الدكتور عادل رضا
10-06-2004, 01:05 AM
مقابلة مع الرئيس محمد خاتمي - الثقافة سياسة علي المدي الطويل.. والسياسة ثقافة علي المدي القصير - حسن حنفي
إن طريقة تدوين التاريخ في كل حضارة إنما تكشف عن الوعي التاريخي للمؤرخ الذي يكشف بدوره عن وعي الحضارة بذاتها.فالتاريخ هو وعي بالتاريخ، والوعي بالتاريخ هو التاريخ. فالتاريخ ليس الحوليات والسجلات والجداول والإحصائيات، تاريخ الحوادث، فالحوادث لها دلالات، ومسارها يخضع للقانون .والمؤرخ هو الذي يدرك هذه الدلالات ويكتشف هذا القانون.
ولكل تاريخ مساره. والمؤرخ هو الذي يعي هذا المسار، وتتحدد المراحل باللحظات الحاسمة في التاريخ، الحوادث الكبري، المعارك الفاصلة، الانقلابات العسكرية والسياسية، ميلاد القادة العظام أو موتهم. ويتم ذلك عن طريق تحويل التاريخ إلي تجارب حية يعيشها المؤرخ وكأن التاريخ حياته، وكأن حياته هو التاريخ. فلا فرق بين تاريخ العالم والسيرة الذاتية، تاريخ العالم الكبير وتاريخ العالم الصغير بتعبير إخوان الصفا (وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون)، (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم).
خلال الحوار العربي ــ الإيراني الثاني الذي عقد بطهران في 23 ــ 27 كانون الثاني (يناير) الماضي بعد اللقاء الأول الذي عقد بالدوحة في قطر عام 1995 قابل الرئيس محمد خاتمي بعض أعضاء الوفد العربي في قصر الرئاسة مدة ساعتين. وبعد أن رحب الرئيس بأعضاء الوفد وسلم عليهم واحداً واحداً، بدأ الدكتور خير الدين حسيب الحوار بسؤال الرئيس عن الوضع السياسي الحالي بعد 11 أيلول (سبتمبر) العام الماضي وحوادث نيويورك وواشنطن والهجمة الأمريكية علي العالم العربي الإسلامي. كان سؤالا سياسياً مباشراً أمام أجهزة الإعلام.
وإيران في موقف حرج بين الوقوف ضد الإرهاب الذي يقال إنه نابع من جارتها أفغانستان ومن نظام إسلامي هو طالبان وضرورة التعاون الأمني وليس العسكري مع قوات التحالف الأمريكي ــ البريطاني وبين الحرص علي استقلالها الوطني وعدم جواز قتل المسلم للمسلم بمفرده أو بمعاونة الأجنبي، والدفاع عن مصالحها الوطنية ضد تهديد الولايات المتحدة الأمريكية للثورة الإسلامية الذي لم يتوقف منذ اندلاعها حتي الآن خاصة بعد وجودها في قلب آسيا، في أفغانستان، وعلي حدود إيران الشمالية بقواعد عسكرية ثابتة، علي الرغم مما كان بين الثورة والطالبان من عداء. فلو صرح الرئيس بشيء إما لصالح التحالف ضد الإرهاب أو لصالح الاستقلال الوطني لتناقلته أجهزة الإعلام علي الفور مع الشروح والتفسيرات عن موقف الثورة الإسلامية مما يحدث في أفغانستان، تعاون مع التحالف ضد نظام الطالبان وتنظيم القاعدة أو مناهضة الغزو الأمريكي لأفغانستان. والسياسة تقوم علي التشابه وليس علي الأحكام، علي الغموض وليس علي الوضوح ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .
حوار الحضارات
لذلك تجاوز الرئيس خاتمي هذا السؤال السياسي المباشر وتحدث عن حوار الحضارات، فالسياسة ثقافة، والثقافة سياسة. الثقافة سياسة علي الأمد الطويل، والسياسة ثقافة علي الأمد القصير.
وبدأ الرئيس خاتمي بملاحظة أن الحضارة الإسلامية قد توقفت في الوقت نفسه الذي تقدمت فيه الحضارة الغربية. وهو حكم شائع منذ أن سأل شكيب أرسلان من قبل: لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ . والحضارة الإسلامية في الحقيقة لم تتوقف في القرون السبعة الأخيرة، فترة ما بعد ابن خلدون في العصر المملوكي العثماني بل دونت من الذاكرة في المرحلة الثانية ما أبدعته بالعقل في القرون السبعة الأولي. كما ازدهرت العلوم الرياضية في هذه الفترة خاصة علوم الفلك. بل لقد ازدهرت العلوم الإسلامية في إيران عند الطوسي حتي صدر الدين الشيرازي. ومنذ مائتي عام ونحن نحاول النهوض من جديد، ونغلق هذه الفترة الثانية لبداية فترة ثالثة ابتداءً من الإصلاح الديني عند الأفغاني أو فجر النهضة العربية منذ الطهطاوي أو بداية بالتفكير العلمي العلماني عند شبلي شميل في بدايات ثلاث: الدين والدولة والطبيعة. وما زلنا نطور الإصلاح الديني علي الرغم من كبوته وانتهائه إلي تيار سلفي. والثورة الإسلامية في إيران ضمن هذه المحاولات الجديدة لتطوير الفكر الإصلاحي وتحويله إلي فكر ثوري. أما الغرب فقد تقدم في بداية العصور الحديثة بالعودة إلي الآداب القديمة في القرن الرابع عشر، والإصلاح الديني في الخامس عشر، والنهضة في السادس عشر، والعقلانية في السابع عشر، والتنوير في الثامن عشر، والعلم والثورة الصناعية الأولي في التاسع عشر، والتكنولوجيا الحديثة في القرن العشرين. ثم وقعت الأزمة، حربان عالميتان طاحنتان، وقلب القيم (شيلر)، وأزمة العلوم (هوسرل)، وأزمة الوعي (بول آزار)، وأفول الغرب (اشبنجلر)، وموت الإله (نيتشه)، ومحاكمة الغرب (توينبي)، والآلة التي تصنع الآلهة (برجسون).
ثم تحدث الرئيس عن انعدام الهوية والأحري تداخل الهويات بين الإسلامية والقومية والغربية نظراً لوقوع المسلمين اليوم في حصار الزمن بين هوية الماضي الإسلامية كما يريد الإسلاميون، وهوية المستقبل الغربية كما يريد العلمانيون، وهوية الحاضر القومية كما يريد القوميون. وهي أشبه بالدوائر الثلاث التي تحدث عنها عبد الناصر في فلسفة الثورة كدوائر حول مصر: الدائرة العربية، والدائرة الأفريقية الآسيوية والدائرة الإسلامية. وقد تتحول الهوية الإسلامية إلي سلفية كرد فعل علي تحول التحديث إلي تغريب، والحداثة إلي علمانية علي النمط الغربي. فالخطر ليس من السلفية بل من العلمانية، رد فعل علي فعل. ويحاول الطريق الثالث التوفيق بينهما من أجل تجاوز الاستقطاب بين اتجاهين متعارضين، فالإصلاح قادر علي هذه التجاوز. وقد يكون الحل الرابع هو القادر علي التجاوز الجذري، إعادة بناء القديم طبقاً لحاجات العصر من الداخل وليس من الخارج، من الجذور وليس من الثمار. وإذا كان الغرب يمر حالياً بمرحلة ما بعد الحداثة فإننا ما زلنا نمر بمرحلة الحداثة. وإذا كان الغرب قد أعلن نهاية التاريخ فإننا نمر ببداية ثانية لتاريخنا الحديث منذ الإصلاح الديني وإنهاء عصر الشروح والملخصات، وحركات التحرر الوطني، وبناء الدول الحديثة، والثورة الإسلامية في إيران، والصحوة الإسلامية، والحفاظ في أوروبا الشرقية، والجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطي. وإذا كان الغرب قد أعلن صدام الحضارات فإننا نعلن حوار الثقافات. لقد أعلن الغرب عما مارسه في الخفاء منذ محاولاته القضاء علي ثقافات الشعوب المستعمرة في نصف الكرة الغربي، ثقافة الهنود الحمر. وأصبحت تتكلم الفرنسية في الشمال، والإنكليزية في الوسط، والاسبانية والبرتغالية في الجنوب. وتحولت أفريقيا إلي فرانكفورتية وأنجلوفونية. وفي آسيا في الهند أصبحت اللغة الإنكليزية فيها لغة وحدة شبه القارة. وتتكلم الفلبين الأسبانية. ويري الرئيس أن حوار الحضارات الآن ليس علي مستوي الايديولوجيا بل حول العلم والعدالة، وهي أيضاً أيدولوجيا ضمنية. فالعلم حكر علي الغرب، رأسماليته الجديد، والعدالة شروطها غربية، العولمة والسوق والربح، ومنظمة التجارة العالمية، ورفع الحواجز الجمركية، والتنازل عن السيادة الوطنية، وابتلاع المركز للأطراف.
الحوار لا يعني الاستسلام
ويبدأ الحوار مع النفس قبل أن يبدأ مع الآخر، حوار المسلمين في ما بينهم قبل حوار المسلمين مع الغربيين، حوار المسلمين مع القديم وحوارهم مع الجديد حتي يتخفف المسلمون من نقل القديم أو نقل الجديد ويتجهوا إلي الإبداع. ونظراً لهيمنة الغرب فإن الحوار معه لا يعني الاستسلام لشتي جنوب الاستبداد، من الاستعمار التقليدي إلي العولمة الجديدة. الحوار في هذه الحالة مواجهة ومقاومة، تحتاج إلي ثقافة المقاومة. ونموذجها عند الرئيس خاتمي العرفان أي الإشراق أي التصوف إعجاباً بصدر الدين الشيرازي والإمام الخميني. وهو التيار الذي جعلته الثورة الإسلامية مصدرها وركيزتها. وشتان ما بين العرفان والثورة، والتصوف والمقاومة، والجهاد الأصغر جهاد العدو والجهاد الأكبر جهاد النفس. والتصوف في النهاية إنقاذ النفس بعد ان استعصي إنقاذ العالم، ومقاومة سلبية بعد أن استمالت المقاومة الإيجابية. وقد تغير الوضع الآن بعد انتصار جنوب لبنان علي الاحتلال الاسرائيلي، والمقاومة الفلسطينية علي وشك الانتصار علي جنود الاحتلال في الضفة والقطاع. ويتم الحوار حول حقوق الإنسان وهي لا تبعد عن مقاصد الشريعة، الضروريات الخمس التي من أجلها وضعت الشريعة ابتداء، الحفاظ علي النفس أي الحياة، والعقل أي العلم، والدين أي الحقيقة الثابتة بعيداً عن النسبية والشك، والعرض أي الكرامة الوطنية، والمال أي ثروات الشعوب. وقد أعلنا نحن بعد حركات التحرر الوطني الإعلان العالمي لحقوق الشعوب في الجزائر عام 1971، حق كل شعب في تقرير المصير حتي لا تبقي حقوق الإنسان فردية فحسب. كما يدور الحوار حول الحرية والعدل والمجتمع المدني العالمي وليس المجتمع المدني المحلي فحسب. وإذا كان هناك تحالف فهو تحالف من أجل السلام لا الحرب، وللدفاع عن صوت الشعوب مثل حقوق شعوب فلسطين وكشمير والشيشان في تقرير المصير. تلك كانت أهم مواضيع الحوار مع الرئيس محمد خاتمي. كان أقرب إلي المونولوج منه إلي الديالوج. وهي موضوعات يتناولها المثقفون عندنا، والرئيس علي علم بأطروحاتنا. فقد وحدت الثقافة ما فرقته السياسة. في الثقافة يتعلم بعضنا من بعض، وفي السياسة يعلو بعضنا علي بعض (ولله المثل الأعلي).
إن طريقة تدوين التاريخ في كل حضارة إنما تكشف عن الوعي التاريخي للمؤرخ الذي يكشف بدوره عن وعي الحضارة بذاتها.فالتاريخ هو وعي بالتاريخ، والوعي بالتاريخ هو التاريخ. فالتاريخ ليس الحوليات والسجلات والجداول والإحصائيات، تاريخ الحوادث، فالحوادث لها دلالات، ومسارها يخضع للقانون .والمؤرخ هو الذي يدرك هذه الدلالات ويكتشف هذا القانون.
ولكل تاريخ مساره. والمؤرخ هو الذي يعي هذا المسار، وتتحدد المراحل باللحظات الحاسمة في التاريخ، الحوادث الكبري، المعارك الفاصلة، الانقلابات العسكرية والسياسية، ميلاد القادة العظام أو موتهم. ويتم ذلك عن طريق تحويل التاريخ إلي تجارب حية يعيشها المؤرخ وكأن التاريخ حياته، وكأن حياته هو التاريخ. فلا فرق بين تاريخ العالم والسيرة الذاتية، تاريخ العالم الكبير وتاريخ العالم الصغير بتعبير إخوان الصفا (وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون)، (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم).
خلال الحوار العربي ــ الإيراني الثاني الذي عقد بطهران في 23 ــ 27 كانون الثاني (يناير) الماضي بعد اللقاء الأول الذي عقد بالدوحة في قطر عام 1995 قابل الرئيس محمد خاتمي بعض أعضاء الوفد العربي في قصر الرئاسة مدة ساعتين. وبعد أن رحب الرئيس بأعضاء الوفد وسلم عليهم واحداً واحداً، بدأ الدكتور خير الدين حسيب الحوار بسؤال الرئيس عن الوضع السياسي الحالي بعد 11 أيلول (سبتمبر) العام الماضي وحوادث نيويورك وواشنطن والهجمة الأمريكية علي العالم العربي الإسلامي. كان سؤالا سياسياً مباشراً أمام أجهزة الإعلام.
وإيران في موقف حرج بين الوقوف ضد الإرهاب الذي يقال إنه نابع من جارتها أفغانستان ومن نظام إسلامي هو طالبان وضرورة التعاون الأمني وليس العسكري مع قوات التحالف الأمريكي ــ البريطاني وبين الحرص علي استقلالها الوطني وعدم جواز قتل المسلم للمسلم بمفرده أو بمعاونة الأجنبي، والدفاع عن مصالحها الوطنية ضد تهديد الولايات المتحدة الأمريكية للثورة الإسلامية الذي لم يتوقف منذ اندلاعها حتي الآن خاصة بعد وجودها في قلب آسيا، في أفغانستان، وعلي حدود إيران الشمالية بقواعد عسكرية ثابتة، علي الرغم مما كان بين الثورة والطالبان من عداء. فلو صرح الرئيس بشيء إما لصالح التحالف ضد الإرهاب أو لصالح الاستقلال الوطني لتناقلته أجهزة الإعلام علي الفور مع الشروح والتفسيرات عن موقف الثورة الإسلامية مما يحدث في أفغانستان، تعاون مع التحالف ضد نظام الطالبان وتنظيم القاعدة أو مناهضة الغزو الأمريكي لأفغانستان. والسياسة تقوم علي التشابه وليس علي الأحكام، علي الغموض وليس علي الوضوح ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .
حوار الحضارات
لذلك تجاوز الرئيس خاتمي هذا السؤال السياسي المباشر وتحدث عن حوار الحضارات، فالسياسة ثقافة، والثقافة سياسة. الثقافة سياسة علي الأمد الطويل، والسياسة ثقافة علي الأمد القصير.
وبدأ الرئيس خاتمي بملاحظة أن الحضارة الإسلامية قد توقفت في الوقت نفسه الذي تقدمت فيه الحضارة الغربية. وهو حكم شائع منذ أن سأل شكيب أرسلان من قبل: لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ . والحضارة الإسلامية في الحقيقة لم تتوقف في القرون السبعة الأخيرة، فترة ما بعد ابن خلدون في العصر المملوكي العثماني بل دونت من الذاكرة في المرحلة الثانية ما أبدعته بالعقل في القرون السبعة الأولي. كما ازدهرت العلوم الرياضية في هذه الفترة خاصة علوم الفلك. بل لقد ازدهرت العلوم الإسلامية في إيران عند الطوسي حتي صدر الدين الشيرازي. ومنذ مائتي عام ونحن نحاول النهوض من جديد، ونغلق هذه الفترة الثانية لبداية فترة ثالثة ابتداءً من الإصلاح الديني عند الأفغاني أو فجر النهضة العربية منذ الطهطاوي أو بداية بالتفكير العلمي العلماني عند شبلي شميل في بدايات ثلاث: الدين والدولة والطبيعة. وما زلنا نطور الإصلاح الديني علي الرغم من كبوته وانتهائه إلي تيار سلفي. والثورة الإسلامية في إيران ضمن هذه المحاولات الجديدة لتطوير الفكر الإصلاحي وتحويله إلي فكر ثوري. أما الغرب فقد تقدم في بداية العصور الحديثة بالعودة إلي الآداب القديمة في القرن الرابع عشر، والإصلاح الديني في الخامس عشر، والنهضة في السادس عشر، والعقلانية في السابع عشر، والتنوير في الثامن عشر، والعلم والثورة الصناعية الأولي في التاسع عشر، والتكنولوجيا الحديثة في القرن العشرين. ثم وقعت الأزمة، حربان عالميتان طاحنتان، وقلب القيم (شيلر)، وأزمة العلوم (هوسرل)، وأزمة الوعي (بول آزار)، وأفول الغرب (اشبنجلر)، وموت الإله (نيتشه)، ومحاكمة الغرب (توينبي)، والآلة التي تصنع الآلهة (برجسون).
ثم تحدث الرئيس عن انعدام الهوية والأحري تداخل الهويات بين الإسلامية والقومية والغربية نظراً لوقوع المسلمين اليوم في حصار الزمن بين هوية الماضي الإسلامية كما يريد الإسلاميون، وهوية المستقبل الغربية كما يريد العلمانيون، وهوية الحاضر القومية كما يريد القوميون. وهي أشبه بالدوائر الثلاث التي تحدث عنها عبد الناصر في فلسفة الثورة كدوائر حول مصر: الدائرة العربية، والدائرة الأفريقية الآسيوية والدائرة الإسلامية. وقد تتحول الهوية الإسلامية إلي سلفية كرد فعل علي تحول التحديث إلي تغريب، والحداثة إلي علمانية علي النمط الغربي. فالخطر ليس من السلفية بل من العلمانية، رد فعل علي فعل. ويحاول الطريق الثالث التوفيق بينهما من أجل تجاوز الاستقطاب بين اتجاهين متعارضين، فالإصلاح قادر علي هذه التجاوز. وقد يكون الحل الرابع هو القادر علي التجاوز الجذري، إعادة بناء القديم طبقاً لحاجات العصر من الداخل وليس من الخارج، من الجذور وليس من الثمار. وإذا كان الغرب يمر حالياً بمرحلة ما بعد الحداثة فإننا ما زلنا نمر بمرحلة الحداثة. وإذا كان الغرب قد أعلن نهاية التاريخ فإننا نمر ببداية ثانية لتاريخنا الحديث منذ الإصلاح الديني وإنهاء عصر الشروح والملخصات، وحركات التحرر الوطني، وبناء الدول الحديثة، والثورة الإسلامية في إيران، والصحوة الإسلامية، والحفاظ في أوروبا الشرقية، والجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطي. وإذا كان الغرب قد أعلن صدام الحضارات فإننا نعلن حوار الثقافات. لقد أعلن الغرب عما مارسه في الخفاء منذ محاولاته القضاء علي ثقافات الشعوب المستعمرة في نصف الكرة الغربي، ثقافة الهنود الحمر. وأصبحت تتكلم الفرنسية في الشمال، والإنكليزية في الوسط، والاسبانية والبرتغالية في الجنوب. وتحولت أفريقيا إلي فرانكفورتية وأنجلوفونية. وفي آسيا في الهند أصبحت اللغة الإنكليزية فيها لغة وحدة شبه القارة. وتتكلم الفلبين الأسبانية. ويري الرئيس أن حوار الحضارات الآن ليس علي مستوي الايديولوجيا بل حول العلم والعدالة، وهي أيضاً أيدولوجيا ضمنية. فالعلم حكر علي الغرب، رأسماليته الجديد، والعدالة شروطها غربية، العولمة والسوق والربح، ومنظمة التجارة العالمية، ورفع الحواجز الجمركية، والتنازل عن السيادة الوطنية، وابتلاع المركز للأطراف.
الحوار لا يعني الاستسلام
ويبدأ الحوار مع النفس قبل أن يبدأ مع الآخر، حوار المسلمين في ما بينهم قبل حوار المسلمين مع الغربيين، حوار المسلمين مع القديم وحوارهم مع الجديد حتي يتخفف المسلمون من نقل القديم أو نقل الجديد ويتجهوا إلي الإبداع. ونظراً لهيمنة الغرب فإن الحوار معه لا يعني الاستسلام لشتي جنوب الاستبداد، من الاستعمار التقليدي إلي العولمة الجديدة. الحوار في هذه الحالة مواجهة ومقاومة، تحتاج إلي ثقافة المقاومة. ونموذجها عند الرئيس خاتمي العرفان أي الإشراق أي التصوف إعجاباً بصدر الدين الشيرازي والإمام الخميني. وهو التيار الذي جعلته الثورة الإسلامية مصدرها وركيزتها. وشتان ما بين العرفان والثورة، والتصوف والمقاومة، والجهاد الأصغر جهاد العدو والجهاد الأكبر جهاد النفس. والتصوف في النهاية إنقاذ النفس بعد ان استعصي إنقاذ العالم، ومقاومة سلبية بعد أن استمالت المقاومة الإيجابية. وقد تغير الوضع الآن بعد انتصار جنوب لبنان علي الاحتلال الاسرائيلي، والمقاومة الفلسطينية علي وشك الانتصار علي جنود الاحتلال في الضفة والقطاع. ويتم الحوار حول حقوق الإنسان وهي لا تبعد عن مقاصد الشريعة، الضروريات الخمس التي من أجلها وضعت الشريعة ابتداء، الحفاظ علي النفس أي الحياة، والعقل أي العلم، والدين أي الحقيقة الثابتة بعيداً عن النسبية والشك، والعرض أي الكرامة الوطنية، والمال أي ثروات الشعوب. وقد أعلنا نحن بعد حركات التحرر الوطني الإعلان العالمي لحقوق الشعوب في الجزائر عام 1971، حق كل شعب في تقرير المصير حتي لا تبقي حقوق الإنسان فردية فحسب. كما يدور الحوار حول الحرية والعدل والمجتمع المدني العالمي وليس المجتمع المدني المحلي فحسب. وإذا كان هناك تحالف فهو تحالف من أجل السلام لا الحرب، وللدفاع عن صوت الشعوب مثل حقوق شعوب فلسطين وكشمير والشيشان في تقرير المصير. تلك كانت أهم مواضيع الحوار مع الرئيس محمد خاتمي. كان أقرب إلي المونولوج منه إلي الديالوج. وهي موضوعات يتناولها المثقفون عندنا، والرئيس علي علم بأطروحاتنا. فقد وحدت الثقافة ما فرقته السياسة. في الثقافة يتعلم بعضنا من بعض، وفي السياسة يعلو بعضنا علي بعض (ولله المثل الأعلي).