مجاهدون
10-01-2004, 12:53 AM
محمود شقير
الحياة
2004/09/22
أخيراً, ها أنذا في نصف الكرة الغربي. أجلس في مطار جون كنيدي في نيويورك, في انتظار الطائرة المغادرة إلى سانت لويس. لو عُرضت عليّ هذه الرحلة في زمن سابق, زمن المبالغة في الحماسة لكل ما هو إيديولوجي, لرفضتها! ها أنذا أقبل دعوة من منظمة أميركية تقع على النقيض من قناعاتي! فهل يعني هذا أنني تغيرت؟ بالتأكيد ثمة تغير, ولكن في أي اتجاه؟ هذا هو السؤال! أجلس ساكناً في المطار, أتأمل ما حولي بنوع من الهدوء, فأنا قادم من منطقة لا تعرف الهدوء. ثمة قتل ودماء في بلادي.
تصعد في السماء ببطء, شمس مجللة بقطع متناثرة من الغيوم. ثمة برودة غير محببة, وأشعة الشمس التي تخترق الواجهة الزجاجية العريضة لا تشي بأنها قادرة على تبديد البرودة. أجلس مرهقاً من ساعات الطيران التي قاربت إحدى عشرة ساعة, وأبدو متبلد الأحاسيس, لا أرى شيئاً مفاجئاً حتى هذه اللحظة! (كأن المفروض أن أجد المفاجآت أينما اتجهت! أو كأن المفروض أنني كولومبوس جديد!)
أنا الآن في أميركا. تتردد في ذهني نتف من أفكار وتصورات قديمة وجديدة, أقصيها لحظات وأنا أتابع امرأة فلسطينية في الأربعينات, تضع على رأسها منديلاً أبيض, وتتحدث الإنكليزية بطلاقة, تشع من عينيها علامات الذكاء والثقة بالنفس, (ربما ولدت بعد النكبة بعيداً عن قريتها أو مدينتها, وراحت تحاول بناء حياتها, فلم تجد بداً من الهجرة إلى أميركا) ومن حولها خمسة أولاد وبنتان, تتراوح أعمارهم بين العاشرة والعشرين.
هل هم جميعاً أبناؤها؟ ربما! وهم جميعاً يتحدثون اللغة الانكليزية بطلاقة, وفيهم من رشاقة أمهم وذكائها قدر ما. (أتذكر صادق جلال العظم وهو يعلق آمالاً على مسلمي أوروبا وأميركا, لعلهم يقدمون صورة جديدة حضارية عن الإسلام بسبب امتزاجهم بالحضارة الغربية وتشرب قيمها إضافة إلى قيمهم الأصلية) وثمة امرأة فلسطينية أخرى, في الثلاثينات من عمرها, لا تفتأ بين الحين والآخر, تنادي طفلها الذي يتفلت من بين يديها مبتعداً: تعال يا عمار! يتلفت بعض الإسرائيليين ممن كانوا على الطائرة نفسها, وها هم يجلسون في انتظار مواصلة الرحلة, يتلفتون نحو المرأة بفضول, لأن اسم ابنها كما يبدو يثير في نفوسهم هاجساً ما. والأم تواصل رفع صوتها منادية "عمار", طالبة منه عدم الابتعاد عنها. كان قصدها بريئاً بطبيعة الحال. تمتلئ الصالة بالمسافرين إلى سانت لويس.
خليط من البشر من مختلف الأعمار والألوان, وأنا لا أتوقف عن اجترار أفكار وتصورات غير مترابطة, والشمس ترسل أشعة فاترة من خلف الزجاج, ولا أعرف حتى هذه اللحظة ما الذي تفعله مدينة نيويورك في هذا الصباح المبكر. في أحد ممرات المطار, رأيت صورة لمبنى الأمم المتحدة, وتحته تعليق لم يجتذبني: تعال إلى الأمم المتحدة لترى كيف يُصنع السلام. ذكرني الإعلان بأن ثمة حروباً عدة تندلع الآن في عالمنا, من بينها الحرب التي تدور ضد الشعب الفلسطيني الأعزل, بشتى الوسائل والأشكال.
حتى الآن لم تتحرك في نفسي عناصر الدهشة, ربما لأنني لم أعد طفلاً ينبهر بالمدن والمطارات, وربما لأنني مللت كثرة السفر ودخول المطارات والخروج منها. ولكنها أميركا التي تأتي إليها الآن!
غرفة رقم 829
استيقظت في الخامسة والنصف صباحاً.
نمت عشر ساعات متواصلة. نهضت مبكراً على غير عادتي في الصباح.
أزحت ستارة النافذة, كانت الظلمة ما زالت تخيم على المكان. ثمة تلال خفيضة تحيط بالمبنى, تلال مليئة بأشجار حرجية متكاثفة, ونوافذ المبنى كلها سادرة في الظلمة والصمت, وليس ثمة سوى نافذة واحدة مضاءة لسبب لا أعرفه. كان المشهد الصامت السابح في العتمة مثيراً لمشاعري. أنا الآن على بعد آلاف الأميال من بيتي. تذكرت الرحلة الطويلة المتعبة: أربع عشرة ساعة من السفر في ثلاث طائرات. لم أجد أحداً ينتظرني في مطار سيدار رابيدس, لم أتفاجأ, فمثل هذا الأمر يحدث أحياناً. اتجهت إلى موظفة الاستعلامات في المطار, أعلنت الموظفة في المايكروفون عن وصولي. جاءت امرأة تعمل سائقة تاكسي ومعها قائمة بأسماء الكتاب الضيوف. كان اسمي بين الأسماء, نقلتني في سيارتها إلى سكن الطلاب والطالبات التابع لجامعة أيوا, واسمه "مي فلور" (زهرة أيار). استغرقت الرحلة من المطار إلى السكن خمساً وعشرين دقيقة. على جانبي الشارع تمتد مساحات من الحقول الخضراء وجمهرات الشجر. الطقس صيفي حار إلى حد ما والمنطقة هادئة, وكنت أردد في داخلي بين الحين والآخر: أخيراً, ها أنذا في أميركا, ولم يكن ذلك أمراً سيئاً.
جاء الرجل المكلف بانتظاري في المطار. التقاني في الطابق الأرضي من سكن الطلبة, وقال إنه انتظرني هناك. لم أناقشه في الأمر, إذ يبدو أنه وصل متأخراً إلى المطار ولم يجدني. أخذني إلى الغرفة التي تحمل الرقم 829 في الطابق الثامن من المبنى. كان المبنى مثل خلية نمل, فالطالبات والطلبة الذين عادوا إلى الجامعة بعد عطلة الصيف, ينقلون أمتعتهم إلى طوابق المبنى من دون توقف, بدا المشهد ممتعاً وشديد الحيوية.
رحت أتأمل الغرفة المخصصة لي, في الحقيقة هي أكثر من غرفة, غرفة ونصف إن أردنا الدقة: غرفة نوم وبجوارها غرفة أخرى صغيرة فيها مكتب مستطيل, من المتوقع أنني سأستخدمه للكتابة. في الغرفة سرير عادي, ذكرني بأيام الشباب حينما كنت أسكن وحيداً أثناء عملي مدرساً في القرى والمدن البعيدة عن بيت الأسرة, ولم يكن الأمر سيئاً, فثمة فرصة لتجديد شبابي وأنا في السابعة والخمسين من العمر, وكنت راغباً في ذلك. في الغرفة أيضاً, كرسي متحرك, تلفزيون ما زال محفوظاً في صندوق من الكرتون, بوفيه مكون من جوارير عدة, وخزانة في الحائط للملابس, وثمة مطبخ وحمام من المفترض أن ضيفاً آخر يسكن في الجانب الآخر من الشقة سيشارك فيهما, ولم يرق لي أمر هذه الشراكة.
كنت الضيف الأول الذي يصل إلى هذا المكان. أخبرني الرجل إياه أن عدد المدعوين هذا العام تسعة عشر كاتباً وكاتبة. (في سنوات سابقة كان العدد أكبر من هذا بكثير) دلني الرجل الى سوبرماركت في الطابق الأرضي من المبنى, ذهبت إليه, السوبرماركت خاص بصندوق الطلبة وهم الذين يديرون شؤونه. كان ثمة طالبات وطلاب يقومون بعمليات البيع. وجدت الأمر ممتعاً, وها أنذا أبدأ علاقات جديدة وبسيطة. اشتريت جبناً وخبزاً, اشتريت بسكويتاً وسكراً وموزاً, وعدت إلى الغرفة. رتبت ملابسي في الخزانة, ثم جلست لكي أستريح, وفي هذه الأثناء أكلت شيئاً من الخبز والجبن. هبطت مرة أخرى إلى السوبرماركت, اشتريت محارم ورقية ومياهاً معدنية للشرب وصابوناً. سأعيش في هذا المكان ثلاثة أشهر, شعرت بسرور ممزوج بشيء من الأسى الغامض, وقلت في نفسي: ليس ثمة سرور مكتمل! أو على الأقل, هذا ما يحدث لي غالباً.
سمعت طرقات خفيفة على الباب. كان ثمة شاب أسود البشرة, يحمل أوراقاً في يده, اعتقدت أنها أوراق يانصيب. تحدث الانكليزية بلكنة لم أفهم منها شيئاً, تظاهرت بأنني فهمت ما قاله, قلت له إنني لا أريد شيئاً. اعتذر ومضى. أغلقت الباب وشعرت بالقلق: كيف يستطيع شخص لا علاقة له بهذا المبنى أن يدخله بمثل هذه البساطة, ويصعد إلى الطابق الثامن من دون أن يعترض سبيله أحد؟ طافت بذهني الأخبار التي سمعتها من قبل عن لصوص المدن الأميركية. أقنعت نفسي بأن لا ضرورة للقلق, لأن النهب في مثل هذا المكان غير واقعي وغير ممكن. (أو على الأقل هذا ما ينبغي أن يكون)
ابتعدت عن النافذة, ولم أشأ الاستمرار في استعراض الوقائع الصغيرة التي صادفتني منذ وصولي يوم أمس إلى هذا المكان. أخذ الفجر يشق طريقه بسهولة فوق التلة المجاورة. حلقت ذقني واغتسلت, غليت ماء في الإبريق, جهزت لنفسي كأساً من البابونج. (أحضرت معي كمية كافية من البابونج والنعناع والمريمية! نظل قرويين مهما ابتعدنا!). لم أجد ملعقة صغيرة في المطبخ, سأستكمل مثل هذه الأشياء في ما بعد, ولم أكترث كثيراً للأمر, فأنا ساكن جديد. تناولت فطوراً بسيطاً: جبناً وخبزاً وبضع قطع من البسكويت.
الساعة تقترب من السابعة والنصف صباحاً. سأقرأ قصة قصيرة باللغة الانكليزية في كتاب اشتريته أمس من مطار سانت لويس, يتضمن عشرين قصة قصيرة أميركية, ثم أخرج لمقابلة المرأة المسؤولة عن برنامج الكتابة الدولي الذي جئت إلى هنا للمشاركة فيه.
شوربة فاشلة
عدت إلى غرفتي في الثانية والنصف بعد الظهر, تناولت وجبة خفيفة. حاولت أن أطبخ صحناً من الشوربة, كنت اشتريت كيساً فيه قطع صغيرة يابسة من الخبز, لكنني حينما وضعتها في الماء الساخن, تحولت إلى ما يشبه العجين, فلم تعجبني, تناولت منها بضع لقيمات ثم قذفت بالباقي في سلة المهملات.
غفوت قليلاً في السرير. سمعت طرقات على الباب, كانت ماري نازاريث المسؤولة عن البرنامج, برنامج الكتابة, تحمل بين يديها ملفات خاصة بالكتاب الضيوف, أعطتني الملف الخاص بي. قلت لها: أحب أن أكون وحيداً في هذا السكن. قلت: أحب العزلة, ولن أتمكن من الكتابة طالما كان هنالك شخص آخر في المكان. أبدت تجاوباً مع طلبي, نزعت اسم الكاتب القادم من غانا عن الباب, وثبتته على باب آخر في المكان الفسيح الذي يتسع لعدد كبير من الكتاب.
قبيل المساء, خرجت للتمشي في الشارع وفي متنزه الطاحونة المحاذي للسكن الجامعي. كانت حرارة الشمس قوية لاذعة, وثمة مجموعة من الطالبات والطلبة يشوون لحماً على النار, يلتهمونه بشهية, ويشربون البيبسي كولا ابتهاجاً ببدء العام الدراسي الجديد (أو هذا ما اعتقدته على أية حال). دعوني لتناول الطعام معهم, أكلت ساندويتشاً وأنا أستمع إلى أحاديثهم وأتبادل معهم حديثاً مقتضباً, لم يكن لديهم فضول زائد لكي يسألوني أية أسئلة, وربما شعروا بشيء من التحفظ لأنني لست مجايلاً لهم. شكرتهم على حسن الضيافة, ثم مضيت مبتعداً وأنا موقن أن للعمر أحكاماً لا يمكن التملص منها.
عدت إلى غرفتي. شاهدت التلفزيون, برامج خفيفة ومقابلات. (...) تبدو قضايا العالم باهتة على شاشة التلفاز, وثمة الكثير من الدعاية والكثير من الكلام الخفيف الذي لا يرسخ في الأذهان.
أولغا من روسيا
وصلت كاتبة من روسيا, وهي شابة اسمها أولغا, سكنت في الغرفة المجاورة لي مع كاتبة روسية أخرى. كانت أولغا لا تعرف من اللغة الانكليزية سوى بضع كلمات.
ذهبتُ إلى مبنى كلية اللغة الانكليزية, مشيت حوالى كيلومترين, شعرت بمتعة المشي وأنا أجيل النظر في خضرة الأشجار على جانبي الشارع, وفي البيوت الفاخرة المغتبطة بهدوئها, المحاطة بالأشجار وبالحدائق. قابلت الدكتورة كارولين براون, وهي امرأة تجاوزت الخمسين من عمرها كما قدرت, وجدتها غاطسة في مكتبها المليء بالأوراق والملفات, أخبرتني أنها قرأت القصتين المترجمتين إلى اللغة الانكليزية, اللتين أرسلتهما من قبل إلى الجامعة. قالت إنها أعجبت بالقصتين, ولم أجزم أنها لم تكن تجاملني. والتقيت هناك بإحدى المسؤولات عن البرنامج واسمها رووينا نوريفالس, وكذلك بزوجها, وهما من الفيليبين, لكنهما مواطنان أميركيان الآن. تبادلنا بضع كلمات وافترقنا.
ذهبتُ إلى مكتبة بريري لايتس وهي أهم مكتبة لبيع الكتب في أيوا, وتقع في مركز المدينة الصغيرة. اشتريت مجموعتين من القصص القصيرة جداً, واغتبطت بذلك لأنني أكتب القصة القصيرة جداً منذ سنوات, وما زلت أصطدم ببعض النقاد الذين لا يعترفون بهذا اللون من الكتابة القصصية. صعدت إلى مقهى تابع للمكتبة في الطابق الثاني. جلست هناك أكثر من ساعة, شربت علبة بيبسي كولا, وقرأت شيئاً حول القصة القصيرة جداً. فرحت حينما وجدت مقدمة أحد الكتابين تتحدث عن مواصفات القصة القصيرة جداً, وهي تنطبق بشكل أو بآخر على القصص التي كتبتها.
غادرت المقهى وتمشيت في شوارع المدينة. غالبية الذين يمشون في الشوارع هم طلاب وطالبات, نصف عدد سكان المدينة تقريباً هم من الطلبة الذين يأتون إلى جامعة أيوا من مختلف المدن الأميركية ومن بعض بلدان العالم. اشتريت بعض احتياجاتي من سوبرماركت تتوافر فيه كل لوازم البيت, وهو موجود في مجمع تجاري في مركز المدينة. صعدت إلى الطابق الثاني من المجمع, وجدت ثلاث قاعات للعروض السينمائية. اشتريت تذكرة ودخلت للتفرج على فيلم "شيء ما عن ماري", ويبدو أنني دخلت خطأ إلى فيلم آخر, فيلم بوليسي يعتمد على المؤثرات الضوئية والحركة الصاخبة والغموض. لم ألمس أي مضمون جدي في الفيلم, ومع ذلك, فثمة إشارة إلى احتمال اتهام شخص فلسطيني مقيم في الولايات المتحدة بالقيام بعملية إطلاق النار على ملاكم! حتى في هذا الميدان يُلاحَقُ الفلسطيني بالتهم!
منام... و3 ملايين كتاب
نمت حتى التاسعة والنصف صباحاً.
في الليل حلمت بأنني أقف في الساحة الواقعة أمام دارنا العتيقة التي يقيم فيها أبي الطاعن في السن ومعه أمي. وحلمت أن الحفيد "محمود" البالغ من العمر ست سنوات, يقف على السور المحاذي لمخزننا الشرقي, فتحت ذراعي لكي أتلقفه وهو يقفز من على السور في اتجاهي, فلم أتمكن من الإمساك به قبل أن يسقط على الأرض. صحوت من نومي متكدراً, أصابني الأرق بعض الوقت, أكثر شيء أخشاه أن يحدث مكروه لأحد أفراد العائلة, ما سيضطرني إلى قطع الرحلة والعودة إلى البيت. رحت أستعرض مرة أخرى حلمي المزعج, ولاحظت أن أحلامي الليلية تتخذ من الوطن مصدراً لها. (في ما بعد ستقول لي كانغ الكورية إن أحلامها تتخذ من موطنها ومن سيول بالذات مسرحاً لأحلامها التي يتم التعبير عنها باللغة الكورية!) بعد ساعة تقريباً عدت إلى النوم.
استيقظت على صوت دقات خفيفة على الباب.
أخبرتني ماري نازاريث أن الحافلة ستتحرك بعد عشرين دقيقة نحو الجامعة.
اغتسلت بسرعة, ولم أحلق ذقني. ارتديت ملابسي, ولم أتناول أي طعام.
للمرة الأولى, منذ جئنا إلى أيوا, نلتقي في إحدى قاعات الجامعة. كان ذلك بعد أيام قليلة من وصولي إلى هنا. تحدث عدد من العاملين في برنامج الكتابة الدولي, رحبوا بنا بأسلوب بسيط وحميم, ثم جاء دور الكتاب لكي يقدموا أنفسهم بكلمات قليلة. كنت المتحدث الأول, ربما لأنني أكبر الكتاب سناً. انتقدت تغييب اسم فلسطين من البطاقة التي سُلِّمتْ لي ووضعتها على صدري, فقد كتب في البطاقة تحت اسمي: الضفة الغربية. بعد ذلك أخذ اسمي يظهر مع اسم فلسطين.
تناولنا طعام الغداء في مطعم بالجامعة, وهناك أكملنا النقاش حول أنشطتنا اللاحقة. ثمة كاتب اسرائيلي مدعو للمشاركة في البرنامج اسمه ييغآل سيرنا, تبادلت وإياه بعد الغداء بضع كلمات ثم افترقنا, ولم أقصد أن أتخذ منه موقفاً سلبياً, وقد بدا معنياً بأن يتحدث معي من دون تكلف أو تحفظ. ذهبت إلى مكتبة الجامعة, انبهرت وأنا أرى مئات آلاف الكتب على الأرفف في القاعات الفسيحة. (في ما بعد قالت لي إحدى العاملات في المكتبة إنها تشتمل على ثلاثة ملايين كتاب) بقيت فيها حوالى ساعتين, قرأت شيئاً عن أدب الأطفال, وعن القصة القصيرة, وقرأت نصاً مسرحياً فكاهياً, ثم غادرت المكتبة وأنا واقع تحت تأثير موجة مفاجئة من الإحباط لا أدري كيف تسللت إلى صدري. (ربما أسهمت في ذلك, الكتب التي أحتاج إلى مئة سنة لقراءة جزء يسير منها) سرت على رصيف الشارع المؤدي إلى السكن الجامعي, تابعت السيارات الفاخرة وهي تجتاز الشارع وفي داخلها رجال ونساء, قدرت أنهم يكسبون عيشهم بسهولة ويسر, وأنهم مرتاحون في حياتهم, مطمئنون في بلادهم. عدت إلى غرفتي وشعرت بأنني وحيد, وآلمتني وحدتي.
مطر وانفجار وبندورة
لم يتوقف انهمار المطر طوال اليوم, مطر مدرار يهطل في عز الصيف!
فكرت في الذهاب إلى مركز المدينة بعد الظهر, غير أن المطر حال دون ذلك.
يقصف الرعد بشدة, وتهطل أمطار غزيرة. (في كارولينا الشمالية ثمة إعصار قوي). وقالت إحدى نشرات الأخبار إن انفجاراً وقع في تل أبيب. قرأت بعض القصص القصيرة باللغة الانكليزية, ثم كتــبت قصة قصـــيرة جداً.
جرحت إبهام يدي وأنا أقطع بالسكين حبة بندورة, وشعرت بالملل من تحضير الطعام وجلي الصحون, لكنني لم أغمط نفسي الاعتراف بأنني أحافظ على نظافة المطبخ. نزلت إلى السوبرماركت, اشتريت خبزاً وماء, وبطاقات من ورق مقوى لتدوين الملاحظات, ولكتابة القصص القصيرة جداً. اتصلت هاتفياً بابن أختي باسل المقيم في مدينة هيوستن. لم يكن في البيت, تركت له رقم هاتفي كي يتصل بي حينما يعود إلى البيت. هاتفت صديقي القديم محمد السلحوت, المقيم في هيوستن منذ سنوات طويلة, تبادلنا حديثاً خاطفاً حول ذكرياتنا المشتركة, دعاني إلى زيارة هيوستن, قبلت الدعوة وشكرته على ذلك.
الحياة
2004/09/22
أخيراً, ها أنذا في نصف الكرة الغربي. أجلس في مطار جون كنيدي في نيويورك, في انتظار الطائرة المغادرة إلى سانت لويس. لو عُرضت عليّ هذه الرحلة في زمن سابق, زمن المبالغة في الحماسة لكل ما هو إيديولوجي, لرفضتها! ها أنذا أقبل دعوة من منظمة أميركية تقع على النقيض من قناعاتي! فهل يعني هذا أنني تغيرت؟ بالتأكيد ثمة تغير, ولكن في أي اتجاه؟ هذا هو السؤال! أجلس ساكناً في المطار, أتأمل ما حولي بنوع من الهدوء, فأنا قادم من منطقة لا تعرف الهدوء. ثمة قتل ودماء في بلادي.
تصعد في السماء ببطء, شمس مجللة بقطع متناثرة من الغيوم. ثمة برودة غير محببة, وأشعة الشمس التي تخترق الواجهة الزجاجية العريضة لا تشي بأنها قادرة على تبديد البرودة. أجلس مرهقاً من ساعات الطيران التي قاربت إحدى عشرة ساعة, وأبدو متبلد الأحاسيس, لا أرى شيئاً مفاجئاً حتى هذه اللحظة! (كأن المفروض أن أجد المفاجآت أينما اتجهت! أو كأن المفروض أنني كولومبوس جديد!)
أنا الآن في أميركا. تتردد في ذهني نتف من أفكار وتصورات قديمة وجديدة, أقصيها لحظات وأنا أتابع امرأة فلسطينية في الأربعينات, تضع على رأسها منديلاً أبيض, وتتحدث الإنكليزية بطلاقة, تشع من عينيها علامات الذكاء والثقة بالنفس, (ربما ولدت بعد النكبة بعيداً عن قريتها أو مدينتها, وراحت تحاول بناء حياتها, فلم تجد بداً من الهجرة إلى أميركا) ومن حولها خمسة أولاد وبنتان, تتراوح أعمارهم بين العاشرة والعشرين.
هل هم جميعاً أبناؤها؟ ربما! وهم جميعاً يتحدثون اللغة الانكليزية بطلاقة, وفيهم من رشاقة أمهم وذكائها قدر ما. (أتذكر صادق جلال العظم وهو يعلق آمالاً على مسلمي أوروبا وأميركا, لعلهم يقدمون صورة جديدة حضارية عن الإسلام بسبب امتزاجهم بالحضارة الغربية وتشرب قيمها إضافة إلى قيمهم الأصلية) وثمة امرأة فلسطينية أخرى, في الثلاثينات من عمرها, لا تفتأ بين الحين والآخر, تنادي طفلها الذي يتفلت من بين يديها مبتعداً: تعال يا عمار! يتلفت بعض الإسرائيليين ممن كانوا على الطائرة نفسها, وها هم يجلسون في انتظار مواصلة الرحلة, يتلفتون نحو المرأة بفضول, لأن اسم ابنها كما يبدو يثير في نفوسهم هاجساً ما. والأم تواصل رفع صوتها منادية "عمار", طالبة منه عدم الابتعاد عنها. كان قصدها بريئاً بطبيعة الحال. تمتلئ الصالة بالمسافرين إلى سانت لويس.
خليط من البشر من مختلف الأعمار والألوان, وأنا لا أتوقف عن اجترار أفكار وتصورات غير مترابطة, والشمس ترسل أشعة فاترة من خلف الزجاج, ولا أعرف حتى هذه اللحظة ما الذي تفعله مدينة نيويورك في هذا الصباح المبكر. في أحد ممرات المطار, رأيت صورة لمبنى الأمم المتحدة, وتحته تعليق لم يجتذبني: تعال إلى الأمم المتحدة لترى كيف يُصنع السلام. ذكرني الإعلان بأن ثمة حروباً عدة تندلع الآن في عالمنا, من بينها الحرب التي تدور ضد الشعب الفلسطيني الأعزل, بشتى الوسائل والأشكال.
حتى الآن لم تتحرك في نفسي عناصر الدهشة, ربما لأنني لم أعد طفلاً ينبهر بالمدن والمطارات, وربما لأنني مللت كثرة السفر ودخول المطارات والخروج منها. ولكنها أميركا التي تأتي إليها الآن!
غرفة رقم 829
استيقظت في الخامسة والنصف صباحاً.
نمت عشر ساعات متواصلة. نهضت مبكراً على غير عادتي في الصباح.
أزحت ستارة النافذة, كانت الظلمة ما زالت تخيم على المكان. ثمة تلال خفيضة تحيط بالمبنى, تلال مليئة بأشجار حرجية متكاثفة, ونوافذ المبنى كلها سادرة في الظلمة والصمت, وليس ثمة سوى نافذة واحدة مضاءة لسبب لا أعرفه. كان المشهد الصامت السابح في العتمة مثيراً لمشاعري. أنا الآن على بعد آلاف الأميال من بيتي. تذكرت الرحلة الطويلة المتعبة: أربع عشرة ساعة من السفر في ثلاث طائرات. لم أجد أحداً ينتظرني في مطار سيدار رابيدس, لم أتفاجأ, فمثل هذا الأمر يحدث أحياناً. اتجهت إلى موظفة الاستعلامات في المطار, أعلنت الموظفة في المايكروفون عن وصولي. جاءت امرأة تعمل سائقة تاكسي ومعها قائمة بأسماء الكتاب الضيوف. كان اسمي بين الأسماء, نقلتني في سيارتها إلى سكن الطلاب والطالبات التابع لجامعة أيوا, واسمه "مي فلور" (زهرة أيار). استغرقت الرحلة من المطار إلى السكن خمساً وعشرين دقيقة. على جانبي الشارع تمتد مساحات من الحقول الخضراء وجمهرات الشجر. الطقس صيفي حار إلى حد ما والمنطقة هادئة, وكنت أردد في داخلي بين الحين والآخر: أخيراً, ها أنذا في أميركا, ولم يكن ذلك أمراً سيئاً.
جاء الرجل المكلف بانتظاري في المطار. التقاني في الطابق الأرضي من سكن الطلبة, وقال إنه انتظرني هناك. لم أناقشه في الأمر, إذ يبدو أنه وصل متأخراً إلى المطار ولم يجدني. أخذني إلى الغرفة التي تحمل الرقم 829 في الطابق الثامن من المبنى. كان المبنى مثل خلية نمل, فالطالبات والطلبة الذين عادوا إلى الجامعة بعد عطلة الصيف, ينقلون أمتعتهم إلى طوابق المبنى من دون توقف, بدا المشهد ممتعاً وشديد الحيوية.
رحت أتأمل الغرفة المخصصة لي, في الحقيقة هي أكثر من غرفة, غرفة ونصف إن أردنا الدقة: غرفة نوم وبجوارها غرفة أخرى صغيرة فيها مكتب مستطيل, من المتوقع أنني سأستخدمه للكتابة. في الغرفة سرير عادي, ذكرني بأيام الشباب حينما كنت أسكن وحيداً أثناء عملي مدرساً في القرى والمدن البعيدة عن بيت الأسرة, ولم يكن الأمر سيئاً, فثمة فرصة لتجديد شبابي وأنا في السابعة والخمسين من العمر, وكنت راغباً في ذلك. في الغرفة أيضاً, كرسي متحرك, تلفزيون ما زال محفوظاً في صندوق من الكرتون, بوفيه مكون من جوارير عدة, وخزانة في الحائط للملابس, وثمة مطبخ وحمام من المفترض أن ضيفاً آخر يسكن في الجانب الآخر من الشقة سيشارك فيهما, ولم يرق لي أمر هذه الشراكة.
كنت الضيف الأول الذي يصل إلى هذا المكان. أخبرني الرجل إياه أن عدد المدعوين هذا العام تسعة عشر كاتباً وكاتبة. (في سنوات سابقة كان العدد أكبر من هذا بكثير) دلني الرجل الى سوبرماركت في الطابق الأرضي من المبنى, ذهبت إليه, السوبرماركت خاص بصندوق الطلبة وهم الذين يديرون شؤونه. كان ثمة طالبات وطلاب يقومون بعمليات البيع. وجدت الأمر ممتعاً, وها أنذا أبدأ علاقات جديدة وبسيطة. اشتريت جبناً وخبزاً, اشتريت بسكويتاً وسكراً وموزاً, وعدت إلى الغرفة. رتبت ملابسي في الخزانة, ثم جلست لكي أستريح, وفي هذه الأثناء أكلت شيئاً من الخبز والجبن. هبطت مرة أخرى إلى السوبرماركت, اشتريت محارم ورقية ومياهاً معدنية للشرب وصابوناً. سأعيش في هذا المكان ثلاثة أشهر, شعرت بسرور ممزوج بشيء من الأسى الغامض, وقلت في نفسي: ليس ثمة سرور مكتمل! أو على الأقل, هذا ما يحدث لي غالباً.
سمعت طرقات خفيفة على الباب. كان ثمة شاب أسود البشرة, يحمل أوراقاً في يده, اعتقدت أنها أوراق يانصيب. تحدث الانكليزية بلكنة لم أفهم منها شيئاً, تظاهرت بأنني فهمت ما قاله, قلت له إنني لا أريد شيئاً. اعتذر ومضى. أغلقت الباب وشعرت بالقلق: كيف يستطيع شخص لا علاقة له بهذا المبنى أن يدخله بمثل هذه البساطة, ويصعد إلى الطابق الثامن من دون أن يعترض سبيله أحد؟ طافت بذهني الأخبار التي سمعتها من قبل عن لصوص المدن الأميركية. أقنعت نفسي بأن لا ضرورة للقلق, لأن النهب في مثل هذا المكان غير واقعي وغير ممكن. (أو على الأقل هذا ما ينبغي أن يكون)
ابتعدت عن النافذة, ولم أشأ الاستمرار في استعراض الوقائع الصغيرة التي صادفتني منذ وصولي يوم أمس إلى هذا المكان. أخذ الفجر يشق طريقه بسهولة فوق التلة المجاورة. حلقت ذقني واغتسلت, غليت ماء في الإبريق, جهزت لنفسي كأساً من البابونج. (أحضرت معي كمية كافية من البابونج والنعناع والمريمية! نظل قرويين مهما ابتعدنا!). لم أجد ملعقة صغيرة في المطبخ, سأستكمل مثل هذه الأشياء في ما بعد, ولم أكترث كثيراً للأمر, فأنا ساكن جديد. تناولت فطوراً بسيطاً: جبناً وخبزاً وبضع قطع من البسكويت.
الساعة تقترب من السابعة والنصف صباحاً. سأقرأ قصة قصيرة باللغة الانكليزية في كتاب اشتريته أمس من مطار سانت لويس, يتضمن عشرين قصة قصيرة أميركية, ثم أخرج لمقابلة المرأة المسؤولة عن برنامج الكتابة الدولي الذي جئت إلى هنا للمشاركة فيه.
شوربة فاشلة
عدت إلى غرفتي في الثانية والنصف بعد الظهر, تناولت وجبة خفيفة. حاولت أن أطبخ صحناً من الشوربة, كنت اشتريت كيساً فيه قطع صغيرة يابسة من الخبز, لكنني حينما وضعتها في الماء الساخن, تحولت إلى ما يشبه العجين, فلم تعجبني, تناولت منها بضع لقيمات ثم قذفت بالباقي في سلة المهملات.
غفوت قليلاً في السرير. سمعت طرقات على الباب, كانت ماري نازاريث المسؤولة عن البرنامج, برنامج الكتابة, تحمل بين يديها ملفات خاصة بالكتاب الضيوف, أعطتني الملف الخاص بي. قلت لها: أحب أن أكون وحيداً في هذا السكن. قلت: أحب العزلة, ولن أتمكن من الكتابة طالما كان هنالك شخص آخر في المكان. أبدت تجاوباً مع طلبي, نزعت اسم الكاتب القادم من غانا عن الباب, وثبتته على باب آخر في المكان الفسيح الذي يتسع لعدد كبير من الكتاب.
قبيل المساء, خرجت للتمشي في الشارع وفي متنزه الطاحونة المحاذي للسكن الجامعي. كانت حرارة الشمس قوية لاذعة, وثمة مجموعة من الطالبات والطلبة يشوون لحماً على النار, يلتهمونه بشهية, ويشربون البيبسي كولا ابتهاجاً ببدء العام الدراسي الجديد (أو هذا ما اعتقدته على أية حال). دعوني لتناول الطعام معهم, أكلت ساندويتشاً وأنا أستمع إلى أحاديثهم وأتبادل معهم حديثاً مقتضباً, لم يكن لديهم فضول زائد لكي يسألوني أية أسئلة, وربما شعروا بشيء من التحفظ لأنني لست مجايلاً لهم. شكرتهم على حسن الضيافة, ثم مضيت مبتعداً وأنا موقن أن للعمر أحكاماً لا يمكن التملص منها.
عدت إلى غرفتي. شاهدت التلفزيون, برامج خفيفة ومقابلات. (...) تبدو قضايا العالم باهتة على شاشة التلفاز, وثمة الكثير من الدعاية والكثير من الكلام الخفيف الذي لا يرسخ في الأذهان.
أولغا من روسيا
وصلت كاتبة من روسيا, وهي شابة اسمها أولغا, سكنت في الغرفة المجاورة لي مع كاتبة روسية أخرى. كانت أولغا لا تعرف من اللغة الانكليزية سوى بضع كلمات.
ذهبتُ إلى مبنى كلية اللغة الانكليزية, مشيت حوالى كيلومترين, شعرت بمتعة المشي وأنا أجيل النظر في خضرة الأشجار على جانبي الشارع, وفي البيوت الفاخرة المغتبطة بهدوئها, المحاطة بالأشجار وبالحدائق. قابلت الدكتورة كارولين براون, وهي امرأة تجاوزت الخمسين من عمرها كما قدرت, وجدتها غاطسة في مكتبها المليء بالأوراق والملفات, أخبرتني أنها قرأت القصتين المترجمتين إلى اللغة الانكليزية, اللتين أرسلتهما من قبل إلى الجامعة. قالت إنها أعجبت بالقصتين, ولم أجزم أنها لم تكن تجاملني. والتقيت هناك بإحدى المسؤولات عن البرنامج واسمها رووينا نوريفالس, وكذلك بزوجها, وهما من الفيليبين, لكنهما مواطنان أميركيان الآن. تبادلنا بضع كلمات وافترقنا.
ذهبتُ إلى مكتبة بريري لايتس وهي أهم مكتبة لبيع الكتب في أيوا, وتقع في مركز المدينة الصغيرة. اشتريت مجموعتين من القصص القصيرة جداً, واغتبطت بذلك لأنني أكتب القصة القصيرة جداً منذ سنوات, وما زلت أصطدم ببعض النقاد الذين لا يعترفون بهذا اللون من الكتابة القصصية. صعدت إلى مقهى تابع للمكتبة في الطابق الثاني. جلست هناك أكثر من ساعة, شربت علبة بيبسي كولا, وقرأت شيئاً حول القصة القصيرة جداً. فرحت حينما وجدت مقدمة أحد الكتابين تتحدث عن مواصفات القصة القصيرة جداً, وهي تنطبق بشكل أو بآخر على القصص التي كتبتها.
غادرت المقهى وتمشيت في شوارع المدينة. غالبية الذين يمشون في الشوارع هم طلاب وطالبات, نصف عدد سكان المدينة تقريباً هم من الطلبة الذين يأتون إلى جامعة أيوا من مختلف المدن الأميركية ومن بعض بلدان العالم. اشتريت بعض احتياجاتي من سوبرماركت تتوافر فيه كل لوازم البيت, وهو موجود في مجمع تجاري في مركز المدينة. صعدت إلى الطابق الثاني من المجمع, وجدت ثلاث قاعات للعروض السينمائية. اشتريت تذكرة ودخلت للتفرج على فيلم "شيء ما عن ماري", ويبدو أنني دخلت خطأ إلى فيلم آخر, فيلم بوليسي يعتمد على المؤثرات الضوئية والحركة الصاخبة والغموض. لم ألمس أي مضمون جدي في الفيلم, ومع ذلك, فثمة إشارة إلى احتمال اتهام شخص فلسطيني مقيم في الولايات المتحدة بالقيام بعملية إطلاق النار على ملاكم! حتى في هذا الميدان يُلاحَقُ الفلسطيني بالتهم!
منام... و3 ملايين كتاب
نمت حتى التاسعة والنصف صباحاً.
في الليل حلمت بأنني أقف في الساحة الواقعة أمام دارنا العتيقة التي يقيم فيها أبي الطاعن في السن ومعه أمي. وحلمت أن الحفيد "محمود" البالغ من العمر ست سنوات, يقف على السور المحاذي لمخزننا الشرقي, فتحت ذراعي لكي أتلقفه وهو يقفز من على السور في اتجاهي, فلم أتمكن من الإمساك به قبل أن يسقط على الأرض. صحوت من نومي متكدراً, أصابني الأرق بعض الوقت, أكثر شيء أخشاه أن يحدث مكروه لأحد أفراد العائلة, ما سيضطرني إلى قطع الرحلة والعودة إلى البيت. رحت أستعرض مرة أخرى حلمي المزعج, ولاحظت أن أحلامي الليلية تتخذ من الوطن مصدراً لها. (في ما بعد ستقول لي كانغ الكورية إن أحلامها تتخذ من موطنها ومن سيول بالذات مسرحاً لأحلامها التي يتم التعبير عنها باللغة الكورية!) بعد ساعة تقريباً عدت إلى النوم.
استيقظت على صوت دقات خفيفة على الباب.
أخبرتني ماري نازاريث أن الحافلة ستتحرك بعد عشرين دقيقة نحو الجامعة.
اغتسلت بسرعة, ولم أحلق ذقني. ارتديت ملابسي, ولم أتناول أي طعام.
للمرة الأولى, منذ جئنا إلى أيوا, نلتقي في إحدى قاعات الجامعة. كان ذلك بعد أيام قليلة من وصولي إلى هنا. تحدث عدد من العاملين في برنامج الكتابة الدولي, رحبوا بنا بأسلوب بسيط وحميم, ثم جاء دور الكتاب لكي يقدموا أنفسهم بكلمات قليلة. كنت المتحدث الأول, ربما لأنني أكبر الكتاب سناً. انتقدت تغييب اسم فلسطين من البطاقة التي سُلِّمتْ لي ووضعتها على صدري, فقد كتب في البطاقة تحت اسمي: الضفة الغربية. بعد ذلك أخذ اسمي يظهر مع اسم فلسطين.
تناولنا طعام الغداء في مطعم بالجامعة, وهناك أكملنا النقاش حول أنشطتنا اللاحقة. ثمة كاتب اسرائيلي مدعو للمشاركة في البرنامج اسمه ييغآل سيرنا, تبادلت وإياه بعد الغداء بضع كلمات ثم افترقنا, ولم أقصد أن أتخذ منه موقفاً سلبياً, وقد بدا معنياً بأن يتحدث معي من دون تكلف أو تحفظ. ذهبت إلى مكتبة الجامعة, انبهرت وأنا أرى مئات آلاف الكتب على الأرفف في القاعات الفسيحة. (في ما بعد قالت لي إحدى العاملات في المكتبة إنها تشتمل على ثلاثة ملايين كتاب) بقيت فيها حوالى ساعتين, قرأت شيئاً عن أدب الأطفال, وعن القصة القصيرة, وقرأت نصاً مسرحياً فكاهياً, ثم غادرت المكتبة وأنا واقع تحت تأثير موجة مفاجئة من الإحباط لا أدري كيف تسللت إلى صدري. (ربما أسهمت في ذلك, الكتب التي أحتاج إلى مئة سنة لقراءة جزء يسير منها) سرت على رصيف الشارع المؤدي إلى السكن الجامعي, تابعت السيارات الفاخرة وهي تجتاز الشارع وفي داخلها رجال ونساء, قدرت أنهم يكسبون عيشهم بسهولة ويسر, وأنهم مرتاحون في حياتهم, مطمئنون في بلادهم. عدت إلى غرفتي وشعرت بأنني وحيد, وآلمتني وحدتي.
مطر وانفجار وبندورة
لم يتوقف انهمار المطر طوال اليوم, مطر مدرار يهطل في عز الصيف!
فكرت في الذهاب إلى مركز المدينة بعد الظهر, غير أن المطر حال دون ذلك.
يقصف الرعد بشدة, وتهطل أمطار غزيرة. (في كارولينا الشمالية ثمة إعصار قوي). وقالت إحدى نشرات الأخبار إن انفجاراً وقع في تل أبيب. قرأت بعض القصص القصيرة باللغة الانكليزية, ثم كتــبت قصة قصـــيرة جداً.
جرحت إبهام يدي وأنا أقطع بالسكين حبة بندورة, وشعرت بالملل من تحضير الطعام وجلي الصحون, لكنني لم أغمط نفسي الاعتراف بأنني أحافظ على نظافة المطبخ. نزلت إلى السوبرماركت, اشتريت خبزاً وماء, وبطاقات من ورق مقوى لتدوين الملاحظات, ولكتابة القصص القصيرة جداً. اتصلت هاتفياً بابن أختي باسل المقيم في مدينة هيوستن. لم يكن في البيت, تركت له رقم هاتفي كي يتصل بي حينما يعود إلى البيت. هاتفت صديقي القديم محمد السلحوت, المقيم في هيوستن منذ سنوات طويلة, تبادلنا حديثاً خاطفاً حول ذكرياتنا المشتركة, دعاني إلى زيارة هيوستن, قبلت الدعوة وشكرته على ذلك.