فهما معجزتان كان لابد من حدوثهما تأثراً مسبقاً أو لاحقاً بالمعجزة العظيمة التي كان مسرحها الضمائر وميدانها الأفكار لمجموع أمة الإسلام.
وهنا لابد من طرح إجابة عن سؤال من الممكن أن يجول في الأذهان، وهو سؤال ذو ثلاث نقاط:
1 لماذا هُزم الحسين عسكرياً؟
2 لماذا تأخر سقوط أمية؟
3 لماذا ثار الحسين في عهد يزيد بالذات؟
للإجابة عن السؤال الأول، لابد من النظر بعين الاعتبار إلى كون هزيمة الحسين ما كانت لتتم على عهد يزيد إلا لأن هذا العهد كان الظرف المناسب لإظهار تناقضات السلطة الممثلة بيزيد كخليفة على المسلمين يزاحم آل البيت حقهم في هذه الخلافة، ولو شاءت العناية الإلهية لأنفذت لمهمة الاستشهاد حسيناً في غير هذا العهد، فيما سبقه أو لحقه من عهود، ولكانت أمدته بقوى أسعفته في حينه، فينتصر ولا يستشهد، ويسجل التاريخ نصره إلى جانب الانتصارات العسكرية التي تحفل بها صفحاته الكثيرة.
أما لماذا تأخر سقوط أمية بعد استشهاد الحسين ما دامت عوامل هذا السقوط تكونت بإعجاز من هذا الاستشهاد واختمرت بخميرته؟ فذلك لسر آخر أعدته الحكمة العلوية لكي تطول فترة الندم، وتتفاعل عوامل النهوض في ضمير الأمة الإسلامية، حتى إذا ما هبت.. التهبت كبركان اختزن سخونته طويلاًً فكانت ثورته حتى عنان السماء (2).
أما لماذا ثار الحسين في عهد يزيد بالذات؟ ففي العودة إلى متن الكتاب إجابة عن هذا السؤال، إذ كان مقدراً أن تكون ثورة الشهيد وشهادته في هذا الوقت بالذات وفي هذا العهد بعينه، لا من أجل إظهار عورات وسوءات العهد إياه فحسب.. بل من أجل جعله كمثال لسوءات كل العهود التي يضيع فيها الحق، وترتفع خلالها رايات الباطل، وما كان أجدر بعهد يزيد لتمثيل هذه العهود؟
ولنعرض الآن لجملة آراء حول أسباب سقوط أمية، المباشرة منها وغير المباشرة.
في كتاب للعقاد رأي يقول: إن مصرع الحسين هو الداء القاتل الذي سكن جثمان الدولة الأموية حتى قضى عليها.
ويرى المستشرق «جولد تسهير» أن عمر بن عبد العزيز أحد أمراء أمية الذين تربوا في بيئة صالحة والذي كان جاهلاً بالأمور السياسية عجَّل بسقوط العرش الأموي.
ويصف الحكيم «ماربين» إقدام يزيد على قتل الحسين بأعظم خطأ سياسي صدر من بني أمية، فجعلهم نسياً منسياً ولم يبق منهم أثر ولا خبر.
فإذا نظرنا إلى هذه الآراء بتجرد، لما وجدنا الأسباب التي اعتبرتها كعوامل رئيسية لسقوط أمية لتخرج عما اتصلت به أهداف ثورة الحسين، فعليه السلام تحرك ليقف في وجه الانحراف الذي بدأ على عهد عثمان ووصل إلى عهد يزيد والذي استمر إلى آخر خليفة أموي، بحيث لم تتغير الأرضية التي يرتكز عليها الحكم، وبالتالي ظلت الخصائص هي ذاتها لم تتبدل بتبدل الوجوه، وظلت الآفات تنخر في هيكل العرش الأموي.
وإذا لم تكن جريرة قتل الحسين وآل البيت هي السبب الرئيسي الذي قوَّض الدولة الأموية فأي جريرة أكبر من هذه الجريرة يمكن أن تتفاعل داخل المجتمعات الإسلامية وتسبب كل هذه الثورات التي تلتها، والتي كان من نتائجها اجتثاث النظام الذي ارتكبها والتي بسببها قُتل حفيد الرسول «ص» وآل بيته الأطهار؟
فها هو معاوية الثاني يقول: «أيها الناس إن جدي معاوية نازع الأمر أهله ومن هو أحق منه لقرابته من رسول اللَّه «ص» وهو علي بن أبي طالب».
وعندما يتفاعل الندم مع لوم النفس في صدر ابن القاتل.. أفلا يجدر تفاعله في ضمير رجل الشارع الذي اعتبر نفسه مسؤولاً عن خذلان الشهيد ابن الشهيد وأبو الشهداء الحسين «ع»، وتركه بلا نصير مقابل مغانم زالت وبقي له الندم وتبكيت الضمير؟
ولم يقف هذا التبكيت على رجل الشارع.. بل تعداه إلى أفراد الأسرة الأموية غير معاوية الثاني، فإذا بعبد الملك يكتب للحجاج:
«لا تعرض لمحمد بن الحنفية ولا لأحد من أصحابه، جنبني دماء آل أبي طالب فليس منها شفاء من الحرب».
ويأتي مروان آخر خلفاء أمية قبل اندثارهم ليمتنع عن شتم ولعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
وفي مواقف خلفاء بني أمية الذين اعتلوا العروش بعد ثورة الحسين، دلالة كافية على أنهم بمواقفهم هذه، كانوا يقدمون على فعل مسبق لما كانوا يحدسون تفجره بين يوم وآخر بدوام تذكر الناس مأساة آل البيت، لهذا قال عبد الملك: «جنبني دماء آل أبي طالب» ولأجله امتنع مروان عن لعن أمير المؤمنين وبسببه تنصل معاوية الثاني من فعلة جده معاوية وأبيه يزيد.
حتى يزيد نفسه لما رأى حزن أهل(3) بيته على قتل الحسين وسمع تقديسه مع أولاد علي وعظمتهم ومظلوميتهم بين الناس، صمت وأراد تبرئة نفسه مما جنت يداه بإلقاء المسؤولية على عماله بالرغم مما أشاعه عماله، وقد سُمع ذات يوم يقول: «إن سلطنة الحسين كانت أهون عليَّ من هذا المقام العالي الذي فاز به آل علي وبنو هاشم».
وها هو يحيى بن الحكم يقول لبني أمية لما بلغه قتل الحسين: «حُجبتم عن محمد يوم القيامة، لن أجامعكم على أمر أبداً».
ويذكر عن يزيد أنه أمر النعمان بن بشير على مسمع من قواد جيشه أن يبعث مع السبايا إلى المدينة رجلاً أميناً معه رجال وخيل، ويكون علي بن الحسين معهن، وكان لا يتغدى ولا يتعشى إلا ومعه علي بن الحسين وأخوه عمر.
ولما ودعه قال لعلي بن الحسين:
«قبَّح اللَّه ابن سمية أما واللَّه لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة إلا أعطيته إياها ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن اللَّه قضى ما رأيت».
وتحدث الروايات أنه لما دخلت النساء عليه قالت فاطمة بنت الحسين وكانت أكبر من سكينة:
يا يزيد بنات رسول اللَّه سبايا..
فقال: يا بنت أخي أنا لهذا كنت أكره
قالت: واللَّه ما تركونا إلا خرصاً
فقال: ابنة أخي.. ما أتى إليك أعظم مما ذهب لك.
وأية حجة تبرر آراء بعض المحرفين الذين جردوا كربلاء من كل إعجاز مخالفين بذلك الحجج الإلهية، وذاكرين أن الأطماع السياسية لفئة منظمة مستغلة نجحت في اتخاذ مقتل الحسين ذريعة للعبث وستاراً أشبه بقميص عثمان تلوِّح به لإزالة الدولة الأموية؟
وسواء رد بعض المؤرخين سقوط أمية إلى التفاخر بين قيس واليمن، أم إلى مصرع الوليد بن يزيد، أم إلى دعوة الخوارج، أم إلى جهل عمر بن عبد العزيز بأصول السياسة، أم إلى أي سبب آخر.. تظل خطيئة قتل الحسين التي اقترفها يزيد هي المؤشر الأوحد الذي بدأت منه بداية العد العكسي لسقوط الحكم الأموي، إذ ظل المسلمون ينظرون إلى خلفاء بني أمية نظرتهم إلى مختلسين سرقوا الخلافة بوسائل القهر والإذلال، وقَتَلة لعترة النبي المقدسة.
وكان المسلمون يسمعون قبل استشهاد الحسين هذه الأبيات التي تصور لهم الإلهام السماوي الذي أوصل بني أمية إلى الحكم:
تمت جدودهم والله فضلهم
وجد قوم سواهم خامل نكد
هم الذين أجاب الله دعوتهم
لما تلاقت نواصي الخيل واجتلدوا
وبعد استشهاد الحسين صاروا يسمعون كل ما يصور مثالب خلفاء بني أمية:
يبيت النشاوي من أمية نوَّماً
وبالطف قتلى لا ينام حميمها
وما ضيَّع الإسلام إلا قبيلة
تأمر نوكاها ودام نعيمها
وكانت هذه المعادلات الشعرية المتضادة سبباً في إيقاظ العقول الخاملة، فقد حملت هذه الاشعار بعد المقتل روح الإحساس بالظلم الفادح من خلافة بني أمية(4)، تُرجمت إلى مواقف وكلمات أظهرتها حالة المقت التي سادت في مختلف عهود الأمويين.
وإذا قالها قائل.. فذلك أهون الشرين، أما إذا قالها خليفة أموي فلا معنى لها إلا تفسير «وشهد شاهد من أهله» وهذه صورة للحكم الأموي كما صوره أحد خلفاء بني أمية، إذ قال:
فدع عنك أدكارك آل سعدي
فنحن الأكثرون حصى ومالا
ونحن المالكون الناس قسرا
نسومهم المذلة والنكالا
وإذا كان المسلم بعد استشهاد الحسين يتذكر شيئاً.. فإنه لن ينسى تذكر قتل يزيد للحسين وعترة آل البيت، وحمل رؤوسهم على أسنة الرماح، وسبي حرم رسول اللَّه «ص» إلى دمشق، ونكته لثنايا ريحانة الرسول «ع» بقضيبه، وترديده ذلك البيت الشنيع: «ليت أشياخي.. ألخ».
وإذا لم ينس هذه الشناعة.. فلأنه تمثل وجدانياً وفكرياً خطورة قتل مسلم لمسلم بدون حق، وشناعة إيذاء مؤمن لمؤمن، وخطيئة ثلم أمر الأمة القائم بالقسط.. فكيف إذا كان هذا المسلم المقتول بمكانة سبط النبي.. هنا يتخذ القتل بعداً فوق بعده اللا إنساني.. فزوال الدنيا لأهون من قتل مسلم لمسلم من دون حق، فكيف بقتل مسلم لحفيد نبي الإسلام؟ حيث كان يقصد في قتله قتل الحق الإلهي الذي يمثله.
وفي إيذاء المسلم لمؤمن.. إيذاء للنبي، وإيذاء النبي.. إيذاء للَّه، وفي إيذاء الحسين نحى الآذون منحى يتجه إلى العناية الإلهية التي أعدت الشهيد وهيأت له سبل الدعوة إلى حقها الأسمى، فلم يعد الإيذاء مقصوراً هنا على «مؤمن ما» بل اشتمل على قاعدة الإيمان ذاتها والتي وضع ركيزتها سيد من آمنوا وحافظوا على إيمانهم، وسيد من استشهدوا في سبيل بقاء الإيمان مترعاً في الصدور والحنايا.
وفي قولة الرسول الأكرم: «إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً»، تفسير مؤكد لمعنى ما سبق، ففي قلوب المؤمنين فحسب أودع قتل الحسين حرارة لا تبرد أبداً مهما اشتد صقيع الضلالة حول القلوب، ومهما علا جليد الانحراف فوق الصدور.
حرارة لا تبرد لأنها مستمدة من نار قتل سيد الحق بدون حق، وحرارة لا ينضب دفؤها لأنها كوت قلوب المؤمنين التياعاً لإيذاء سيد المؤمنين ظلماً وقسوة.
فمهما نسى المسلم فلن ينسى كل هذا الذي تمثل خير تمثيل في تجبر يزيد ودمويته وموقفه الشامت من آل البيت، حينما أشرف ركب السبي على ثنية جيرون وإنشاده لتلك الأبيات المستلة من غمد حقد أعمى والمغمَّسة بنقيع كفر ليس بعده كفر:
لما بدت تلك الحمول وأشرقت
تلك الشموس على ربى جيروني
نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل
فلقد قضيت من النبي ديوني
فمعنى «قضيت من النبي ديوني» أنه قتل للنبي «ص» ما سبق وقتل له «ص» يوم بدر، فوضع بهذه العبارة نفسه بتوازٍ مع شخص الرسول الأعظم، وهو الذي قال فيه الرسول «ص»:
«لا يزال أمر أمتي قائماً بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد». وقد رأى المسلمون نبوءة رسولهم تتحقق في شخص يزيد الذي ما أن عُقدت له تلك البيعة الشاذة.. حتى هب ينهب المدينة، ويرمي الكعبة بالمنجنيق، ويقتل الحسين وأهل بيته ويمثل بجسده الطاهر في فلاة كربلاء ويحمل رأسه على رمح إلى دمشق.
وكان خليفة ماكراً، افتتح عهده بشناعة كبيرة تجلت في قتل الحسين، وختمه بوقعة الحرة، قبل أن يقتله داء الجنب في مطلع شبابه.
فلو أرجعنا كل الحركات التي ناوأت الحكم الأموي إلى مصدر واحد.. لوصلت إلى حيث تنطلق المظالم والانحرافات التي بدأت بسيطة وكبرت وتنوعت أساليبها مع كل خليفة أموي جديد، ولو وضعنا إصبعنا على مكمن هذه الحركات.. لاتضح لنا أنها تستقي كلها من نبع واحد، أوله في كربلاء حيث ينبع وآخره في الزاب حيث صب جارفاً أمامه كل الركام من قش الحكام الظلمة الذي نصبه خلفاء بني أمية في درب أمة الإسلام باسم دينهم الذي هو منهم براء، فانقرضت عروشهم وسقطت دولتهم سقوطاً مروعاً وكأنها لم تقم.
وبقيت عقيدة الإسلام التي تكالبوا عليها قرناً من الزمان، وأعملوا فيها تشويهاً واستغلالاً وتنكيلاً باسمها حتى ضاق الإسلام ذرعاً بهؤلاء المسلمين المحسوبين عليه اسماً، الهادمين له من الداخل قولاً وفعلاً، فلا السيف نفعهم ولا الهدم ولا التنكيل والإرهاب وارتدت سهامهم إلى نحورهم وكانوا بأفعالهم إنما يحفرون قبور نهاياتهم بأيديهم.
ولم تكُ كلمة الشهيد قبل مصرعه بكربلاء صيحة تطلق في الهواء جزافاً.. بل كانت نبوءة تحمل في معانيها مسلَّمات المستقبل، حينما خاطب قاتليه مبيناً لهم قرب نهاياتهم بقوله:
«أما واللَّه لا تلبثون بعدها إلا كريثما يُركب الفرس، حتى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور».
فلم يلبثوا بعدها بالفعل إلا كما قال الحسين، فدارت بهم الأحوال دور الرحى، وانتقم اللَّه منهم قتلة بقتلة وضربة بضربة.
وكان من فضل المعجزات الإلهية أن اقتلعت بغضبتها عروش أمية وامحت ذكرهم إلى الأبد فلم يُعثر لهم على أثر ولم يرد لهم ذكر إلا في باب الغدر والضلالة وقتل ذرية نبي الإسلام، وظل ذكر الحسين وآل البيت يرتفع وينتشر كالضياء فيغمر بسناه وفوحه العاطر.. الدهور والأزمان والأكوان والضمائر والقلوب، وصار كل مكان وطئته أقدامهم الطاهرة أعتاباً يقدسها الملايين من البشر يزداد عددهم يوماً بعد آخر (5).
ومن يمجد آيات اللَّه يقنع بأن الشهادة التي أقدم عليها الحسين «ع»، قد خسرت في العاشر من محرم خسارة زمنية جسيمة، وكسبت بعده كسباً دينياً أزلياً، فكانت الخصم الأقوى بعوامل ضعفها، وكانت القوة الغاشمة التي صارعتها.. الخصم الأضعف بعوامل قوتها.
شهادة خاسرة في التو والآن ورابحة في القادم والآت، لأن الحق سيفها والباطل ميدانها.
ونهاية المطاف هي خواتم الأمور، لأن الأمور مرهونة بخواتيمها لا ببداياتها، وقد تُخذل البدايات وتُجزى الخواتم خيراً عميماً.
هوامش
(1) غضب الطبيعة والأفلاك والجن بعد المقتل مباشرة، وسقوط أمية بعد عدد من السنين.
(2) كما هو معروف في علم الطبيعة أن كل ما يحصر دون متنفس تزداد قوة انفجاره، وهذا ما ينسحب على علم النفس، إذ إن هذا الموضوع يشكل عنصراً مهماً في عيادات الطب النفسي ويعرف بالكبت أو الكمون النفسي الذي يتبعه انفجار، إما أن يكون إيجابياً.. فيبني، أو سلبياً.. فيهدم، للهدم لا للبناء.
(3) لما رأت زوجة يزيد هند بنت عمرو بن سهيل الرأس المصلوب على باب دارها، وشاهدت الدم الطري يتقطر منه، عظم المصاب في قلبها، فدخلت على يزيد في مجلسه سافرة الحجاب وهي تصيح : «رأس ابن بنت رسول اللَّه مصلوب على دارنا؟» فغطاها وقال لها : «أعولي على الحسين فإنه صريخة بني هاشم عجل عليه ابن زياد».
(4) يرد العالم الإيطالي «الدومييلي» كراهية المسلمين لبني أمية إلى موقعة كربلاء وما خلفته وراءها من هزة قوية أظهرت الأسرة الأموية في مظهر سيئ.
(5) يصف المستشرق الفرنسي «هنري ماسيه» هذا المآل بقوله: لقد جاء الحسين إلى العراق عبر الصحراء ومعه منظومة زاهرة من أهل البيت وبعض مناصريه.. وكان أعداؤه كثرة من هراطقة يزيد قطعوا عنه وعن مناصريه مورد الماء.. واستشهد ومن معه في مشهد كربلاء في أفجع مآسي الإسلام طراً وأصبح مسرحها منذ ذلك اليوم مبكى القوم وموطن الذكرى المؤلمة كما غدت تربتهم مقدسة..
http://www.aldaronline.com/Dar/UploadAlDar/Article%20Pictures/2010/12/12/BO%20BDRbb.jpg_thumbT.jpg
http://www.aldaronline.com/Dar/UploadAlDar/Article%20Pictures/2010/12/12/Pic%2003.jpg_thumb2.jpg
د . أنطون بارا
• ليس هناك سبب لسقوط أمية إلا واتصل بجريرة كربلاء مهما تعددت الأسباب
• مصرع الحسين «ع» هو الداء القاتل الذي سكن جثمان الدولة الأموية وقضى عليها
• يزيد ردد: «سلطنة الحسين كانت أهون عليّ من هذا المقام العالي الذي فاز به بنو هاشم
• زوجته اقتحمت مجلسه سافرة تصيح مستنكرة: «رأس ابن بنت رسول الله مصلوب على دارنا !»
شعلة الإباء والكرامة ورفض الضيم والغيرة على العقيدة التي أوقدها الحسين بن علي «ع» بملحمته الخالدة وأوضحها بحبر جديد من دم الشهادة المحررة المنقذة فوق ثرى الطف.. كانت يتيمة الدهور، ولم يسجل التاريخ شبيهاً لها لا في المعنى ولا في المبنى وارتقت بعنفوانها درجات فوق الملاحم التي تجاد بها الأنفس وتسترخص لها الأرواح، فكان «ع» شمعة الإسلام أضاءت ممثلة ضمير الأديان إلى أبد الدهور، وسيداً للشهداء لم تشهد له الأديان مثيلاً، وفسيلاً في تربة النبوة وغصناً مزهراً في الشجرة القدسية لآل البيت عليهم السلام.
http://www.aldaronline.com/Dar/UploadAlDar/Article%20Pictures/2010/12/12/(14).jpg
«يالثارات الحسين» عدالة السماء اقتصت من آثمي محرم .. ضربة بضربة .. وقتلة بقتلة
وقد كان انطفاؤه فوق ثرى الطف توهجاً لاشتعال أبدي، وخلدت ملحمته كعنوان صريح لقيمة الثبات على المبدأ ولعظمة المثالية في تمثل العقيدة، لذا غدا حبه كثائر واجباً علينا كبشر، وحبه كسبط نبوي جزءاً من نفثات ضمائرنا، وإنزاله في القلوب المنزلة العليا كسيد للشهداء فيه رضى للحنايا وإثلاج للصدور، وتكريس للنصر الحقيقي المنسجم مع التوجه الينبوعي الطاهر. وتظل صرخة العقيلة زينب «ع» راية كربلاء الخفاقة على مر الدهور.
ليس ثمة من سبب لسقوط عرش أمية إلا واتصل بجريرة كربلاء، وليس أقل تبصراً لدى بحث أسباب سقوط أمية، من ردها إلى عوامل أخرى تبعد أو تقرب من كربلاء، حتى في أخذ المؤرخين لهذه العوامل بالتسجيل أو التحليل.. يأخذونها على أنها عوامل منفصلة بحد ذاتها، لها خصائصها الكاملة التي إذا اجتمعت شكلت عاملاً وسبباً لما جرى.
ولكن المدقق البصير لهذه العوامل التي تبدو للعيان متباعدة لا تمت لبعضها بصلة.. يجد أن ثمة خيطاً رفيعاً غير منظور يربط بعضها ببعض، ويشدها لتكون في النهاية سلسلة واحدة متعددة الحلقات.
ورد أسباب سقوط أمية إلى عوامل تبعد عن جرائر كربلاء.. لهو إغماط لقدسية هذه الملحمة، وكفر بيِّن لعلل العناية الإلهية، وإلغاء عمدي لكل الشهادات التي سبقتها، وعدم إيمان بنبوءات الرسل والأوصياء.
http://www.aldaronline.com/Dar/UploadAlDar/Article%20Pictures/2010/12/12/P41-01.jpg
الشهيد يطلب من المتوحشين شربة ماء للرضيع عبد الله .. فيرسل له حرملة سهماً قاتلاً
وسنعرض بالتفصيل للآراء التي تصدت لتحليل أسباب سقوط العرش الأموي، ولكن قبل أن نخوض في هذه الآراء سنذكر لكل من سبق واطلع عليها، بأن إحدى معجزات استشهاد الحسين كان سقوط أمية، وهي معجزة زمنية لم تكن هدفاً بحد ذاتها لشهادة الحسين بل لحقت فيما لحقت به من معجزات أكبر منها.. ففي ميزان الإعجاز، أيهما أعظم أثراً.. المعجزة التي حققتها هذه الشهادة في ضمير الأمة الإسلامية.. أم معجزة سقوط أمية؟ طبعاًً الجواب سيدور حول عظمة المعجزة الأولى، فهي الأصل الذي هدفت له ملحمة كربلاء، أما المعجزتان اللتان تقدمتها إحداهما ولحقت بها الأخرى.. (1) فهما معجزتان كان لابد من حدوثهما تأثراً مسبقاً أو لاحقاً بالمعجزة العظيمة التي كان مسرحها الضمائر وميدانها الأفكار لمجموع أمة الإسلام.
وهنا لابد من طرح إجابة عن سؤال من الممكن أن يجول في الأذهان، وهو سؤال ذو ثلاث نقاط:
1 لماذا هُزم الحسين عسكرياً؟
2 لماذا تأخر سقوط أمية؟
3 لماذا ثار الحسين في عهد يزيد بالذات؟
للإجابة عن السؤال الأول، لابد من النظر بعين الاعتبار إلى كون هزيمة الحسين ما كانت لتتم على عهد يزيد إلا لأن هذا العهد كان الظرف المناسب لإظهار تناقضات السلطة الممثلة بيزيد كخليفة على المسلمين يزاحم آل البيت حقهم في هذه الخلافة، ولو شاءت العناية الإلهية لأنفذت لمهمة الاستشهاد حسيناً في غير هذا العهد، فيما سبقه أو لحقه من عهود، ولكانت أمدته بقوى أسعفته في حينه، فينتصر ولا يستشهد، ويسجل التاريخ نصره إلى جانب الانتصارات العسكرية التي تحفل بها صفحاته الكثيرة.
أما لماذا تأخر سقوط أمية بعد استشهاد الحسين ما دامت عوامل هذا السقوط تكونت بإعجاز من هذا الاستشهاد واختمرت بخميرته؟ فذلك لسر آخر أعدته الحكمة العلوية لكي تطول فترة الندم، وتتفاعل عوامل النهوض في ضمير الأمة الإسلامية، حتى إذا ما هبت.. التهبت كبركان اختزن سخونته طويلاًً فكانت ثورته حتى عنان السماء (2).
أما لماذا ثار الحسين في عهد يزيد بالذات؟ ففي العودة إلى متن الكتاب إجابة عن هذا السؤال، إذ كان مقدراً أن تكون ثورة الشهيد وشهادته في هذا الوقت بالذات وفي هذا العهد بعينه، لا من أجل إظهار عورات وسوءات العهد إياه فحسب.. بل من أجل جعله كمثال لسوءات كل العهود التي يضيع فيها الحق، وترتفع خلالها رايات الباطل، وما كان أجدر بعهد يزيد لتمثيل هذه العهود؟
ولنعرض الآن لجملة آراء حول أسباب سقوط أمية، المباشرة منها وغير المباشرة.
في كتاب للعقاد رأي يقول: إن مصرع الحسين هو الداء القاتل الذي سكن جثمان الدولة الأموية حتى قضى عليها.
ويرى المستشرق «جولد تسهير» أن عمر بن عبد العزيز أحد أمراء أمية الذين تربوا في بيئة صالحة والذي كان جاهلاً بالأمور السياسية عجَّل بسقوط العرش الأموي.
ويصف الحكيم «ماربين» إقدام يزيد على قتل الحسين بأعظم خطأ سياسي صدر من بني أمية، فجعلهم نسياً منسياً ولم يبق منهم أثر ولا خبر.
فإذا نظرنا إلى هذه الآراء بتجرد، لما وجدنا الأسباب التي اعتبرتها كعوامل رئيسية لسقوط أمية لتخرج عما اتصلت به أهداف ثورة الحسين، فعليه السلام تحرك ليقف في وجه الانحراف الذي بدأ على عهد عثمان ووصل إلى عهد يزيد والذي استمر إلى آخر خليفة أموي، بحيث لم تتغير الأرضية التي يرتكز عليها الحكم، وبالتالي ظلت الخصائص هي ذاتها لم تتبدل بتبدل الوجوه، وظلت الآفات تنخر في هيكل العرش الأموي.
وإذا لم تكن جريرة قتل الحسين وآل البيت هي السبب الرئيسي الذي قوَّض الدولة الأموية فأي جريرة أكبر من هذه الجريرة يمكن أن تتفاعل داخل المجتمعات الإسلامية وتسبب كل هذه الثورات التي تلتها، والتي كان من نتائجها اجتثاث النظام الذي ارتكبها والتي بسببها قُتل حفيد الرسول «ص» وآل بيته الأطهار؟
فها هو معاوية الثاني يقول: «أيها الناس إن جدي معاوية نازع الأمر أهله ومن هو أحق منه لقرابته من رسول اللَّه «ص» وهو علي بن أبي طالب».
وعندما يتفاعل الندم مع لوم النفس في صدر ابن القاتل.. أفلا يجدر تفاعله في ضمير رجل الشارع الذي اعتبر نفسه مسؤولاً عن خذلان الشهيد ابن الشهيد وأبو الشهداء الحسين «ع»، وتركه بلا نصير مقابل مغانم زالت وبقي له الندم وتبكيت الضمير؟
ولم يقف هذا التبكيت على رجل الشارع.. بل تعداه إلى أفراد الأسرة الأموية غير معاوية الثاني، فإذا بعبد الملك يكتب للحجاج:
«لا تعرض لمحمد بن الحنفية ولا لأحد من أصحابه، جنبني دماء آل أبي طالب فليس منها شفاء من الحرب».
ويأتي مروان آخر خلفاء أمية قبل اندثارهم ليمتنع عن شتم ولعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
وفي مواقف خلفاء بني أمية الذين اعتلوا العروش بعد ثورة الحسين، دلالة كافية على أنهم بمواقفهم هذه، كانوا يقدمون على فعل مسبق لما كانوا يحدسون تفجره بين يوم وآخر بدوام تذكر الناس مأساة آل البيت، لهذا قال عبد الملك: «جنبني دماء آل أبي طالب» ولأجله امتنع مروان عن لعن أمير المؤمنين وبسببه تنصل معاوية الثاني من فعلة جده معاوية وأبيه يزيد.
حتى يزيد نفسه لما رأى حزن أهل(3) بيته على قتل الحسين وسمع تقديسه مع أولاد علي وعظمتهم ومظلوميتهم بين الناس، صمت وأراد تبرئة نفسه مما جنت يداه بإلقاء المسؤولية على عماله بالرغم مما أشاعه عماله، وقد سُمع ذات يوم يقول: «إن سلطنة الحسين كانت أهون عليَّ من هذا المقام العالي الذي فاز به آل علي وبنو هاشم».
وها هو يحيى بن الحكم يقول لبني أمية لما بلغه قتل الحسين: «حُجبتم عن محمد يوم القيامة، لن أجامعكم على أمر أبداً».
ويذكر عن يزيد أنه أمر النعمان بن بشير على مسمع من قواد جيشه أن يبعث مع السبايا إلى المدينة رجلاً أميناً معه رجال وخيل، ويكون علي بن الحسين معهن، وكان لا يتغدى ولا يتعشى إلا ومعه علي بن الحسين وأخوه عمر.
ولما ودعه قال لعلي بن الحسين:
«قبَّح اللَّه ابن سمية أما واللَّه لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة إلا أعطيته إياها ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن اللَّه قضى ما رأيت».
وتحدث الروايات أنه لما دخلت النساء عليه قالت فاطمة بنت الحسين وكانت أكبر من سكينة:
يا يزيد بنات رسول اللَّه سبايا..
فقال: يا بنت أخي أنا لهذا كنت أكره
قالت: واللَّه ما تركونا إلا خرصاً
فقال: ابنة أخي.. ما أتى إليك أعظم مما ذهب لك.
وأية حجة تبرر آراء بعض المحرفين الذين جردوا كربلاء من كل إعجاز مخالفين بذلك الحجج الإلهية، وذاكرين أن الأطماع السياسية لفئة منظمة مستغلة نجحت في اتخاذ مقتل الحسين ذريعة للعبث وستاراً أشبه بقميص عثمان تلوِّح به لإزالة الدولة الأموية؟
وسواء رد بعض المؤرخين سقوط أمية إلى التفاخر بين قيس واليمن، أم إلى مصرع الوليد بن يزيد، أم إلى دعوة الخوارج، أم إلى جهل عمر بن عبد العزيز بأصول السياسة، أم إلى أي سبب آخر.. تظل خطيئة قتل الحسين التي اقترفها يزيد هي المؤشر الأوحد الذي بدأت منه بداية العد العكسي لسقوط الحكم الأموي، إذ ظل المسلمون ينظرون إلى خلفاء بني أمية نظرتهم إلى مختلسين سرقوا الخلافة بوسائل القهر والإذلال، وقَتَلة لعترة النبي المقدسة.
وكان المسلمون يسمعون قبل استشهاد الحسين هذه الأبيات التي تصور لهم الإلهام السماوي الذي أوصل بني أمية إلى الحكم:
تمت جدودهم والله فضلهم
وجد قوم سواهم خامل نكد
هم الذين أجاب الله دعوتهم
لما تلاقت نواصي الخيل واجتلدوا
وبعد استشهاد الحسين صاروا يسمعون كل ما يصور مثالب خلفاء بني أمية:
يبيت النشاوي من أمية نوَّماً
وبالطف قتلى لا ينام حميمها
وما ضيَّع الإسلام إلا قبيلة
تأمر نوكاها ودام نعيمها
وكانت هذه المعادلات الشعرية المتضادة سبباً في إيقاظ العقول الخاملة، فقد حملت هذه الاشعار بعد المقتل روح الإحساس بالظلم الفادح من خلافة بني أمية(4)، تُرجمت إلى مواقف وكلمات أظهرتها حالة المقت التي سادت في مختلف عهود الأمويين.
وإذا قالها قائل.. فذلك أهون الشرين، أما إذا قالها خليفة أموي فلا معنى لها إلا تفسير «وشهد شاهد من أهله» وهذه صورة للحكم الأموي كما صوره أحد خلفاء بني أمية، إذ قال:
فدع عنك أدكارك آل سعدي
فنحن الأكثرون حصى ومالا
ونحن المالكون الناس قسرا
نسومهم المذلة والنكالا
وإذا كان المسلم بعد استشهاد الحسين يتذكر شيئاً.. فإنه لن ينسى تذكر قتل يزيد للحسين وعترة آل البيت، وحمل رؤوسهم على أسنة الرماح، وسبي حرم رسول اللَّه «ص» إلى دمشق، ونكته لثنايا ريحانة الرسول «ع» بقضيبه، وترديده ذلك البيت الشنيع: «ليت أشياخي.. ألخ».
وإذا لم ينس هذه الشناعة.. فلأنه تمثل وجدانياً وفكرياً خطورة قتل مسلم لمسلم بدون حق، وشناعة إيذاء مؤمن لمؤمن، وخطيئة ثلم أمر الأمة القائم بالقسط.. فكيف إذا كان هذا المسلم المقتول بمكانة سبط النبي.. هنا يتخذ القتل بعداً فوق بعده اللا إنساني.. فزوال الدنيا لأهون من قتل مسلم لمسلم من دون حق، فكيف بقتل مسلم لحفيد نبي الإسلام؟ حيث كان يقصد في قتله قتل الحق الإلهي الذي يمثله.
وفي إيذاء المسلم لمؤمن.. إيذاء للنبي، وإيذاء النبي.. إيذاء للَّه، وفي إيذاء الحسين نحى الآذون منحى يتجه إلى العناية الإلهية التي أعدت الشهيد وهيأت له سبل الدعوة إلى حقها الأسمى، فلم يعد الإيذاء مقصوراً هنا على «مؤمن ما» بل اشتمل على قاعدة الإيمان ذاتها والتي وضع ركيزتها سيد من آمنوا وحافظوا على إيمانهم، وسيد من استشهدوا في سبيل بقاء الإيمان مترعاً في الصدور والحنايا.
وفي قولة الرسول الأكرم: «إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً»، تفسير مؤكد لمعنى ما سبق، ففي قلوب المؤمنين فحسب أودع قتل الحسين حرارة لا تبرد أبداً مهما اشتد صقيع الضلالة حول القلوب، ومهما علا جليد الانحراف فوق الصدور.
حرارة لا تبرد لأنها مستمدة من نار قتل سيد الحق بدون حق، وحرارة لا ينضب دفؤها لأنها كوت قلوب المؤمنين التياعاً لإيذاء سيد المؤمنين ظلماً وقسوة.
فمهما نسى المسلم فلن ينسى كل هذا الذي تمثل خير تمثيل في تجبر يزيد ودمويته وموقفه الشامت من آل البيت، حينما أشرف ركب السبي على ثنية جيرون وإنشاده لتلك الأبيات المستلة من غمد حقد أعمى والمغمَّسة بنقيع كفر ليس بعده كفر:
لما بدت تلك الحمول وأشرقت
تلك الشموس على ربى جيروني
نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل
فلقد قضيت من النبي ديوني
فمعنى «قضيت من النبي ديوني» أنه قتل للنبي «ص» ما سبق وقتل له «ص» يوم بدر، فوضع بهذه العبارة نفسه بتوازٍ مع شخص الرسول الأعظم، وهو الذي قال فيه الرسول «ص»:
«لا يزال أمر أمتي قائماً بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد». وقد رأى المسلمون نبوءة رسولهم تتحقق في شخص يزيد الذي ما أن عُقدت له تلك البيعة الشاذة.. حتى هب ينهب المدينة، ويرمي الكعبة بالمنجنيق، ويقتل الحسين وأهل بيته ويمثل بجسده الطاهر في فلاة كربلاء ويحمل رأسه على رمح إلى دمشق.
وكان خليفة ماكراً، افتتح عهده بشناعة كبيرة تجلت في قتل الحسين، وختمه بوقعة الحرة، قبل أن يقتله داء الجنب في مطلع شبابه.
فلو أرجعنا كل الحركات التي ناوأت الحكم الأموي إلى مصدر واحد.. لوصلت إلى حيث تنطلق المظالم والانحرافات التي بدأت بسيطة وكبرت وتنوعت أساليبها مع كل خليفة أموي جديد، ولو وضعنا إصبعنا على مكمن هذه الحركات.. لاتضح لنا أنها تستقي كلها من نبع واحد، أوله في كربلاء حيث ينبع وآخره في الزاب حيث صب جارفاً أمامه كل الركام من قش الحكام الظلمة الذي نصبه خلفاء بني أمية في درب أمة الإسلام باسم دينهم الذي هو منهم براء، فانقرضت عروشهم وسقطت دولتهم سقوطاً مروعاً وكأنها لم تقم.
وبقيت عقيدة الإسلام التي تكالبوا عليها قرناً من الزمان، وأعملوا فيها تشويهاً واستغلالاً وتنكيلاً باسمها حتى ضاق الإسلام ذرعاً بهؤلاء المسلمين المحسوبين عليه اسماً، الهادمين له من الداخل قولاً وفعلاً، فلا السيف نفعهم ولا الهدم ولا التنكيل والإرهاب وارتدت سهامهم إلى نحورهم وكانوا بأفعالهم إنما يحفرون قبور نهاياتهم بأيديهم.
ولم تكُ كلمة الشهيد قبل مصرعه بكربلاء صيحة تطلق في الهواء جزافاً.. بل كانت نبوءة تحمل في معانيها مسلَّمات المستقبل، حينما خاطب قاتليه مبيناً لهم قرب نهاياتهم بقوله:
«أما واللَّه لا تلبثون بعدها إلا كريثما يُركب الفرس، حتى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور».
فلم يلبثوا بعدها بالفعل إلا كما قال الحسين، فدارت بهم الأحوال دور الرحى، وانتقم اللَّه منهم قتلة بقتلة وضربة بضربة.
وكان من فضل المعجزات الإلهية أن اقتلعت بغضبتها عروش أمية وامحت ذكرهم إلى الأبد فلم يُعثر لهم على أثر ولم يرد لهم ذكر إلا في باب الغدر والضلالة وقتل ذرية نبي الإسلام، وظل ذكر الحسين وآل البيت يرتفع وينتشر كالضياء فيغمر بسناه وفوحه العاطر.. الدهور والأزمان والأكوان والضمائر والقلوب، وصار كل مكان وطئته أقدامهم الطاهرة أعتاباً يقدسها الملايين من البشر يزداد عددهم يوماً بعد آخر (5).
ومن يمجد آيات اللَّه يقنع بأن الشهادة التي أقدم عليها الحسين «ع»، قد خسرت في العاشر من محرم خسارة زمنية جسيمة، وكسبت بعده كسباً دينياً أزلياً، فكانت الخصم الأقوى بعوامل ضعفها، وكانت القوة الغاشمة التي صارعتها.. الخصم الأضعف بعوامل قوتها.
شهادة خاسرة في التو والآن ورابحة في القادم والآت، لأن الحق سيفها والباطل ميدانها.
ونهاية المطاف هي خواتم الأمور، لأن الأمور مرهونة بخواتيمها لا ببداياتها، وقد تُخذل البدايات وتُجزى الخواتم خيراً عميماً.
هوامش
(1) غضب الطبيعة والأفلاك والجن بعد المقتل مباشرة، وسقوط أمية بعد عدد من السنين.
(2) كما هو معروف في علم الطبيعة أن كل ما يحصر دون متنفس تزداد قوة انفجاره، وهذا ما ينسحب على علم النفس، إذ إن هذا الموضوع يشكل عنصراً مهماً في عيادات الطب النفسي ويعرف بالكبت أو الكمون النفسي الذي يتبعه انفجار، إما أن يكون إيجابياً.. فيبني، أو سلبياً.. فيهدم، للهدم لا للبناء.
(3) لما رأت زوجة يزيد هند بنت عمرو بن سهيل الرأس المصلوب على باب دارها، وشاهدت الدم الطري يتقطر منه، عظم المصاب في قلبها، فدخلت على يزيد في مجلسه سافرة الحجاب وهي تصيح : «رأس ابن بنت رسول اللَّه مصلوب على دارنا؟» فغطاها وقال لها : «أعولي على الحسين فإنه صريخة بني هاشم عجل عليه ابن زياد».
(4) يرد العالم الإيطالي «الدومييلي» كراهية المسلمين لبني أمية إلى موقعة كربلاء وما خلفته وراءها من هزة قوية أظهرت الأسرة الأموية في مظهر سيئ.
(5) يصف المستشرق الفرنسي «هنري ماسيه» هذا المآل بقوله: لقد جاء الحسين إلى العراق عبر الصحراء ومعه منظومة زاهرة من أهل البيت وبعض مناصريه.. وكان أعداؤه كثرة من هراطقة يزيد قطعوا عنه وعن مناصريه مورد الماء.. واستشهد ومن معه في مشهد كربلاء في أفجع مآسي الإسلام طراً وأصبح مسرحها منذ ذلك اليوم مبكى القوم وموطن الذكرى المؤلمة كما غدت تربتهم مقدسة..
http://www.aldaronline.com/Dar/UploadAlDar/Article%20Pictures/2010/12/12/BO%20BDRbb.jpg_thumbT.jpg