جمال
10-02-2004, 10:24 AM
جميل الحجيلان*
* الأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية
لا يكاد يمر يوم عليّ إلا وأسترجع، في ما أسترجع من ذكريات، وقائع الحدث الذي أسمعت ُ فيه ذلك النذير. كانت المناسبة مليئة بالخوف والمداعبة والعبر والتصاقها أيضاً بحقبة هامة من تاريخ بلادي.
ولمن لا يعرف الدكتور عبد الرزاق السنهوري، من الجيل المقبل على الحياة، إنه واحد من عمالقة الفكر القانوني في العالم، ومرجع حصين من مراجع القانون المدني وفقه الشريعة الإسلامية في المعاملات، وحجة يركن إليها ولا يحاط رأيها بما قد يشكل أو يريب. كان أيضاً منبراً من منابر الفكر الحر عانى كثيراً عندما طغت، في بلده، دولة المخابرات على دولة القانون. لم يساوم على قناعته بوجوب سيادة القانون والارتفاع بها فوق كل اعتبار، وأبى أن يجعل من علمه مطية لتجاوزات الحكم والحاكمين.! كيف يتسنى له أن يكون غير ذلك، وهو أبو «الوسيط» أعلى مراتب الفكر الإنساني الحر المنظم. توفي عام 1971 كسير القلب غير ذليل، بعد أن ورث العالم عنه إنجازاً حضارياً قمة في مستواه، وثروة في محتواه هو «الوسيط» في القانون المدني باجزائه الاثني عشر وصفحاته التي تجاوزت الخمسة عشر ألف صفحة.
وعندما أدخل مكتبي، صباح كل يوم، أرى ذلك الانجاز الإنساني العظيم وقد استأثر بمكان الصدارة في مكتبتي، فالوسيط زينة الكتب وفخر المكتبات.
أعود لما يوحي به عنوان المقال من أمر مثير للفضول. في امتحان السنة النهائية لكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول، كان نصيبي ان أؤدي الامتحان الشفوي في القانون المدني أمام الدكتور عبد الرزاق السنهوري، والسيد سليمان حافظ رئيس مجلس الدولة آنذاك، كان ذلك في شهر مايو 1950. ما أزال أذكر صوته الجهوري وقسمات وجهه الخشنة المطلة من رأسه الكبير، وأنا وزملائي الثلاثة الآخرون ماثلون أمامهم مسكونون بخوف شديد. استوقفه اسمي «الحجيلان» فسألني دون مقدمات: هل أنت سعودي؟
قلت نعم. قال، بكل جارحة صارمة جادة في وجهه، «لو، كنت ابن سعود لقطعت رأسك.!». سألته، وقد أغرقتني المفاجأة في مزيد من الارتباك: لماذا يُقطع رأسي يا سيدي؟ قال ما هذا العبث الذي أنت فيه! أمضيت أربعة أعوام تدرس القوانين الوضعية لتعود لبلد يحكم بالشريعة الاسلامية.. وبذلك تكون عبئاً على وطنك..!
لا أذكر بماذا تمتم به الطالب ابن العشرين، فقد تجاوز الموقف قدرتي على المواجهة والاستيعاب. وجه إليَّ سؤالاً أجبت عليه باقتدار.
ودار بأسئلته على الآخرين. استعصى سؤاله على زميلة كانت معنا. قال: هذا السؤال لك أتجيبين عليه ام أحوله للسعودي؟ فقالت ـ والذاكرة لا تنسى امرا كهذا ـ: اسأله فلن يستطيع الاجابة عليه. وكان ان اجبت عليه ايضا باقتدار. فقال لي العالم الكبير: برضه لو كنت ابن سعود لقطعت رأسك. قلت: لماذا يا معالي الباشا انت مصر على قطع رأسي؟ فأجاب بضحكة مجلجلة: لأنك طالب نجيب.
اكتفى مني بهذا القدر من الامتحان، وطلب اليّ الخروج واستبقى معه الثلاثة الآخرين.
هل كان الدكتور السنهوري مبالغا في استهجانه «للعبث الذي كنت فيه. لا اعتقد ذلك. فقبله رفضت البعثة التعليمية السعودية في مصر الحاقي بالمبتعثين لاصراري على دراسة القانون. وتحمل والدي، على تواضع حاله، مصاريفي الجامعية للسنة الاولى. وبعد نجاحي للسنة الثانية صدر امر الشيخ محمد بن مانع يرحمه الله مدير شؤون التعليم السعودي (لم تكن هناك وزارة معارف) بتسوية الموضوع والحاقي بالبعثة.
كانت المملكة العربية السعودية قد دخلت لتوها في عالم البناء والتطوير. فعندما انهيت دراستي الثانوية في القاهرة عام 1946 لم يكن في السعودية كلها الا مدرسة ثانوية واحدة في مكة المكرمة اسمها مدرسة تحضير البعثات..! اما الجامعات فقد كانت حلما عطري الشذا.. حلو المذاق، يسكن قلوب السعوديين قادة ومواطنين. لا اعرف كيف يتلقى ابناؤنا هذا الايراد التاريخي المثير للعجب والاعجاب. وفي مواجهة هذه الحقيقة لا بد ان يستوقف التاريخ الباحثين في نهضة المملكة العربية السعودية ليدعوهم الى التأني والتأمل في ما يكتبون.
كان الوطن في حاجة للمدرس والمهندس والطبيب. لم يكن في حاجة لقانونيين في دولة اقامت وجودها على الاسلام، نظام حكم وحياة، وانا اعود لبلادي بفكر قانوني استجمعت اصوله من تشريع غربي، وبيئة غربية لا يجمعنا بها جامع من عقيدة او موروث لأصبح بذلك عبئا على وطني، كما كان ينذر به ويخشاه العالم الكبير..!
على ان دارس القانون لم يصبح عبئا على وطنه فقد احتضنته الدولة كما احتضنت من لحق به من دارسي القانون، فكان منهم الوزير والسفير وشاغلو المناصب العليا في الدولة. كان السنهوري في رهانه مستندا لحقائق الزمن الذي كنا فيه. كان محقا في ما يراه غير ان الحياة تتطور بركض سريع متجاوزة كل الرهانات.
بعد خمسين عاما من لقائي المثير مع العالم الكبير دخلت في رهان شبيه برهانه على مستقبل الطالب السعودي دارس القانون.. ارادت كبرى حفيداتي اكمال دراستها الجامعية تخصصا في علم صناعة الاعلان التجاري (الجرافيك). كاد قرارها ان يذهب بهدوئي. قلت لها ما قاله لي الدكتور السنهوري قبل خمسين عاما. ما هذا العبث الذي انت مقدمة عليه؟
أي صناعة للاعلان والوطن في حاجة للمهندسة والطبيبة والراعية الاجتماعية؟ وكان جوابها الذي افقدنا مواصلة الحوار «ان حجم الاستهلاك وتنافس المنتجين وحرية السوق في المملكة العربية السعودية، سيجعل من الاعلان التجاري في المملكة العربية السعودية صناعة تقوم على المعرفة وتنأى عن الارتجال. كان الاعلان عن البضائع والخدمات يأتي من خلال صوت الباعة والمتجولين، فأصبح اليوم علما يدرس في الجامعات.. ارجو ان لا تقفوا في طريقي وسترون اني قد احسنت الاختيار». وكان لها ما ارادت. فما كادت تنهي دراستها الجامعية حتى تعاقدت معها احدى شركات الاعلان الكبرى براتب عالٍ.. والعديد من زميلاتها خريجات كليات (العلوم الانسانية) ما زلن ينتظرن فرص العمل في غدٍ افضل..
العلم يأتي إلينا كل يوم بجديد.. وعلم صناعة الاعلان اقرار بهذه الحقيقة واستجابة لمقتضياتها. والحياة في تطور مذهل سريع والعاقل من يلحق به، فلا تقف به المخاوف والاوهام في اول الطريق او عند منتصف الطريق.
وما يقال في ذلك عن الانسان يقال أيضا عن الدول. لقد ظلت مناهج التعليم العامل المؤثر الفاعل في اعداد المواطنين اعدادا يرقى بهم لعالم الابداع والانتاج، والمشاركة في صنع الحضارة الانسانية، او اعداد يحتفظ بهم رهينة الانغلاق على النفس والخوف من كل ما هو قادم وجديد.. وقد ادركت الدول الغربية، منذ البداية، هذه الحقيقة فاستثمرت في التعليم افضل ما اتيح له من الاسباب، ومنحته الدعم والمساعدة وحررته من قيود الخوف، وجعلت منه وسيلة لتحقيق المنجزات التي غيرت وجه العالم في ميادين العلوم والصناعة والاقتصاد. وكأني بمناهج التعليم في البلاد العربية ما تزال تصنع منا امة تعيش على استهلاك ما يصدره الغرب إلينا، ونحن في حال انبهار دائم مما يطلع به الغرب علينا كل يوم من انجاز جديد..
* الأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية
لا يكاد يمر يوم عليّ إلا وأسترجع، في ما أسترجع من ذكريات، وقائع الحدث الذي أسمعت ُ فيه ذلك النذير. كانت المناسبة مليئة بالخوف والمداعبة والعبر والتصاقها أيضاً بحقبة هامة من تاريخ بلادي.
ولمن لا يعرف الدكتور عبد الرزاق السنهوري، من الجيل المقبل على الحياة، إنه واحد من عمالقة الفكر القانوني في العالم، ومرجع حصين من مراجع القانون المدني وفقه الشريعة الإسلامية في المعاملات، وحجة يركن إليها ولا يحاط رأيها بما قد يشكل أو يريب. كان أيضاً منبراً من منابر الفكر الحر عانى كثيراً عندما طغت، في بلده، دولة المخابرات على دولة القانون. لم يساوم على قناعته بوجوب سيادة القانون والارتفاع بها فوق كل اعتبار، وأبى أن يجعل من علمه مطية لتجاوزات الحكم والحاكمين.! كيف يتسنى له أن يكون غير ذلك، وهو أبو «الوسيط» أعلى مراتب الفكر الإنساني الحر المنظم. توفي عام 1971 كسير القلب غير ذليل، بعد أن ورث العالم عنه إنجازاً حضارياً قمة في مستواه، وثروة في محتواه هو «الوسيط» في القانون المدني باجزائه الاثني عشر وصفحاته التي تجاوزت الخمسة عشر ألف صفحة.
وعندما أدخل مكتبي، صباح كل يوم، أرى ذلك الانجاز الإنساني العظيم وقد استأثر بمكان الصدارة في مكتبتي، فالوسيط زينة الكتب وفخر المكتبات.
أعود لما يوحي به عنوان المقال من أمر مثير للفضول. في امتحان السنة النهائية لكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول، كان نصيبي ان أؤدي الامتحان الشفوي في القانون المدني أمام الدكتور عبد الرزاق السنهوري، والسيد سليمان حافظ رئيس مجلس الدولة آنذاك، كان ذلك في شهر مايو 1950. ما أزال أذكر صوته الجهوري وقسمات وجهه الخشنة المطلة من رأسه الكبير، وأنا وزملائي الثلاثة الآخرون ماثلون أمامهم مسكونون بخوف شديد. استوقفه اسمي «الحجيلان» فسألني دون مقدمات: هل أنت سعودي؟
قلت نعم. قال، بكل جارحة صارمة جادة في وجهه، «لو، كنت ابن سعود لقطعت رأسك.!». سألته، وقد أغرقتني المفاجأة في مزيد من الارتباك: لماذا يُقطع رأسي يا سيدي؟ قال ما هذا العبث الذي أنت فيه! أمضيت أربعة أعوام تدرس القوانين الوضعية لتعود لبلد يحكم بالشريعة الاسلامية.. وبذلك تكون عبئاً على وطنك..!
لا أذكر بماذا تمتم به الطالب ابن العشرين، فقد تجاوز الموقف قدرتي على المواجهة والاستيعاب. وجه إليَّ سؤالاً أجبت عليه باقتدار.
ودار بأسئلته على الآخرين. استعصى سؤاله على زميلة كانت معنا. قال: هذا السؤال لك أتجيبين عليه ام أحوله للسعودي؟ فقالت ـ والذاكرة لا تنسى امرا كهذا ـ: اسأله فلن يستطيع الاجابة عليه. وكان ان اجبت عليه ايضا باقتدار. فقال لي العالم الكبير: برضه لو كنت ابن سعود لقطعت رأسك. قلت: لماذا يا معالي الباشا انت مصر على قطع رأسي؟ فأجاب بضحكة مجلجلة: لأنك طالب نجيب.
اكتفى مني بهذا القدر من الامتحان، وطلب اليّ الخروج واستبقى معه الثلاثة الآخرين.
هل كان الدكتور السنهوري مبالغا في استهجانه «للعبث الذي كنت فيه. لا اعتقد ذلك. فقبله رفضت البعثة التعليمية السعودية في مصر الحاقي بالمبتعثين لاصراري على دراسة القانون. وتحمل والدي، على تواضع حاله، مصاريفي الجامعية للسنة الاولى. وبعد نجاحي للسنة الثانية صدر امر الشيخ محمد بن مانع يرحمه الله مدير شؤون التعليم السعودي (لم تكن هناك وزارة معارف) بتسوية الموضوع والحاقي بالبعثة.
كانت المملكة العربية السعودية قد دخلت لتوها في عالم البناء والتطوير. فعندما انهيت دراستي الثانوية في القاهرة عام 1946 لم يكن في السعودية كلها الا مدرسة ثانوية واحدة في مكة المكرمة اسمها مدرسة تحضير البعثات..! اما الجامعات فقد كانت حلما عطري الشذا.. حلو المذاق، يسكن قلوب السعوديين قادة ومواطنين. لا اعرف كيف يتلقى ابناؤنا هذا الايراد التاريخي المثير للعجب والاعجاب. وفي مواجهة هذه الحقيقة لا بد ان يستوقف التاريخ الباحثين في نهضة المملكة العربية السعودية ليدعوهم الى التأني والتأمل في ما يكتبون.
كان الوطن في حاجة للمدرس والمهندس والطبيب. لم يكن في حاجة لقانونيين في دولة اقامت وجودها على الاسلام، نظام حكم وحياة، وانا اعود لبلادي بفكر قانوني استجمعت اصوله من تشريع غربي، وبيئة غربية لا يجمعنا بها جامع من عقيدة او موروث لأصبح بذلك عبئا على وطني، كما كان ينذر به ويخشاه العالم الكبير..!
على ان دارس القانون لم يصبح عبئا على وطنه فقد احتضنته الدولة كما احتضنت من لحق به من دارسي القانون، فكان منهم الوزير والسفير وشاغلو المناصب العليا في الدولة. كان السنهوري في رهانه مستندا لحقائق الزمن الذي كنا فيه. كان محقا في ما يراه غير ان الحياة تتطور بركض سريع متجاوزة كل الرهانات.
بعد خمسين عاما من لقائي المثير مع العالم الكبير دخلت في رهان شبيه برهانه على مستقبل الطالب السعودي دارس القانون.. ارادت كبرى حفيداتي اكمال دراستها الجامعية تخصصا في علم صناعة الاعلان التجاري (الجرافيك). كاد قرارها ان يذهب بهدوئي. قلت لها ما قاله لي الدكتور السنهوري قبل خمسين عاما. ما هذا العبث الذي انت مقدمة عليه؟
أي صناعة للاعلان والوطن في حاجة للمهندسة والطبيبة والراعية الاجتماعية؟ وكان جوابها الذي افقدنا مواصلة الحوار «ان حجم الاستهلاك وتنافس المنتجين وحرية السوق في المملكة العربية السعودية، سيجعل من الاعلان التجاري في المملكة العربية السعودية صناعة تقوم على المعرفة وتنأى عن الارتجال. كان الاعلان عن البضائع والخدمات يأتي من خلال صوت الباعة والمتجولين، فأصبح اليوم علما يدرس في الجامعات.. ارجو ان لا تقفوا في طريقي وسترون اني قد احسنت الاختيار». وكان لها ما ارادت. فما كادت تنهي دراستها الجامعية حتى تعاقدت معها احدى شركات الاعلان الكبرى براتب عالٍ.. والعديد من زميلاتها خريجات كليات (العلوم الانسانية) ما زلن ينتظرن فرص العمل في غدٍ افضل..
العلم يأتي إلينا كل يوم بجديد.. وعلم صناعة الاعلان اقرار بهذه الحقيقة واستجابة لمقتضياتها. والحياة في تطور مذهل سريع والعاقل من يلحق به، فلا تقف به المخاوف والاوهام في اول الطريق او عند منتصف الطريق.
وما يقال في ذلك عن الانسان يقال أيضا عن الدول. لقد ظلت مناهج التعليم العامل المؤثر الفاعل في اعداد المواطنين اعدادا يرقى بهم لعالم الابداع والانتاج، والمشاركة في صنع الحضارة الانسانية، او اعداد يحتفظ بهم رهينة الانغلاق على النفس والخوف من كل ما هو قادم وجديد.. وقد ادركت الدول الغربية، منذ البداية، هذه الحقيقة فاستثمرت في التعليم افضل ما اتيح له من الاسباب، ومنحته الدعم والمساعدة وحررته من قيود الخوف، وجعلت منه وسيلة لتحقيق المنجزات التي غيرت وجه العالم في ميادين العلوم والصناعة والاقتصاد. وكأني بمناهج التعليم في البلاد العربية ما تزال تصنع منا امة تعيش على استهلاك ما يصدره الغرب إلينا، ونحن في حال انبهار دائم مما يطلع به الغرب علينا كل يوم من انجاز جديد..