على
10-10-2004, 10:24 AM
رؤية نقدية للفيلسوف النمساوي كارل بوبر للعالم المعاصر دفاعا عن العلم والعقلانية
خالد الحلّي
في عام 1994، رحل الى العالم الآخر كارل ريموند بوبر احد اهم فلاسفة العلم والمنهج العلمي، الذي كان يلفت الانظار حتى آخر ايام رحيله الى ان الصدام الحضاري والثقافي يفقد قيمته، وتغيب عنه الروح النقدية الضرورية ليحل محلها التسليم الاعمى العقيم، بل المدمر، وذلك اذا اعتبرت احدى الثقافات العظمى نفسها هي العليا والاكثر تفوقا بشكل عام، وكذلك اذا اعتبرها الآخرون هكذا، واحس فريق بدونيته.
لقد اشتهر هذا الفيلسوف النمساوي الاصل برؤيته للمجتمع الديمقراطي المفتوح، وترجمت اعمال له الى اكثر من ثلاثين لغة. وصدرت عشرات الرسائل الجامعية والكتب عن فلسفته في انحاء العالم، وانشأ من اجلها العديد من مراكز الابحاث والجمعيات العلمية في جامعات شتى. ورغم انه توفي عن 92 عاما، فإنه ظل كثير الحيوية والعطاء في حياته الطويلة الحافلة. وظلت الاعمال التي تركها شديدة النفع والجدوى بغض النظر عن عامل الوقت والزمن.
وقد احسن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت صنعا، باصدار ترجمة لكتابه: «اسطورة الاطار ـ في دفاع عن العلم والعقلانية» ضمن سلسلة «عالم المعرفة»، انجزتها الدكتورة يمنى طريف الخولي، وصدرت بـ 320 صفحة من القطع المتوسط، متضمنة تسعة فصول اختيرت بعناية من ضمن ما كتبه، وعرضت في جملتها العناصر الاساسية لفلسفته ورؤاه العامة للقضايا الحضارية والانسانية والثقافية.
ومع العطاءات الثرة التي قدمها بوبر، فإنه كان جم التواضع، اذ نجده لا يعتبر نفسه خبيرا، لا في العلم ولا في الفلسفة. غير انه بذل طوال حياته محاولات جادة، لكي يتفهم شيئا ما عن العالم الذي نحيا فيه. ويعتقد ان المعرفة العلمية، والعقلية الانسانية التي تنتج هذه المعرفة، يتربص بهما الزلل دائما، او انهما معرضتان للوقوع في الخطأ. بيد انهما ايضا ـ فيما يعتقد ـ فخر الجنس البشري. وهو يرى ان البدعة الشائعة في العلوم بالوقت الحاضر باتت هي الالتجاء للمعرفة التخصصية وسلطة الخبراء، وان البدعة الشائعة في الفلسفة هي تشويه سمعة العلم والعقلانية.
في تصديرها للكتاب تقول الدكتورة الخولي ان اخراج هذا الكتاب للقارئ العربي هو امر ضروري، باعتبار انه آخر ما اصدره بوبر، ليشكل صورة ارتضاها لرسالته الفكرية ولدعائم فلسفته الخصيبة الدافقة التي تميزت بتعدد جوانبها واتساقها، وبثراء استثنائي وتأثير نافذ واسع النطاق، وانعكست في رؤية حضارية اجتماعية وسياسية تمثل اضافة بالغة الحضور على مستوى الفكر والواقع، وتأصيلا وتنظيرا لمفهوم الديمقراطية وتطويرها. وبهذا كانت فلسفته من اهم اتجاهات الفلسفة في القرن العشرين ومطالع القرن الحادي والعشرين.
وهي ترى ان العرب هم اكثر احتياجا لتفعيل قيم الحداثة والتنوير، وان الدفاع عن العلم والعقلانية يبدو الآن شرط التقدم، بل شرط بقاء لأي حضارة راشدة عموما، ومهما تطورت فلسفة العلم وتنامت اتجاهاتها فلا مندوحة لها عن العقلانية كأساس مكين لأي معالجة لشؤون المعرفة العلمية.
ان ايجابيات المنهج العلمي، منهج المحاولة والخطأ، منهج طرح الفرضيات الجريئة وتعريضها لأعنف نقد ممكن، قد ارتدت مع بوبر في صورة المجتمع المفتوح للرأي والرأي الآخر، للانتقال من المشكلات الى محاولات حلولها ليفوز الحل الاقدر والرأي الارجح، في اطار ديمقراطي.
يؤكد بوبر ان احد الجوانب المزعجة جدا من جوانب الحياة العقلية لعصرنا الراهن، هو ذلك الاسلوب للدفاع الواسع الانتشار عن اللاعقلانية، وتلك الطريقة للتسليم بمبادئها. وعندما يتصدى لموضوعه «اسطورة الاطار»، نجد انه يطرحه في جملة واحدة كالآتي: «ان المناقشة العقلانية والمثمرة هي مستحيلة ما لم يتقاسم المساهمون فيها اطارا مشتركا من الافتراضات الاساسية، او على الاقل، ما لم يتفقوا على مثل هذا الاطار لكي تسير المناقشة».
ومن هنا فهو ينظر الى الاسطورة على انها تبدو كتقرير رصين، او كإشعار معقول بما ينبغي ان نولي له الانتباه لكي تروج المناقشة العقلانية، بل ان بعض الناس يعتقدون ان ما وصفه بأنه اسطورة هو مبدأ منطقي، وهو على العكس من ذلك لا يراه تقريرا زائفا فحسب، بل ايضا تقريرا فاسدا وشريرا، وانه اذا عم الاعتقاد به، لا بد ان يدمر وحدة الجنس البشري، وبالتالي يتزايد معه الى حد كبير احتمال العنف والحرب، وهذا هو السبب الجوهري الذي يدفعه الى محاربته وتفنيده.
وعندما ينتقل الى مناقشة «اسطورة الاطار» منظور منطقي، نجده يقوم بمحاولة تشبه التشخيص المنطقي للمرض، فيوضح ان «اسطورة الاطار» هي بذاتها ذلك المبدأ القائل ان المرء لا يستطيع الدخول في مناقشات عقلانية لأي شيء اساسي، او ان المناقشة العقلانية للمبادئ مستحيلة. ومن الناحية المنطقية يجد ان هذا المبدأ هو محصلة للنظرة الخاطئة القائلة ان كل مناقشة عقلية لا بد ان تبدأ من مبادئ، او من بدهيات كما تسمى احيانا، وهذه بدورها لا بد ان تكون مقبولا قبولا دوغماتيا، اذا رغبنا في تفادي ارتداد لا نهائي، ارتداد يعود الى واقعة تزعم اننا حين نخضع صحة مبادئنا او بدهياتنا للنقاش العقلاني، لا بد ان نلتجئ مجددا الى مبادئ او بدهيات. وفي العادة ان اولئك الذين يرون الموقف هكذا اما ان يكونوا على صدق اطار من المبادئ او البدهيات، واما ان يصبحوا نسبيين: يقولون ان ثمة اطرا مختلفة وليس ثمة مناقشة عقلية فيما بينهما، وبالتالي لا خيار عقلانيا.
وبعد هذا يخلص الى ان الاطر، مثل اللغات، قد تكون حواجز، بل وقد تكون سجونا. ولكن اطار المفاهيم الغريب، تماما كاللغة الاجنبية، ليس البتة حاجزا: اننا نستطيع اقتحامه، تماما كما نستطيع الهروب الكبير من اطارنا الخاص، سجننا الخاص. ان اقتحام حاجز الاطار هو تماما كاختراق حاجز اللغة، عسير ولكن يستحق منا كل اهتمام وجهد، ويمكن ان نجد لجهدنا في الاقتحام مردودا ثريا لا يتمثل بتوسيع افقنا العقلي فقط، بل بتحقيق مزيد من المتعة ايضا. ويرى ان الاقتحام بهذه الشاكلة هو اكتشاف بالنسبة لنا.
ولدى حديثه عن اتجاهات ما بعد الحداثة، يذهب الى ان هذه التوجهات على تعددها واتساع مداها واتسامها بشيء من الهلامية، لا تتفق فيما بينها على قيمة ايجابية واحدة، بل تتفق على قيم السلب ورفض فروض ومنجزات الحداثة، فتسحب الثقة من قيم الموضوعية والعقلانية والواقعية ومفهوم الصدق.. الخ.
وتشكك في منجزات الحداثة وحتى في درتها الاثيرة وهي العلم الحديث، فتسرف في لوم سطوة التقنية وتهاجم المجتمع الصناعي وترفض المجتمع الليبرالي وتزعزع مفاهيم التقدم.
وهو اذ يناهض اتجاهات ما بعد الحداثة، يرفض ان تلقي بأي ظلال لها على فلسفة العلوم، كما يرفض بحسم وقطع النسبية واللامقايسة وسوسيولوجيا العلم، ويبين ان معالجة نظرية المعرفة العلمية، لا تتأتى إلا في اطار الموضوعية والعقلانية النقدية.
خالد الحلّي
في عام 1994، رحل الى العالم الآخر كارل ريموند بوبر احد اهم فلاسفة العلم والمنهج العلمي، الذي كان يلفت الانظار حتى آخر ايام رحيله الى ان الصدام الحضاري والثقافي يفقد قيمته، وتغيب عنه الروح النقدية الضرورية ليحل محلها التسليم الاعمى العقيم، بل المدمر، وذلك اذا اعتبرت احدى الثقافات العظمى نفسها هي العليا والاكثر تفوقا بشكل عام، وكذلك اذا اعتبرها الآخرون هكذا، واحس فريق بدونيته.
لقد اشتهر هذا الفيلسوف النمساوي الاصل برؤيته للمجتمع الديمقراطي المفتوح، وترجمت اعمال له الى اكثر من ثلاثين لغة. وصدرت عشرات الرسائل الجامعية والكتب عن فلسفته في انحاء العالم، وانشأ من اجلها العديد من مراكز الابحاث والجمعيات العلمية في جامعات شتى. ورغم انه توفي عن 92 عاما، فإنه ظل كثير الحيوية والعطاء في حياته الطويلة الحافلة. وظلت الاعمال التي تركها شديدة النفع والجدوى بغض النظر عن عامل الوقت والزمن.
وقد احسن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت صنعا، باصدار ترجمة لكتابه: «اسطورة الاطار ـ في دفاع عن العلم والعقلانية» ضمن سلسلة «عالم المعرفة»، انجزتها الدكتورة يمنى طريف الخولي، وصدرت بـ 320 صفحة من القطع المتوسط، متضمنة تسعة فصول اختيرت بعناية من ضمن ما كتبه، وعرضت في جملتها العناصر الاساسية لفلسفته ورؤاه العامة للقضايا الحضارية والانسانية والثقافية.
ومع العطاءات الثرة التي قدمها بوبر، فإنه كان جم التواضع، اذ نجده لا يعتبر نفسه خبيرا، لا في العلم ولا في الفلسفة. غير انه بذل طوال حياته محاولات جادة، لكي يتفهم شيئا ما عن العالم الذي نحيا فيه. ويعتقد ان المعرفة العلمية، والعقلية الانسانية التي تنتج هذه المعرفة، يتربص بهما الزلل دائما، او انهما معرضتان للوقوع في الخطأ. بيد انهما ايضا ـ فيما يعتقد ـ فخر الجنس البشري. وهو يرى ان البدعة الشائعة في العلوم بالوقت الحاضر باتت هي الالتجاء للمعرفة التخصصية وسلطة الخبراء، وان البدعة الشائعة في الفلسفة هي تشويه سمعة العلم والعقلانية.
في تصديرها للكتاب تقول الدكتورة الخولي ان اخراج هذا الكتاب للقارئ العربي هو امر ضروري، باعتبار انه آخر ما اصدره بوبر، ليشكل صورة ارتضاها لرسالته الفكرية ولدعائم فلسفته الخصيبة الدافقة التي تميزت بتعدد جوانبها واتساقها، وبثراء استثنائي وتأثير نافذ واسع النطاق، وانعكست في رؤية حضارية اجتماعية وسياسية تمثل اضافة بالغة الحضور على مستوى الفكر والواقع، وتأصيلا وتنظيرا لمفهوم الديمقراطية وتطويرها. وبهذا كانت فلسفته من اهم اتجاهات الفلسفة في القرن العشرين ومطالع القرن الحادي والعشرين.
وهي ترى ان العرب هم اكثر احتياجا لتفعيل قيم الحداثة والتنوير، وان الدفاع عن العلم والعقلانية يبدو الآن شرط التقدم، بل شرط بقاء لأي حضارة راشدة عموما، ومهما تطورت فلسفة العلم وتنامت اتجاهاتها فلا مندوحة لها عن العقلانية كأساس مكين لأي معالجة لشؤون المعرفة العلمية.
ان ايجابيات المنهج العلمي، منهج المحاولة والخطأ، منهج طرح الفرضيات الجريئة وتعريضها لأعنف نقد ممكن، قد ارتدت مع بوبر في صورة المجتمع المفتوح للرأي والرأي الآخر، للانتقال من المشكلات الى محاولات حلولها ليفوز الحل الاقدر والرأي الارجح، في اطار ديمقراطي.
يؤكد بوبر ان احد الجوانب المزعجة جدا من جوانب الحياة العقلية لعصرنا الراهن، هو ذلك الاسلوب للدفاع الواسع الانتشار عن اللاعقلانية، وتلك الطريقة للتسليم بمبادئها. وعندما يتصدى لموضوعه «اسطورة الاطار»، نجد انه يطرحه في جملة واحدة كالآتي: «ان المناقشة العقلانية والمثمرة هي مستحيلة ما لم يتقاسم المساهمون فيها اطارا مشتركا من الافتراضات الاساسية، او على الاقل، ما لم يتفقوا على مثل هذا الاطار لكي تسير المناقشة».
ومن هنا فهو ينظر الى الاسطورة على انها تبدو كتقرير رصين، او كإشعار معقول بما ينبغي ان نولي له الانتباه لكي تروج المناقشة العقلانية، بل ان بعض الناس يعتقدون ان ما وصفه بأنه اسطورة هو مبدأ منطقي، وهو على العكس من ذلك لا يراه تقريرا زائفا فحسب، بل ايضا تقريرا فاسدا وشريرا، وانه اذا عم الاعتقاد به، لا بد ان يدمر وحدة الجنس البشري، وبالتالي يتزايد معه الى حد كبير احتمال العنف والحرب، وهذا هو السبب الجوهري الذي يدفعه الى محاربته وتفنيده.
وعندما ينتقل الى مناقشة «اسطورة الاطار» منظور منطقي، نجده يقوم بمحاولة تشبه التشخيص المنطقي للمرض، فيوضح ان «اسطورة الاطار» هي بذاتها ذلك المبدأ القائل ان المرء لا يستطيع الدخول في مناقشات عقلانية لأي شيء اساسي، او ان المناقشة العقلانية للمبادئ مستحيلة. ومن الناحية المنطقية يجد ان هذا المبدأ هو محصلة للنظرة الخاطئة القائلة ان كل مناقشة عقلية لا بد ان تبدأ من مبادئ، او من بدهيات كما تسمى احيانا، وهذه بدورها لا بد ان تكون مقبولا قبولا دوغماتيا، اذا رغبنا في تفادي ارتداد لا نهائي، ارتداد يعود الى واقعة تزعم اننا حين نخضع صحة مبادئنا او بدهياتنا للنقاش العقلاني، لا بد ان نلتجئ مجددا الى مبادئ او بدهيات. وفي العادة ان اولئك الذين يرون الموقف هكذا اما ان يكونوا على صدق اطار من المبادئ او البدهيات، واما ان يصبحوا نسبيين: يقولون ان ثمة اطرا مختلفة وليس ثمة مناقشة عقلية فيما بينهما، وبالتالي لا خيار عقلانيا.
وبعد هذا يخلص الى ان الاطر، مثل اللغات، قد تكون حواجز، بل وقد تكون سجونا. ولكن اطار المفاهيم الغريب، تماما كاللغة الاجنبية، ليس البتة حاجزا: اننا نستطيع اقتحامه، تماما كما نستطيع الهروب الكبير من اطارنا الخاص، سجننا الخاص. ان اقتحام حاجز الاطار هو تماما كاختراق حاجز اللغة، عسير ولكن يستحق منا كل اهتمام وجهد، ويمكن ان نجد لجهدنا في الاقتحام مردودا ثريا لا يتمثل بتوسيع افقنا العقلي فقط، بل بتحقيق مزيد من المتعة ايضا. ويرى ان الاقتحام بهذه الشاكلة هو اكتشاف بالنسبة لنا.
ولدى حديثه عن اتجاهات ما بعد الحداثة، يذهب الى ان هذه التوجهات على تعددها واتساع مداها واتسامها بشيء من الهلامية، لا تتفق فيما بينها على قيمة ايجابية واحدة، بل تتفق على قيم السلب ورفض فروض ومنجزات الحداثة، فتسحب الثقة من قيم الموضوعية والعقلانية والواقعية ومفهوم الصدق.. الخ.
وتشكك في منجزات الحداثة وحتى في درتها الاثيرة وهي العلم الحديث، فتسرف في لوم سطوة التقنية وتهاجم المجتمع الصناعي وترفض المجتمع الليبرالي وتزعزع مفاهيم التقدم.
وهو اذ يناهض اتجاهات ما بعد الحداثة، يرفض ان تلقي بأي ظلال لها على فلسفة العلوم، كما يرفض بحسم وقطع النسبية واللامقايسة وسوسيولوجيا العلم، ويبين ان معالجة نظرية المعرفة العلمية، لا تتأتى إلا في اطار الموضوعية والعقلانية النقدية.