المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أي شارع عربي ( مقال للمفكر الاسلامي الدكتور حسن حنفي)



الدكتور عادل رضا
10-01-2004, 03:35 PM
يتساءل الجميع، في الداخل والخارج: أين الشارع العربي؟ ثلاثمائة وخمسون مليونا تصل إلي بليون في غضون عشرين عاما قبل أن يرحل هذا الجيل. وهل تقوم الملايين في العواصم والمدن الأوروبية عندما تتحرك الملايين في جنوة وفلورنسا وسياتيل وبراج وباريس ولندن بدور الشارع العربي دفاعا عن قضايا العرب في فلسطين والعراق وعن قضايا المسلمين في أفغانستان والشيشان وكشمير؟


ينتفض الشارع العربي بين الحين والآخر من أجل الخبز. ومعظم الهبات الشعبية في العقدين الأخيرين كانت من أجل الخبز في المغرب والجزائر وتونس والأردن ومصر. والبعض منها من أجل الحرية أثناء الغزو الأمريكي الأول علي العراق بسبب غزو الكويت وبعد الغزو الأمريكي الثاني علي العراق لإسقاط النظام. وأخيرا تحركت جماهير الشيعة منذ ثورة النجف الأولي حتي ثورة النجف الثانية ودخول آية الله السيستاني النجف مطالبا بالدخول وراءه حماية للعتبات المقدسة .

إذا ما تحرك الشارع العربي فإنه يشق طريقا ثالثا بين الحاكم والمحكوم لحقن الدماء سواء كان الحاكم المحتل الخارجي أو المتسلط الداخلي. فالملايين هي الأغلبية الصامتة التي يتلاعب بها الجميع، ويعيش علي سكونها ولامبالاتها وغيابها عن الساحة. مع أنها هي الحل. وهي القوة الكامنة في التاريخ. تعجز أشد أنواع الأسلحة الحديثة عن قهرها. يكفي الأجساد البشرية المتراصة التي يعجز حصدها. وهكذا قهر غاندي بملايين الهنود والمقاومة السلمية أقوي إمبراطورية في العالم. كما استطاعت ملايين طهران حصار نظام الشاه. بل لقد فاقت جماهير مدن المغرب العربي المليون عربي. وخرجت المظاهرات أثناء العدوان الأخير علي العراق في مناطق عربية لم تحدث فيها أن تحركت الجماهير فيها قبل ذلك باللباس الوطني. لقد تعود العالم علي رؤية الحكام لطول فترة الحكم التي بلغت ثلاثة عقود من الزمان عند البعض. ولم يروا المحكومين. فكان تعامل الخارج مع الحكام دون المحكومين باستثناء أصغر دولة عربية وهي لبنان حيث المحكوم فيها هو الحاكم.


وقد قيل في تفسير غياب الشارع العربي الكثير بين الثقافة الشعبية والثقافة السياسية. فقد ورث الشعب العربي ثقافة قدرية تدعو إلي أن الحل من الخارج، من القدر والزمان والدهر والتاريخ (لا تسبوا الله فإن الله هو الدهر). وقد قيل في هزيمة حزيران (يونيو) (لا يغني حذر من قدر) وكأن الهزيمة قدر مكتوب علي العرب. والغريب أن تكون الهزيمة مكتوبة والنصر غير مكتوب، وأن يكون الفقر مكتوبا والغني غير مكتوب، وأن يكون الرزق محدد من قبل في السماء وليس مكتسبا في الأرض، وأن السعادة والشقاء مقدران حتي قبل الولادة، (السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه)، وأن المتعوس لن يتغير حاله (المتعوس متعوس ولو علّقه علي راسه فانوس). فكل شيء يحدث للعرب قسمة ونصيباً.


وقد ولّدت القدرية في الثقافة الشعبية قدرة علي التحمل والصبر والانتظار لأن (الصبر مفتاح الفرج). وغنت الموواويل الشعبية فضيلة الصبر. فلا علاج للصبر إلا بكثرة الصبر بعد عجز الأطباء عن مداواة المرض بالطب الحديث. وامتلأت الأغاني الشعبية من كبار المطربين بفضيلة الصبر علي العذاب والهجران إلا القليل منها التي غنت (للصبر حدود). والقرآن نفسه يجعل الصبر فضيلة إذا كان استعدادا للمقاومة وتمهيدا للنصر. ومع ذلك يضع القرآن أيضا حدود للصبر وضرورة الصراخ (فما أصبرهم علي النار).


ثم تأتي الثقافة السياسية في نصف القرن الأخير منذ أن قام الضباط الأحرار بثوراتهم في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، وحلوا الأحزاب الشعبية التي تكونت عبر التاريخ، واحتكروا العمل السياسي، وأقصوا الحركات الإسلامية حتي عم الفراغ السياسي، ووثقت الجماهير بالقادة الجدد في صياغة المشروع العربي الجديد للاشتراكية والوحدة، وإن تأجلت قضية الحرية. فلما أجهض المشروع في حزيران (يونيو) 1967، وانقلب إلي مشروع مضاد منذ وفاة عبد الناصر في 1970، تعودت الجماهير علي السلبية تجاه الدولة. وأصبح الدهر هو الدولة (لا تسبوا الله فإن الله هو الدولة) كما عبرت إحدي شخصيات نجيب محفوظ في إحدي رواياته.


وبماذا ينفع التحرك الشعبي ولا يوجد تداول للسلطة سواء كان الحكم ملكيا أو جمهوريا، وإذا كانت نتيجة الانتخابات معروفة سلفا، نجاح الحزب الحاكم وسيطرته علي أغلب المقاعد باستثناء معارضة هامشية لاستكمال الشكل الديمقراطي؟ أخذت معظم القرارات في الحرب والسلام، والرأسمالية والاشتراكية كاختيار فردي للحاكم دون استشارة أحد. ولا يوجد إحساس عند المواطن أن صوته ذو أثر أو أن له قيمة في تغيير مجري الأحداث.


تعودت الجماهير علي أن الحل في يد الفرد، الحاكم المطلق، المخلِّص، الزعيم الذي اختاره القدر، المستبد العادل في ثقافة شعبية موروثة فيها تظهر الأنبياء، وتقود الشعوب، وتعود الأئمة بعد غياب طويل. وتزخر بذلك حياة الأبطال في السير الشعبية أبو زيد الهلالي، والزناتي خليفة، وعنتر، (ابن البلد عايزه ولد)، الفتوة بالنبوت في حارة الحرافيش كما صور نجيب محفوظ.


قد يكون الحل في الاعتماد علي الخارج، والانخراط في نظام العالم، والارتباط بالقوي الكبري، والعيش علي فتات الآخرين. فالعصر عصر عولمة، والعالم ذو القطب الواحد. وإعطاء الآخر أكثر مما يستحق، والذات أقل مما تستحق. تهويل قدرات الآخر، وتهوين قدرات الذات. والآخر نفسه ليس له صديق دائم إلا بقدر المنفعة. فإذا تغيرت المنافع، وتبدلت المصالح ترك الأخ الأكبر الإخوة الصغار. ويخسر الحاكم مرتين. الأولي عندما خسر شعبه إلي الأبد، بالاعتماد علي الخارج دون الداخل. والثانية عندما خسر الحليف الجديد البديل عن التحالف مع الشعب. ومن ثم يصبح الحاكم بلا دعامة في الداخل ولا دعم في الخارج ويكفي أقل قدر من هبة ريح كي يسقط كما تسقط ورقة الخريف وكما حدث للجنرال ديم في فيتنام قبل سقوط النظام وانتصار حركة التحرر الوطني بقيادة هوشي منه والجنرال جياب. وأمريكا وإسرائيل هما القوتان العظميان، تتعلق بهما النظم القاهرة في الداخل لتصبح تابعة للخارج، ومحاصرة بين المطرقة والسندان. وكلاهما مر. هما القوتان الظاهرتان لتكوين الإمبراطورية الأمريكية، وإسرائيل الكبري. وأوروبا مترددة تحافظ علي مصالحها. ولا تغامر بمعارضة جهورية للغرب الأمريكي وروسيا مغروزة في الشيشان. والشيشان من المسلمين. والمعارضة الشيشانية مع العرب الأفغان تقاوم الاحتلال. واليابان صاحبة مصلحة. والصين مازالت عملاقا قادما ترعي مصالحها أولا. والعالم الإسلامي مازال يترنح بين الحضور والغياب، وفي حالة بين اليقظة والنوم.


وقد يأتي الحل من تحت الأرض عندما تتمرد نخبة إسلامية أو ماركسية علي الوضع ولا تقوي علي الجهر به. فتكوّن حركات سرية وخلايا تحت الأرض، وتنشأ جهازا عصبيا قادر علي تحريك الجسد المتعب والمنهك، جسد الشعب بلا حراك. ولما كانت عيون الأمن في كل مكان فسرعان ما تفكك الخلايا، ويقدم النشطون إلي العدالة بتهمة الإعداد للانقلاب علي الحكم واستعمال العنف المسلح والتخابر مع جهة أجنبية لتشويه صورتها أمام الشعب وترويع الناس.
ويتساءل الكثيرون: ما العمل لتحريك الشارع العربي وأخذ الجماهير زمام أمورها بأيديها؟ ومن أين البداية؟ وهو سؤال طالما طرحه القادة: ما العمل؟ وأجاب عنه المفكرون: (من هنا نبدأ)، ورد آخرون (من هنا نعلم).


هل ينتفض الحاكم مرة ويفك حصاره كما صرخ الشاعر (فكوا حصاركم)؟ هل يكون مثل المهلهل بن أبي ربيعة بعد قتل أخيه كليب (اليوم خمر وغدا أمر)؟ هل يكر مع عنتر علي الأعداء وهو علي صهوة جواده؟ هل تحدث لأحدهم إفاقة كرامة من كثرة الطعان؟ ولا يكفي في ذلك استدعاء محمد مهاتير للتعلم منه والحكاية عن التجربة الماليزية والتصفيق له. هل يتحرك علماء الدين الأحرار كما تحرك الأفغاني وعبد الله النديم ومعه رواد النهضة الأوائل؟ فمازالت منزلتهم في أعين الناس كبيرة بالرغم من انتشار فقهاء السلطان. هل يعود الدين كحركة تحرر عربية ثانية بعد أن تولدت عنه حركة التحرر العربي الأولي وبعد أن تم إقصاء الحركات الإسلامية بين الحركتين في النصف الثاني من القرن العشرين؟ هل يعود قادة حركة التحرر العربي الأولي ليصححوا مسار التاريخ، ويعيدوا تأسيس النهضة الأولي التي أرساها آباؤهم وأجدادهم؟ هل تتحرك الجامعات العربية؟ فمازال الطلاب والمثقفون هم في الصف الأول في النضال السياسي يحملون هموم الفكر والوطن، ويرث المفكرون الأحرار الضباط الأحرار، يستمرون في مشروعهم القومي الاشتراكي، ويتجنبون أخطاء التسلط، ويحققون مطالب الحرية.


لقد طالب البعض بتحويل (جامعة الدول العربية) إلي (جامعة الشعوب العربية)، و(منظمة المؤتمر الإسلامي) إلي (منظمة الشعوب الإسلامية) حتي تخرج الجماهير عن وصايا الدول وتضارب الإرادات المتعارضة والمصالح المختلفة. وقد حاولت مؤتمرات الشعب العربي ذلك، سواء المؤتمر القومي أو المؤتمر القومي الإسلامي.


هل تقوم أحزاب المعارضة بهذا الدور علي الصعيدين الوطني والقومي؟ وقد تم من قبل تشكيل اتحاد الأحزاب التقدمية العربية. وهي أحزاب بلا جماهير، وبلا رؤية عن تحريك الجماهير. يكفيها شقة في وسط المدينة، وصحيفة مكبلة بالديون، تطبع في مطابع الدولة، وتتصور نفسها كسلطة بديلة أو سلطة متعاونة، وهيكل حزبي يتصارع كباره علي الفوز بمناصب القيادة فيه. يتحاورون فيما بينهم مع استبعاد إحدي القوي. وتفكر بمنطق السلطة أكثر مما تعمل كقوي معارضة. وتستقطب السلطة أجنحة منها وتشركها معها في مجالسها استئناسا لها.


بعض المنظمات الأهلية مازالت قادرة علي تحريك نسبي للشارع العربي، وتعلي صوت المعارضة والاحتجاج في الخارج أكثر من الداخل تنشيطا للمجتمع المدني. جماهيرها من المثقفين النشطين سياسيا. وهي قادرة علي تحريك الآلاف دون الملايين من الفلاحين والعمال التي مازالت تكوّن ثلاثة أرباع الجماهير العربية. وبقدر وجود القيادات الطلابية تغيب القيادات الفلاحية والعمالية حتي بعد أن أصبحت الحقول والمصانع لهم بعد الإصلاح الزراعي علي الفلاحين المعدمين ومشاركة العمال في الأرباح.


لم تبق إلا الأمهات والأطفال، الأمهات التي زاد عبء الإعالة عليها، والأطفال الذين يموتون بالآلاف في العراق ودارفور. لم يبق إلا الجسد العربي بلحمه ودمه أن ينزل إلي الشارع معبرا عن حجم الخسائر علي العرض والأرض. فالعرب أقوياء بملايين البشر قبل ملايين الثروة، بالجسد العربي وإن ضعفت الروح وقل الخيال. يبقي الحدث الكبير، الزلزال القادم بعد تضييق الخناق علي سوريا مرة لوجودها في لبنان، ومرة لمساعدتها المقاومة الفلسطينية ثم العراقية، ومرة لملف حقوق الإنسان. فتصبح سوريا هدفا للعدوان مثل العراق. وسوريا هي رئة الجسد العربي ومصر هي الرئة الثانية. ويلتف الحبل أيضا علي السودان، أولا لمعسكرات تدريب (الإرهاب)، وثانيا للحرب في الجنوب، وثالثا في دارفور. والقرارات الدولية تلف الحبل كل يوم تمهيدا للعدوان الأمريكي والمساندة الأوروبية، مع أن العدوان علي العراق لم يكن بحاجة إلي قرار دولي. قد يُجاب عن قريب علي سؤال: أين الشارع العربي؟ فقد تعبت النظم السياسية وأصبحت عبئا علي الشعب العربي. وقد تصبح عبئا علي الحليف الأجنبي عن قريب. قد تحدث هبة عامة في مدن العراق بعد أن بلغ الشهداء من المدنيين بالمئات كل يوم. وقد تعم الشهادة من الشهيد في فلسطين والعراق إلي الرغبة في الشهادة عند جموع الشعب العربي. إنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.