المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأعصم القرمطي.. هازم الجيوش والعواصم



فيثاغورس
08-15-2010, 03:14 AM
إعداد: صالح السعيدي

الحدث التاريخي هو نواة التاريخ وسبب قيامه، والتاريخ في صفحاته متعدد الاتجاهات، والابطال هم الذين يصنعون تاريخهم، ومثلما وجد أبطال من الملوك والأمراء والقادة والفرسان والشعراء من الرجال والنساء الذين أوفاهم التاريخ والمؤرخون حقهم ونالوا مكانتهم المميزة في الذاكرة الشعبية، وشاعت سيرهم وحفظت أخبارهم في سجلات المؤرخين وعند الخاص والعام، فان كثيرين غيرهم من المغمورين في التاريخ الذين لا يقلون عن هؤلاء بطولة وتأثيرا لم يأخذوا حقهم في الشهرة في الذاكرة الشعبية ولم تنل سيرهم وأفعالهم حظها في الذيوع، أو ان انتشارها ظل محصورا في إطار مكاني محدود وفي افق معرفي ضيق.

وقد يكون مرد ذلك لعدة أسباب منها طغيان أحداث كبرى واشتهار شخصيات أخرى في زمنهم، مما كانت شهرتهم على حسابهم، أو سقوط أماكنهم ومناطقهم في دائرة الإهمال والنسيان لبعدهم عن مواطن الحضارة ومراكز المعرفة، ولا يعني ذلك أنهم مجهولون تماما.

قد يكون هؤلاء المغمورون معروفين لدى أهل العلم من المتخصصين والباحثين أو يكونون مشهورين في بلدانهم أو طوائفهم أو جماعاتهم، لكن سيرتهم لم تتجاوز الإطار الجغرافي أو الزماني الذي صنعوا أحداثه. ومن اجل هؤلاء الأبطال المغمورين في التاريخ نقدم هذه السلسلة. والى شخصية اليوم:

بعد وفاة احمد بن الحسن (أبو منصور) زعيم القرامطة سنة 359 هجري، بعد صراعات مع اخوته على السلطة، ولي ابنه أبو علي الحسن ابن أحمد ويلقب الاعصم، فطالت مدته وعظمت وقائعه. تآمر عليه بنو عمه فنفى جمعا كثيرا من نحو من ثلاثمائة من أعمامه من ولد أبي طاهر الى جزيرة البحرين.

وأدى الاعصم فريضة الحج الى مكة بنفسه، بعدما كان اسلافه من القرامطة يقتلون الحجاج، ويمنعون الفريضة، ولم يتعرض للحاج. وحول ولاء القرامطة من الدولة الفاطمية الشيعية الإسماعيلية الى الدولة العباسية السنية، ولبس السواد شعار العباسيين وخطب للمطيع العباسي.
كان قصير القامة وله بياض في أحد أطرافه، لهذا سمي بالأعصم. وعن قصر قامته كان يقول:

زعموا أنني قصير لعمري
ما تكال الرجال بالقفزان
إنما المرء باللسان وبالقلب
وهذا قلبي وهذا لساني

في عهده حدث تحول عميق في ولاء القرامطة، فقد اشتعلت العداوة بين قرامطة البحرين والفاطميين، وانفجرت في حرب مفتوحة عقب فتح الفاطميين مصر عام 358هـ (969 م) واجتياح الفاطميين لسوريا في العام الذي تلاه.

وحقق الاعصم للقرامطة وضعاً اقتصادياً وإعلامياً أقرب إلى التنظيم، وذلك بعد أن مد نفوذه الى مناطق وطرق الحج والشام بما فيها بيت المقدس، أي أنه استطاع السيطرة على أهم بقاع المسلمين.

وكان الفاطميون حين استولوا على مصر يستهدفون الوصول الى بغداد والقضاء على الخلافة العباسية، وكان للفاطميين أنصارهم في خراسان والمشرق، ممن يمكن حشدهم للتوجه نحو العراق، وكان على قرامطة البحرين مهاجمة العراق من الجنوب، لذلك يلاحظ أنه لما استولى جوهر قائد المعز لدين الله على مصر قام سنة 359هـ(969م) بارسال جيش كبير على رأسه القائد جعفر بن فلاح الكتامي نحو بلاد الشام ليعمل على ضمها الى الحكم الفاطمي.

نهب الإحساء

كانت السلطة الاخشيدية في مصر تدفع في كل سنة الى القرامطة، ثلاثمائة ألف دينار، فلما استولى الفاطميون على مصر انقطع المال عن القرامطة. ولما طالب الأعصم القرمطي بالضريبة التي كانت له على دمشق منعوه ونابذوه، وكتب له الخليفة الفاطمي المعز وأغلظ عليه وأرسل لخصومه من ابناء أبي طاهر وبنيه ان الامر لولده، فخرجوا من البحرين ونهبوا الإحساء في غيبته. وتدخل الخليفة العباسي الطائع العباسي لصالح الاعصم وكتب إليهم بالتزام الطاعة، وأن يصالحوا ابن عمهم ويقيموا بجزيرة البحرين، وبعث من أحكم بينهم الصلح.

ورد الاعصم على الاجراءات الفاطمية بحقه فخلع بيعة الولاء للخليفة الفاطمي المعز سنة 362 هجري، وخطب للمطيع العباسي في منابره ولبس السواد (شعار العباسيين). ووقع الأعصم معاهدة سلم وتعايش مع الدولة العباسية ورفع رايات العباسيين السوداء المكتوب عليها «السادة الراجعين إلى الحق». وكان القائم بشؤون الدفاع عن دمشق أبو اسحق محمد بن عصودا هرب إلى الإحساء حيث طلب معونة القرامطة ضد الفاطميين، ودخلت الخلافة العباسية على خط النزاع بين الفاطميين والقرامطة، فامد الخليفة العباسي الطائع الأعصم بـ400 ألف دينار مساعدة له لغزو الشام.

زحف إلى دمشق

وزحف الأعصم إلى دمشق، وخرج واليها الفاطمي جعفر بن فلاح الكتامي (من قبيلة كتامة البربرية) فجمع جعفر خواصه واستشارهم، فاتفقوا على أن يكون لقاء القرامطة في طرف البرية قبل أن يتمكنوا من الحواضر، فخرج إليهم ولقيهم، فقاتلهم قتالا شديداً، يوم الخميس السادس من ذي القعدة سنة 360 هجري، فانهزمت قوات جعفر عنه. وركب القرامطة أقفيتهم، وقد تكاثرت العربان من كل ناحية، وصعد الغبار، فلم يعرف كبير من صغير، ووجد جعفر قتيلا لا يعرف له قاتل.

وكانت هذه الوقعة في يوم، فامتلأت أيدي القرامطة بما احتووا عليه من المال والسلاح وغيره، وخرج محمد بن عصودا إلى جثة جعفر بن فلاح، وهي مطروحة في الطريق، فأخذ رأسه وصلبه على حائط داره، أراد بذلك أخذ ثأر أخيه اسحق بن عصودا الذي أعدمه الفاطميون.
وقضى الأعصم زمنا وهو يناوش بقايا القوات الفاطمية التي تجمعت حول القائد جعفر الصقلي، إلى أن تمكنت القوات الفاطمية من تأمين مواقعها في الشام. وعندما توقفت المناوشات أشاع الفاطميون ان الاعصم خشي ملاقاة القبائل البربرية المغربية التي تشكل عماد الجيش الفاطمي، فقال شعرا يتوعد القبائل المغربية البربرية القادمة مع المعز لدين الله الفاطمي ويقول:

زعمت رجال الغرب أني هبتها
فدمي إذاً ما بينهم مطلول
يا مصر إن لم أسق أرضك من دم
يروي ثراك فلا سقاني النيل

زحف نحو القاهرة

ثم استكمل القرامطة زحفهم نحو القاهرة خلف الفلول الفاطمية ونزل على القاهرة سنة 361هـ - 972م فنزلوا بعين شمس، فخيموا بها، وحصروا مصر حصراً شديداً، وأفسدوا ونهبوا القرى وقطعوا السبيل، وكثرت جموعهم، والتف حولهم من العرب وقطاع الطريق جمع كبير. وبعث الاعصم بجزء من قواته نحو الصعيد، وانبثت سراياه في أرض مصر فتأهب المعز، وعرض عساكره وأمر بتفرقة السلاح على الرجال، وسير معه أولاده وجميع أهله، وجمعا من جند المصريين.
التحم القتال بين القرامطة وبين الجيش الفاطمي على باب القاهرة، فقتل من الفريقين جماعة وأسر كثير، ثم استراحوا في ثانية، والتقوا في ثالثة، فاقتتلوا قتالاً كثيراً قتل فيه ما شاء الله من الخلق.

غدر الجراح

وكان ممن حضر مع الأعصم الأمير حسان بن الجراح الطائي أمير العرب ببادية الرملة في فلسطين، وكان معروفا بقوته وشدته. ونظر المعز في أمره وشاور أهل الرأي من خاصته وجنده، فقالوا ليس فيه حيلة غير فل عسكره وليس يقدر على فله إلا بابن جراح. فبذلوا له مائة ألف دينار على أن يفل لهم عسكره فأجابهم إلى ذلك. ثم نظروا في كثرة المال فاستعظموه فضربوا دنانير من صفر وطلوها بالذهب وجعلوها في أكياس وجعلوا في رأس كل كيس منها يسيراً من دنانير الذهب الخلاص وحملوها إلى ابن جراح، وقد كانوا توثقوا منه وعاهدوه على الوفاء وترك الغدر، فوافق ابن الجراح على خذلان الاعصم في المعركة.

على اثر انسحاب ابن الجراح المفاجىء استعادت القوات الفاطمية زمام المبادرة، حتى كادوا يأسرون الحسن الاعصم، فإنهم أحاطوا به وصار في وسطهم. وانهزم الاعصم يوم الأحد ثالث ربيع الأول، ونهب سواده، ومر على طريق القلزم (السويس حاليا). ونودي في القاهرة من جاء بالقرمطي أو برأسه فله ثلاثمائة ألف درهم وخمسون خلعة وخمسون سرجا محلى على دوابها، وثلاث جوائز.

استقر به الأمر في مدينة الرملة (فلسطين) حتى عام 366 هـ وأصيب هناك بالإعياء الشديد ثم توفي عن عمر يناهز 88 عاماً.

شخصيته

اشتهر القرامطة عبر تاريخهم بسفك الدماء وارتكاب الموبقات. ولئن عرف التاريخ ابي سعيد الجنابي الذي قطع طرق الحج، وكان أول من تحدى سلطة العباسيين ومن أغار على نواحي العراق واطرافه، وعرف أبي طاهر الجنابي الذي هجم على مكة وسرق الحجر الأسود، فان الأعصم القرمطي اقلهم شهرة وسيرته مجهولة لدى كثير من الناس، على الرغم من أن ما حققه من انتصارات لدولة القرامطة يفوق ما حققه أسلافه، فهو الوحيد الذي احتل دمشق وحاصر القاهرة التي كادت تسقط بيده لولا خيانة حلفائه، لكن الإجراء الحاسم والمهم الذي أقدم عليه الأعصم القرمطي هو تغيير ولاء القرامطة من الدولة الفاطمية الشيعية الإسماعيلية الى الدولة العباسية السنية، اكثر من هذا فأن الاعصم أدى فريضة الحج بنفسه بينما كان اسلافه يقتلون الحجاج ويمنعون اداء الفريضة، وهذه نبذة عن حياة الاعصم القرمطي.

رسالة الخليفة الفاطمي إلى الأعصم القرمطي

ارسل معز الدين الله الفاطمي رسالة الى الاعصم القرمطي يعنفه فيها على تحويل ولائه من الفاطميين الى العباسيين، جاء فيها:
من عبد الله ووليه وخيرته وصفيه معد أبي تميم المعز لدين الله أمير المؤمنين وسلالة خيبر النبيين ونجل على أفضل الوصيين إلى الحسن بن أحمد

بسم الله الرحمن الرحيم

الابتداء بالاعذار، والانتهاء بالانذار، قبل انفاذ الأقدار في أهل الشقاق والآصار، لتكون الحجة على من خالف وعصى والعقوبة على من باين وغوى. وكتابنا هذا من فسطاط مصر، وقد جئناها على قدر مقدور، ووقت مذكور، فلا نرفع قدماً، ولا نضع قدماً الا بعلم موضوع..

فأما أنت أيها الغادر الخائن، الناكث المباين عن هدي آبائه وأجداده، والمنسلخ عن دين أسلافه وانداده.. لكن غلب الران على قلبك، والصدأ على لبك، فأزلك عن الهدى، وأزاغك عن البصيرة والضيا، وأمالك عن مناهج الأولياء. ثم لم تقنع في انتكاسك، وترديتك في ارتكاسك، وارتباكك وانعكاسك، من خلافك الآباء ومشيك القهقرى، والنكوص على الأعقاب، والتسمي بالألقاب، بئس الإسم الفسوق بعد الإيمان، وعصيانك مولاك، وجحدك ولاك، حتى انقلبت على الأدبار، وتحملت عظيم الأوزار، لتقيم دعوةً قد درست، ودولة قد طمست، إنك لمن الغاوين، وإنك لفي ضلال مبين. أما علمت أن المطيع آخر ولد العباس، وآخر المترايس في الناس؟ أما تراهم كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاو.يَة، فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مّ.نْ بَاق.يَة؟

فقد ضل عملك، وخاب سعيك، وطلع نحسك.. واعلم أنا لسنا بممهليك ولا مهمليك.. فليتدبر من كان ذا تدبير. فما أنت إلا كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فلا سماء تظلك ولا أرض تقلك، ولا ليل يجنك، ولا نهار يكنك، ولا علم يسترك، ولا فئة تنصرك؛ قد تقطعت بكم الأسباب، وأعجزكم الذهاب، فأنتم كما قال الله عز وجل: «مُّذَبْذَب.ينَ بَيْنَ ذَل.كَ لاَ إلَى هَؤُلاَء. وَلاَ إلَى هَؤُلاَء.».
واعلم أنا لسنا بممهليك ولا مهمليك إلا ريثما يرد كتابك، ونقف على فحوى خطابك، فانظر لنفسك يا شقي ليومك ومعادك قبل انغلاق باب التوبة، وحلول وقت النوبة، حينئذ لا ينفع نفساً إيمانها، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.

وإن كنت على ثقة من أمرك، ومهل في أمر عصرك وعمرك، فاستقر بمركزك، وأربع على ضلعك، فلينالنك ما نال من كان قبلك من عاد وثمود، «وأَصْحَابُ الأَيْكَة. وَقَوْمُ تُبَّع.، كُلٌّ كّذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَع.يد.»، فلنأتينكم بجنود لا قبل لكم بها ولنخرجنكم منها أذلةً وأنتم صاغرون بأولى بأس شديد، وعزم سديد، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، بقلوب نقية، وأرواح تقية، ونفوس أبية، يقدمهم النصر، ويشملهم الظفر، تمدهم ملائكة غلاظ شداد، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.

ونحن معرضون ثلاث خصال والرابعة أردى لك وأشقى لبالك وما أحسبك تحصل إلا عليها فاختر‏:‏
- إما قدت نفسك لقائدنا المقتول جعفر بن فلاح وأتباعك بأنفس المستشهدين معه بدمشق والرملة من رجاله ورجال سعادة بن حيان ورد جميع ما كان لهم من رجال وكراع ومتاع إلى آخر حبة من عقال ناقة وخطام بعير وهي أسله ما يرد عليك.

ــــ وإما أن تردهم أحياء في صورهم وأعيانهم وأموالهم وأحوالهم ولا سبيل لك إلى ذلك ولا اقتدار.
ــــ وإما سرت ومن معك بغير زمام ولا أمان، فأحكم فيك وفيهم بما حكمت، وأجريك على إحدى ثلاث‏: إما قصاص وإما منا بعد وإما فدى، فعسى أن يكون تمحيصا لذنوبك وإقالة لعشرتك‏.
والسلام على من اتبع الهدى، وسلم من عواقب الردى، وانتمى إلى الملأ الأعلى، وحسبنا الله وكفى، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا النبي الأمي والطيبين من عترته، وسلم تسليماً.

رد الأعصم

وأجاب الأعصم القرمطي على رسالة الخليفة المعز لدين الله الفاطمي بالرسالة التالية:
من الحسن بن أحمد الاعصم

بسم الله الرحمن الرحيم:
وصل الينا كتابك الذي كثر تفصيله، وقل تحصيله، ونحن سائرون على اثره.. والسلام وحسبنا الله ونعم الوكيل.