عباس الابيض
09-02-2010, 12:48 PM
http://www.aljarida.com/AlJarida/Resources/ArticlesPictures/2010/09/02/174954_3-(9)_small.jpg
د. عمار علي حسن - الجريدة
حين يُطرح التجديد في الإسلام على أنه استلهام الروح الثورية في هذا الدين، والتي تجعله قادراً على أن يحارب دوماً التخاذل والتراخي والهوان، ويسعى باستمرار إلى تأكيد حرية الإنسان وكرامته، فلا يمكن أن ينبو أي تناول من هذه الزاوية عن السيد جمال الدين الأفغاني، الرجل الذي كان يجلس على مقهى متاتيا في قلب القاهرة يوزع السعوط بيمناه والثورة بيسراه، حسبما ذكر أحمد بهاء الدين في كتابه المهم «أيام لها تاريخ».
كان الأفغاني يجلس وحوله كوكبة ممن حملوا لواء الثورة والنهضة في مصر آنذاك، من أمثال سعد زغلول ومحمد عبده وقاسم أمين، فقاد الأول الثورة السياسية، وقاد الثاني ثورة في التعليم والتربية والتثقيف وتجديد الفقه والفكر الإسلامي، وقاد الثالث ثورة اجتماعية عبر كتابيه الأثيرين «تحرير المرأة» و{المرأة الجديدة».
ولد السيد جمال الدين الأفغاني في (شعبان 1254هـ والذي يوافق أكتوبر 1838م)، لأسرة أفغانية عريقة ينتهي نسبها إلى الحسين بن علي، رضي الله عنه. وشب الأفغاني عن الطوق في كابول عاصمة أفغانستان. وتلقى دروسًا في تعلم اللغتين العربية والفارسية، ودرس القرآن الكريم وشيئًا من الفقه والتفسير وعلم الكلام، وعندما بلغ الثامنة عشرة أتمَّ دراسته للعلوم الإسلامية، ثم سافر إلى الهند لدراسة بعض العلوم العصرية.
ولم تقف رحلة الأفغاني العلمية والدينية عند هذا الحد، بل سافر قاصداً الحجاز وهو في التاسعة عشرة لأداء فريضة الحج، وكان ذلك في سنة (1273هـ ـ 1857م)، ثم رجع إلى أفغانستان، ليتقلَّد إحدى الوظائف الحكومية، وظلَّ طوال حياته حريصًا على العلم والتعلم. لكن الوظيفة لم تمنعه من الاستمرار في طلب العلم والمعرفة، حيث شرع في تعلم الفرنسية وهو في سن متقدمة، وبذل جهدًا مضنيًا، ولم ييأس حتى ألم بجوانبها، وبات قادرًا على استخدامها بطريقة جيدة.
لكن السياسة كانت الرافد الثاني الذي يستمد منه الأفغاني تجربته، وكان لها أثر كبير على مسيرة حياته. وكان ينحاز إلى الأمير محمد أعظم خان وزير الدولة في مواجهة سائر الأمراء، والذي وقع في صدام عميق ضد المحتل الإنكليزي، فاضطر الأفغاني إلى أن يشد الرحال عن مسقط رأسه، سنة (1285هـ - 1868م) قاصدًا مصر. وفي طريقه مرَّ بالهند، ومكث فيها فترة قليلة. أما في القاهرة فقد أقام مدة كانت من أثرى فترات حياته.
نداء السفر
تردد الأفغاني على الأزهر الشريف، وقابل علماء كثر، اختلف مع بعضهم ولم يرق له نهجهم واتفق مع آخرين، وتعرف الناس إليه، فقصدوا بيته، الذي صار مزارًا لكثير من الطلاب والدارسين، خصوصاً الشوام. ولم يلبث أن ناداه السفر مجدداً فغادر القاهرة قاصدًا الأستانة في عهد الصدر عال باشا، فعظم أمره بها، وذاع صيته وبلغت شهرته الآفاق، وصار أحد المقربين من السلطان. وأعطته هذه القربى فرصة طيبة لطرح مشروعه للإصلاح والتجديد، وانطلق يبث أفكاره ويجد لها صدى واسعًا لدى قطاعات عريضة من النخبة العثمانية. ووصل تأثيره في هذا المضمار إلى درجة أن بلنت الإنكليزي المعروف قال في شهادة دالة على جهد الأفغاني: «سعي العثمانيين في تحويل دولتهم إلى دستورية في بادئ الأمر قد ينسب إلى شيء من تأثير جمال الدين، فقد أقام في عاصمتهم يحاورهم ويخطب فيهم».
ولأن دوام الحال من المحال فقد لقي الأفغاني عنتًا من البعض، لا سيما من حسدوه على موقعه ومكانته ومن رأوا فيه خطرًا عليهم. وزاد هذا الاتجاه بعد تعيينه عضوًا في مجلس المعارف الأعلى، حيث لقي معارضة وهجومًا من بعض علماء الأستانة وخطباء المساجد الذين لم يرق لهم كثيراً من آرائه وأقواله؛ فترك الأستانة وذهب إلى مصر، فرحب به أهلها، الأمر الذي شجعه على البقاء فيها، وجذب الساسة والمثقفين وعلماء الدين حوله.
استتب الوضع للأفغاني ثماني سنوات في مصر إلى درجة أنه شرع في التدخل في سياسة البلاد، فدعا الشعب إلى ضرورة أن يكافح لتحسين الشروط السياسية، وتنظيم أمور الحكم، والثورة على المستعمر الإنكليزي، الأمر الذي أوغر عليه صدر ولاة الأمر، فتوجسوا منه خيفة، ودعوا الناس إلى الانفضاض من حوله.
وغضب الإنكليز من مقالاته، فلما تولى الخديوي توفيق باشا حكم البلاد أمر بإخراجه من مصر، فرحل الأفغاني إلى الهند سنة (1296هـ - 1879م)، ومنها إلى لندن، قبل أن يستقر به المقام في باريس، التي التقى فيها الإمام محمد عبده، وأصدرا معًا جريدة «العروة الوثقى»، لكنها ما لبثت أن توقفت عن الصدور بعد أن أوصدت أمامها أبواب كل من مصر والسودان والهند. لكن الأفغاني لم يتوقف عن الكتابة في السياسة، فكانت صحف باريس منبرًا لمقالاته السياسية اللاذعة التي أوسع فيها المستعمر الإنكليزي نقدًا.
دوره في مصر
يُنظر إلى جمال الدين الأفغاني باعتباره صاحب فضل كبير على نهضة العلوم والآداب في مصر، وساعده على ذلك أنه جاء إلى أرض الكنانة فوجد فيها الأزهر، والمعاهد العلمية الحديثة التي بدأت منذ عهد محمد علي. وثمة من يرى أن الأفغاني بما اتصف به من أخلاق عالية، أخذ يبث في النفوس روح العزة والشهامة، ويحارب روح الذلة والاستكانة، فكان بنفسيته ودروسه وأحاديثه، ومناهجه في الحياة، مدرسة أخلاقية، رفعت من مستوى النفوس في مصر، وكانت على الزمن من العوامل الفاعلة للتحول الذي بدا على الأمة وانتقالها من حالة الخضوع والاستكانة إلى التطلع للحرية والتبرم بنظام الحكم القديم ومساوئه، والسخط على تدخل الدول في شؤون البلاد.
نُفي جمال الدين من مصر، لكن روحه وتعاليمه تركت أثرها في المجتمع المصري وبقيت النفوس ثائرة تتطلع إلى نظام الحكم، وإقامته على دعائم الحرية والشورى، فجمال الدين هو، روحيًّا وفكريًّا، أبو الثورة العرابية، وكثير من أقطابها هم من تلامذته أو مريديه، والثورة في ذاتها هي استمرار للحركة السياسية التي كان له الفضل الكبير في ظهورها خلال عهد إسماعيل ، ولو بقي في مصر حين نشوب الثورة لكان جائزًا أمدَّها بآرائه الحكيمة، وتجاربه الرشيدة ، فلا يغلب عليها الخطل والشطط، ولكن شاءت الأقدار، والدسائس الإنكليزية، أن ينفى السيد من مصر، وهي أحوج ما تكون إلى الانتفاع بحكمته وصدق نظره في الأمور. وأقام المترجم في حيدر أباد الدكن، حيث كتب رسالته في الرد على الدهريين، وألزمته الحكومة البريطانية بالبقاء في الهند إلى أن انقضى أمر الثورة العرابية.
وكان لجمال الدين الأفغاني دور كبير في قضية الإصلاح، سواء الديني منه أو السياسي، وهنا يقول حلبي: «كانت الدعوة إلى القرآن الكريم والتبشير به أكبر ما طمح إليه الأفغاني في حياته، وكان يرى أن القاعدة الأساسية للإصلاح وتيسير الدين للدعوة هي الاعتماد على القرآن الكريم، ويقول: «القرآن إحدى أكبر الوسائل في لفت نظر الإفرنج إلى حسن الإسلام، فهو يدعوهم بلسان حاله إليه. لكنهم يرون حالة المسلمين من خلال القرآن فيقعدون عن اتباعه والإيمان به». فالقرآن وحده سبب الهداية وأساس الإصلاح، والسبيل إلى نهضة الأمة: «وإحدى مزايا القرآن أن العرب قبل إنزال القرآن عليهم كانوا في حالة همجية لا توصف؛ فلم يمض عليهم قرن ونصف القرن حتى ملكوا عالم زمانهم، وفاقوا أمم الأرض سياسة وعلمًا وفلسفة وصناعة وتجارة»... فالإصلاح الديني لا يقوم إلا على القرآن وحده أولاً، ثم فهمه فهمًا صحيحًا حرًا، وذلك يكون بتهذيب علومنا الموصلة إليه، وتمهيد الطريق إليها، وتقريبها إلى أذهان متناوليها».
جدل الإصلاح
أما عن الإصلاح التربوي والسياسي، فيعود الجدل داخل الحركة الإسلامية حول زمنيته، أو الوقت الذي من المفترض أن يستغرقه، إلى نهاية القرن التاسع عشر، حيث اللحظة التي ولدت فيها حركة الإحياء الإسلامي، على كفي جمال الدين الأفغاني، وتلميذه محمد عبده. فالأول كان يؤمن بأن الإصلاح يمكن تحصيله في التو، شرط العمل لأجل بلوغه، أما الثاني فرأى أن الإصلاح عملية متدرجة، تتحقق بعد مدة، لذا هادن الاستعمار الإنكليزي، خارجًا على ثورية أستاذه الذي نادى بالكفاح ضد الاحتلال. وخالف عبده الزعيم أحمد عرابي الرأي حول التحول إلى الحكم النيابي الدستوري، محبذًا البدء بالتربية والتعليم لتكوين رجال قادرين على القيام بأعباء الحكم النيابي، وتعويد الناس على البحث في المصالح العامة، بما يقود في نهاية المطاف إلى حمل الحكام على العدل والإصلاح. وقد فصل الأستاذ طهاري محمد، في هذه النقطة في ثنايا كتابه: «مفهوم الإصلاح بين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده».
وبلور عبده، بشكل أكثر جلاء، رؤيته المنحازة إلى التدرج في الإصلاح في طلبه من الأفغاني، وهما في باريس عام 1883، أن يذهبا سويًّا إلى مكان غير خاضع لسلطان دولة تعرقل مشروعهما الإصلاحي، ليؤسسا مدرسة للزعماء، يختارا تلامذتها من الأقطار الإسلامية، ويقوما بتربيتهم لمدة معينة، يصبحون بعدها مؤهلين لقيادة الإصلاح في بلدانهم. وقد شرح هذا الرأي الأستاذ عباس محمود العقاد، في كتابه المهم «عبقري الإصلاح والتعليم الإمام محمد عبده». لكن الأفغاني، الذي كان سياسيًّا واقعيًّا، رفض هذه الفكرة «الطوباوية»، والتي أعيد إنتاجها، بشكل مختلف، ولمقصد مغاير، داخل الحركة الإسلامية الراديكالية في مصر، خصوصاً لدى تنظيم «جماعة المسلمين»، المعروف إعلاميًّا باسم التكفير والهجرة، وهي في الأحوال كافة تتأسس على تأويل ذاتي لحدث الهجرة النبوية الشريفة، ينزعه من سياقه التاريخي والاجتماعي.
بين الأفغاني وعبده
ما بين الأفغاني وعبده من اختلاف في تقدير زمنية الإصلاح يعود في نظر العقاد إلى «اختلاف الفطرة والاستعداد بين هذين الإمامين العظيمين، فأحدهما خُلق للتعليم والتهذيب، والآخر خُلق للدعوة والحركة في مجال العمل السياسي والثورة الأممية». وربما وزعت الفطرة كلا منهما على مسلك مغاير للآخر، فالأفغاني يعول على الجماعة، وينادي بالثورة، ويمارس السياسة من أوسع أبوابها، ويقطع بعدم التعاون مع المستعمر، أما عبده فيعول على الفرد، ويسعى إلى تأجيج العاطفة الدينية، ويتوخى التربية سبيلا إلى بلوغ الهدف ويكره على التوازي في السياسة، فيستعيذ بالله من «ساس ويسوس»، ولا يرفض التعاون مع المستعمر إن كانت المصلحة تقتضي ذلك.
وفي دراسة له عن الأفغاني، يقول الأستاذ سمير حلبي إن شاه إيران ناصر الدين دعا الأفغاني إلى الحضور إلى طهران واحتفى به وقربه، وهناك نال تقدير الإيرانيين وحظي بحبهم، ومالوا إلى تعاليمه وأفكاره، لكن الشاه أحسَّ بخطر أفكار الأفغاني على العرش الإيراني، وتغيرت معاملته له، وشعر الأفغاني بذلك، فاستأذنه في السفر، وذهب إلى موسكو ثم بطرسبرج، وكان يلقى التقدير والاحترام في كل مكان ينزله، ويجذب كثراً من المؤيدين والمريدين.
وحين زار الأفغاني معرض باريس سنة (1307هـ- 1889م) التقى الشاه ناصر الدين، الذي أبدى تقديرًا شديدًا له، دفعه إلى العودة إلى طهران، لكن الشاه لم يلبث أن أوغر البعض صدره عليه، بعد أن راح الأفغاني يطرح آراء عميقة حول الإصلاح السياسي، ويقيم أداء الحكومة، لذا أرسل إليه تجريدة عسكرية حملته وهو مريض وألقت به على حدود تركيا. فاتجه الأفغاني إلى البصرة، ومنها إلى لندن ليتخذ من جريدة «ضياء الخافقين» منبرًا للهجوم على الشاه، وكشف ما آلت إليه أحوال إيران في عهده، وكان تأثيره قويًا على الإيرانيين، حتى بلغ من تأثيره أنه استطاع أن يحمل بعض علماء إيران على إصدار فتوى بتحريم «شرب» الدخان، حتى أن العامة ثاروا على الشاه، وأحاطوا بقصره، وطلبوا منه إلغاء الاتفاق مع إحدى الشركات العربية لتأسيس شركة «ريجي» في إيران؛ فاضطر الشاه إلى فسخ الاتفاق، وتعويض الشركة بمبلغ نصف مليون ليرة إنكليزية.
ويمضي سمير حلبي قائلا في هذه النقطة: «كان ذلك أحد الأسباب التي جعلت الشاه يلجأ إلى السلطان عبد الحميد ليوقف الأفغاني عن الهجوم عليه، واستطاع السلطان أن يجذب الأفغاني إلى نزول الأستانة سنة (1310هـ - 1892م)، وأراد السلطان أن يُنعم على الأفغاني برتبة قاضٍ عسكري، لكن الأفغاني أبى، وقال لرسول السلطان: «قل لمولاي السلطان إن جمال الدين يرى أن رتبة العلم أعلى المراتب».
وفي أثناء وجود الأفغاني في الأستانة زارها الخديوي عباس حلمي، والتقى بالأفغاني لقاءً عابرًا، لكن الوشاة والحاسدين من أعداء الأفغاني المقربين إلى السلطان وجدوا في ذلك اللقاء العابر فرصة سانحة للوقيعة بينه وبين السلطان، فبالغوا في وصف ذلك اللقاء، وأضفوا عليه ظلالاً من الريبة والغموض، وأوعزوا إلى السلطان أنهما تحادثا طويلا في شؤون الخلافة، وحذّروه من الخطر الذي يكمن وراء تلك المقابلة؛ فاستدعى السلطان العثماني جمال الدين الأفغاني وأطلعه على تلك الأقوال، فأوضح له الأفغاني حقيقة الموقف بجرأة، وانتقد هؤلاء الوشاة بشجاعة لم تعهد لغيره».
توفي الأفغاني صبيحة الثلاثاء 9 مارس (آذار) سنة 1897، وما إن بلغ الحكومة العثمانية نعيه حتى أمرت بضبط أوراقه وكل ما كان باقياً لديه، وأمرت بدفنه من غير رعاية أو احتفال في مقبرة المشايخ بالقرب من نشان طاش، فدفن كما يدفن أقل الناس شأنًا في تركيا، ولا يزال قبره هناك. وقد تعددت الروايات في موته، حيث قيل إنه مات مقتولا، بعد اتهامه بالتحريض على قتل الشاه، وتغيير السلطان عليه، وحبسه في قصره، ووشايات أبي الهدى الصيادي، ما يقرب إلى الذهن فكرة التخلص منه بأية وسيلة.
http://www.aljarida.com/AlJarida/Resources/ArticlesPictures/2010/09/02/174954_1-(9)_smaller.jpg
احمد عرابي
http://www.aljarida.com/AlJarida/Resources/ArticlesPictures/2010/09/02/174954_2-(9)_smaller.jpg
الخديوي اسماعيل
http://www.aljarida.com/AlJarida/Resources/ArticlesPictures/2010/09/02/174954_4-(9)_smaller.jpg
الشيخ محمد عبده
د. عمار علي حسن - الجريدة
حين يُطرح التجديد في الإسلام على أنه استلهام الروح الثورية في هذا الدين، والتي تجعله قادراً على أن يحارب دوماً التخاذل والتراخي والهوان، ويسعى باستمرار إلى تأكيد حرية الإنسان وكرامته، فلا يمكن أن ينبو أي تناول من هذه الزاوية عن السيد جمال الدين الأفغاني، الرجل الذي كان يجلس على مقهى متاتيا في قلب القاهرة يوزع السعوط بيمناه والثورة بيسراه، حسبما ذكر أحمد بهاء الدين في كتابه المهم «أيام لها تاريخ».
كان الأفغاني يجلس وحوله كوكبة ممن حملوا لواء الثورة والنهضة في مصر آنذاك، من أمثال سعد زغلول ومحمد عبده وقاسم أمين، فقاد الأول الثورة السياسية، وقاد الثاني ثورة في التعليم والتربية والتثقيف وتجديد الفقه والفكر الإسلامي، وقاد الثالث ثورة اجتماعية عبر كتابيه الأثيرين «تحرير المرأة» و{المرأة الجديدة».
ولد السيد جمال الدين الأفغاني في (شعبان 1254هـ والذي يوافق أكتوبر 1838م)، لأسرة أفغانية عريقة ينتهي نسبها إلى الحسين بن علي، رضي الله عنه. وشب الأفغاني عن الطوق في كابول عاصمة أفغانستان. وتلقى دروسًا في تعلم اللغتين العربية والفارسية، ودرس القرآن الكريم وشيئًا من الفقه والتفسير وعلم الكلام، وعندما بلغ الثامنة عشرة أتمَّ دراسته للعلوم الإسلامية، ثم سافر إلى الهند لدراسة بعض العلوم العصرية.
ولم تقف رحلة الأفغاني العلمية والدينية عند هذا الحد، بل سافر قاصداً الحجاز وهو في التاسعة عشرة لأداء فريضة الحج، وكان ذلك في سنة (1273هـ ـ 1857م)، ثم رجع إلى أفغانستان، ليتقلَّد إحدى الوظائف الحكومية، وظلَّ طوال حياته حريصًا على العلم والتعلم. لكن الوظيفة لم تمنعه من الاستمرار في طلب العلم والمعرفة، حيث شرع في تعلم الفرنسية وهو في سن متقدمة، وبذل جهدًا مضنيًا، ولم ييأس حتى ألم بجوانبها، وبات قادرًا على استخدامها بطريقة جيدة.
لكن السياسة كانت الرافد الثاني الذي يستمد منه الأفغاني تجربته، وكان لها أثر كبير على مسيرة حياته. وكان ينحاز إلى الأمير محمد أعظم خان وزير الدولة في مواجهة سائر الأمراء، والذي وقع في صدام عميق ضد المحتل الإنكليزي، فاضطر الأفغاني إلى أن يشد الرحال عن مسقط رأسه، سنة (1285هـ - 1868م) قاصدًا مصر. وفي طريقه مرَّ بالهند، ومكث فيها فترة قليلة. أما في القاهرة فقد أقام مدة كانت من أثرى فترات حياته.
نداء السفر
تردد الأفغاني على الأزهر الشريف، وقابل علماء كثر، اختلف مع بعضهم ولم يرق له نهجهم واتفق مع آخرين، وتعرف الناس إليه، فقصدوا بيته، الذي صار مزارًا لكثير من الطلاب والدارسين، خصوصاً الشوام. ولم يلبث أن ناداه السفر مجدداً فغادر القاهرة قاصدًا الأستانة في عهد الصدر عال باشا، فعظم أمره بها، وذاع صيته وبلغت شهرته الآفاق، وصار أحد المقربين من السلطان. وأعطته هذه القربى فرصة طيبة لطرح مشروعه للإصلاح والتجديد، وانطلق يبث أفكاره ويجد لها صدى واسعًا لدى قطاعات عريضة من النخبة العثمانية. ووصل تأثيره في هذا المضمار إلى درجة أن بلنت الإنكليزي المعروف قال في شهادة دالة على جهد الأفغاني: «سعي العثمانيين في تحويل دولتهم إلى دستورية في بادئ الأمر قد ينسب إلى شيء من تأثير جمال الدين، فقد أقام في عاصمتهم يحاورهم ويخطب فيهم».
ولأن دوام الحال من المحال فقد لقي الأفغاني عنتًا من البعض، لا سيما من حسدوه على موقعه ومكانته ومن رأوا فيه خطرًا عليهم. وزاد هذا الاتجاه بعد تعيينه عضوًا في مجلس المعارف الأعلى، حيث لقي معارضة وهجومًا من بعض علماء الأستانة وخطباء المساجد الذين لم يرق لهم كثيراً من آرائه وأقواله؛ فترك الأستانة وذهب إلى مصر، فرحب به أهلها، الأمر الذي شجعه على البقاء فيها، وجذب الساسة والمثقفين وعلماء الدين حوله.
استتب الوضع للأفغاني ثماني سنوات في مصر إلى درجة أنه شرع في التدخل في سياسة البلاد، فدعا الشعب إلى ضرورة أن يكافح لتحسين الشروط السياسية، وتنظيم أمور الحكم، والثورة على المستعمر الإنكليزي، الأمر الذي أوغر عليه صدر ولاة الأمر، فتوجسوا منه خيفة، ودعوا الناس إلى الانفضاض من حوله.
وغضب الإنكليز من مقالاته، فلما تولى الخديوي توفيق باشا حكم البلاد أمر بإخراجه من مصر، فرحل الأفغاني إلى الهند سنة (1296هـ - 1879م)، ومنها إلى لندن، قبل أن يستقر به المقام في باريس، التي التقى فيها الإمام محمد عبده، وأصدرا معًا جريدة «العروة الوثقى»، لكنها ما لبثت أن توقفت عن الصدور بعد أن أوصدت أمامها أبواب كل من مصر والسودان والهند. لكن الأفغاني لم يتوقف عن الكتابة في السياسة، فكانت صحف باريس منبرًا لمقالاته السياسية اللاذعة التي أوسع فيها المستعمر الإنكليزي نقدًا.
دوره في مصر
يُنظر إلى جمال الدين الأفغاني باعتباره صاحب فضل كبير على نهضة العلوم والآداب في مصر، وساعده على ذلك أنه جاء إلى أرض الكنانة فوجد فيها الأزهر، والمعاهد العلمية الحديثة التي بدأت منذ عهد محمد علي. وثمة من يرى أن الأفغاني بما اتصف به من أخلاق عالية، أخذ يبث في النفوس روح العزة والشهامة، ويحارب روح الذلة والاستكانة، فكان بنفسيته ودروسه وأحاديثه، ومناهجه في الحياة، مدرسة أخلاقية، رفعت من مستوى النفوس في مصر، وكانت على الزمن من العوامل الفاعلة للتحول الذي بدا على الأمة وانتقالها من حالة الخضوع والاستكانة إلى التطلع للحرية والتبرم بنظام الحكم القديم ومساوئه، والسخط على تدخل الدول في شؤون البلاد.
نُفي جمال الدين من مصر، لكن روحه وتعاليمه تركت أثرها في المجتمع المصري وبقيت النفوس ثائرة تتطلع إلى نظام الحكم، وإقامته على دعائم الحرية والشورى، فجمال الدين هو، روحيًّا وفكريًّا، أبو الثورة العرابية، وكثير من أقطابها هم من تلامذته أو مريديه، والثورة في ذاتها هي استمرار للحركة السياسية التي كان له الفضل الكبير في ظهورها خلال عهد إسماعيل ، ولو بقي في مصر حين نشوب الثورة لكان جائزًا أمدَّها بآرائه الحكيمة، وتجاربه الرشيدة ، فلا يغلب عليها الخطل والشطط، ولكن شاءت الأقدار، والدسائس الإنكليزية، أن ينفى السيد من مصر، وهي أحوج ما تكون إلى الانتفاع بحكمته وصدق نظره في الأمور. وأقام المترجم في حيدر أباد الدكن، حيث كتب رسالته في الرد على الدهريين، وألزمته الحكومة البريطانية بالبقاء في الهند إلى أن انقضى أمر الثورة العرابية.
وكان لجمال الدين الأفغاني دور كبير في قضية الإصلاح، سواء الديني منه أو السياسي، وهنا يقول حلبي: «كانت الدعوة إلى القرآن الكريم والتبشير به أكبر ما طمح إليه الأفغاني في حياته، وكان يرى أن القاعدة الأساسية للإصلاح وتيسير الدين للدعوة هي الاعتماد على القرآن الكريم، ويقول: «القرآن إحدى أكبر الوسائل في لفت نظر الإفرنج إلى حسن الإسلام، فهو يدعوهم بلسان حاله إليه. لكنهم يرون حالة المسلمين من خلال القرآن فيقعدون عن اتباعه والإيمان به». فالقرآن وحده سبب الهداية وأساس الإصلاح، والسبيل إلى نهضة الأمة: «وإحدى مزايا القرآن أن العرب قبل إنزال القرآن عليهم كانوا في حالة همجية لا توصف؛ فلم يمض عليهم قرن ونصف القرن حتى ملكوا عالم زمانهم، وفاقوا أمم الأرض سياسة وعلمًا وفلسفة وصناعة وتجارة»... فالإصلاح الديني لا يقوم إلا على القرآن وحده أولاً، ثم فهمه فهمًا صحيحًا حرًا، وذلك يكون بتهذيب علومنا الموصلة إليه، وتمهيد الطريق إليها، وتقريبها إلى أذهان متناوليها».
جدل الإصلاح
أما عن الإصلاح التربوي والسياسي، فيعود الجدل داخل الحركة الإسلامية حول زمنيته، أو الوقت الذي من المفترض أن يستغرقه، إلى نهاية القرن التاسع عشر، حيث اللحظة التي ولدت فيها حركة الإحياء الإسلامي، على كفي جمال الدين الأفغاني، وتلميذه محمد عبده. فالأول كان يؤمن بأن الإصلاح يمكن تحصيله في التو، شرط العمل لأجل بلوغه، أما الثاني فرأى أن الإصلاح عملية متدرجة، تتحقق بعد مدة، لذا هادن الاستعمار الإنكليزي، خارجًا على ثورية أستاذه الذي نادى بالكفاح ضد الاحتلال. وخالف عبده الزعيم أحمد عرابي الرأي حول التحول إلى الحكم النيابي الدستوري، محبذًا البدء بالتربية والتعليم لتكوين رجال قادرين على القيام بأعباء الحكم النيابي، وتعويد الناس على البحث في المصالح العامة، بما يقود في نهاية المطاف إلى حمل الحكام على العدل والإصلاح. وقد فصل الأستاذ طهاري محمد، في هذه النقطة في ثنايا كتابه: «مفهوم الإصلاح بين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده».
وبلور عبده، بشكل أكثر جلاء، رؤيته المنحازة إلى التدرج في الإصلاح في طلبه من الأفغاني، وهما في باريس عام 1883، أن يذهبا سويًّا إلى مكان غير خاضع لسلطان دولة تعرقل مشروعهما الإصلاحي، ليؤسسا مدرسة للزعماء، يختارا تلامذتها من الأقطار الإسلامية، ويقوما بتربيتهم لمدة معينة، يصبحون بعدها مؤهلين لقيادة الإصلاح في بلدانهم. وقد شرح هذا الرأي الأستاذ عباس محمود العقاد، في كتابه المهم «عبقري الإصلاح والتعليم الإمام محمد عبده». لكن الأفغاني، الذي كان سياسيًّا واقعيًّا، رفض هذه الفكرة «الطوباوية»، والتي أعيد إنتاجها، بشكل مختلف، ولمقصد مغاير، داخل الحركة الإسلامية الراديكالية في مصر، خصوصاً لدى تنظيم «جماعة المسلمين»، المعروف إعلاميًّا باسم التكفير والهجرة، وهي في الأحوال كافة تتأسس على تأويل ذاتي لحدث الهجرة النبوية الشريفة، ينزعه من سياقه التاريخي والاجتماعي.
بين الأفغاني وعبده
ما بين الأفغاني وعبده من اختلاف في تقدير زمنية الإصلاح يعود في نظر العقاد إلى «اختلاف الفطرة والاستعداد بين هذين الإمامين العظيمين، فأحدهما خُلق للتعليم والتهذيب، والآخر خُلق للدعوة والحركة في مجال العمل السياسي والثورة الأممية». وربما وزعت الفطرة كلا منهما على مسلك مغاير للآخر، فالأفغاني يعول على الجماعة، وينادي بالثورة، ويمارس السياسة من أوسع أبوابها، ويقطع بعدم التعاون مع المستعمر، أما عبده فيعول على الفرد، ويسعى إلى تأجيج العاطفة الدينية، ويتوخى التربية سبيلا إلى بلوغ الهدف ويكره على التوازي في السياسة، فيستعيذ بالله من «ساس ويسوس»، ولا يرفض التعاون مع المستعمر إن كانت المصلحة تقتضي ذلك.
وفي دراسة له عن الأفغاني، يقول الأستاذ سمير حلبي إن شاه إيران ناصر الدين دعا الأفغاني إلى الحضور إلى طهران واحتفى به وقربه، وهناك نال تقدير الإيرانيين وحظي بحبهم، ومالوا إلى تعاليمه وأفكاره، لكن الشاه أحسَّ بخطر أفكار الأفغاني على العرش الإيراني، وتغيرت معاملته له، وشعر الأفغاني بذلك، فاستأذنه في السفر، وذهب إلى موسكو ثم بطرسبرج، وكان يلقى التقدير والاحترام في كل مكان ينزله، ويجذب كثراً من المؤيدين والمريدين.
وحين زار الأفغاني معرض باريس سنة (1307هـ- 1889م) التقى الشاه ناصر الدين، الذي أبدى تقديرًا شديدًا له، دفعه إلى العودة إلى طهران، لكن الشاه لم يلبث أن أوغر البعض صدره عليه، بعد أن راح الأفغاني يطرح آراء عميقة حول الإصلاح السياسي، ويقيم أداء الحكومة، لذا أرسل إليه تجريدة عسكرية حملته وهو مريض وألقت به على حدود تركيا. فاتجه الأفغاني إلى البصرة، ومنها إلى لندن ليتخذ من جريدة «ضياء الخافقين» منبرًا للهجوم على الشاه، وكشف ما آلت إليه أحوال إيران في عهده، وكان تأثيره قويًا على الإيرانيين، حتى بلغ من تأثيره أنه استطاع أن يحمل بعض علماء إيران على إصدار فتوى بتحريم «شرب» الدخان، حتى أن العامة ثاروا على الشاه، وأحاطوا بقصره، وطلبوا منه إلغاء الاتفاق مع إحدى الشركات العربية لتأسيس شركة «ريجي» في إيران؛ فاضطر الشاه إلى فسخ الاتفاق، وتعويض الشركة بمبلغ نصف مليون ليرة إنكليزية.
ويمضي سمير حلبي قائلا في هذه النقطة: «كان ذلك أحد الأسباب التي جعلت الشاه يلجأ إلى السلطان عبد الحميد ليوقف الأفغاني عن الهجوم عليه، واستطاع السلطان أن يجذب الأفغاني إلى نزول الأستانة سنة (1310هـ - 1892م)، وأراد السلطان أن يُنعم على الأفغاني برتبة قاضٍ عسكري، لكن الأفغاني أبى، وقال لرسول السلطان: «قل لمولاي السلطان إن جمال الدين يرى أن رتبة العلم أعلى المراتب».
وفي أثناء وجود الأفغاني في الأستانة زارها الخديوي عباس حلمي، والتقى بالأفغاني لقاءً عابرًا، لكن الوشاة والحاسدين من أعداء الأفغاني المقربين إلى السلطان وجدوا في ذلك اللقاء العابر فرصة سانحة للوقيعة بينه وبين السلطان، فبالغوا في وصف ذلك اللقاء، وأضفوا عليه ظلالاً من الريبة والغموض، وأوعزوا إلى السلطان أنهما تحادثا طويلا في شؤون الخلافة، وحذّروه من الخطر الذي يكمن وراء تلك المقابلة؛ فاستدعى السلطان العثماني جمال الدين الأفغاني وأطلعه على تلك الأقوال، فأوضح له الأفغاني حقيقة الموقف بجرأة، وانتقد هؤلاء الوشاة بشجاعة لم تعهد لغيره».
توفي الأفغاني صبيحة الثلاثاء 9 مارس (آذار) سنة 1897، وما إن بلغ الحكومة العثمانية نعيه حتى أمرت بضبط أوراقه وكل ما كان باقياً لديه، وأمرت بدفنه من غير رعاية أو احتفال في مقبرة المشايخ بالقرب من نشان طاش، فدفن كما يدفن أقل الناس شأنًا في تركيا، ولا يزال قبره هناك. وقد تعددت الروايات في موته، حيث قيل إنه مات مقتولا، بعد اتهامه بالتحريض على قتل الشاه، وتغيير السلطان عليه، وحبسه في قصره، ووشايات أبي الهدى الصيادي، ما يقرب إلى الذهن فكرة التخلص منه بأية وسيلة.
http://www.aljarida.com/AlJarida/Resources/ArticlesPictures/2010/09/02/174954_1-(9)_smaller.jpg
احمد عرابي
http://www.aljarida.com/AlJarida/Resources/ArticlesPictures/2010/09/02/174954_2-(9)_smaller.jpg
الخديوي اسماعيل
http://www.aljarida.com/AlJarida/Resources/ArticlesPictures/2010/09/02/174954_4-(9)_smaller.jpg
الشيخ محمد عبده