راضي الخلف
09-01-2010, 03:07 PM
منذ بواكير حياتي كانت تصطخب في خلدي تساؤلات عن بعض الأفكار والتشريعات التي دُست سمومها في قلب الدين الإسلامي لأغراض سياسية أوغايات دنيوية أو مآرب خبيثة الله أعلم بها .. ومزجت بينبوعه الصافي حتى كدرته وشابته بملوثات دخيلة على الدين وعلى ما يحمله من تشريعات سمحة وأفكار نبيلة تحقق للإنسان أمنه واستقراره وتعزز قدرته على التعايش مع المجتمع تعايشاً سليماً.. من حيث تشريعه- أي الدين- لبعض الأحكام وسنه لبعض العقوبات التي تحمل في ظاهرها طابع القسوة ولكن بعد التحليل الموضوعي والتدقيق والتمعن يتبدى عمق الحكم لنستخرج من باطنه عللاً منطقية وغايات غاية في الرفعة والسمو..
غير أننا لو تأملنا في حكم "رجم الزاني" لن ننتهي إلى نفس النتائج .. بمعنى آخر سننتهي إلى أن هذا الحكم - أي الرجم - يحمل من القسوة والسادية والوحشية مايتنافى ويتعارض مع المبادئ السامية للدين , التي ترقى بالإنسان اعتباراً من كونه سيد الموجودات وعلى قمة الهرم وأعلى درجة في سُلَّم المفاضلة بينه وبين سائر المخلوقات الأخرى..
ومالقول بأن حكمة تشريع الرجم ماهي إلا لتطهير الجاني من ذنبه ومن ثم دخوله الجنة ..لايعدو كونه برشامة لحقن العقول وإدخالها في دائرة "الكوما " الذهنية.. بربك كيف تكون هذه التصفية الإجرامية مطهرة وغاسلة لثوب خطاياه من الدنس ..أوليس باب التوبة مفتوحاً؟ .. ومن خوَّل الآخرين ليوجهوا عقوبة دموية للجُناة ليمنحوهم بعد ذلك صكوك الغفران ؟ فهل يُعقل من ذلك الرب الرحيم ومن تلك الرسالة النبوية الطاهرة التي كانت حاملة لمشعل النور ومشكاة الهداية أن تسن تشريعاً همجياً وحشياً يعيدنا إلى قانون الغاب وعصور الانحطاط والتخلف ؟.. وهل يعقل أن يُرجم إنسان مِلاكُه الضعف جمحت به غرائزه فانصاع لها وأن يُغض الطرف عن كل الملابسات والخلفيات التي دعته لاقتراف ذلك,ويُصدرُ عليه حكماً شنيعاً بقتله قذفاً بالحجارة والحصى وكأن الله لا يقبل التوبة ولا يغفر المعصية؟! أليس هذا مدعاة لازورار الناس وإعراضهم عن الدين ؟.. وكيف بدين باعثه الرحمة يستحيل لسكين تحز أعناق أتباعه؟ ألا تتعارض "العقوبة" مع قول الرسول الأعظم (بشروا ولا تنفروا ,يسروا ولا تعسروا) ..ألا تتناقض بشكل فاقع مع تحريم الإسلام للمُثلة ولو بالكلب العقور.. وهل من الممكن أن يُحَرِّم المُثلة بكلب ميت ويبيح قصف إنسان بوابل من الحجارة وهو حي يرزق ويحمل بين جوانحه روحاً وقلباً ينبض ؟!.. هذا الاستهوال لخطيئة الزنا إنما يُنبئ عن حالة اضطراب وقمع للذات يتجليان ببشاعة في قول ابن قيم الجوزية :(وإنما شرع في حق الزاني المحصن القتل بالحجارة ليصل الألم إلى جميع بدنه حيث وصلت إليه اللذة بالحرام ولأن تلك القتلة أشنع القتلات والداعي إلى الزنا داع قوي في الطباع، فجعلت غلظة هذه العقوبة في مقابلة قوة الداعي) ..
ثم ماذا! وماهي المحصِّلة النهائية لمن يسوِّقون لهذه العقوبة بأنها "رادعة" وماهي انعكاساتها؟.. هل تمت السيطرة على جناية الزنا والقضاء عليها أم أنها -أي العقوبة- خلقت حالة رفض وتمرد وعصيان عند شريحة من الناس ونزعة إجرامية عند أخرى ومعدل جرائم الشرف المتزايد بوتيرة عالية خير شاهد ودليل.. ومن بواعث الأسى والألم أن هذه الأحكام مازالت تطبق في بعض الدول الإسلامية كالسعودية والسودان وإيران قبل أن تعلن الأخيرة تعليق هذا الحكم تحت طائلة ضغوط من منظمة العفو الدولية وصفت فيها حكم الرجم بـ "الممارسة المرعبة والمريعة والمصممة لمضاعفة معاناة المدانين"..
وعلى ضوء ذلك يستلزم منا البحث واستقصاء الموضوع وتتبع آثاره ومروياته وسرد شواهده علنا نتوصل لغائية الحكم إن وُجِدت أو لتفنيد كل ماورد في هذا المورد من مرويات تدفع بتأصيل حكم الرجم وتشريع تطبيقه ..لأن التشريع لا يتعارض مع العقل , والشرع سيد العقلاء فإن حدث تعارض فلا ريب أن التعارض ناشئ من نسبية الفهم في حالة كون الدليل ظني الدلالة قطعي الثبوت كالنص القرآني في بعض آياته .. ومادون ذلك فهو ظني الثبوت كالحديث النبوي حتى ولو كان قطعي الدلالة كخبر الآحاد.. وأكثر ما نُسب للنبي صلى الله عليه وآله حول الرجم هو من خبر الآحاد .. فإذا كان كذلك فهو مردود من العقل لعدم ثبوته القطعي .."استفتِ قلبك ولو أفتاك الناس" و"العقل نبي من الداخل"
ولو استعرضنا مثالاً من طرق الفريقين سنة وشيعة سنلحظ تهافتاً جلياً في الرواية ولهجة تتسم بالقسوة والعنفية مما لا ينسجم مع روح الإسلام الأصيل ..
جاء من طرق السنة :
أتى رجل من المسلمين رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله, إني زنيت . فأعرض عنه, فتنحى تلقاء وجهه فقال : يارسول الله إني زنيت.فأعرض عنه, حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات, فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أبك جنون؟ قال: لا. قال فهل أَحْصَنْتَ؟ قال :نعم. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:اذهبوا به فارجموه..
فلا وجه للقبول بهكذا رواية من حيث اعتراضها مع الكثير من النصوص والدلائل التي تدل على سقوط حجيتها.. ودحض هذه الرواية من وجهين .. الوجه الأول: ما نأخذه على هذه الرواية هو أن مجيء الرجل إلى النبي واعترافه بذنبه دليل ندم وتوبة وأوبة " والتائب من الذنب كمن لا ذنب له "وتسليم النفس يخفف العقوبة كما هو عليه الحال في القوانين البشرية فمن المحال أن يُرجم بعد صدور هذا الاعتراف الجريء منه ؟ ومن المستغرب إصراره على فضح نفسه وقد ستر الله عليه ! أليس هذا تبجحاً بالمعصية؟أم أنه كان طامعاً بالحور الحسان بعد أن بلغه أن هذه العقوبة ستمنحه تأشيرة الرحيل لجنة الخلد فأراد أن تُسدى له هذه الخدمة الجليلة برجمه ؟! وربما يكون الرجل مجنوناً لأن هذا الفعل لا يصدر من عاقل فيُرفع عنه القلم وتسقط العقوبة.. ونفيه عن نفسه صفة الجنون لا تُثبت عدم جنونه .. الوجه الثاني: أن رسول الله الذي قال له ربه مخاطباً إياه ( فبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ( يُستبعد أن يُنزل حكماً قاسياً في حق رجل مسكين ومطعون في عقله ..
وجاء من طرق الشيعة:
أن علي بن أبي طالب (ع) جلد امرأةً محصنة ثم رجمها في اليوم الثاني بعد أن ثبت أنها زنت وحين سئل عن ذلك قال ):جلدتُها بكتاب الله ورجمتُها بسنَّةِ رسول الله (..
لقد قرأنا في الصفحات الذهبية من التاريخ أن علي بن أبي طالب برز يوم البصرة في معركة الجمل بعد أن ألقت الحرب أوزارها وانتهت لصالحه ينادي "لاتتبعوا مدبرا لاتجهزوا على جريح لاتهيجوا النساء بأذى وإن سببن أمراءكم وشتمن أعراضكم فإنهن ضعيفات القوى"... أخون عقلي لو أقبل بهكذا رواية بعد هذا الموقف الذي جسّد أسمى درجات النبل والبطولة ولعمري مابعد هذا الخلق الجم خلق ..!!
هذا وقد حدا ببعض الموتورين من المشككين والعابثين أن يستغلوا مثل هذه الأحكام والمرويات للتنفير من الدين ولاستقطاب أعداد مناوئة معهم بغية هدم هذا الفكر الإلهي الأصيل, ولكن أنى لهم ذلك ..! لأن جبهة المواجهة لاتنطلق من بحث موضوعي بدواعٍ معرفية أو استقصاء للحقائق بقدر ماهو تشويش وشيطنة وطمس للحقائق..(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ )..
ولا تنتهي فصول رواية التشويه عند فلم "رجم ثريا" الذي أُُنتج في العام الماضي حيث صور المسلمين "كدراكولات" بشرية متعطشة للدماء , لذات المنتج الذي أنتج فلم "آلام المسيح" .. ومايلبث أن يُسدل الستار عن فصل حتى يُكشف عن فصل جديد .. والقائمة تطول .. والحبل على الجرار ..
وأنا هنا لا أصنف ولا ألغي أي خط أو فكر يثري الساحة العلمية ويشبعها دفقاً فكرياً مهما كانت مساحة الاختلاف فقيم الأنسنة هي المعيار وأساس التعامل بين بني البشر ..
غير أن الإشارة كانت للاموضوعيين والمغرضين,المجانفين للصواب أياً كانوا وأين حلوا ومن أي فكر انبجسوا ..
لكي يكون البحث العلمي موضوعياً يتوجب أن يكون الدافع للباحث هو قلق المعرفة واستكناه الحقيقة كما قال" ديكارت"( أشك في كل شيء ) وكقول "الإمام الغزالي" (الشكوك هي الموصلة إلى الحقائق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال)..
ذلك الشك المنهجي المحرك للبحث,المفتت للجليد المتكلس على جدار العقل ,الموصل لليقين .. وليس الشك المطلق الذي يحيلك إلى قتامة التفكير وجمود العقل والى السقوط في هوة الباطل كما هوالحال عند فلاسفة إيطاليا في القرن السادس عشر قبل أن ينتهي هذا الفكر إلى التلاشي والاندراس ..
وبعد سنين من العطش وقع بين يدي بحث للمفكر الدكتور مصطفى محمود الموسوم بعنوان (لارجم للزانية) وكان بحثاً قيماً جامعاً لكل شرائط البحث العلمي الموضوعي المتجرد من الأيدولوجيا ومن كل الأهواء والانتماءات ماعدا الانتماء إلى الحقيقة وإعمال العقل ..
.."الرجم عقوبة ليست من الإسلام وأن القرآن الكريم لا توجد به آية رجم واحدة وأن القول بأن آية الرجم التي لم تنزل في كتاب الله بل رفعت وبقي حكمها وتقول : " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة " مختلقة لأنها لا تتماشى مع سلاسة القرآن الكريم وجمال نظمه إضافة إلى كلمة البتة وهي ثقيلة وليست من روح القرآن في شيء .. تسعة أدلة تثبت عدم شرعية الرجم في الإسلام وأن الرجم من الشريعة اليهودية والأمم السابقة وان الإسلام ينبذ الرجم ولا يقره" .. الكلام للدكتور مصطفى محمود .. وهذا الرأي يتوافق مع رؤية الدكتور حسن الترابي إلى حدٍ ما..
وأضيف على كلام مصطفى محمود قبل أن أسرد أدلته.. يقولون أن آية الرجم نُسخت لفظاً ولم تُنسخ حكماً ولا أدري لماذا تسقط من القرآن ويظل حكمها فاعلاً وتثبت آية الجلد ويعطل حكمها.. أي ازدواجية هذه؟
وسنستعرض أدلة الدكتور مع تحري الإيجاز قدر الإمكان ..
فماهي أدلة الدكتور مصطفى محمود ؟
الدليل الأول :
أنَّ الأمَة إذا تزوَّجت وزنت فإنَّها تُعاقب بنصف حدِّ الحُرَّة ، وذلك لقوله تعالى: ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )الرجم لا ينتصف ..
وجه الدليل من الآية : قوله : (فَإِذَا أُحْصِنَّ) أي تزوَّجن..(فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ ) أي الحرائر . والجلد هو الذي يقبل التنصيف ، مائة جلدة ونصفها خمسون ، أمَّا الرجم فإنَّه لا ينتصف ؛ لأنَّه موت وبعده قبر ، والموت لا ينتصف..
الدليل الثاني :
أنَّ البخاري روى في صحيحة في باب رجم الحُبلى : ( عن عبد الله بن أبي أوفى أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامديَّة . ولكنَّنا لا ندري أرجم قبل آية الجلد أم بعدها ) .
وجه الدليل : أنَّه شكَّك في الرجم بقوله : كان من النبي رجم . وذلك قبل سورة النور التي فيها : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) . لمَّا نزلت سورة النور بحكم فيه الجلد لعموم الزُناة فهل هذا الحكم القرآني ألغى اجتهاد النبي في الرجم أم أنَّ هذا الحكم باقٍ على المسلمين إلى هذا اليوم ؟
وجه التشكيك : إذا كان النبي قد رجم قبل نزول القرآن بالجلد لعموم الزُناة فإنَّ الرجم يكون منه قبل نزول القرآن وبالتالي يكون القرآن ألغى حكمه ويكون الجلد هو الحكم الجديد بدل حكم التوراة القديم الذي حكم به ـ احتمالاً ـ أمَّا إذا رجم بعد نزول القرآن بالجلد فإنَّه مخالف القرآن لا مفسِّراً له ومبيِّناً لأحكامه ولا موافقاً له ، ولا يصحُّ لعاقلٍ أن ينسب للنبي أنَّه خالف القرآن ؛ لأنَّه هو المُبلِّغ له والقدوة للمسلمين ..
الدليل الثالث :
أن الله تعالى بين للرجل في سورة النور أنه إذا رأى رجلاً يزني بامرأته ولم يقدر على إثبات زناها بالشهود فإنه يحلف أربعة أيمان أنه رآها تزني وفي هذه الحالة يُقام عليها حد الزنا ، وإذا هي ردت أيمانه عليه بأن حلفت أربعة أيمان أنه من الكاذبين فلا يُقام عليها الحد لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ . وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ . وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ . وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ)
وجه الدليل : هو أن هذا الحكم لامرأة محصنة . وقد جاء بعد قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) أي العذاب المقرر عليهما وهو الجلد ..
الدليل الرابع :
وفي حد نساء النبي : (يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ) أي عذاب الجلد ؛ لأنه ليس في القرآن إلا الجلد عذاب على هذا الفعل والموت هو الموت لايضاعف ..
الدليل الخامس :
قوله تعالى :(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الألف واللام في (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) نص على عدم التمييز بين الزناة سواءً محصنين أو غير محصنين.
الدليل السادس :
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) . هنا ذكر حد القذف ثمانين جلدة بعد ذكره حد الجلد مائة . يريد أن يقول : إن للفعل حد ولشاهد الزور حد وانتقاله من حد إلى حد يدل على كمال الحد الأول وتمامه ، وذكره الحد الخفيف الثمانون وعدم ذكر الحد الثقيل الرجم يدل على أن الرجم غير مشروع لأنه لو كان كذلك لكان أولى بالذكر في القرآن من حد القذف .
الدليل السابع :
قال تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) . الإمساك في البيوت لا يكون بعد الرجم ويعني الحياة لا الموت ؛ إذن هذا دليل على عدم وجود الرجم..
ولي وقفة هنا أُعقب فيها على استشهاد الدكتور بهذه الآية .. إذ يقول بعض العلماء أنها نُسخت.. "وهذا كان في أول الإسلام قبل نزول الحدود ، كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت ، ثم نسخ ذلك في حق البكر بالجلد والتغريب ، وفي حق الثيب بالجلد والرجم" ..هذا على الرغم من أن الناسخ والمنسوخ كذبة كبيرة ردها كثير من العلماء كالإمام محمد عبده , والزمخشري , والفخر الرازي , والغزالي , والشيخ القرضاوي .. بيد إن المفارقة الغريبة أن الأخير ينكر وجود ناسخ ومنسوخ ولكنه يؤمن بالرجم كعقوبة ! ربما هو ممن يعتقدون بأن الأحاديث تخصص عام القرآن كما سيأتينا في كلام الدكتور مصطفى محمود ...
الدليل الثامن :
قوله تعالى. ( الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) هنا حرم الله الزانية على المؤمن وهذا يدل على بقائها حية من بعد إقامة الحد عليها وهو مائة جلدة ، ولو كان الحد هو الرجم لما كانت قد بقيت من بعده على قيد الحياة .
. وإن تابت الزانية أو الزاني فيندرجا تحت قوله : (فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا) . فالتوبة تجب ما قبلها .
الدليل التاسع :
يقول العلماء : إن الخاص مقدم على العام . ثم يقولون : والقرآن عام . ثم يقولون : وفي القرآن آيات تخصص العام . ثم يقولون : وفي الأحاديث النبوية أحاديث تخصص العام . أما قولهم بأن العام في القرآن يخصص بقرآن فهذا هو ما اتفقوا عليه وأما قولهم بأن الأحاديث تخصص عام القرآن فهذا الذي اختلفوا فيه لأن القرآن قطعي الثبوت والحديث ظني الثبوت وراوي الحديث واحد عن واحد عن واحد ولا يصح تخصيص عام القرآن بخبر الواحد .
وعلى ذلك فإن قوله تعالى :(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) حكم عام يشمل الجميع محصنين أو غير محصنين . فهل يصح تخصيص العام الذي هو الجلد بحديث يرويه واحد عن واحد في الرجم ؟ !
يقول شيخ الإسلام فخر الدين الرازي عن الخوارج الذين أنكروا الرجم : إن قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) يقتضي وجوب الجلد على كل الزناة . وإيجاب الرجم على البعض بخبر الواحد يقتضي تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد وهو غير جائز لأن الكتاب قاطع في متنه بينما خبر الواحد غير قاطع في متنه والمقطوع راجح على المظنون..
ولو قلنا للدكتور مصطفى محمود إن لفظة الرجم تكررت في القرآن الكريم في مواضع مختلفة فهل يدل ذلك على أن الرجم عقوبة متأصلة بين الأمم على امتداد التاريخ؟! .. لقال : الرجم عقوبة جاهلية توارثها العرب والمسلمون وما كان لها بالقرآن صلة ..فلقد ذكرت كلمة رجم خمسة مرات في الكتاب المقدس عن شعوب سلفت نزول التحكيم الإسلامي تثبت أن الرجم غير مقبول في الإسلام كوسيلة ردع للمنحرف عن شريعة الله ومن تكبَّده أو هُدِّد به عبر التاريخ البشري قبل نزول القرآن وبعده كان تسلطاً وطغيانا كما تنص الآيات الصريحة.. وهو كالآتي :
{قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ }هود91
{إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً }الكهف20
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً }مريم46
{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }يس18
{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ }الدخان20.. انتهى
بعد كل هذه السلسلة من الشواهد تتبين لنا براءة الدين من هذه العقوبة وبأن الممارسات الصادرة من المسلمين لاتنطلق من فهم صحيح للدين .. بل من رواسب جاهلية وتركة اجتماعية أثقلت كاهل الإسلام ودُمغت به زوراً وبهتاناً ..
فينبغي من حملة هذا الدين لاسيما رجالاته ودعاته أن يكونوا زيناً له لاشيناً عليه وأن يبادروا بمبادرات جدية لتنقيح التراث وغربلته من شوائبه .. لرفع هذا الظلم الواقع على الإسلام ولقطع دابر المشككين والمتصيدين للزلات والعثرات ولكي لاتقع أجيالنا القادمة في دوامة الشبهات ولا تتلقفها الأيادي الغادرة والمتربصة بهذا الدين وأهله ..
غير أننا لو تأملنا في حكم "رجم الزاني" لن ننتهي إلى نفس النتائج .. بمعنى آخر سننتهي إلى أن هذا الحكم - أي الرجم - يحمل من القسوة والسادية والوحشية مايتنافى ويتعارض مع المبادئ السامية للدين , التي ترقى بالإنسان اعتباراً من كونه سيد الموجودات وعلى قمة الهرم وأعلى درجة في سُلَّم المفاضلة بينه وبين سائر المخلوقات الأخرى..
ومالقول بأن حكمة تشريع الرجم ماهي إلا لتطهير الجاني من ذنبه ومن ثم دخوله الجنة ..لايعدو كونه برشامة لحقن العقول وإدخالها في دائرة "الكوما " الذهنية.. بربك كيف تكون هذه التصفية الإجرامية مطهرة وغاسلة لثوب خطاياه من الدنس ..أوليس باب التوبة مفتوحاً؟ .. ومن خوَّل الآخرين ليوجهوا عقوبة دموية للجُناة ليمنحوهم بعد ذلك صكوك الغفران ؟ فهل يُعقل من ذلك الرب الرحيم ومن تلك الرسالة النبوية الطاهرة التي كانت حاملة لمشعل النور ومشكاة الهداية أن تسن تشريعاً همجياً وحشياً يعيدنا إلى قانون الغاب وعصور الانحطاط والتخلف ؟.. وهل يعقل أن يُرجم إنسان مِلاكُه الضعف جمحت به غرائزه فانصاع لها وأن يُغض الطرف عن كل الملابسات والخلفيات التي دعته لاقتراف ذلك,ويُصدرُ عليه حكماً شنيعاً بقتله قذفاً بالحجارة والحصى وكأن الله لا يقبل التوبة ولا يغفر المعصية؟! أليس هذا مدعاة لازورار الناس وإعراضهم عن الدين ؟.. وكيف بدين باعثه الرحمة يستحيل لسكين تحز أعناق أتباعه؟ ألا تتعارض "العقوبة" مع قول الرسول الأعظم (بشروا ولا تنفروا ,يسروا ولا تعسروا) ..ألا تتناقض بشكل فاقع مع تحريم الإسلام للمُثلة ولو بالكلب العقور.. وهل من الممكن أن يُحَرِّم المُثلة بكلب ميت ويبيح قصف إنسان بوابل من الحجارة وهو حي يرزق ويحمل بين جوانحه روحاً وقلباً ينبض ؟!.. هذا الاستهوال لخطيئة الزنا إنما يُنبئ عن حالة اضطراب وقمع للذات يتجليان ببشاعة في قول ابن قيم الجوزية :(وإنما شرع في حق الزاني المحصن القتل بالحجارة ليصل الألم إلى جميع بدنه حيث وصلت إليه اللذة بالحرام ولأن تلك القتلة أشنع القتلات والداعي إلى الزنا داع قوي في الطباع، فجعلت غلظة هذه العقوبة في مقابلة قوة الداعي) ..
ثم ماذا! وماهي المحصِّلة النهائية لمن يسوِّقون لهذه العقوبة بأنها "رادعة" وماهي انعكاساتها؟.. هل تمت السيطرة على جناية الزنا والقضاء عليها أم أنها -أي العقوبة- خلقت حالة رفض وتمرد وعصيان عند شريحة من الناس ونزعة إجرامية عند أخرى ومعدل جرائم الشرف المتزايد بوتيرة عالية خير شاهد ودليل.. ومن بواعث الأسى والألم أن هذه الأحكام مازالت تطبق في بعض الدول الإسلامية كالسعودية والسودان وإيران قبل أن تعلن الأخيرة تعليق هذا الحكم تحت طائلة ضغوط من منظمة العفو الدولية وصفت فيها حكم الرجم بـ "الممارسة المرعبة والمريعة والمصممة لمضاعفة معاناة المدانين"..
وعلى ضوء ذلك يستلزم منا البحث واستقصاء الموضوع وتتبع آثاره ومروياته وسرد شواهده علنا نتوصل لغائية الحكم إن وُجِدت أو لتفنيد كل ماورد في هذا المورد من مرويات تدفع بتأصيل حكم الرجم وتشريع تطبيقه ..لأن التشريع لا يتعارض مع العقل , والشرع سيد العقلاء فإن حدث تعارض فلا ريب أن التعارض ناشئ من نسبية الفهم في حالة كون الدليل ظني الدلالة قطعي الثبوت كالنص القرآني في بعض آياته .. ومادون ذلك فهو ظني الثبوت كالحديث النبوي حتى ولو كان قطعي الدلالة كخبر الآحاد.. وأكثر ما نُسب للنبي صلى الله عليه وآله حول الرجم هو من خبر الآحاد .. فإذا كان كذلك فهو مردود من العقل لعدم ثبوته القطعي .."استفتِ قلبك ولو أفتاك الناس" و"العقل نبي من الداخل"
ولو استعرضنا مثالاً من طرق الفريقين سنة وشيعة سنلحظ تهافتاً جلياً في الرواية ولهجة تتسم بالقسوة والعنفية مما لا ينسجم مع روح الإسلام الأصيل ..
جاء من طرق السنة :
أتى رجل من المسلمين رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله, إني زنيت . فأعرض عنه, فتنحى تلقاء وجهه فقال : يارسول الله إني زنيت.فأعرض عنه, حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات, فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أبك جنون؟ قال: لا. قال فهل أَحْصَنْتَ؟ قال :نعم. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:اذهبوا به فارجموه..
فلا وجه للقبول بهكذا رواية من حيث اعتراضها مع الكثير من النصوص والدلائل التي تدل على سقوط حجيتها.. ودحض هذه الرواية من وجهين .. الوجه الأول: ما نأخذه على هذه الرواية هو أن مجيء الرجل إلى النبي واعترافه بذنبه دليل ندم وتوبة وأوبة " والتائب من الذنب كمن لا ذنب له "وتسليم النفس يخفف العقوبة كما هو عليه الحال في القوانين البشرية فمن المحال أن يُرجم بعد صدور هذا الاعتراف الجريء منه ؟ ومن المستغرب إصراره على فضح نفسه وقد ستر الله عليه ! أليس هذا تبجحاً بالمعصية؟أم أنه كان طامعاً بالحور الحسان بعد أن بلغه أن هذه العقوبة ستمنحه تأشيرة الرحيل لجنة الخلد فأراد أن تُسدى له هذه الخدمة الجليلة برجمه ؟! وربما يكون الرجل مجنوناً لأن هذا الفعل لا يصدر من عاقل فيُرفع عنه القلم وتسقط العقوبة.. ونفيه عن نفسه صفة الجنون لا تُثبت عدم جنونه .. الوجه الثاني: أن رسول الله الذي قال له ربه مخاطباً إياه ( فبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ( يُستبعد أن يُنزل حكماً قاسياً في حق رجل مسكين ومطعون في عقله ..
وجاء من طرق الشيعة:
أن علي بن أبي طالب (ع) جلد امرأةً محصنة ثم رجمها في اليوم الثاني بعد أن ثبت أنها زنت وحين سئل عن ذلك قال ):جلدتُها بكتاب الله ورجمتُها بسنَّةِ رسول الله (..
لقد قرأنا في الصفحات الذهبية من التاريخ أن علي بن أبي طالب برز يوم البصرة في معركة الجمل بعد أن ألقت الحرب أوزارها وانتهت لصالحه ينادي "لاتتبعوا مدبرا لاتجهزوا على جريح لاتهيجوا النساء بأذى وإن سببن أمراءكم وشتمن أعراضكم فإنهن ضعيفات القوى"... أخون عقلي لو أقبل بهكذا رواية بعد هذا الموقف الذي جسّد أسمى درجات النبل والبطولة ولعمري مابعد هذا الخلق الجم خلق ..!!
هذا وقد حدا ببعض الموتورين من المشككين والعابثين أن يستغلوا مثل هذه الأحكام والمرويات للتنفير من الدين ولاستقطاب أعداد مناوئة معهم بغية هدم هذا الفكر الإلهي الأصيل, ولكن أنى لهم ذلك ..! لأن جبهة المواجهة لاتنطلق من بحث موضوعي بدواعٍ معرفية أو استقصاء للحقائق بقدر ماهو تشويش وشيطنة وطمس للحقائق..(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ )..
ولا تنتهي فصول رواية التشويه عند فلم "رجم ثريا" الذي أُُنتج في العام الماضي حيث صور المسلمين "كدراكولات" بشرية متعطشة للدماء , لذات المنتج الذي أنتج فلم "آلام المسيح" .. ومايلبث أن يُسدل الستار عن فصل حتى يُكشف عن فصل جديد .. والقائمة تطول .. والحبل على الجرار ..
وأنا هنا لا أصنف ولا ألغي أي خط أو فكر يثري الساحة العلمية ويشبعها دفقاً فكرياً مهما كانت مساحة الاختلاف فقيم الأنسنة هي المعيار وأساس التعامل بين بني البشر ..
غير أن الإشارة كانت للاموضوعيين والمغرضين,المجانفين للصواب أياً كانوا وأين حلوا ومن أي فكر انبجسوا ..
لكي يكون البحث العلمي موضوعياً يتوجب أن يكون الدافع للباحث هو قلق المعرفة واستكناه الحقيقة كما قال" ديكارت"( أشك في كل شيء ) وكقول "الإمام الغزالي" (الشكوك هي الموصلة إلى الحقائق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال)..
ذلك الشك المنهجي المحرك للبحث,المفتت للجليد المتكلس على جدار العقل ,الموصل لليقين .. وليس الشك المطلق الذي يحيلك إلى قتامة التفكير وجمود العقل والى السقوط في هوة الباطل كما هوالحال عند فلاسفة إيطاليا في القرن السادس عشر قبل أن ينتهي هذا الفكر إلى التلاشي والاندراس ..
وبعد سنين من العطش وقع بين يدي بحث للمفكر الدكتور مصطفى محمود الموسوم بعنوان (لارجم للزانية) وكان بحثاً قيماً جامعاً لكل شرائط البحث العلمي الموضوعي المتجرد من الأيدولوجيا ومن كل الأهواء والانتماءات ماعدا الانتماء إلى الحقيقة وإعمال العقل ..
.."الرجم عقوبة ليست من الإسلام وأن القرآن الكريم لا توجد به آية رجم واحدة وأن القول بأن آية الرجم التي لم تنزل في كتاب الله بل رفعت وبقي حكمها وتقول : " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة " مختلقة لأنها لا تتماشى مع سلاسة القرآن الكريم وجمال نظمه إضافة إلى كلمة البتة وهي ثقيلة وليست من روح القرآن في شيء .. تسعة أدلة تثبت عدم شرعية الرجم في الإسلام وأن الرجم من الشريعة اليهودية والأمم السابقة وان الإسلام ينبذ الرجم ولا يقره" .. الكلام للدكتور مصطفى محمود .. وهذا الرأي يتوافق مع رؤية الدكتور حسن الترابي إلى حدٍ ما..
وأضيف على كلام مصطفى محمود قبل أن أسرد أدلته.. يقولون أن آية الرجم نُسخت لفظاً ولم تُنسخ حكماً ولا أدري لماذا تسقط من القرآن ويظل حكمها فاعلاً وتثبت آية الجلد ويعطل حكمها.. أي ازدواجية هذه؟
وسنستعرض أدلة الدكتور مع تحري الإيجاز قدر الإمكان ..
فماهي أدلة الدكتور مصطفى محمود ؟
الدليل الأول :
أنَّ الأمَة إذا تزوَّجت وزنت فإنَّها تُعاقب بنصف حدِّ الحُرَّة ، وذلك لقوله تعالى: ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )الرجم لا ينتصف ..
وجه الدليل من الآية : قوله : (فَإِذَا أُحْصِنَّ) أي تزوَّجن..(فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ ) أي الحرائر . والجلد هو الذي يقبل التنصيف ، مائة جلدة ونصفها خمسون ، أمَّا الرجم فإنَّه لا ينتصف ؛ لأنَّه موت وبعده قبر ، والموت لا ينتصف..
الدليل الثاني :
أنَّ البخاري روى في صحيحة في باب رجم الحُبلى : ( عن عبد الله بن أبي أوفى أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامديَّة . ولكنَّنا لا ندري أرجم قبل آية الجلد أم بعدها ) .
وجه الدليل : أنَّه شكَّك في الرجم بقوله : كان من النبي رجم . وذلك قبل سورة النور التي فيها : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) . لمَّا نزلت سورة النور بحكم فيه الجلد لعموم الزُناة فهل هذا الحكم القرآني ألغى اجتهاد النبي في الرجم أم أنَّ هذا الحكم باقٍ على المسلمين إلى هذا اليوم ؟
وجه التشكيك : إذا كان النبي قد رجم قبل نزول القرآن بالجلد لعموم الزُناة فإنَّ الرجم يكون منه قبل نزول القرآن وبالتالي يكون القرآن ألغى حكمه ويكون الجلد هو الحكم الجديد بدل حكم التوراة القديم الذي حكم به ـ احتمالاً ـ أمَّا إذا رجم بعد نزول القرآن بالجلد فإنَّه مخالف القرآن لا مفسِّراً له ومبيِّناً لأحكامه ولا موافقاً له ، ولا يصحُّ لعاقلٍ أن ينسب للنبي أنَّه خالف القرآن ؛ لأنَّه هو المُبلِّغ له والقدوة للمسلمين ..
الدليل الثالث :
أن الله تعالى بين للرجل في سورة النور أنه إذا رأى رجلاً يزني بامرأته ولم يقدر على إثبات زناها بالشهود فإنه يحلف أربعة أيمان أنه رآها تزني وفي هذه الحالة يُقام عليها حد الزنا ، وإذا هي ردت أيمانه عليه بأن حلفت أربعة أيمان أنه من الكاذبين فلا يُقام عليها الحد لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ . وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ . وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ . وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ)
وجه الدليل : هو أن هذا الحكم لامرأة محصنة . وقد جاء بعد قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) أي العذاب المقرر عليهما وهو الجلد ..
الدليل الرابع :
وفي حد نساء النبي : (يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ) أي عذاب الجلد ؛ لأنه ليس في القرآن إلا الجلد عذاب على هذا الفعل والموت هو الموت لايضاعف ..
الدليل الخامس :
قوله تعالى :(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الألف واللام في (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) نص على عدم التمييز بين الزناة سواءً محصنين أو غير محصنين.
الدليل السادس :
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) . هنا ذكر حد القذف ثمانين جلدة بعد ذكره حد الجلد مائة . يريد أن يقول : إن للفعل حد ولشاهد الزور حد وانتقاله من حد إلى حد يدل على كمال الحد الأول وتمامه ، وذكره الحد الخفيف الثمانون وعدم ذكر الحد الثقيل الرجم يدل على أن الرجم غير مشروع لأنه لو كان كذلك لكان أولى بالذكر في القرآن من حد القذف .
الدليل السابع :
قال تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) . الإمساك في البيوت لا يكون بعد الرجم ويعني الحياة لا الموت ؛ إذن هذا دليل على عدم وجود الرجم..
ولي وقفة هنا أُعقب فيها على استشهاد الدكتور بهذه الآية .. إذ يقول بعض العلماء أنها نُسخت.. "وهذا كان في أول الإسلام قبل نزول الحدود ، كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت ، ثم نسخ ذلك في حق البكر بالجلد والتغريب ، وفي حق الثيب بالجلد والرجم" ..هذا على الرغم من أن الناسخ والمنسوخ كذبة كبيرة ردها كثير من العلماء كالإمام محمد عبده , والزمخشري , والفخر الرازي , والغزالي , والشيخ القرضاوي .. بيد إن المفارقة الغريبة أن الأخير ينكر وجود ناسخ ومنسوخ ولكنه يؤمن بالرجم كعقوبة ! ربما هو ممن يعتقدون بأن الأحاديث تخصص عام القرآن كما سيأتينا في كلام الدكتور مصطفى محمود ...
الدليل الثامن :
قوله تعالى. ( الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) هنا حرم الله الزانية على المؤمن وهذا يدل على بقائها حية من بعد إقامة الحد عليها وهو مائة جلدة ، ولو كان الحد هو الرجم لما كانت قد بقيت من بعده على قيد الحياة .
. وإن تابت الزانية أو الزاني فيندرجا تحت قوله : (فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا) . فالتوبة تجب ما قبلها .
الدليل التاسع :
يقول العلماء : إن الخاص مقدم على العام . ثم يقولون : والقرآن عام . ثم يقولون : وفي القرآن آيات تخصص العام . ثم يقولون : وفي الأحاديث النبوية أحاديث تخصص العام . أما قولهم بأن العام في القرآن يخصص بقرآن فهذا هو ما اتفقوا عليه وأما قولهم بأن الأحاديث تخصص عام القرآن فهذا الذي اختلفوا فيه لأن القرآن قطعي الثبوت والحديث ظني الثبوت وراوي الحديث واحد عن واحد عن واحد ولا يصح تخصيص عام القرآن بخبر الواحد .
وعلى ذلك فإن قوله تعالى :(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) حكم عام يشمل الجميع محصنين أو غير محصنين . فهل يصح تخصيص العام الذي هو الجلد بحديث يرويه واحد عن واحد في الرجم ؟ !
يقول شيخ الإسلام فخر الدين الرازي عن الخوارج الذين أنكروا الرجم : إن قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) يقتضي وجوب الجلد على كل الزناة . وإيجاب الرجم على البعض بخبر الواحد يقتضي تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد وهو غير جائز لأن الكتاب قاطع في متنه بينما خبر الواحد غير قاطع في متنه والمقطوع راجح على المظنون..
ولو قلنا للدكتور مصطفى محمود إن لفظة الرجم تكررت في القرآن الكريم في مواضع مختلفة فهل يدل ذلك على أن الرجم عقوبة متأصلة بين الأمم على امتداد التاريخ؟! .. لقال : الرجم عقوبة جاهلية توارثها العرب والمسلمون وما كان لها بالقرآن صلة ..فلقد ذكرت كلمة رجم خمسة مرات في الكتاب المقدس عن شعوب سلفت نزول التحكيم الإسلامي تثبت أن الرجم غير مقبول في الإسلام كوسيلة ردع للمنحرف عن شريعة الله ومن تكبَّده أو هُدِّد به عبر التاريخ البشري قبل نزول القرآن وبعده كان تسلطاً وطغيانا كما تنص الآيات الصريحة.. وهو كالآتي :
{قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ }هود91
{إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً }الكهف20
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً }مريم46
{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }يس18
{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ }الدخان20.. انتهى
بعد كل هذه السلسلة من الشواهد تتبين لنا براءة الدين من هذه العقوبة وبأن الممارسات الصادرة من المسلمين لاتنطلق من فهم صحيح للدين .. بل من رواسب جاهلية وتركة اجتماعية أثقلت كاهل الإسلام ودُمغت به زوراً وبهتاناً ..
فينبغي من حملة هذا الدين لاسيما رجالاته ودعاته أن يكونوا زيناً له لاشيناً عليه وأن يبادروا بمبادرات جدية لتنقيح التراث وغربلته من شوائبه .. لرفع هذا الظلم الواقع على الإسلام ولقطع دابر المشككين والمتصيدين للزلات والعثرات ولكي لاتقع أجيالنا القادمة في دوامة الشبهات ولا تتلقفها الأيادي الغادرة والمتربصة بهذا الدين وأهله ..