المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الصدمة: إنزال عراقي في منطقة الروضة "لاقتلاع" الديرة



المراسل
07-31-2010, 04:02 PM
الكويت - 2 أغسطس - 1990

د. إقبال العثيمين



مظاهر الاحتلال العراقي للكويت
«رن..رن»..

هكذا سمعت رنين الهاتف، وأنا بين اليقظة والنوم .

وصلني من بعيد صوت الخادمة الفلبينية بروكسي، ثم سمعت وقع قدميها قرب باب غرفة نومي، وقلت في نفسي «انها الكارثة تريد ايقاظي».«مدام، أخوك سليمان على التلفون». قالت بروكسي.
وأعربت عن استغرابي من حماقة تصرفها، وقد سبق أن حذرتها من عدم ايقاظي يوم الخميس من كل أسبوع. ورحت أؤكد لها من جديد تحذيري قائلة لها: «كم مرة نبهتك بعدم ايقاظي يوم الخميس، مهما كان السبب!»، ورغم محاولتي تجاهلها، فإنها عادت تقول بتماسك: «مدام، أخوك سليمان سليمان يصر على محادثتك».

ثم أضافت: «انه يؤكد أن الأمر مهم جدا». وبطريقة لا تخلو من الانزعاج صرخت في وجهها قائلة: «لا أريد الحديث معه»، ثم نهرتها بغضب، طالبة منها أن تغادر غرفتي. وحسبت أن الأمر مزحة من سليمان.

قلت لنفسي ـــ وكأني أعاتبه: «ما هذا الهزار السخيف يا سليمان؟ أعرف أنك الآن في المطار لتتوجه الى فنلندا، لتكون مع زوجتك وأولادك. اذاً لماذا هذه الأفعال المغيظة؟ وأدرك أنك ستستمتع بالبحيرات وبالهواء العليل. وأما أنا فسأكون هنا أسيرة الحر، والرطوبة الخانقة».

ومرة ثانية، عاودت قدما بروكسي من الاقتراب الى غرفتي، وقلت لنفسي، وكلي غيظ «يا الهي، التلفون، انه التلفون مرة أخرى، سوف أقتلها إن دخلت غرفتي مرة ثانية». ومن دون أن تطلب الإذن مني، كانت بروكسي داخل الغرفة، وهي تردد بارتباك: «مدام هناك مشكلة، اسمعي الأصوات في الخارج».

ثم تابعت بالوتيرة نفسها، كأنها تحاول أن تبعد شبح وقوع كارثة، وهي تأمرني بالقول «انهضي واسمعي صوت القنابل! هذا ما يقوله سليمان»، تناولت منها الهاتف بعصبية، ثم صرخت: «سليمان، ما هذا المزاح....؟».

ولم يدع لي فرصة استكمال جملتي، ثم قاطعني بصوته الواضح عبر الهاتف: «الأمر ليس مزاحا، لقد دخل العراقيون الكويت». وتابع يؤكد لي خبرا بدا لي غير سار على الاطلاق قائلا: «لقد ألغيت السفر، وأنا في طريقي الى محطة الزور». ثم أضاف: «تعالي حالا الى الروضة، يلا باي». تبدد النوم مني.

وشعرت باليقظة، وأنا غير مصدقة، ما سمعت، ثم بسرعة توجهت نحو النافذة، فتحتها، وكأني في كابوس، ثم وصلني صوت القذائف والقنابل، قادم من منطقة الشعب.

وقلت مخاطبة نفسي «يا الهي ماذا يحصل؟». شعرت بالحاجة الى مزيد من المعلومات، فاتصلت بصديقتى ايمان، وجدتها جاهلة بالحدث، وأعربت هي الأخرى عن دهشتها غير مصدقة بما أخبرتها.
لبست ملابسي بسرعة، وهاتفت رجاء صديقتي المصرية، كي ألحق بها قبل أن تغادر الى مستشفى الجهراء مكان عملها.

وجاءني صوتها عبر الهاتف «ايه يا حبيبتي اللي صحاك في الوقت ده؟. دي حتى ما جتش سبعة؟».
ثم أجبتها من دون أن أخبرها بما حدث: «ألبسي حالا، وانزلي تحت، أنا جاية دلوقت أخدك بسرعة بسرعة». فردت بدهشة، تحاول أن تستوعب طلبي الذي بدا لها غريبا: «ليه في ايه يا اقبال؟».
«ما فيش وقت رجاء، لقد دخل العراقيون البلد. ده غزو وفيه ضرب قنابل. انتي مش سامعة برة؟ أنا جيالك دلوقت حاخذك نروح الى الروضة عند بدرية».
ـــ رجاء: «طيب أنا جاهزة. وأنا بروب المستشفى حستناكي تحت». غادرت البيت مسرعة، وتوجهت مع بروكسي نحو السيارة.
وانطلقت نحو بيت رجاء، الذي لا يبعد كثيرا عن بيتي. وجدتها تنتظرني أمام البيت، وعندما نظرت اليها، تلبسها الخوف والرعب.
ولم تخف دهشتها واستغرابها عندما رأتني. في الطريق الى منطقة الروضة لم نلاحظ شيئا غريبا، ولم نلمس أي شيء ينم عن الفوضى، سوى صوت القنابل والمتفجرات، القادم من بعيد. وصلت منزل أختي بدرية، وجدتها في حالة من الذعر والرهبة، حاولت أن استفسر من زوجها عما جرى.
بدا الجميع مندهشا، والكل يريد أن يستوعب الحدث، وكانت آذانهم في حالة تأهب، وعيونهم متوجهة نحو جهاز الراديو، فالتلفزيون لا يبث شيئا.
فجأة شعرت بأهمية الراديو، هذا الجهاز الذي حسبنا أننا قد تخلينا عنه بعد ظهور التلفزيون وسيطرته على صالات البيوت والمقاهي. ها هو هذا الراديو، الجهاز العجيب، الصغير في حجمه، يعاود الظهور مرة أخرى، ليمارس دوره عبر الأثير، وعبر شخصياته غير المرئية. فكان رفيقا لنا ومصدر معلوماتنا على مدى سبعة أشهر.
سمعنا صوت هدير طائرة قريبة، كان مدويا، فخرجنا جميعا نحو فناء الدار، وبدت لنا قريبة جدا منا، وكأنها على وشك أن تنهال على رؤوسنا. وارتفعت أيادينا نلوح لها، املين معرفة ما يجري في البلد، وكنا نصرخ جميعا، كي نوصل أصواتنا الى أفراد طاقمها. ثم هبطت الطائرة فى فناء المدرسة التي تقع قبالة بيت أختي. وما إن استقرت الطائرة على الأرض، حتى هرع الأولاد والرجال باتجاه فناء المدرسة، وكان من بينهم وليد ابن اختي، لمعرفة ما يحصل في ذلك الصباح (اليوم الثاني من أغسطس).
وهمَّ زوج اختي بتغيير دشداشته للخروج، وقبل القيام بتغيير دشداشته، عاد وليد، وعلى وجهه امارات اليأس والقلق ثم قال:
«هذوله مو جيش كويتي. هذوله جنود عراقيين. الطيارة عراقية عليها شعار عراقي».
وبعد أن استرد انفاسه، صوب نظراته نحوي، ليسجل احتجاجه على تصرف الجنود العراقيين، وقال: «خالتي هذوله راحوا لفرع الجمعية واشتروا بيبسي وشربوه وما دفعوا فلوس».
ومن دون وعي، صرخت على زوج أختي، وكأنه هو المسؤول عما يحدث، ورحت أردد بصوت عال: «طالب.. هذوله جنود عراقيين مو جيش كويتي». فوقف طالب مذهولا، ولم يتفوه بأي كلمة وبقي صامتا من دون أن يستجيب لصراخي. رحت وتناولت سماعة الهاتف.
اتصلت بصديقتي فريال، لمعرفتي بزوجها رجل السياسة، والنائب الذي كان يشغل مقعدا في مجلس الأمة، عسى أن أجد لديها تفسيرا عما يحصل. وسردت لها ما شاهدناه عن هبوط الطائرة في فناء مدرسة الروضة. بدت لي أنها عارفة بدخول القوات العراقية، لكن صوتها، الذي وصلني عبر سماعة الهاتف، امتزج بالدهشة وبنوع من الحيرة، وهي تقول: «ليش انزال بالروضة؟ لقد دخلوا الشيراتون واحتلوه. لكن مدرسة فى وسط البلد؟ ليش؟».
حقا لا أعرف بما أجيبها واكتفيت مرددة: «لا أدري!». «نتصل بمن؟».. هذا هو السؤال الذي تردد صداه في ذلك الصباح في بيت بدرية، ويكاد يكون هو السؤال الوحيد الذي تفوهت به كل شفاه الموجودين. وأثناء تلك الحيرة، وصلت أختي الأخرى نوال برفقة زوجها وأولادها، وكانت هي وأولادها لا يكفون عن البكاء. وذكرت انهم أثناء مرورهم بسيارتهم من أمام معسكر «جيوان»، قد شاهدوا أول مظاهر الاحتلال العراقي للكويت. شاهدوا الجنود العراقيين يطلقون النار على المعسكر بهدف السيطرة عليه.
وربما كان الأمر الفظيع، هو مشاهدة الجنود الكويتيين، وهم يهربون وقد تخلوا عن زيهم العسكري، رامين ملابسهم في الشوارع خوفامن الاعتقال. قد أذهلتهم وروعتهم تلك المشاهد، التي جرت أمام أعينهم، وقد كانوا شهودا على الطريقة التي تم بها قصف المعسكر بالقنابل، حتى تم تدميره بالكامل.
وبما أن عائلة أختي نوال تقيم في منطقة الأندلس الواقعة عند الحدود الشمالية من الكويت، فلا بد من المرور من أمام معسكر «جيوان» وهم في طريقهم الى منطقة الروضة عبر الطريق الدائري الرابع.
ما زالت الهواتف الخارجية في ذلك اليوم شغالة، وما أن انتهينا من سماع رواية نوال، حتى رن الهاتف، فكانت على الخط نادية زوجة أخي سليمان، وهي تسأل عنه لتطمئن عليه.
أخبرناها بأنه ذهب لتفقد أحوال زملائه في محطة الزور.
وطلبنا منها البقاء مع أمها الفنلندية حتى تسمع منا أو من زوجها.
ثم تواصل رنين الهاتف من دون انقطاع، وكانت أمي من بين من اتصلوا، ولم تفارق الدهشة لسانها، وبدت في حالة ذهول وهي لا تصدق ما يجري في البلد.
امي ذات الهوى الصدامي، وهي واحدة من الشخصيات المعجبة بحامي البوابة الشرقية أثناء الحرب الايرانية ـــ العراقية، مثل أغلبية الطائفة السنية في الكويت.
وهي لا تكاد تكف عن السؤال والحيرة مما أقدم عليه حامي البوابة الشرقية!