المهدى
09-24-2004, 02:46 PM
خالص جلبي
دخل إلى مكتبي صديق لي وعلى وجهه الأسى فقال: إن صدام قتل الناس في «حلبجة»، ولكنه ينكر فعلته حتى الآن. أما أياد علاوي، فهو يقول إنه الذي أعطى أوامره لضرب (الفلوجة). قلت له يبدو أن الشعب العراقي لا يستحق سوى صدام. ولو خرجت أمريكا وأطلقت التنين لتحول ربما إلى بطل شعبي، وأعاد الأمن إلى العراق خلال أسبوعين، ولكن على مليوني جمجمة، كما فعل المجرم بول بوت في كمبوديا.
مع هذا لست متأكداً، لأن الشعب العراقي اليوم بعد 9 نيسان 2003 ليس مثل قبله. وذاكرة الشعوب قصيرة.
وفي قناعتي أن الشعب العراقي جاءته صدفة تاريخية، ويمكن له أن يقتدي باليابان وألمانيا بعد الاحتلال الأمريكي فيبني نفسه. وحسب تحليلي المتواضع فإن أمريكا كان يمكن أن تتفاهم مع الطاغية، وفي غابة العرب يوجد العديد من هذه الوحوش ممن أمكن التفاهم معهم. فلماذا يحظى صدام بالاستثناء؟
وربما حدث ما حدث بمعسول القول من الصهيونية والمعارضة العراقية، التي أدخلت الوهم إلى القيادة الأمريكية أن المسألة سهلة جدا، وهي كذلك في القسم الأول من المسرحية، أي إزالة الطاغية ونظام البعث الفاشي. ولكنها ليست كذلك بعد مواجهة الجماهير. وتدفق الطوفان. وفي نقطة تدمير العراق تجتمع مصلحة إسرائيل مع أنظمة الطغيان، فتلك تأخذ بلدا مفتتا والثانية تجربة فاشلة تدفع الشعوب إلى التعلق بأنظمتها الطاغوتية أكثر.
وما حدث من القدوم الأمريكي يشير إلى ما يسميه علماء التاريخ «عمى التاريخ»، ويسميه آخرون «قدر الله»، وهو أمر روجت له مقالة نشرت في مجلة در شبيجل Der Spiegel 33\04 عن معنى الصدفة في الأحداث الاجتماعية. ولولا هذا لبقي الشعب العراقي يرزح تحت ديكتاتورية عائلة صدام، قرنا من الزمن، كما حكمت عائلة هولاكو العراق.
وهذا الكلام خطير من جهتين: «العجز الداخلي»، عندما وصل إلى المدى الذي لا يمكن فيه للشعوب أن تتحرر من الطغيان. ومن أسقط شاوسسكو لم يكن الشعب الروماني، بل ذوبان الجليد في سيبيريا فجاءه السيل العرم فمزقه كل ممزق.
والثاني أن «القوى الخارجية»، عندما تطيح بالاستبداد الداخلي، فلا يعني أن الشعب تحرر، بسبب وجود «القابلية» للاستبداد، ولأن التحرير لم ينجز بقوة ذاتية، فلا يرفع الاستبداد بل يتخذ شكلاً جديداً، فتنتقل الأمة من يد إلى يد، وبكلمة أدق تضيف «الاحتلال» فوق «الاستبداد»، مثل التهاب الرئة عند مريض مصاب بالإيدز.
ويمكن للشعب العراقي أن يتحرر فعلاً عن طريق المقاومة المدنية السلمية، ولكن هذا غير ممكن لاعتبارين: غياب قيادة سياسية مثل غاندي، وطول الاستبداد الذي حول الوطن إلى مصح أمراض عقلية، والمواطن إلى مريض نفسي Psychopath يحتاج للتأهيل النفسي.
وإذا كانت هذه الجماهير قد أسلمت عنانها لقوة المخابرات والحرس الجمهوري، فهي لا تؤمن إلا بـ«القوة» بعد أن غابت شمس «العقل»، ودخل الناس كسوفا لا نهاية له. وجعل الليل عليهم سرمدا؟
وهذا النوع من التفكير يظهر من فلتات الكلام من شخصيات معتبرة تظهر على القنوات الفضائية، كما جاء على لسان أحدهم، وهو يتحسر كيف نجا صدام من 36 محاولة اغتيال في اللحظات الأخيرة؟ ولكن من يقتل الطاغية يتحول إلى طاغية. وهو أمر لا نتفطن له لأننا مصابون بالحول السياسي.
والطاغية لا يمكن أن يعتلي رقبة شعب واع، ولو توفرت قيادة «كارزماتية» مثل «غاندي» لمشت خلفها الجماهير إلى التحرير السلمي، كما فعل الخميني في إيران، ولكن العراق غير إيران؟
والسيستاني حاليا في العراق يمكن أن يلعب هذا الدور، ولكن مشكلته أن كل الشعب العراقي ليس خلفه وليس كل الشيعة معه، ولم يظهر في أقواله ما يفيد إيمانه بـ«اللاعنف» كخيار استراتيجي. وقصة مقتدى الصدر نموذج لما يفرزه المستنقع العراقي من بعوض، وقد ينجح في طرد الأمريكيين، ولكن مصير العراق سوف ينتهي إلى ما انتهت إليه الصومال، فلم يلتئم لهم شمل ومقديشو أنقاض. والفرق بين نهاية يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، أو نهاية تشاوسسكو وانهيار جدار برلين يظهر أنه يمكن أن يتم بدون طلقة أو بشلالات من الدماء.
وفي توقعاتي، وأرجو أن أكون مخطئاً لأن مسار كل أمة مختلف، فإن مسلسل العنف العراقي سوف ينتهي بطرد الأمريكيين خلال سنوات، قد لا تزيد عن خمس، وبعد رحيل الأمريكيين لن يكون أمام العراقيين إلا الحرب الأهلية، إلى حين بزوغ عصر العقل والسلم، طالما أن هناك مائة ألف مرتزق مجند من دول جوار، حريصة أن تفشل التجربة العراقية بكل المقاييس. ومن يظن أن العراق سيدخل الديموقراطية في يناير 2005 فإنه يذكر بقصة براغادينو، الذي كان يزعم صناعة الذهب. وعندما يكون الناس بحاجة ماسة إلى الإيمان بشيء يسهل خداعهم.
وكما يقول روبرت غرين في كتابه «لعبة شطرنج القوة»، إن الحقيقة تفيد بأن التغيير بطيء وتدريجي، ويتطلب عملا شاقا وقليلا من الحظ، وكمية لا بأس بها من التضحية، وكثيرا من الصبر. أما الخيال فهو بالمقابل لا يحتاج إلا الى الشطح بالخيال إلى عالم عبقر.
بعد أن أفل نجم البندقية لمع نجم دجال هو براغادينو ادعى أنه يحول الأشياء إلى ذهب بواسطة مادة سرية، وبلغ من سخف عقول «مجلس شيوخ البندقية» أن رحبوا بقدومه. وفي أواخر سنة 1589 وصل براغادينو الغامض، وكان منظره يوحي بالرهبة والهيبة، يطل على الناس بعينين داكنتين ثاقبتين، يرافقه كلبا حراسة ضخمان، واتخذ مقره في قصر فخم على جزيرة غويديكا. وعاش الرجل على حسابهم وقتا طويلا بدون ظهور الذهب المزعوم، فملّ الناس منه، فأقنعهم بأن المادة السرية إذا تركت وشأنها في علبة مختومة مدة سبع سنوات، فإن مردود الذهب سيكون ثلاثين مرة؟
ووافق معظم أعضاء مجلس الشيوخ على انتظار حصاد منجم الذهب. غير أن آخرين غضبوا: سبع سنوات عجاف أخرى يعيش الرجل عيشة ملوكية على المعلف العام لمدينة تئن من كساد الاقتصاد؟ وكان جواب براغادينو أن المدينة فقدت صبرها وخانته فعليه الرحيل. وفعلا فقد توجه الرجل إلى ميونخ استجابة لدعوة دوق بافاريا، الذي كان قد عرف الثراء العظيم، ثم تعرض للإفلاس بسبب التهتك والإسراف. ولكن الألمان لم يكونوا مزاجيين مثل أهل البندقية، فكانت نتيجة براغادينو أن انتهى عام 1592 على حبل المشنقة؟
kjalabi@hotmail.com
دخل إلى مكتبي صديق لي وعلى وجهه الأسى فقال: إن صدام قتل الناس في «حلبجة»، ولكنه ينكر فعلته حتى الآن. أما أياد علاوي، فهو يقول إنه الذي أعطى أوامره لضرب (الفلوجة). قلت له يبدو أن الشعب العراقي لا يستحق سوى صدام. ولو خرجت أمريكا وأطلقت التنين لتحول ربما إلى بطل شعبي، وأعاد الأمن إلى العراق خلال أسبوعين، ولكن على مليوني جمجمة، كما فعل المجرم بول بوت في كمبوديا.
مع هذا لست متأكداً، لأن الشعب العراقي اليوم بعد 9 نيسان 2003 ليس مثل قبله. وذاكرة الشعوب قصيرة.
وفي قناعتي أن الشعب العراقي جاءته صدفة تاريخية، ويمكن له أن يقتدي باليابان وألمانيا بعد الاحتلال الأمريكي فيبني نفسه. وحسب تحليلي المتواضع فإن أمريكا كان يمكن أن تتفاهم مع الطاغية، وفي غابة العرب يوجد العديد من هذه الوحوش ممن أمكن التفاهم معهم. فلماذا يحظى صدام بالاستثناء؟
وربما حدث ما حدث بمعسول القول من الصهيونية والمعارضة العراقية، التي أدخلت الوهم إلى القيادة الأمريكية أن المسألة سهلة جدا، وهي كذلك في القسم الأول من المسرحية، أي إزالة الطاغية ونظام البعث الفاشي. ولكنها ليست كذلك بعد مواجهة الجماهير. وتدفق الطوفان. وفي نقطة تدمير العراق تجتمع مصلحة إسرائيل مع أنظمة الطغيان، فتلك تأخذ بلدا مفتتا والثانية تجربة فاشلة تدفع الشعوب إلى التعلق بأنظمتها الطاغوتية أكثر.
وما حدث من القدوم الأمريكي يشير إلى ما يسميه علماء التاريخ «عمى التاريخ»، ويسميه آخرون «قدر الله»، وهو أمر روجت له مقالة نشرت في مجلة در شبيجل Der Spiegel 33\04 عن معنى الصدفة في الأحداث الاجتماعية. ولولا هذا لبقي الشعب العراقي يرزح تحت ديكتاتورية عائلة صدام، قرنا من الزمن، كما حكمت عائلة هولاكو العراق.
وهذا الكلام خطير من جهتين: «العجز الداخلي»، عندما وصل إلى المدى الذي لا يمكن فيه للشعوب أن تتحرر من الطغيان. ومن أسقط شاوسسكو لم يكن الشعب الروماني، بل ذوبان الجليد في سيبيريا فجاءه السيل العرم فمزقه كل ممزق.
والثاني أن «القوى الخارجية»، عندما تطيح بالاستبداد الداخلي، فلا يعني أن الشعب تحرر، بسبب وجود «القابلية» للاستبداد، ولأن التحرير لم ينجز بقوة ذاتية، فلا يرفع الاستبداد بل يتخذ شكلاً جديداً، فتنتقل الأمة من يد إلى يد، وبكلمة أدق تضيف «الاحتلال» فوق «الاستبداد»، مثل التهاب الرئة عند مريض مصاب بالإيدز.
ويمكن للشعب العراقي أن يتحرر فعلاً عن طريق المقاومة المدنية السلمية، ولكن هذا غير ممكن لاعتبارين: غياب قيادة سياسية مثل غاندي، وطول الاستبداد الذي حول الوطن إلى مصح أمراض عقلية، والمواطن إلى مريض نفسي Psychopath يحتاج للتأهيل النفسي.
وإذا كانت هذه الجماهير قد أسلمت عنانها لقوة المخابرات والحرس الجمهوري، فهي لا تؤمن إلا بـ«القوة» بعد أن غابت شمس «العقل»، ودخل الناس كسوفا لا نهاية له. وجعل الليل عليهم سرمدا؟
وهذا النوع من التفكير يظهر من فلتات الكلام من شخصيات معتبرة تظهر على القنوات الفضائية، كما جاء على لسان أحدهم، وهو يتحسر كيف نجا صدام من 36 محاولة اغتيال في اللحظات الأخيرة؟ ولكن من يقتل الطاغية يتحول إلى طاغية. وهو أمر لا نتفطن له لأننا مصابون بالحول السياسي.
والطاغية لا يمكن أن يعتلي رقبة شعب واع، ولو توفرت قيادة «كارزماتية» مثل «غاندي» لمشت خلفها الجماهير إلى التحرير السلمي، كما فعل الخميني في إيران، ولكن العراق غير إيران؟
والسيستاني حاليا في العراق يمكن أن يلعب هذا الدور، ولكن مشكلته أن كل الشعب العراقي ليس خلفه وليس كل الشيعة معه، ولم يظهر في أقواله ما يفيد إيمانه بـ«اللاعنف» كخيار استراتيجي. وقصة مقتدى الصدر نموذج لما يفرزه المستنقع العراقي من بعوض، وقد ينجح في طرد الأمريكيين، ولكن مصير العراق سوف ينتهي إلى ما انتهت إليه الصومال، فلم يلتئم لهم شمل ومقديشو أنقاض. والفرق بين نهاية يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، أو نهاية تشاوسسكو وانهيار جدار برلين يظهر أنه يمكن أن يتم بدون طلقة أو بشلالات من الدماء.
وفي توقعاتي، وأرجو أن أكون مخطئاً لأن مسار كل أمة مختلف، فإن مسلسل العنف العراقي سوف ينتهي بطرد الأمريكيين خلال سنوات، قد لا تزيد عن خمس، وبعد رحيل الأمريكيين لن يكون أمام العراقيين إلا الحرب الأهلية، إلى حين بزوغ عصر العقل والسلم، طالما أن هناك مائة ألف مرتزق مجند من دول جوار، حريصة أن تفشل التجربة العراقية بكل المقاييس. ومن يظن أن العراق سيدخل الديموقراطية في يناير 2005 فإنه يذكر بقصة براغادينو، الذي كان يزعم صناعة الذهب. وعندما يكون الناس بحاجة ماسة إلى الإيمان بشيء يسهل خداعهم.
وكما يقول روبرت غرين في كتابه «لعبة شطرنج القوة»، إن الحقيقة تفيد بأن التغيير بطيء وتدريجي، ويتطلب عملا شاقا وقليلا من الحظ، وكمية لا بأس بها من التضحية، وكثيرا من الصبر. أما الخيال فهو بالمقابل لا يحتاج إلا الى الشطح بالخيال إلى عالم عبقر.
بعد أن أفل نجم البندقية لمع نجم دجال هو براغادينو ادعى أنه يحول الأشياء إلى ذهب بواسطة مادة سرية، وبلغ من سخف عقول «مجلس شيوخ البندقية» أن رحبوا بقدومه. وفي أواخر سنة 1589 وصل براغادينو الغامض، وكان منظره يوحي بالرهبة والهيبة، يطل على الناس بعينين داكنتين ثاقبتين، يرافقه كلبا حراسة ضخمان، واتخذ مقره في قصر فخم على جزيرة غويديكا. وعاش الرجل على حسابهم وقتا طويلا بدون ظهور الذهب المزعوم، فملّ الناس منه، فأقنعهم بأن المادة السرية إذا تركت وشأنها في علبة مختومة مدة سبع سنوات، فإن مردود الذهب سيكون ثلاثين مرة؟
ووافق معظم أعضاء مجلس الشيوخ على انتظار حصاد منجم الذهب. غير أن آخرين غضبوا: سبع سنوات عجاف أخرى يعيش الرجل عيشة ملوكية على المعلف العام لمدينة تئن من كساد الاقتصاد؟ وكان جواب براغادينو أن المدينة فقدت صبرها وخانته فعليه الرحيل. وفعلا فقد توجه الرجل إلى ميونخ استجابة لدعوة دوق بافاريا، الذي كان قد عرف الثراء العظيم، ثم تعرض للإفلاس بسبب التهتك والإسراف. ولكن الألمان لم يكونوا مزاجيين مثل أهل البندقية، فكانت نتيجة براغادينو أن انتهى عام 1592 على حبل المشنقة؟
kjalabi@hotmail.com