الدكتور عادل رضا
08-20-2010, 06:19 PM
خطاب التنوير/ ثقافة الحوار في فكر السيِّد فضل الله/ المقدس لا يقدم الحصانة الكاذبة للخرافة
كتابات - باسم الماضي الحسناوي
من الحقِّ أن يُقال: إنَّ الخرافة كثيراً ما تحتمي بالمقدَّس، علماً أنَّ لهذا المقدَّس حقيقةً واقعيةً متجذِّرةً في النفوس والأذهان، وتأسيساً على هذا، فإنَّ أصعب مهمَّةٍ في التأريخ على الإطلاق هي المهمَّة التي قام بها الأنبياء والأوصياء والفلاسفة والمصلحون في محاربة الخرافة، ومنعها من أن تختلط بالمقدَّس الحقيقيّ والواقعيّ، فتطغى عليه إلى حدِّ أن لا يعود لجوهر المقدَّس من أهميةٍ تُذكر قياساً بالأهمية التي يحظى بها المظهر الخرافيُّ الذي هيمن على قداسة المقدَّس، فأحالها إلى شيءٍ أشبه ما يكون بمحض الخرافة.
من المؤسف أن يكون شأن الحقيقة المقدَّسة هو هذا دائماً، وأن تذهب كلُّ جهود رواد الحقِّ والحقيقة سدىً أمام هذا المدِّ الجارف من أرتال المؤمنين الخرافيين عبر التأريخ.
لا أنكر أنَّ الإيمان المطعَّم بالخرافة يمنح النفس الإنسانية غير الممرَّنة على تفضيل الحقائق هذه النشوة اللذيذة بالإيمان، بحيث يكون ملاذها وسبيلها للشعور بالخلاص حتى وهي مصرَّةٌ على الإنغماس في أوحال الرذيلة الخلقية والدينية حتى النخاع.
أما لو تحوَّلت الخرافة ذاتها إلى مصدرٍ أساسيٍّ من مصادر الرزق بالنسبة إلى عددٍ كبيرٍ ممن يبدون للناس كما لو أنهم أنفسهم في ذروة القداسة، فلا بدَّ للعقل في مثل هذا الظرف أن يذعن فلا يقترب من مناطق الخرافة ذاتها بالنقد والتحليل، وإلا فإنَّ اللعن والرجم وترويج الإشاعات والأقاويل هو المصير الذي ينتظره بالتأكيد.
ثمَّ يتطوَّر الأمر أكثر، فلا تحتاج الخرافة إلى المقدَّس في عملية الإحتماء، بل العكس هو ما سوف يحصل بالضبط، إذ يحتاج المقدَّس نفسه إلى الخرافة ليحتمي بها من عوامل الهدم والخراب والزوال، وخلال عملية تبادل الموقعية بين الخرافة والمقدَّس، لا يكون العلماء مالكين لأمرهم على الإطلاق، فهم مقدَّسون أيضاً في نظر الناس الذين استقبلوا الدين على هذه الشاكلة، والخرافيون يتظاهرون بأنهم من أتباعهم، ويبرِّرون تصرُّفاتهم بأقوالهم وأفعالهم، ولكن ليس إلى النهاية، فسرعان ما يتمكَّنون، وسرعان ما يأخذ الخرافيُّ الجاهل موقع العالم من الناحية العملية، فيضطرُّ العالم نفسه إلى مُداراته والتظاهر بمطابقته في ممارساته وأفعاله التي تتنافى مع جوهر الإعتقاد المشترك في الكثير من الأحيان، وهكذا يصبح المجتهد مقلِّداً والمقلِّد مجتهداً، على الرغم من الحفاظ على الوجهة الصحيحة في التسمية داخل اللافتات.
تلك هي مشكلة السيد محمَّد حسين فضل الله مع الفهم الشعبيِّ العامّ، فهو يصرُّ على أن يظلَّ مجتهداً، ولا يشاء أن يتنازل عن حقِّه في الإجتهاد أمام تحدِّيات هذا الفهم الشعبيِّ الساذج للشريعة، حتى لو كان الثمن هو أن تتعرَّض سمعته الدينية ذاتها للمحق أو الخطر، على النقيض تماماً من غالبية المجتهدين الآخرين الذين يلجأون إلى العناوين الثانوية التي تبرِّر لهم الإنجرار خلف عقائد العامَّة وممارساتهم الخرافية، حتى لو كانت مضامينها تخالف الشريعة مخالفةً صريحةً، ناهيك عن أن يكون لهذه الممارسات بعض المستندات الشرعية القابلة للتأويل.
إنَّ للفقهاء في سكوتهم عن الكثير من الممارسات الطقوسية الشعبية التي ربما كان بعضها يخالف الدين بشكلٍ صريحٍ كما قلنا، وربما كان بعضها الآخر قد تقادم عليه الزمن حتى بات جالباً للهزء والسخرية بالدين، مواقف ومبرراتٍ يمكن إجمالها بما يلي:
1- يعارض قسمٌ من الفقهاء هذه الطقوس معارضةً واضحةً، ويعلنون ذلك صراحةً للناس، فيتعرَّضون بسبب ذلك إلى النقد والتجريح، وربما اعتبرهم الناس فاقدين لمعنى العدالة، فتذهب دعواتهم ومحاولاتهم لتخطِّي تلك الممارسات والطقوس أدراج الرياح.
2- قسمٌ آخر من الفقهاء يضفون الشرعية التامَّة عليها، وربما اعتبروها جزءاً لا يتجزَّأ من الدين جرياً مع ما يعتقده الناس، إلى حدِّ أنَّ الطاعن عليها طاعنٌ على الدين في الوقت نفسه.
3- قسمٌ ثالثٌ من الفقهاء يتَّبع طريقاً وسطاً، فلا يرفض تلك الطقوس ولا يثبتها، ولكنه يعتبرها مظهراً من مظاهر تعظيم شعائر الله عزَّ وجلّ، وليست هي الشعائر ذاتها، وعلى هذا الأساس فإنه يحاول أن يجدِّد أساليبها، وأن يغيِّر في طرائقها، فيشحنها بمضامين جديدةٍ حيَّةٍ منسجمةٍ مع الروح العامَّة للشريعة المقدَّسة، فتستجيب له الجماهير الدينية وتتفاعل مع مقترحاته، لأنه لم يفعل أكثر من أن هداهم إلى أساليب أكثر فاعليةً في إنتاج الأثر الروحيِّ والإعتباريِّ المطلوب من ممارسة تلك الطقوس تجاه مفردات العقيدة.
من بين هذه المواقف الثلاثة يعتبر الموقف الثالث هو الأقرب إلى الصواب، فإنَّ كلَّ التجارب التأريخية تؤيِّد هذا الأسلوب، وتبرهن على أنه استطاع أن يؤتي أكله وثمراته المرجوَّة، بل إنَّ الأنبياء أنفسهم اتبعوا هذا الأسلوب في دعوتهم إلى أديانهم التي يبعثهم الله بها، وأدلُّ دليلٍ على ذلك ما أشار إليه الدكتور علي شريعتي في كتابه ((الحجّ:الفريضة الخامسة)) من أنَّ كثيراً من المظاهر التي كان العرب الجاهليون يلتزمون بها أثناء الجِّ أقرَّها الإسلام في الوقت الذي شحنها بمضامين ومداليل جديدةٍ تعكس رؤيته وفلسفته التوحيدية الخالصة، وهكذا قل عن الكثير من الطقوس والشعائر التي أقرَّها الإسلام بهذا الشرط، كما أنَّ هناك بعض الطقوس والشعائر التي أعمل الإسلام فيها يد التعديل والتحوير لتناسب فلسفته الخاصَّة، وهو تصرُّفٌ عقلانيٌّ صحيحٌ علينا أن ننتفع به في تجاربنا الإصلاحية العملية أثناء دعوتنا إلى تصحيح أيِّ مسارٍ في تصرُّفات الناس مما هو واقعٌ في نطاق تعظيم شعائر الإسلام بالممارسات الطقوسية المنحرفة.
أما حجَّة الذين يشاؤون الإبقاء على الطقوس التي لا تنسجم مع الشريعة من الناحية الجوهرية والمضمونية، فإنهم يطنون أنَّ الإبقاء عليها كما هي واقعٌ في طريق خدمة الشريعة "مادام ذلك لا يضرُّ بالعقيدة الأساسية، بل القضية على العكس من ذلك، فإنها تفيدها وتخدمها، لأنها تربط الناس بها من خلال ما اعتادوه وما ألفوه من أوضاعٍ وعاداتٍ ومعتقداتٍ، أمّا إذا حاولنا أن نحارب مثل هذا الإنحراف ونبعد الناس عنه، عندما نجعل رسالتنا الدعوة إلى تركه وتنفير الناس منه، فإنَّ الناس سيعيشون الإهتزاز الفكريَّ بالأساس القويِّ للعقيدة لما يعتقدونه من الإرتباط بينهما، حتى إذا انهار أحدهما انهار الآخر معه" السيد محمَّد حسين فضل الله. خطواتٌ على طريق الإسلام. ص320-ص321.
طبعاً هذا حقٌّ، لكنه حقٌّ يراد به باطلٌ كما يقال، لأنَّ القضية لا تتعلَّق بمداراة الناس من أجل سلامة عقيدتهم في الغالب، بقدر ما تتعلَّق بالحفاظ على الإمتيازات الدينية وغيرها، أو حتى إيثاراً للراحة والدعة والسلامة، وإلا فإنَّ الناس مستعدّون فعلاً لتلقِّي النصائح الدينية بالأسلوب الثالث المعتدل كما تشهد التجربة، ولا يوجد احتمالٌ ولو ضئيلٌ بأن يتعرَّضوا لهذا الإهتزاز الفكريِّ المزعوم، وأمامنا تجارب عديدةٌ نجحت في هذا السياق، أهمُّها على الإطلاق تجربة السيد محمَّد الصدر، فلقد نقد هذا المصلح الدينيُّ العملاق الإنحرافات الفكرية الموجودة في أذهان الخطباء الحسينيين، ودعا الناس إلى أن يهجروا الكثير من المظاهر الشاذَّة في الممارسات الحسينية، ولم تتعرَّض الجماهير الدينية إلى ما ورد من الخوف على إيمان الجماهير في هذا التبرير.
بل على العكس من ذلك، فقد زاد تعلُّق الناس بالشريعة، وتمسَّكوا أكثر بالقضية الحسينية، وصاروا يتفلسفون حولها بفلسفاتٍ ربما لم تكن معروفةً حتى في أوساط الفقهاء، وقد مثَّل مسعى السيد محمَّد الصدر في هذا المجال نجاحاً كبيراً أعانه على النهوض السريع بوعي الجماهير إلى مراحل متقدِّمةٍ من الوعي الدينيِّ بالأطروحة الإسلامية في الواقع.
إنَّ في الفكرة الآنفة خطورةً كبيرةً على فاعلية الشريعة واستمرارها من جهاتٍ عديدة:
الجهة الأولى: ما ذكره السيد محمَّد حسين فضل الله من أنَّ الإسلام لم يترك للإنسان "في كثيرٍ من المبادئ العامَّة الحرية في اختيار الأسلوب الذي يناسبه في تحقيقها وتطبيقها على الواقع، فقد شرع للإنسان العبادة، ولم يتركه ليعبد الله كيف شاء، بل رسم له طريقة العبادة واعتبرها توقيفيةً لا مجال فيها للزيادة والنقصان، سواءٌ في ذلك أقوالها وأفعالها" خطواتٌ على طريق الإسلام. ص321. فلا يُعبد الله من حيث نريد نحن، بل يُعبد الله من حيث يريد هو كما هو معلومٌ، فلا تعتبر الأساليب المنحرفة صحيحةً في نظر الشريعة بمجرَّد أن تكون في نظر هؤلاء الفقهاء واقعةً في طريق ترسيخ المعتقد الدينيّ، فللدين معالم وأساليب يتمُّ بها وحدها بلوغ الغايات الدينية المرسومة من قبل الله عزَّ وجلّ، وليس للناس أن يستبدلوا تلك الأساليب بأساليب أخرى يقترحونها على الله. "وعلى ضوء ذلك فإننا نفهم ضرورة التوفُّر على دراسة الأسلوب كما تتوفَّر على دراسة العمل نفسه، لأنه ربما يسيء إلى نفس الفكرة من حيث المعنى الذي يطبعها بطابعه...، فنواجه الأساليب التي تضرُّ بالفكرة لننقدها بقوَّةٍ من أجل إبعادها عن محيطنا الفكريِّ والعمليّ... أما الأساليب التي تنسجم مع جوِّ الفكرة ومعانيها فنشجِّعها ونحضنها ونسير عليها" خطواتٌ على طريق الإسلام. ص321_ ص322.
الجهة الثانية: لم يعد خافياً على الجميع ما تتسبَّب به الأساليب المنحرفة أو الطقوس البالية من حرجٍ كبيرٍ بالنسبة إلى قضية الدفاع عن الفكر الإسلاميِّ في مواجهة الفكر الحداثيِّ الغربيّ، مع ضرورة الإلتفات إلى أنَّ هذا الخطاب الحداثيَّ لم يعد موجوداً حصراً في الغرب، بل لعلَّ له مريدين وأنصاراً أشدّاء في الشرق الإسلاميِّ ذاته، وأمام هذه القضية لم يعد النفع المرجوُّ منها مساوياً للضرر المحتمل بل المحقَّق، بل إنَّ الثاني متفوِّقٌ على الأوَّل بالتأكيد، وعلى هذا الأساس لا بدَّ من المراجعة العقائدية النقدية الصحيحة ومحاولة اقتراح أساليب أخرى أكثر اتفاقاً مع الروح الإسلامية من الأساليب المتَّبعة، خاصةً وأنَّ هذه الطقوس والممارسات لا تتمتَّع بأية قدسيةٍ حقيقيةٍ في الشريعة، بل هي مجرَّد وسائل اقترحها أناسٌ سابقون في أزمانهم، ولعلَّها كانت مناسبةً لأهل تلك الأزمنة، "فإذا كان الزمن الماضي يسمح بوجودها لانسجامها مع مستواه، فإنَّ هذا الزمن لا يسمح بذلك، فقد أصبحت مثل هذه الأمور مثيرةً للإشمئزاز كما نلاحظه في ردود الفعل التي تحدث لدى الكثيرين من الناس، من دون أن يكون للجانب الدينيِّ أثرٌ في ذلك.. ولذلك فقد أصبحت ممثِّلةً للتخلُّف في حياة الفكرة وأصحابها في نظر الناس، مما يلزمنا تغييرها إلى أساليب جديدةٍ واستحداث وسائل أخرى تختلف عنها في الشكل والجوِّ والفكرة، لأنها فقدت قيمتها العملية من خلال ذلك" خطواتٌ على طريق الإسلام. ص330.
الجهة الثالثة: لعلَّ من الأخطاء الشائعة أن نتصوَّر أنَّ هناك ملازمةً بين الشعيرة الإسلامية المقدَّسة والأسلوب الذي يتمظهر به احترام تلك الشعيرة، فعلى سبيل المثال: ما نعتبره حقاً لازماً من وجوب إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام، فلا يكاد يعترض المرء على أسلوبٍ خاطئٍ من أساليب التعبير عن مواساة الإمام الحسين عليه السلام حتى ينتفض في وجهك أحدهم ليحتجَّ ضدَّك بهذا الوجوب، فتضطرّ إلى أن تحدِّق في وجهه طويلاً مندهشاً ومستغرباً، ثمَّ تدير في رأسك الأفكار حول إمكانية أن تخوض معه حواراً معرفياً حول هذه القضية، وإذ لا تتوقَّع منه أن يرتقي في فهمه إلى مستوىً عالٍ في التفكير تضطرُّ إلى الصمت كأنك معترفٌ بالهزيمة، وإلا فإنَّ عدم الملازمة بين الأمرين في منتهى الوضوح، فبإمكاننا أن نعظِّم الإمام الحسين عليه السلام، وأن نحيي أمره بالطرائق المناسبة التي تؤتي نتائج أفضل بطبيعة الحال.
إنَّ الأمة استغرقت في هذه الطقوس، وأمعنت فيها زماناً طويلاً، ومع ذلك لم يوجد الوعي الإسلاميّ الصحيح بقضية الإمام الحسين عليه السلام إلا في السنوات الأخيرة حيث انتشرت الأساليب المعبِّرة عن القضية من خلال التركيز على الأبعاد الفكرية والعاطفية الراقية، وليس من خلال ضربات الزنجيل والتطبير.
إنَّ التعبير بالأساليب العاطفية غير الراقية لا يعكس المضمون الكبير لأية قضيةٍ كبرى على الإطلاق، لأنَّ بإمكان الخصم أن يلجأ إلى ذات الأسلوب لو أراد، أو إلى أساليب مشابهةٍ ليست أقلَّ تأثيراً ليبرهن على صحَّة مذهبه أو اتجاهه من خلال ذلك.
أتذكَّر حادثةً في هذا المجال حدثت عندما كان الأخوة المصريون موجودين بكثرةٍ في العراق، فلقد لجأ بعض الأخوة المصريين إلى إقامة مأتم عزاءٍ بالترديدات الشعرية واللطم على عبد الله بن الزبير، تشبُّهاً بالشيعة في لطمهم وضربهم بالزناجيل على الإمام الحسين عليه السلام، واللطيف في الأمر أنَّ الإشاعة انتشرت في المدينة أنَّ هؤلاء المصريين تشيَّعوا، والدليل على ذلك أنهم بكوا ولطموا، وما كان بكاؤهم إلا على ذلك الصحابيِّ الدنيويِّ الجليل الذي لا يقاس أمره كلُّه بظفر الإبهام الأيسر من قدم الإمام الحسين عليه السلام.
ما أردت أن أقوله هو أنَّ هذه الأساليب العاطفية، لا سيما إذا كانت تنمُّ عن مستوىً متدنٍّ في التفكير، لا تعبِّر عن امتيازٍ موجودٍ في القضية الحسينية وعامَّة أمر أهل البيت عليهم السلام، بل الإمتياز الواقعيّ إنما هو تمثُّل القضية تمثلاً واعياً جديراً بإبراز الجوانب المضيئة الهامَّة في عموم القضايا والأطروحات في ميداني النظرية والتطبيق.
وقد يُثار إشكالٌ في هذا المقام: وهو أنَّ الفكر لم يترك أثراً موازياً للعاطفة في مجال الترويج للقضية الحسينية، وعلى هذا الأساس يكون الإعتقاد مبرَّراً لو أننا قلنا: إنَّ القضية الحسينية ما كان لها أن تستمرَّ إلى الآن لولا هذا البعد العاطفيّ الممتدّ في قضية الإمام الحسين عليه السلام، فلو نفَّذنا لك النصيحة في تعديل مسار إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام لانتهى أمرهم إلى الإندثار بالتأكيد.
والنقض على الإشكال يتمثَّل في التالي:
أوَّلاً: إنَّ مسألة إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام هي من الأمور الثابتة التي لا نتنازل عنها، لأنها جزءٌ لا يتجزَّأ من الدين، لكنَّ القضية الأساسية هي أنَّ أمر الإحياء ليس منحصراً في هذا الشذوذ الموجود في بعض الممارسات، بل كلُّ ما ندعو إليه هو ابتكار أساليب جديدةٍ في مجال التعبير الفكريِّ والعاطفيِّ عن قضية آل البيت عموماً وقضية الإمام الحسين خصوصاً، ولا تتضمَّن هذه الدعوة أيَّ معنىً من معاني التنازل عن أمر الإحياء المأمورين به شرعاً.
ثانياً: نحن لا نسلِّم بمضمون الإشكال حول تفوُّق التعبير العاطفيِّ على التعبير الفكريِّ والفلسفيِّ عن قضية آل البيت عليهم السلام، فليس آل البيت مجموعةً من الأشخاص العاديين الذين تعرَّضوا لمأساةٍ ضخمةٍ أثارت عواطفنا وبكاءنا وانتهى الأمر، وإلا فإنَّ عشرات بل مئات المآسي مما حصل في التأريخ البعيد والقريب تتضمَّن أوجاعاً وعذاباتٍ أكثر مما تعرَّض له آل البيت عليهم السلام، ومع تعاطفنا الإنسانيِّ الشديد مع هذه المآسي التي حصلت في التأريخ، إلا أننا لا يمكن أن نمنحها من البعد العقائديِّ ما نشعر به تُجاه آل البيت عليهم السلام.
بل حتى لو لم يتعرَّض آل البيت إلى أية مأساة على الإطلاق، فهل معنى ذلك أننا لا نمنحهم من حبِّنا وعاطفتنا هذا المقدار الكبير الذي نمنحهم إياه مع وجود المأساة.
ثالثاً: إنَّ الجانب العاطفيَّ الذي يمارسه بعض الخطباء غير المثقَّفين و((الرواديد)) من أضراب فلانٍ وفلانٍ، ما كان له أن يوجد لولا الجهد الفلسفيّ والتنظيريّ الراقي الذي مارسه مفكِّروا الإسلام من المجتهدين والمفكِّرين الإسلاميين على السواء، ولو كان العكس صحيحاً لرأيت كلَّ عقيدةٍ منحرفةٍ أو عاديةٍ يمكن الترويج لها وجعلها خالدةً بذات الإسلوب، والتالي باطلٌ فالمقدَّم مثله.
ثمَّ إنَّ هناك تضمُّناً موجوداً في الإدِّعاء السالف، وهو أنَّ القضية الحسينية ليست بمستوىً استثنائيٍّ من جهاتٍ كثيرةٍ تجعلها تقف على قمَّة الوعي الإنسانيِّ حتى نهاية الزمان، وهذا اعتقادٌ خطيرٌ لا نوافق عليه في كلِّ الأحوال، فيجب على أصحاب الإدِّعاء الإلتفاتُ إليه لانحرافه الواضح عن الإعتقاد الصحيح اللازم بعظمة الثورة الحسينية الخالدة.
رابعاً: نحن لا نقول بعدم وجود الأهمية بالنسبة للممارسات الطقوسية العاطفية، لكننا نقول إنَّ الفكر مقدَّمٌ عليها دائماً، بل هو الشرط الأساسيُّ لأن يأخذ البعد العاطفيّ مداه الصحيح، ولهذا فإنَّ الممارسات الطقوسية الحسينية يجب أن تكون مستلهمةً للأبعاد الفكرية والفلسفية الراقية الموجودة في فكر القضية الحسينية، هذا بالضبط ما ندعو إليه، ولا ندعو إلى التضحية بالجانب العاطفيِّ على الإطلاق.
إنَّ السيد فضل الله معنيٌّ بإبراز هذه المشكلات أكثر من غيره بطبيعة الحال، فهو الأكثر انخراطاً منهم جميعاً في مناقشة الإشكاليات الناجمة عن الجمود في فهم الشريعة الإسلامية، والإشكاليات النابعة من عدم الحوار الجديِّ بين الإسلام ومتطلَّبات الإنسان المعاصر في إطار فكر الحداثة -بمعناها الإيجابيّ وليس بمعناها السلبيّ طبعاً- ولهذا فإننا لا نتوقَّع من السيد فضل الله إزاء هذه الممارسات إلا موقفاً متكوِّناً من بعدين:
البعد الأوَّل: نقد هذه الممارسات نقداً حضارياً لا يغفل مسألة الأدلَّة الشرعية، بمعنى أنَّ السيد فضل الله يستلُّ المعنى الحضاريَّ المعاصر لما يجب أن تكون عليه ممارساتنا كلُّها من الإسلام نفسه، وليس من إملاءات فكر الحداثة كما يتصوَّر البعض.
البعد الآخر: إنَّ السيد فضل الله معنيٌّ أيضاً بتقديم البديل الصالح، لأنَّ فكره ينتقل بين مرحلتين دائماً، بين مرحلة التفكيك ومرحلة البناء، بحيث يكون الناتج فكراً بديلاً لا يقطع مع الهدف الإسلاميِّ الأصيل الكامن في الممارسة التي ربما انحرفت في بعض تمظهراتها وأشكالها عبر التأريخ، كما لا يقطع مع الحاجة الأساسية التي استدعته إلى إعادة النظر والتقييم باستخدام آلية التفكيك الدينيِّ والحضاريّ، فالتفكيك خطوةٌ لا بدَّ منها عند السيد فضل الله، لكنه لا يتوقَّف عندها كما يفعل الناقدون للإسلام بالمجّان، بل ينتقل رأساً إلى الهدف الإنسانيِّ المسؤول بتشييد البناء.
وحتى في مجال الفنّ، فإنَّ الجماهير الدينية في السابق لم تكن تملك من وسائل التعبير الفنيّ عن القضية الحسينية إلا الشعر، وقد أبلى فيه الشعراء المسلمون البلاء الحسن، وإلا النثر، وقد كتبت أروع الآثار الفنية في ذلك، وإلا تلك العروض المسرحية البسيطة التي كان يؤدِّيها أناسٌ غير مهرةٍ في فنِّ التمثيل، مضافاً إلى فقدان النصوص والحوارات الفنية الراقية التي تتطلَّبها الأعمال المسرحية والسينمائية، ومع ذلك فقد أدَّت هذه العروض المسرحية البسيطة غايتها في خدمة القضية الحسينية في ذلك الأوان.
أمّا اليوم فقد أصبحت هذه العروض المسرحية المتخلِّفة مجلبةً للهزء والسخرية بالقضية الحسينية مع شديد الأسف، لأنها فاقدةٌ لأبسط عناصر الأداء الفنيّ والمسرحيّ الصحيح، ومع ذلك فإنَّ عدداً كبيراً من المراجع لا يتخذون المواقف الحاسمة من شيوع مثل هذه القضية، لاستبدالها بالوسائل الفنية التعبيرية الأفضل التي تعزِّز من مكانة القضية الحسينية ولا تعرِّضها للهوان، "في ضوء هذا فإننا في الوقت الذي نؤكِّد بقاء مجالس العزاء في عاشوراء لأنها تجسِّد حالاً تعبويةً شعبيةً تحقِّق نتائج كبيرةً إيجابيةً على مستوى إنتاج جمهور عاشوراء في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وندعو إلى تطوير مجالس العزاء من حيث الأسلوب والأداء وما إلى ذلك، نعتقد أنَّ المسرح العاشورائيَّ الذي بدا في أكثر من موقعٍ بطريقةٍ بدائيةٍ قد تعطي شكل الحادثة، لكنها لا تملك عمقها وآفاقها وحيويَّتها وحركيَّتها ومفاهيمها مما يجعل الإنسان الذي يشاهد هذا المسرح البدائيَّ يتابع الأحداث بطريقةٍ جامدةٍ، وإذا تفاعلت فإنها تتفاعل بألوان المأساة فحسب. لذلك نحن نريد لعاشوراء أن تدخل العصر، وأن تنفتح على الإنسان المعاصر من موقع تجسيدها القيم التي انطلقت منها وتعميقها للمأساة التي تحرَّكت فيها وإطلالتها على الأجواء التي تنتجها، ومن الطبيعيّ أننا نحتاج للوصول إلى هذه النتائج التي تمنح عاشوراء بعداً عالمياً إنسانياً إلى جانب بعدها الشيعيّ أو الإسلاميّ إلى قدراتٍ فنيةٍ إبداعيةٍ في المسرح من حيث كتابة المسرحية ومن حيث إخراجها ومن حيث الأشخاص" محمَّد حسين فضل الله. فقه الحياة. ص176.
Bs2008aa@yahoo.com
كتابات - باسم الماضي الحسناوي
من الحقِّ أن يُقال: إنَّ الخرافة كثيراً ما تحتمي بالمقدَّس، علماً أنَّ لهذا المقدَّس حقيقةً واقعيةً متجذِّرةً في النفوس والأذهان، وتأسيساً على هذا، فإنَّ أصعب مهمَّةٍ في التأريخ على الإطلاق هي المهمَّة التي قام بها الأنبياء والأوصياء والفلاسفة والمصلحون في محاربة الخرافة، ومنعها من أن تختلط بالمقدَّس الحقيقيّ والواقعيّ، فتطغى عليه إلى حدِّ أن لا يعود لجوهر المقدَّس من أهميةٍ تُذكر قياساً بالأهمية التي يحظى بها المظهر الخرافيُّ الذي هيمن على قداسة المقدَّس، فأحالها إلى شيءٍ أشبه ما يكون بمحض الخرافة.
من المؤسف أن يكون شأن الحقيقة المقدَّسة هو هذا دائماً، وأن تذهب كلُّ جهود رواد الحقِّ والحقيقة سدىً أمام هذا المدِّ الجارف من أرتال المؤمنين الخرافيين عبر التأريخ.
لا أنكر أنَّ الإيمان المطعَّم بالخرافة يمنح النفس الإنسانية غير الممرَّنة على تفضيل الحقائق هذه النشوة اللذيذة بالإيمان، بحيث يكون ملاذها وسبيلها للشعور بالخلاص حتى وهي مصرَّةٌ على الإنغماس في أوحال الرذيلة الخلقية والدينية حتى النخاع.
أما لو تحوَّلت الخرافة ذاتها إلى مصدرٍ أساسيٍّ من مصادر الرزق بالنسبة إلى عددٍ كبيرٍ ممن يبدون للناس كما لو أنهم أنفسهم في ذروة القداسة، فلا بدَّ للعقل في مثل هذا الظرف أن يذعن فلا يقترب من مناطق الخرافة ذاتها بالنقد والتحليل، وإلا فإنَّ اللعن والرجم وترويج الإشاعات والأقاويل هو المصير الذي ينتظره بالتأكيد.
ثمَّ يتطوَّر الأمر أكثر، فلا تحتاج الخرافة إلى المقدَّس في عملية الإحتماء، بل العكس هو ما سوف يحصل بالضبط، إذ يحتاج المقدَّس نفسه إلى الخرافة ليحتمي بها من عوامل الهدم والخراب والزوال، وخلال عملية تبادل الموقعية بين الخرافة والمقدَّس، لا يكون العلماء مالكين لأمرهم على الإطلاق، فهم مقدَّسون أيضاً في نظر الناس الذين استقبلوا الدين على هذه الشاكلة، والخرافيون يتظاهرون بأنهم من أتباعهم، ويبرِّرون تصرُّفاتهم بأقوالهم وأفعالهم، ولكن ليس إلى النهاية، فسرعان ما يتمكَّنون، وسرعان ما يأخذ الخرافيُّ الجاهل موقع العالم من الناحية العملية، فيضطرُّ العالم نفسه إلى مُداراته والتظاهر بمطابقته في ممارساته وأفعاله التي تتنافى مع جوهر الإعتقاد المشترك في الكثير من الأحيان، وهكذا يصبح المجتهد مقلِّداً والمقلِّد مجتهداً، على الرغم من الحفاظ على الوجهة الصحيحة في التسمية داخل اللافتات.
تلك هي مشكلة السيد محمَّد حسين فضل الله مع الفهم الشعبيِّ العامّ، فهو يصرُّ على أن يظلَّ مجتهداً، ولا يشاء أن يتنازل عن حقِّه في الإجتهاد أمام تحدِّيات هذا الفهم الشعبيِّ الساذج للشريعة، حتى لو كان الثمن هو أن تتعرَّض سمعته الدينية ذاتها للمحق أو الخطر، على النقيض تماماً من غالبية المجتهدين الآخرين الذين يلجأون إلى العناوين الثانوية التي تبرِّر لهم الإنجرار خلف عقائد العامَّة وممارساتهم الخرافية، حتى لو كانت مضامينها تخالف الشريعة مخالفةً صريحةً، ناهيك عن أن يكون لهذه الممارسات بعض المستندات الشرعية القابلة للتأويل.
إنَّ للفقهاء في سكوتهم عن الكثير من الممارسات الطقوسية الشعبية التي ربما كان بعضها يخالف الدين بشكلٍ صريحٍ كما قلنا، وربما كان بعضها الآخر قد تقادم عليه الزمن حتى بات جالباً للهزء والسخرية بالدين، مواقف ومبرراتٍ يمكن إجمالها بما يلي:
1- يعارض قسمٌ من الفقهاء هذه الطقوس معارضةً واضحةً، ويعلنون ذلك صراحةً للناس، فيتعرَّضون بسبب ذلك إلى النقد والتجريح، وربما اعتبرهم الناس فاقدين لمعنى العدالة، فتذهب دعواتهم ومحاولاتهم لتخطِّي تلك الممارسات والطقوس أدراج الرياح.
2- قسمٌ آخر من الفقهاء يضفون الشرعية التامَّة عليها، وربما اعتبروها جزءاً لا يتجزَّأ من الدين جرياً مع ما يعتقده الناس، إلى حدِّ أنَّ الطاعن عليها طاعنٌ على الدين في الوقت نفسه.
3- قسمٌ ثالثٌ من الفقهاء يتَّبع طريقاً وسطاً، فلا يرفض تلك الطقوس ولا يثبتها، ولكنه يعتبرها مظهراً من مظاهر تعظيم شعائر الله عزَّ وجلّ، وليست هي الشعائر ذاتها، وعلى هذا الأساس فإنه يحاول أن يجدِّد أساليبها، وأن يغيِّر في طرائقها، فيشحنها بمضامين جديدةٍ حيَّةٍ منسجمةٍ مع الروح العامَّة للشريعة المقدَّسة، فتستجيب له الجماهير الدينية وتتفاعل مع مقترحاته، لأنه لم يفعل أكثر من أن هداهم إلى أساليب أكثر فاعليةً في إنتاج الأثر الروحيِّ والإعتباريِّ المطلوب من ممارسة تلك الطقوس تجاه مفردات العقيدة.
من بين هذه المواقف الثلاثة يعتبر الموقف الثالث هو الأقرب إلى الصواب، فإنَّ كلَّ التجارب التأريخية تؤيِّد هذا الأسلوب، وتبرهن على أنه استطاع أن يؤتي أكله وثمراته المرجوَّة، بل إنَّ الأنبياء أنفسهم اتبعوا هذا الأسلوب في دعوتهم إلى أديانهم التي يبعثهم الله بها، وأدلُّ دليلٍ على ذلك ما أشار إليه الدكتور علي شريعتي في كتابه ((الحجّ:الفريضة الخامسة)) من أنَّ كثيراً من المظاهر التي كان العرب الجاهليون يلتزمون بها أثناء الجِّ أقرَّها الإسلام في الوقت الذي شحنها بمضامين ومداليل جديدةٍ تعكس رؤيته وفلسفته التوحيدية الخالصة، وهكذا قل عن الكثير من الطقوس والشعائر التي أقرَّها الإسلام بهذا الشرط، كما أنَّ هناك بعض الطقوس والشعائر التي أعمل الإسلام فيها يد التعديل والتحوير لتناسب فلسفته الخاصَّة، وهو تصرُّفٌ عقلانيٌّ صحيحٌ علينا أن ننتفع به في تجاربنا الإصلاحية العملية أثناء دعوتنا إلى تصحيح أيِّ مسارٍ في تصرُّفات الناس مما هو واقعٌ في نطاق تعظيم شعائر الإسلام بالممارسات الطقوسية المنحرفة.
أما حجَّة الذين يشاؤون الإبقاء على الطقوس التي لا تنسجم مع الشريعة من الناحية الجوهرية والمضمونية، فإنهم يطنون أنَّ الإبقاء عليها كما هي واقعٌ في طريق خدمة الشريعة "مادام ذلك لا يضرُّ بالعقيدة الأساسية، بل القضية على العكس من ذلك، فإنها تفيدها وتخدمها، لأنها تربط الناس بها من خلال ما اعتادوه وما ألفوه من أوضاعٍ وعاداتٍ ومعتقداتٍ، أمّا إذا حاولنا أن نحارب مثل هذا الإنحراف ونبعد الناس عنه، عندما نجعل رسالتنا الدعوة إلى تركه وتنفير الناس منه، فإنَّ الناس سيعيشون الإهتزاز الفكريَّ بالأساس القويِّ للعقيدة لما يعتقدونه من الإرتباط بينهما، حتى إذا انهار أحدهما انهار الآخر معه" السيد محمَّد حسين فضل الله. خطواتٌ على طريق الإسلام. ص320-ص321.
طبعاً هذا حقٌّ، لكنه حقٌّ يراد به باطلٌ كما يقال، لأنَّ القضية لا تتعلَّق بمداراة الناس من أجل سلامة عقيدتهم في الغالب، بقدر ما تتعلَّق بالحفاظ على الإمتيازات الدينية وغيرها، أو حتى إيثاراً للراحة والدعة والسلامة، وإلا فإنَّ الناس مستعدّون فعلاً لتلقِّي النصائح الدينية بالأسلوب الثالث المعتدل كما تشهد التجربة، ولا يوجد احتمالٌ ولو ضئيلٌ بأن يتعرَّضوا لهذا الإهتزاز الفكريِّ المزعوم، وأمامنا تجارب عديدةٌ نجحت في هذا السياق، أهمُّها على الإطلاق تجربة السيد محمَّد الصدر، فلقد نقد هذا المصلح الدينيُّ العملاق الإنحرافات الفكرية الموجودة في أذهان الخطباء الحسينيين، ودعا الناس إلى أن يهجروا الكثير من المظاهر الشاذَّة في الممارسات الحسينية، ولم تتعرَّض الجماهير الدينية إلى ما ورد من الخوف على إيمان الجماهير في هذا التبرير.
بل على العكس من ذلك، فقد زاد تعلُّق الناس بالشريعة، وتمسَّكوا أكثر بالقضية الحسينية، وصاروا يتفلسفون حولها بفلسفاتٍ ربما لم تكن معروفةً حتى في أوساط الفقهاء، وقد مثَّل مسعى السيد محمَّد الصدر في هذا المجال نجاحاً كبيراً أعانه على النهوض السريع بوعي الجماهير إلى مراحل متقدِّمةٍ من الوعي الدينيِّ بالأطروحة الإسلامية في الواقع.
إنَّ في الفكرة الآنفة خطورةً كبيرةً على فاعلية الشريعة واستمرارها من جهاتٍ عديدة:
الجهة الأولى: ما ذكره السيد محمَّد حسين فضل الله من أنَّ الإسلام لم يترك للإنسان "في كثيرٍ من المبادئ العامَّة الحرية في اختيار الأسلوب الذي يناسبه في تحقيقها وتطبيقها على الواقع، فقد شرع للإنسان العبادة، ولم يتركه ليعبد الله كيف شاء، بل رسم له طريقة العبادة واعتبرها توقيفيةً لا مجال فيها للزيادة والنقصان، سواءٌ في ذلك أقوالها وأفعالها" خطواتٌ على طريق الإسلام. ص321. فلا يُعبد الله من حيث نريد نحن، بل يُعبد الله من حيث يريد هو كما هو معلومٌ، فلا تعتبر الأساليب المنحرفة صحيحةً في نظر الشريعة بمجرَّد أن تكون في نظر هؤلاء الفقهاء واقعةً في طريق ترسيخ المعتقد الدينيّ، فللدين معالم وأساليب يتمُّ بها وحدها بلوغ الغايات الدينية المرسومة من قبل الله عزَّ وجلّ، وليس للناس أن يستبدلوا تلك الأساليب بأساليب أخرى يقترحونها على الله. "وعلى ضوء ذلك فإننا نفهم ضرورة التوفُّر على دراسة الأسلوب كما تتوفَّر على دراسة العمل نفسه، لأنه ربما يسيء إلى نفس الفكرة من حيث المعنى الذي يطبعها بطابعه...، فنواجه الأساليب التي تضرُّ بالفكرة لننقدها بقوَّةٍ من أجل إبعادها عن محيطنا الفكريِّ والعمليّ... أما الأساليب التي تنسجم مع جوِّ الفكرة ومعانيها فنشجِّعها ونحضنها ونسير عليها" خطواتٌ على طريق الإسلام. ص321_ ص322.
الجهة الثانية: لم يعد خافياً على الجميع ما تتسبَّب به الأساليب المنحرفة أو الطقوس البالية من حرجٍ كبيرٍ بالنسبة إلى قضية الدفاع عن الفكر الإسلاميِّ في مواجهة الفكر الحداثيِّ الغربيّ، مع ضرورة الإلتفات إلى أنَّ هذا الخطاب الحداثيَّ لم يعد موجوداً حصراً في الغرب، بل لعلَّ له مريدين وأنصاراً أشدّاء في الشرق الإسلاميِّ ذاته، وأمام هذه القضية لم يعد النفع المرجوُّ منها مساوياً للضرر المحتمل بل المحقَّق، بل إنَّ الثاني متفوِّقٌ على الأوَّل بالتأكيد، وعلى هذا الأساس لا بدَّ من المراجعة العقائدية النقدية الصحيحة ومحاولة اقتراح أساليب أخرى أكثر اتفاقاً مع الروح الإسلامية من الأساليب المتَّبعة، خاصةً وأنَّ هذه الطقوس والممارسات لا تتمتَّع بأية قدسيةٍ حقيقيةٍ في الشريعة، بل هي مجرَّد وسائل اقترحها أناسٌ سابقون في أزمانهم، ولعلَّها كانت مناسبةً لأهل تلك الأزمنة، "فإذا كان الزمن الماضي يسمح بوجودها لانسجامها مع مستواه، فإنَّ هذا الزمن لا يسمح بذلك، فقد أصبحت مثل هذه الأمور مثيرةً للإشمئزاز كما نلاحظه في ردود الفعل التي تحدث لدى الكثيرين من الناس، من دون أن يكون للجانب الدينيِّ أثرٌ في ذلك.. ولذلك فقد أصبحت ممثِّلةً للتخلُّف في حياة الفكرة وأصحابها في نظر الناس، مما يلزمنا تغييرها إلى أساليب جديدةٍ واستحداث وسائل أخرى تختلف عنها في الشكل والجوِّ والفكرة، لأنها فقدت قيمتها العملية من خلال ذلك" خطواتٌ على طريق الإسلام. ص330.
الجهة الثالثة: لعلَّ من الأخطاء الشائعة أن نتصوَّر أنَّ هناك ملازمةً بين الشعيرة الإسلامية المقدَّسة والأسلوب الذي يتمظهر به احترام تلك الشعيرة، فعلى سبيل المثال: ما نعتبره حقاً لازماً من وجوب إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام، فلا يكاد يعترض المرء على أسلوبٍ خاطئٍ من أساليب التعبير عن مواساة الإمام الحسين عليه السلام حتى ينتفض في وجهك أحدهم ليحتجَّ ضدَّك بهذا الوجوب، فتضطرّ إلى أن تحدِّق في وجهه طويلاً مندهشاً ومستغرباً، ثمَّ تدير في رأسك الأفكار حول إمكانية أن تخوض معه حواراً معرفياً حول هذه القضية، وإذ لا تتوقَّع منه أن يرتقي في فهمه إلى مستوىً عالٍ في التفكير تضطرُّ إلى الصمت كأنك معترفٌ بالهزيمة، وإلا فإنَّ عدم الملازمة بين الأمرين في منتهى الوضوح، فبإمكاننا أن نعظِّم الإمام الحسين عليه السلام، وأن نحيي أمره بالطرائق المناسبة التي تؤتي نتائج أفضل بطبيعة الحال.
إنَّ الأمة استغرقت في هذه الطقوس، وأمعنت فيها زماناً طويلاً، ومع ذلك لم يوجد الوعي الإسلاميّ الصحيح بقضية الإمام الحسين عليه السلام إلا في السنوات الأخيرة حيث انتشرت الأساليب المعبِّرة عن القضية من خلال التركيز على الأبعاد الفكرية والعاطفية الراقية، وليس من خلال ضربات الزنجيل والتطبير.
إنَّ التعبير بالأساليب العاطفية غير الراقية لا يعكس المضمون الكبير لأية قضيةٍ كبرى على الإطلاق، لأنَّ بإمكان الخصم أن يلجأ إلى ذات الأسلوب لو أراد، أو إلى أساليب مشابهةٍ ليست أقلَّ تأثيراً ليبرهن على صحَّة مذهبه أو اتجاهه من خلال ذلك.
أتذكَّر حادثةً في هذا المجال حدثت عندما كان الأخوة المصريون موجودين بكثرةٍ في العراق، فلقد لجأ بعض الأخوة المصريين إلى إقامة مأتم عزاءٍ بالترديدات الشعرية واللطم على عبد الله بن الزبير، تشبُّهاً بالشيعة في لطمهم وضربهم بالزناجيل على الإمام الحسين عليه السلام، واللطيف في الأمر أنَّ الإشاعة انتشرت في المدينة أنَّ هؤلاء المصريين تشيَّعوا، والدليل على ذلك أنهم بكوا ولطموا، وما كان بكاؤهم إلا على ذلك الصحابيِّ الدنيويِّ الجليل الذي لا يقاس أمره كلُّه بظفر الإبهام الأيسر من قدم الإمام الحسين عليه السلام.
ما أردت أن أقوله هو أنَّ هذه الأساليب العاطفية، لا سيما إذا كانت تنمُّ عن مستوىً متدنٍّ في التفكير، لا تعبِّر عن امتيازٍ موجودٍ في القضية الحسينية وعامَّة أمر أهل البيت عليهم السلام، بل الإمتياز الواقعيّ إنما هو تمثُّل القضية تمثلاً واعياً جديراً بإبراز الجوانب المضيئة الهامَّة في عموم القضايا والأطروحات في ميداني النظرية والتطبيق.
وقد يُثار إشكالٌ في هذا المقام: وهو أنَّ الفكر لم يترك أثراً موازياً للعاطفة في مجال الترويج للقضية الحسينية، وعلى هذا الأساس يكون الإعتقاد مبرَّراً لو أننا قلنا: إنَّ القضية الحسينية ما كان لها أن تستمرَّ إلى الآن لولا هذا البعد العاطفيّ الممتدّ في قضية الإمام الحسين عليه السلام، فلو نفَّذنا لك النصيحة في تعديل مسار إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام لانتهى أمرهم إلى الإندثار بالتأكيد.
والنقض على الإشكال يتمثَّل في التالي:
أوَّلاً: إنَّ مسألة إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام هي من الأمور الثابتة التي لا نتنازل عنها، لأنها جزءٌ لا يتجزَّأ من الدين، لكنَّ القضية الأساسية هي أنَّ أمر الإحياء ليس منحصراً في هذا الشذوذ الموجود في بعض الممارسات، بل كلُّ ما ندعو إليه هو ابتكار أساليب جديدةٍ في مجال التعبير الفكريِّ والعاطفيِّ عن قضية آل البيت عموماً وقضية الإمام الحسين خصوصاً، ولا تتضمَّن هذه الدعوة أيَّ معنىً من معاني التنازل عن أمر الإحياء المأمورين به شرعاً.
ثانياً: نحن لا نسلِّم بمضمون الإشكال حول تفوُّق التعبير العاطفيِّ على التعبير الفكريِّ والفلسفيِّ عن قضية آل البيت عليهم السلام، فليس آل البيت مجموعةً من الأشخاص العاديين الذين تعرَّضوا لمأساةٍ ضخمةٍ أثارت عواطفنا وبكاءنا وانتهى الأمر، وإلا فإنَّ عشرات بل مئات المآسي مما حصل في التأريخ البعيد والقريب تتضمَّن أوجاعاً وعذاباتٍ أكثر مما تعرَّض له آل البيت عليهم السلام، ومع تعاطفنا الإنسانيِّ الشديد مع هذه المآسي التي حصلت في التأريخ، إلا أننا لا يمكن أن نمنحها من البعد العقائديِّ ما نشعر به تُجاه آل البيت عليهم السلام.
بل حتى لو لم يتعرَّض آل البيت إلى أية مأساة على الإطلاق، فهل معنى ذلك أننا لا نمنحهم من حبِّنا وعاطفتنا هذا المقدار الكبير الذي نمنحهم إياه مع وجود المأساة.
ثالثاً: إنَّ الجانب العاطفيَّ الذي يمارسه بعض الخطباء غير المثقَّفين و((الرواديد)) من أضراب فلانٍ وفلانٍ، ما كان له أن يوجد لولا الجهد الفلسفيّ والتنظيريّ الراقي الذي مارسه مفكِّروا الإسلام من المجتهدين والمفكِّرين الإسلاميين على السواء، ولو كان العكس صحيحاً لرأيت كلَّ عقيدةٍ منحرفةٍ أو عاديةٍ يمكن الترويج لها وجعلها خالدةً بذات الإسلوب، والتالي باطلٌ فالمقدَّم مثله.
ثمَّ إنَّ هناك تضمُّناً موجوداً في الإدِّعاء السالف، وهو أنَّ القضية الحسينية ليست بمستوىً استثنائيٍّ من جهاتٍ كثيرةٍ تجعلها تقف على قمَّة الوعي الإنسانيِّ حتى نهاية الزمان، وهذا اعتقادٌ خطيرٌ لا نوافق عليه في كلِّ الأحوال، فيجب على أصحاب الإدِّعاء الإلتفاتُ إليه لانحرافه الواضح عن الإعتقاد الصحيح اللازم بعظمة الثورة الحسينية الخالدة.
رابعاً: نحن لا نقول بعدم وجود الأهمية بالنسبة للممارسات الطقوسية العاطفية، لكننا نقول إنَّ الفكر مقدَّمٌ عليها دائماً، بل هو الشرط الأساسيُّ لأن يأخذ البعد العاطفيّ مداه الصحيح، ولهذا فإنَّ الممارسات الطقوسية الحسينية يجب أن تكون مستلهمةً للأبعاد الفكرية والفلسفية الراقية الموجودة في فكر القضية الحسينية، هذا بالضبط ما ندعو إليه، ولا ندعو إلى التضحية بالجانب العاطفيِّ على الإطلاق.
إنَّ السيد فضل الله معنيٌّ بإبراز هذه المشكلات أكثر من غيره بطبيعة الحال، فهو الأكثر انخراطاً منهم جميعاً في مناقشة الإشكاليات الناجمة عن الجمود في فهم الشريعة الإسلامية، والإشكاليات النابعة من عدم الحوار الجديِّ بين الإسلام ومتطلَّبات الإنسان المعاصر في إطار فكر الحداثة -بمعناها الإيجابيّ وليس بمعناها السلبيّ طبعاً- ولهذا فإننا لا نتوقَّع من السيد فضل الله إزاء هذه الممارسات إلا موقفاً متكوِّناً من بعدين:
البعد الأوَّل: نقد هذه الممارسات نقداً حضارياً لا يغفل مسألة الأدلَّة الشرعية، بمعنى أنَّ السيد فضل الله يستلُّ المعنى الحضاريَّ المعاصر لما يجب أن تكون عليه ممارساتنا كلُّها من الإسلام نفسه، وليس من إملاءات فكر الحداثة كما يتصوَّر البعض.
البعد الآخر: إنَّ السيد فضل الله معنيٌّ أيضاً بتقديم البديل الصالح، لأنَّ فكره ينتقل بين مرحلتين دائماً، بين مرحلة التفكيك ومرحلة البناء، بحيث يكون الناتج فكراً بديلاً لا يقطع مع الهدف الإسلاميِّ الأصيل الكامن في الممارسة التي ربما انحرفت في بعض تمظهراتها وأشكالها عبر التأريخ، كما لا يقطع مع الحاجة الأساسية التي استدعته إلى إعادة النظر والتقييم باستخدام آلية التفكيك الدينيِّ والحضاريّ، فالتفكيك خطوةٌ لا بدَّ منها عند السيد فضل الله، لكنه لا يتوقَّف عندها كما يفعل الناقدون للإسلام بالمجّان، بل ينتقل رأساً إلى الهدف الإنسانيِّ المسؤول بتشييد البناء.
وحتى في مجال الفنّ، فإنَّ الجماهير الدينية في السابق لم تكن تملك من وسائل التعبير الفنيّ عن القضية الحسينية إلا الشعر، وقد أبلى فيه الشعراء المسلمون البلاء الحسن، وإلا النثر، وقد كتبت أروع الآثار الفنية في ذلك، وإلا تلك العروض المسرحية البسيطة التي كان يؤدِّيها أناسٌ غير مهرةٍ في فنِّ التمثيل، مضافاً إلى فقدان النصوص والحوارات الفنية الراقية التي تتطلَّبها الأعمال المسرحية والسينمائية، ومع ذلك فقد أدَّت هذه العروض المسرحية البسيطة غايتها في خدمة القضية الحسينية في ذلك الأوان.
أمّا اليوم فقد أصبحت هذه العروض المسرحية المتخلِّفة مجلبةً للهزء والسخرية بالقضية الحسينية مع شديد الأسف، لأنها فاقدةٌ لأبسط عناصر الأداء الفنيّ والمسرحيّ الصحيح، ومع ذلك فإنَّ عدداً كبيراً من المراجع لا يتخذون المواقف الحاسمة من شيوع مثل هذه القضية، لاستبدالها بالوسائل الفنية التعبيرية الأفضل التي تعزِّز من مكانة القضية الحسينية ولا تعرِّضها للهوان، "في ضوء هذا فإننا في الوقت الذي نؤكِّد بقاء مجالس العزاء في عاشوراء لأنها تجسِّد حالاً تعبويةً شعبيةً تحقِّق نتائج كبيرةً إيجابيةً على مستوى إنتاج جمهور عاشوراء في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وندعو إلى تطوير مجالس العزاء من حيث الأسلوب والأداء وما إلى ذلك، نعتقد أنَّ المسرح العاشورائيَّ الذي بدا في أكثر من موقعٍ بطريقةٍ بدائيةٍ قد تعطي شكل الحادثة، لكنها لا تملك عمقها وآفاقها وحيويَّتها وحركيَّتها ومفاهيمها مما يجعل الإنسان الذي يشاهد هذا المسرح البدائيَّ يتابع الأحداث بطريقةٍ جامدةٍ، وإذا تفاعلت فإنها تتفاعل بألوان المأساة فحسب. لذلك نحن نريد لعاشوراء أن تدخل العصر، وأن تنفتح على الإنسان المعاصر من موقع تجسيدها القيم التي انطلقت منها وتعميقها للمأساة التي تحرَّكت فيها وإطلالتها على الأجواء التي تنتجها، ومن الطبيعيّ أننا نحتاج للوصول إلى هذه النتائج التي تمنح عاشوراء بعداً عالمياً إنسانياً إلى جانب بعدها الشيعيّ أو الإسلاميّ إلى قدراتٍ فنيةٍ إبداعيةٍ في المسرح من حيث كتابة المسرحية ومن حيث إخراجها ومن حيث الأشخاص" محمَّد حسين فضل الله. فقه الحياة. ص176.
Bs2008aa@yahoo.com