سيد مرحوم
09-23-2004, 11:58 PM
عقبات في طريق الديمقراطية
نـــــــــــزار حيدر
NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM
وصلت من خلال الكاتب عن طريق الايميل الشخصي
لو سئلت عن عدد الطرق المؤدية الى الديمقراطية ، لقلت أنها بعدد أنفاس الخلائق ، لأن الديمقراطية ثقافة وليست قرارا ، فهي تصنع أولا في عقول الناس ، قيم ومبادئ ، قبل أن تنزل الى الشارع ، مشروعا وخطة ، ولذلك لا يمكن صناعة الديمقراطية بضربة سحرية من عصا موسى ، فنقول لها ، كن فتكون ، وإنما يلزم أن تأخذ وقتا كافيا وزمنا مناسبا ، من دون ضغط أو إكراه ، أو حتى إستعجال ، لأن العجلة ، في مثل حالة الديمقراطية ، ندامة .
وهذا ما يفسر لنا ، ربما ، سبب التفاوت في الوقت ، الذي تستغرقه صناعة الديمقراطية من بلد لآخر ، ومن شعب لآخر .
أو ما يفسر لنا ، ربما كذلك ، سبب ثبات ديمقراطيات ، لفترات زمنية طويلة ، وإنهيار أخرى كلمح البصر ، أحيانا ، قياسا الى زميلاتها الأخريات .
ولكن .. ليسمح لي القارئ الكريم أولا ، أن أذكر النقاط الثلاث الاستراتيجية التالية ، التي أعتقد أن إستذكارها دائما ، يجنبنا مهاوي الانزلاق في أخطاء المشروع ، من جانب ، ومن أجل أن نكون واقعيين ، لا نحلق في فضاءات التنظير والآمال الخادعة والتفاؤل المفرط ، فنصاب ، بالتالي بمرض خداع الذات ، من جانب آخر .
إن من المهم جدا أن ننظر الآن الى الامور بواقعية ، ونقيسها بأحجامها وأوزانها الحقيقية ، من دون إفراط أو تفريط ، ليأت البناء ثابتا وسليما ومعافى من الأمراض المزمنة .
أما النقاط ، فهي ؛
أولا ـ للديمقراطية مستويين ، الأول ، هو مستوى الثوابت الانسانية ، ما يصطلح عليه بعبارة إستاندارد عالمي أو دولي ، والتي لا يختلف عليها إثنان ، كالحرية والمشاركة والمساواة والتعددية والتداول السلمي للسلطة ، وما الى ذلك من القيم الانسانية التي ترتكز عليها الديمقراطية ، وهي ذاتها في كل زمان ومكان ، وعند كل الشعوب التي تنشد بناء النظام الديمقراطي ، فهي لا تتأثر بدين أو قومية أو لون أو جنس أو تاريخ أو جغرافيا أو أي شئ آخر ، ولذلك لا يمكن أن نتصور الديمقراطية من دونها أبدا ، مهما تحجج الحاكم أوتعذر السلطان .
أما المستوى الثاني ، فهو مستوى المتغيرات التي تختلف عادة من بيئة الى أخرى ، ومن شعب لآخر ، إنها مجموعة الوسائل والتكتيكات والأدوات التي يسخرها شعب من الشعوب ، لبناء نظامه الديمقراطي ، ولهذا السبب تعددت أنواع الأنظمة الديمقراطية ، وتنوعت هياكلها ووسائلها ، حتى في أعرق الأنظمة الديمقراطية في هذا العالم ، بل وعلى مر التاريخ .
في المستوى الأول ، لا تجوز المحاججة والمجادلة ولا حتى المجاملة ، لأنها قيم استراتيجية ثابتة ، من المستحيل الاستعاضة عنها بأي بديل محتمل ، فهي حجر الزاوية في الديمقراطية ، إن وجدت في بلد ما ، وجدت معها الديمقراطية ، وإلا ، فلا معنى للديمقراطية أبدا ، فهي ، بمعنى آخر ، لا تتعدى عند القياس أحد لونين ، فإما أسود ـ ديكتاتورية ـ أو أبيض ـ ديمقراطية ـ إذ لا وجود للمنطقة الرمادية في هذا المستوى ، مهما ساقت الأنظمة من أدلة وبراهين لخداع الناس بديمقراطيتها المزيفة أو لتبرير مصادرة حرية الناس أو منعهم من المشاركة في الحياة السياسية ، أو
ما أشبه ، فحقيقة كون أن هذا النظام ديكتاتوريا ، لا تتغير بالخداع والتبرير أبدا
فإذا كان الزعيم لا يتغير في البلد على مدى أجيال ، وإذا كانت المرأة التي هي برأيي كل المجتمع وليس نصفه ، مغيبة عن الشأن العام ، وإذا كان الرأي الآخر مطاردا ومقموعا ، وإذا لم يكن في البلد إلا حزب واحد فقط هو حزب الحاكم والحكومة ، والى جانبه مجموعة من الامعات والدمى على طريقة أحزاب ، لصاحبه ، وإذا كان التمييز العنصري أو الطائفي أو الحزبي والعشائري ، هو سيد الموقف ، فعلى الديمقراطية السلام ، إذ لا يسعنا الا أن نقرأ على روحها الفاتحة ، مهما حاول السلطان تبرير ذلك ، تارة باسم الدين وأخرى باسم الوراثة وثالثة بحجة الخطر الذي يداهم البلاد ، أو الذي يتربص بالامن القومي ، أو بحجج الظروف الطارئة والتحديات الدولية ، أو ما شابهها من هذه الخزعبلات التي توظفها الأنظمة الشمولية لتبرير تشبثها بالسلطة وقمع الناس وتدمير حياتهم ، كما فعل نظام الطاغية الذليل في العراق على مدى نيف وثلاثين سنة عجاف .
إن الديمقراطية ، ممارسات يومية لا يمكن إلا أن يتلمسها المواطن في كل لحظة ، وفي كل حركة وسكنة ، وهي ليست شعارات براقة ، أو كلام فارغ ، أو نظريات مجردة ليخفي الحاكم وراءها أو تحت عباءتها ، إستبداده وظلمه وديكتاتوريته .
لا نقاش في الثوابت ، إذن ، ويبقى النقاش محصورا في المستوى الثاني ، أي مستوى المتغيرات التي يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار ، عند الحديث عن بناء الديمقراطية ، فلا يجوز تجاوزها أو إغماض العين عنها ، إذا ما أريد للديمقراطية أن تنجح ، ولبنائها أن يكون ثابتا مستقرا ، لا تهزه الأعاصير ، ولا تهوي به الريح في واد سحيق ، لأن تجاوز المتغيرات ، يعني تعمد تجاوز كل ما يساهم في تشكلها ، وفي رسم معالم خصوصيات كل شعب من الشعوب ، كالدين واللغة والموقع الجغرافي والتاريخ والعادات والتقاليد ، وما الى ذلك .
من هنا ، فإن البناء الديمقراطي الناجح ، هو الذي يأخذ بنظر الاعتبار خصوصيات الناس بكل تفاصيلها ، من دون القفز عليها .
أما إذا تعارضت بعض هذه الخصوصيات مع متغيرات البناء الديمقراطي ، فإن من الحكمة بمكان أن يصار الى إصلاح هذه الخصوصيات بالحكمة والموعظة الحسنة ، من دون اللجوء الى العنف والقوة والاكراه ، لأن الخصوصية لا يمكن أن تتبدل نحو الأحسن والأفضل بالقوة ، كما لا يمكن إصلاحها إذا كنت خطأ ، بالعنف والاكراه ، لأن من عادة الناس ، أنهم يتشبثون بماضيهم وتاريخهم وعاداتهم وموروثاتهم الاجتماعية ، التي يتصورونها في كثير من الأحيان ، نصوص مقدسة ، أو أنها جزء من الدين الذي أوحى به الله عزوجل إلى أنبيائه .
إن الرفق في هذه الحالة أمر مطلوب ومحمود ، فهو الحل السحري والدواء الشافي ، لأمراض الناس المتوارثة ، التي تتحول في أغلب الأوقات ، إلى عقبات في طريق البناء الحضاري والتنمية والتطور ، خاصة في بلد ينشط فيه التيار السلفي المتخلف ، وتيارات التكفير والعنف ، التي تحاول توظيف الدين والعادات الموروثة ، في خدمة أهدافها المشبوهة ، أما العنف ، فلا يزيد المشكلة إلا تعقيدا ، والحل إلا بعدا عن الواقع ، كما أنه يساهم في تكريس الخطأ والمرض ، شئنا أم أبينا ، وربما إلى هذا المعنى يشير حديث رسول الله ـ ص ـ بقوله ,, ما وضع الرفق على شئ إلا زانه ، وما وضع الخرق على شئ إلا شانه ،، أو قول الامام علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ,, من عامل بالعنف ندم ،، .
ثانيا ـ الديمقراطية بناء ذاتي ، ينبع من ذات الانسان أولا ، وقبل كل شئ ، فهو قناعة وحاجة وشعور ، قبل أن تكون سلعة أو قطع غيار تستورد من الخارج . فالشعب الذي ينشد البناء الديمقراطي ، يلزمه أولا أن يبدأ البناء من ذاته ، ليشيد لبناته الواحدة تلو الاخرى ، ثم تأتي بعد ذلك كل الامور الأخرى ، كعوامل مساعدة تزيد من فرص البناء وتساعد على تشييده وتساهم في نجاحه ، ولذلك فان من المستحيل تشييد الديمقراطية في بلد يرفضها شعبه ، أو لا يتحسس بضرورتها .
إن نقطة إنطلاق التغيير نحو الديمقراطية ، تبدأ من الذات ، ومن ثم تنفتح لتستوعب كل العوامل المساعدة الأخرى ، الى جانب تجارب الآخرين ووسائلهم ، وعوامل النجاح ومقومات الثبات والاستمرار ، أما أن ترفض أمة من الامم الديمقراطية ، ثم تجلس على قارعة الطريق تستجدي المارة ليجودوا بها عليها ، فهذا ليس إلا ضرب من ضروب الخيال ، أو قل ضرب من ضروب الجنون ، لأن الديمقراطية بناء ذاتي أولا وقبل كل شئ ، يشاد في عقول الرجال ، أولا ، وفي نفوسهم وشعورهم وذواتهم ، وربما إلى هذا المعنى كذلك أشار القرآن الكريم في قول الله عزوجل ,, إن الله لا يغير ما بقوم ، حتى يغيروا ما بأنفسهم ،، ففي الآية إشارة واضحة وصريحة ورائعة ، في آن ، الى رفض إرادة الله عزوجل ، الخالق الجبار ، التدخل المباشر في تغيير حال الامم والأقوام ، إذا لم يبادروا هم بأنفسهم الى إتخاذ الخطوة الاولى ، لتأتي بعد ذلك إرادة الله تعالى ، التي ستساعدهم على تحقيق التغيير الذاتي ، فهي إذن عامل مساعد وليس الأصل في عملية التغيير التي يجب أن تنطلق من الذات والذات فقط .
إن الشعب الذي يهب له الآخرون الديمقراطية ، سوف لن يتمتع بإمتيازاتها أبدا ، لأنه سيشعر وكأنها علبة سردين صدرت له قهرا ، كما أنه سوف لا يبدي أي نوع من الاستعداد للدفاع عنها إذا ما تعرضت للخطر ، لأنه لا يشعر بها كجزء من كيانه ، أو أنها نبعت من ذاته ، بالاضافة الى أنه لا يشعر بكونه قد دفع ثمنا لها ، فلماذا يدفع دما لصيانتها من عبث العابثين ؟. تشبه حالته هذه ، حالة المستأجرة التي تبكي على فقيد الناس بمقدار قيمة ما يدفع لها من أجر .
لنحرص ، إذن ، على أن يأتي البناء الديمقراطي في العراق الجديد ، نابعا من ذات كل مواطن عراقي ، وليدفع كل العراقيين ثمنا من أنفسهم لتشييده ، وليتحسسوا أهميته وضرورته ، من أجل أن يهبوا جميعا هبة رجل واحد للدفاع عنه إذا ما تعرض للخطر ، ولذلك يلزم أن نمنح العراقيين فرصة الحوار والنقاش والسؤال والتعليق وكل ما من شأنه أن يساهم في إشراكهم في عملية البناء ، ليأتي المولود عراقيا ، منسجما مع خصوصيات العراقيين ، غير مشوها أو مشبوه الانتماء الى أحد الأبوين .
ثالثا ـ العراقيون اليوم أمام مفترق طرق ، فإما أن يختاروا الديمقراطية ، لينعموا بفوائدها ويتمتعوا بحسناتها ، هم وأجيالهم القادمة ، أو أن يفشلوا في تحقيقها ، فيعودوا القهقري ويهربوا الى الماضي المظلم ، ليعود الاستبداد والديكتاتورية والانظمة الشمولية ، هي سيدة الموقف ، لتعود معها بالتالي ، الأنفال وحلبجة والمقابر الجماعية والهجرة القسرية والحروب العبثية ، وما الى ذلك .
إنهم أمام فرصة تاريخية عظيمة ، قد لا تعود ثانية إلا بشق الأنفس ، فأي الأمرين سيختارون ؟.
الحقيقة المرة التي يجب أن لا نغفل عنها أو نهرب منها ، هي ، أن تشييد الديمقراطية في العراق ، أمر صعب جدا ، ولكنه ، في نفس الوقت ، ليس مستحيلا أبدا ، وفرق بين أن يكون الهدف ، أي هدف ، صعب المنال أو مستحيل المنال ، فالهدف الذي يستحيل على التحقق لا يسير اليه صاحبه ، أما الآخر صعب المنال ، فإن صاحبه يسير اليه على أي حال ومهما طال الزمن ، وغلى الثمن ، لأنه سيناله أو بعضه ، بالرغم من كل شئ ، ومهما كانت الظروف والتحديات ، لأن بصيص الأمل يشجع المرء على ركوب الصعاب من أجل تحقيق الهدف شريطة أن يتسلح بالوسائل الصحيحة والأدوات السليمة ، وأن يتحلى بطول بال وصبر كبيرين ، وإلى هذا المعنى يشير الامام أمير المؤمنين عليه السلام بقوله ,, ما أعدم الصبور الظفر ، وإن طال به الزمان ،، كما أن عليه أن يتسلح بالهمة والمثابرة ، وفي الحديث الشريف ,, يطير المؤمن بهمته ، كما يطير الطائر بجناحيه ،، . طبعا ، لا أريد هنا ـ بكل تأكيد ـ تثبيط العراقيين ، ليدب اليأس في نفوسهم ، فيتوقفوا عن العمل ويتركوا الهدف ، ولكنني ، في نفس الوقت ، لا أريد أن أخدعهم ، فأسهل لهم الطريق الصعب ، وأبسط لهم الأمور ، فالصديق من صدقك ، لا من صدقك ، بتشديد الدال ، إنما أريد هنا أن أكون واقعيا معهم ، أعرض عليهم الأمور كما أراها ، بمقاييسها الصحيحة والحقيقية ، من دون تبسيط أو تهويل ، أو غش أو خداع ، إذ ,, من غش ليس منا ،، كما في الحديث الشريف ، ليعدوا العدة المطلوبة للهدف ، ويأخذوا بكل أسباب النجاح ، وزيادة، ويفكروا بكل الاحتمالات ، حتى لا يصطدموا في وسط الطريق ، أو يخدعوا بالشعارات البراقة والكلام المعسول وببالونات الأختبار ، فإن من العقل والحكمة أن يعرف المرء كل التفاصل ويرى الصورة كاملة غير منقوصة ، ويقف أمام المرآة السليمة ، وليس أمام المقعرة أو اللامة التي لا تعكس له الصورة الحقيقية ، وإلى ذلك
أشار الامام جعفر الصادق عليه السلام بقوله ,, العارف بزمانه ، لا تهجم عليه اللوابس ،، .
أقول ، إن بناء الديمقراطية في العراق ، أمر صعب مستصعب ، لعدة أسباب ؛
ألف ـ تركة النظام الشمولي البائد ، الذي خلفها وراءه ، بعد حكم إستبدادي ديكتاتوري دام أكثر من ثلاثة عقود من الزمن .
لقد ترك النظام البائد ، آثارا سلبية كثيرة ، تجذر بعضها في شخصية الانسان العراقي عبر عدة أجيال ، وليس من السهل كنس هذه الآثار بين ليلة وضحاها ، بل يلزم العمل ليل نهار من أجل إعادة صياغة الشخصية العراقية الجديدة بكل تفاصيلها ، وعلى مختلف الأصعدة ، وعلى رأسها الصعيدالفكري والثقافي والاخلاقي والاجتماعي ، بما يتلاءم ومتطلبات ومقومات الديمقراطية ، التي تتناقض مع النظام الشمولي جذريا ، إذ لا مجال للتزاوج بينهما أبدا .
المطلوب ، تغيير طريقة تفكير الانسان العراقي ، وأسلوب تعامله مع الآخرين ، وكيفية رؤيته للحدث ، لينبذ ، مثلا ، التعصف الأعمى والحقد والعنف في معالجة الامور ، وحديث التكفير والتخوين والاحتقار والاستصغار ، والسباب والتهجم غير المبرر والاستهزاء بآراء الآخرين ، مهما إختلف معهم ، إن كل ذلك يعد من مخلفات سياسات النظام البائد التي يجب أن ننظف منها العراق ، كما ننظفه من أسلحة الدمار الشامل واليورانيوم والسموم .
وإذا أضفنا الى مخلفات النظام البائد ، التركة الثقيلة التي توارثها العراقيون من تاريخهم الذي تراكمت في صفحاته وكتبه ووقائعه ، صور الفوضى أو الاستبداد ، فسنعرف كم هي معقدة مسؤولية إعادة البناء ، التي لو عرضت على الجبال لأشفقن منها .
باء ـ طبيعة البديل الذي حل محل النظام الشمولي البائد ، وأقصد به حركة المعارضة العراقية ـ سابقا ـ . فالبديل الذي أعرفه عن قرب ، بتياراته وتنظيماته وزعاماته ورموزه وشخصياته ، لا يختلف كثيرا ، وللأسف الشديد ، عن النظام البائد ، في الكثير من ثقافاته وأساليبه ووسائله ، وأحيانا حتى في أهدافه وطريقة تفكيره ، وذلك بسبب إسقاطات النظام البائد عليه طوال عقود متمادية من الزمن ، فليس البديل إلا نتاج الواقع العراقي بكل مشاكله وتناقضاته ، فهو لم ينزل علينا من السماء ، وإنما ولد ونمى وترعرع في هذا الواقع ، خاصة وأن بعضه من إفرازات النظام البائد مباشرة ومن دون واسطة .
إن من الصعب جدا ، أن ينجو معارضا لنظام شمولي ، كنظام الطاغية الذليل ، من إسقاطاته ، سواء في الوسائل والأساليب ، أو في الشعارات والأهداف وطريقة التفكير ، فلقد أثبت علماء الاجتماع ، بمشاهداتهم ودراساتهم وبحوثهم العلمية الرصينة ، أن الضحية يصاب ، في كثير من الأحيان ، بأمراض الجلاد ، خاصة على الصعيد النفسي والمعنوي ، فهذا إبن خلدون ، عالم الاجتماع المعروف ، مثلا يقول ، ـ إن المغلوب يقلد الغالب ، للاعتقاد بكماله ، فهو يقلده في شعاره وزيه ونحلته وسائر عوائده ـ ، ولهذا السبب ربما ، أصيبت حركة المعارضة العراقية ـ الأحزاب السياسية العراقية حاليا والتي تبوأت مقاعد السلطة بعد سقوط النظام ـ بالكثير من أمراض النظام البائد ، بصورة باتت تقلق المواطن العراقي كثيرا ، والذي لم يلمس حتى الآن أي فرق جوهري بين الماضي والحاضر، لدرجة أن الكثير من العراقيين بات مقتنعا ، بأن الواقع ذاته لم يتغير ، إنما الذي تغير هو الأسماء والمسميات والعناوين والأشخاص ، وأن الذي تغيرهو القشور ، أما الجوهر واللباب ، فلم يتغير منه شيئا ، وهذا هو أخطر ما يمكن أن يمر بخاطر العراقيين .
صحيح إن الأحزاب السياسية العراقية ـ حركة المعارضة العراقية سابقا ـ هي ضحية النظام البائد ، إلا أنها في الحقيقة لم تكن لتخف إعجابها به ، وبشخص الطاغية الذي يقلده الآن بعض ضحاياه بمجرد أن تسنموا موقعا أو مسؤولية ، فنراهم يوميا وهم يحاولون تقليده بطريقة الحديث وحركات اليد ، بل وحتى بالمصطلحات التي طالما كان يكررها الطاغية ، ويبقى أن يقلد مثل هؤلاء ، وبعضهم وزراء ومحافظين في العهد الجديد ، ضحكاته ، بعد أن قلدوا طريقة أزلامه في إدارة الاجتماعات ، عندما إستخدموا الأيدي والأرجل كوسيلة للتفاهم فيما بينهم ، كما حدث ذلك في الاسبوع الماضي في أحد إجتماعات الحكومة الانتقالية الموقتة ، والتي أصيب بها أحدهم بضربة كم في إحدى عينيه ، فيما أصيب آخر بكسر في يده .
ولشدة إعجاب هؤلاء بالطاغية الذليل ، طالما كان يتكرر إسمه في الاجتماعات الحركية والحزبية والجبهوية وأمثالها ، بصفته ـ الرجل ـ الحاسم والقادر على ضبط الامور مثلا أو ما أشبه ، ولذلك حاول الكثير من الزعامات ـ عن قصد أو من دون قصد ، لا أدري ـ تمثل صفاته وخصوصياته ، خاصة على صعيد الفكر الشمولي ، ولهذا السبب إستبد الزعماء ، وتحولت تنظيماتهم وأحزابهم إلى تيارات شمولية ، لا ترى إلا نفسها ، ولا تعترف إلا بزعاماتها ورموزها ، الأمر الذي أصابها بمرض التمزق والتفرق المزمن ، والذي رافق مسيرتها طوال الوقت ، كما تسببت الديكتاتورية في التنظيم ، وإستبداد القادة والزعماء ، بإنتاج مرض خطير آخر ، ألا وهو مرض الانشقاقات التي أصيبت بها طوال الوقت لدرجة الهبوط الى الحالة الأميبية ، فكان التنظيم ينقسم على نفسه حوليا ، كما كان الاثنان ينقسما على نفسهما ليعلنا عن تشكيل ثلاثة أحزاب ، وكل ذلك بسبب الديكتاتورية التي إنتقلت من الجلاد الى الضحية ، والتي عادة ـ أقصد الديكتاتورية ـ لا تستوعب الآخر ولا تصغ الى المخالف ، ولذلك ، فكلما كان يشهد حزب إنشقاقا ، كانت الفروع تنشق على نفسها كذلك ، وهكذا ، ولأن الاصل والفرع ، كل يدعي الشرعية ، وتمثيله لمبادئ الحزب لحظة التأسيس ، رافضا تغيير الاسم ليتميز عن صنوه ، إنتهت بهم الاسماء الى طريق مسدود ، فلم يعد المائز بين تنظيم وآخر إلا بحرف جر فقط ، كأن يكون حرف الجر ـ في ـ أو ـ بـ ـ ، أو ما أشبه .
طبعا ، حصل هذا لكل التيارات ، الاسلامية منها والقومية واليسارية التي تسمي نفسها بالديمقراطية كما حصل ذلك للأحزاب التي تسمي نفسها بالأساسية ، والأخرى التي ترفض وصفها بغير الأساسية ، وكل ذلك ، وغيره الكثير يدلل على أن الخلف يتطابق ، وللأسف الشديد ، الى حد بعيد مع السلف ، فكيف ، يا ترى ننتظر منه أن يصنع للعراق الجديد ديمقراطية حقيقية ، وهو الذي رأيناه كيف سقط في أول إختبار للمصداقية ، إبان تجربة مجلس الحكم المنحل ، فبين متهالك وضعيف في الشخصية وصاحب نظرة حزبية ضيقة ، ضاعت الكثير من حقوق العراقيين ؟.
إن فاقد الشئ لا يعطيه ، فكيف يمكن أن يصنع البديل نظاما ديمقراطيا ، وهو الذي لم يؤمن ، أو يتعامل ، مع مبادئها ، في وسطه الحزبي الداخلي ، فهل يمكن أن يتعامل بها مع الآخرين ؟.
كلنا يتمنى ذلك ، وإن كنا نشك في قدرتهم وإرادتهم .
إن التنظيم أو الحزب الذي لم يشهد في صفوفه ، أية عملية إنتخابية حقيقية ، لاختيار زعاماته أوهيئاته القيادية والتنفيذية طوال حياته ، والتي تمتد أحيانا لعشرات السنين ، هل سيقتنع فيتشجع للجوء الى صندوق الاقتراع ليتنافس مع الآخرين ؟.
نتمنى ذلك مرة أخرى ، وإن كنا نشك في ذلك ، إذ ربما يتعلم هؤلاء من تجاربهم النضالية العريقة ، أو على الأقل ، يأخذوا العبرة من النهاية التي آل اليها الطاغية الذليل ونظامه وزبانيته .
حقا ، إنها لمصيبة عظمى أن لا يلمس العراقيون ، فرقا بين العهدين ، بعد كل الذي جرى ، لأن ذلك يصيبهم بالأحباط الشديد لدرجة اليأس ، ربما ، من التغيير الجذري والحقيقي .
جيم ـ محيط العراق ، الذي يتشكل بمجمله ، من أنظمة شمولية بدرجة أو بأخرى ، بالاضافة الى محيطه العربي والاسلامي ، فالديمقراطية بالنسبة له ، شذوذ مستهجن ، لا يحق للعراقيين أن يختاروه أبدا ، ولذلك يدفع هذا المحيط ، باتجاه عرقلة بناء الديمقراطية في العراق الجديد ، من خلال التحريض على العنف والارهاب والقتل والاختطاف ، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر ، وبتوظيف كل الوسائل القذرة والادوات الوسخة ، وبظل كل الشعارات واللافتات ، حتى الدين والفتوى الدينية سخرها هذا المحيط ليجهض الحمل ويقتل الجنين في بطن أمه .
إن محيط العراق ، ومعه الانظمة العربية ، يعتبر الديمقراطية أكبر تحدي له ، ولذلك نراه كيف يفعل المستحيل ، من أجل صد العراقيين عن مواصلة المشوار بالاتجاه الصحيح ، وهو بذلك يختلف جذريا عن محيط المانيا أو اليابان ، بعد الحرب العالمية الثانية ، والذي كان محيطا ديمقراطيا ، النازية فيه شذوذ ، فكان يتطلع لرؤية المانيا أو يابان ديمقراطية ، ولذلك ، عندما سقطت النازية في المانيا ، ساعدها محيطها على بناء النظام الديمقراطي ، أما في حالة العراق ، فالعكس هو الصحيح تماما ، لأن محيطه يتصور بأن الديمقراطية في العراق تحد كبير ورهيب ، وعدو لدود لأنظمته الاستبدادية الديكتاتورية الشمولية ، بدرجة أو بأخرى ، ولذلك ، لم يكتف هذا المحيط بالكف عن مساعدة العراقيين في محنتهم وتجربتهم الجديدة ، بل عمد الى فعل كل ما من شأنه أن يدمرهم ، ويقضي على الأمل
نعم ، لقد كان النظام البائد من سنخ محيطه ، ولذلك كان مقبولا ، لأن الطيور على أشكالها تقع ، فرأينا كيف دعمه محيطه بكل أسباب القوة والاستمرار ، المادية منها والمعنوية ، ومن دون أن يصغ لصرخات الضحايا ولا لحظة واحدة ، أما العراق الديمقراطي ، فسيكون كالطير الذي يغرد خارج سربه ، ولذك فهو مرفوض جملة وتفصيلا ، لأن الديمقراطية بالنسبة لهذا المحيط الشمولي حرب مصيرية ، وهي حرب وجود وليست حرب حدود ، حتى يمكن التفكير بالتنازل عنها إلى حين ، مثلا . لقد دفع هذا المحيط البائس بموجات العنف والارهاب بدرجة مرعبة ، فالأردن مثلا لم يأل جهدا في دعم مجموعات العنف والارهاب التي دخلت العراق من حدوده المفتوحة ، كما لم يوفر فرصة إلا ووظفها لتصفية حساباته مع خصوم مفترضين ، لصالح النظام البائد وأزلامه وأعوانه ، أو لصالح أجهزة مخابرات إقليمية أو دولية تتأبط شرا بالعراق ، ناسيا أو متناسيا بأن تدمير العراق سيأتي من بعده الطوفان الذي سيغرقه ومن معه .
دال ـ إسرائيل التي لا تريد أن ترى دولة قوية في المنطقة ، وعلى أي صعيد كان ، سياسيا أو إقتصاديا أو أمنيا أو ما إلى ذلك .
ومن المعلوم ، فإن الديمقراطية مصدر قوة وثبات وإستقرار ، لأية دولة في هذا العالم ، تختارها كنظام حكم ، كما أن الديكتاتورية مصدر ضعف وتخلف وقلق ودمار ، لكل شعب يبتلى بها ، ولذلك فإن قيام نظام ديمقراطي في العراق ، سيكون ، بلا أدنى شك ، سببا لقوة العراق وشعبه ، كما أنه سيكون عامل تنمية وتطور وتقدم واستقرار ، وكل هذا ما لا تريده إسرائيل أبدا ، وهي التي بنت كيانها واستمرت في وجودها ، على أساس تحقيق مبدأ أو نظرية التفوق على دول المنطقة ، فكيف يا ترى ، ستترك العراق يفلت من هذه الحلقة ، فتتركه وشأنه ، يبني نظاما ديمقراطيا ، يؤهله ليكون دولة قوية ، بشعب آمن منتج ، ونظام مستقر ؟. سيظل وجود إسرائيل في المنطقة ، عائقا مباشرا يحول دون إقامة نظام ديمقراطي ، سواء في العراق أو في غيره ، خاصة في ظل دعم إقليمي ودولي واسع لها .
هاء ـ إن الديمقراطية في العراق ، ستقلب معادلة سياسية حاكمة متوارثة على مدى أجيال وأجيال ، ستقلبها رأسا على عقب .
لقد حكمت الأقلية العراق ، قرونا طوال ، لأن كل الأنظمة التي تعاقبت على حكمه ، لم تنبثق عن صندوق الاقتراع ، ولم يختارها العراقيون بأنفسهم ، إنما فرضت عليهم فرضا ، إما باسم الشرعية الدينية ، أو بمؤامرات القصور الحاكمة ، أو بالانقلابات العسكرية ـ السرقات المسلحة ـ ، وظل العراق على هذه الحالة طوال تاريخه ، يئن تحت سلطة الأقلية التي أقصت الأكثرية عن السلطة ، فهل سيتمكن العراقيون هذه المرة من إغتنام الفرصة الذهبية ، ليبنوا نظام حكم ديمقراطي ينبثق عن صندوق الاقتراع بانتخابات حرة ونزيهة ، لا يميز بين مواطن وآخر ، إلا على أساس الكفاءة والنزاهة والتجربة والقابلية على الانجاز الصحيح والسليم ، وأن كل العراقيين فيه سواسية ومن الدرجة الاولى ، لا فرق بين عربهم وكردهم وتركمانهم وكلدانهم وآشوريهم ، ومسلمهم ومسيحيهم وشيعيهم وسنيهم ، بل أنهم شركاء في هذا الوطن ، يتقاسمون خيراته ويدافعون عنه ، ولا يفرطون في وحدة شعبه وأرضه ؟.
نـــــــــــزار حيدر
NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM
وصلت من خلال الكاتب عن طريق الايميل الشخصي
لو سئلت عن عدد الطرق المؤدية الى الديمقراطية ، لقلت أنها بعدد أنفاس الخلائق ، لأن الديمقراطية ثقافة وليست قرارا ، فهي تصنع أولا في عقول الناس ، قيم ومبادئ ، قبل أن تنزل الى الشارع ، مشروعا وخطة ، ولذلك لا يمكن صناعة الديمقراطية بضربة سحرية من عصا موسى ، فنقول لها ، كن فتكون ، وإنما يلزم أن تأخذ وقتا كافيا وزمنا مناسبا ، من دون ضغط أو إكراه ، أو حتى إستعجال ، لأن العجلة ، في مثل حالة الديمقراطية ، ندامة .
وهذا ما يفسر لنا ، ربما ، سبب التفاوت في الوقت ، الذي تستغرقه صناعة الديمقراطية من بلد لآخر ، ومن شعب لآخر .
أو ما يفسر لنا ، ربما كذلك ، سبب ثبات ديمقراطيات ، لفترات زمنية طويلة ، وإنهيار أخرى كلمح البصر ، أحيانا ، قياسا الى زميلاتها الأخريات .
ولكن .. ليسمح لي القارئ الكريم أولا ، أن أذكر النقاط الثلاث الاستراتيجية التالية ، التي أعتقد أن إستذكارها دائما ، يجنبنا مهاوي الانزلاق في أخطاء المشروع ، من جانب ، ومن أجل أن نكون واقعيين ، لا نحلق في فضاءات التنظير والآمال الخادعة والتفاؤل المفرط ، فنصاب ، بالتالي بمرض خداع الذات ، من جانب آخر .
إن من المهم جدا أن ننظر الآن الى الامور بواقعية ، ونقيسها بأحجامها وأوزانها الحقيقية ، من دون إفراط أو تفريط ، ليأت البناء ثابتا وسليما ومعافى من الأمراض المزمنة .
أما النقاط ، فهي ؛
أولا ـ للديمقراطية مستويين ، الأول ، هو مستوى الثوابت الانسانية ، ما يصطلح عليه بعبارة إستاندارد عالمي أو دولي ، والتي لا يختلف عليها إثنان ، كالحرية والمشاركة والمساواة والتعددية والتداول السلمي للسلطة ، وما الى ذلك من القيم الانسانية التي ترتكز عليها الديمقراطية ، وهي ذاتها في كل زمان ومكان ، وعند كل الشعوب التي تنشد بناء النظام الديمقراطي ، فهي لا تتأثر بدين أو قومية أو لون أو جنس أو تاريخ أو جغرافيا أو أي شئ آخر ، ولذلك لا يمكن أن نتصور الديمقراطية من دونها أبدا ، مهما تحجج الحاكم أوتعذر السلطان .
أما المستوى الثاني ، فهو مستوى المتغيرات التي تختلف عادة من بيئة الى أخرى ، ومن شعب لآخر ، إنها مجموعة الوسائل والتكتيكات والأدوات التي يسخرها شعب من الشعوب ، لبناء نظامه الديمقراطي ، ولهذا السبب تعددت أنواع الأنظمة الديمقراطية ، وتنوعت هياكلها ووسائلها ، حتى في أعرق الأنظمة الديمقراطية في هذا العالم ، بل وعلى مر التاريخ .
في المستوى الأول ، لا تجوز المحاججة والمجادلة ولا حتى المجاملة ، لأنها قيم استراتيجية ثابتة ، من المستحيل الاستعاضة عنها بأي بديل محتمل ، فهي حجر الزاوية في الديمقراطية ، إن وجدت في بلد ما ، وجدت معها الديمقراطية ، وإلا ، فلا معنى للديمقراطية أبدا ، فهي ، بمعنى آخر ، لا تتعدى عند القياس أحد لونين ، فإما أسود ـ ديكتاتورية ـ أو أبيض ـ ديمقراطية ـ إذ لا وجود للمنطقة الرمادية في هذا المستوى ، مهما ساقت الأنظمة من أدلة وبراهين لخداع الناس بديمقراطيتها المزيفة أو لتبرير مصادرة حرية الناس أو منعهم من المشاركة في الحياة السياسية ، أو
ما أشبه ، فحقيقة كون أن هذا النظام ديكتاتوريا ، لا تتغير بالخداع والتبرير أبدا
فإذا كان الزعيم لا يتغير في البلد على مدى أجيال ، وإذا كانت المرأة التي هي برأيي كل المجتمع وليس نصفه ، مغيبة عن الشأن العام ، وإذا كان الرأي الآخر مطاردا ومقموعا ، وإذا لم يكن في البلد إلا حزب واحد فقط هو حزب الحاكم والحكومة ، والى جانبه مجموعة من الامعات والدمى على طريقة أحزاب ، لصاحبه ، وإذا كان التمييز العنصري أو الطائفي أو الحزبي والعشائري ، هو سيد الموقف ، فعلى الديمقراطية السلام ، إذ لا يسعنا الا أن نقرأ على روحها الفاتحة ، مهما حاول السلطان تبرير ذلك ، تارة باسم الدين وأخرى باسم الوراثة وثالثة بحجة الخطر الذي يداهم البلاد ، أو الذي يتربص بالامن القومي ، أو بحجج الظروف الطارئة والتحديات الدولية ، أو ما شابهها من هذه الخزعبلات التي توظفها الأنظمة الشمولية لتبرير تشبثها بالسلطة وقمع الناس وتدمير حياتهم ، كما فعل نظام الطاغية الذليل في العراق على مدى نيف وثلاثين سنة عجاف .
إن الديمقراطية ، ممارسات يومية لا يمكن إلا أن يتلمسها المواطن في كل لحظة ، وفي كل حركة وسكنة ، وهي ليست شعارات براقة ، أو كلام فارغ ، أو نظريات مجردة ليخفي الحاكم وراءها أو تحت عباءتها ، إستبداده وظلمه وديكتاتوريته .
لا نقاش في الثوابت ، إذن ، ويبقى النقاش محصورا في المستوى الثاني ، أي مستوى المتغيرات التي يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار ، عند الحديث عن بناء الديمقراطية ، فلا يجوز تجاوزها أو إغماض العين عنها ، إذا ما أريد للديمقراطية أن تنجح ، ولبنائها أن يكون ثابتا مستقرا ، لا تهزه الأعاصير ، ولا تهوي به الريح في واد سحيق ، لأن تجاوز المتغيرات ، يعني تعمد تجاوز كل ما يساهم في تشكلها ، وفي رسم معالم خصوصيات كل شعب من الشعوب ، كالدين واللغة والموقع الجغرافي والتاريخ والعادات والتقاليد ، وما الى ذلك .
من هنا ، فإن البناء الديمقراطي الناجح ، هو الذي يأخذ بنظر الاعتبار خصوصيات الناس بكل تفاصيلها ، من دون القفز عليها .
أما إذا تعارضت بعض هذه الخصوصيات مع متغيرات البناء الديمقراطي ، فإن من الحكمة بمكان أن يصار الى إصلاح هذه الخصوصيات بالحكمة والموعظة الحسنة ، من دون اللجوء الى العنف والقوة والاكراه ، لأن الخصوصية لا يمكن أن تتبدل نحو الأحسن والأفضل بالقوة ، كما لا يمكن إصلاحها إذا كنت خطأ ، بالعنف والاكراه ، لأن من عادة الناس ، أنهم يتشبثون بماضيهم وتاريخهم وعاداتهم وموروثاتهم الاجتماعية ، التي يتصورونها في كثير من الأحيان ، نصوص مقدسة ، أو أنها جزء من الدين الذي أوحى به الله عزوجل إلى أنبيائه .
إن الرفق في هذه الحالة أمر مطلوب ومحمود ، فهو الحل السحري والدواء الشافي ، لأمراض الناس المتوارثة ، التي تتحول في أغلب الأوقات ، إلى عقبات في طريق البناء الحضاري والتنمية والتطور ، خاصة في بلد ينشط فيه التيار السلفي المتخلف ، وتيارات التكفير والعنف ، التي تحاول توظيف الدين والعادات الموروثة ، في خدمة أهدافها المشبوهة ، أما العنف ، فلا يزيد المشكلة إلا تعقيدا ، والحل إلا بعدا عن الواقع ، كما أنه يساهم في تكريس الخطأ والمرض ، شئنا أم أبينا ، وربما إلى هذا المعنى يشير حديث رسول الله ـ ص ـ بقوله ,, ما وضع الرفق على شئ إلا زانه ، وما وضع الخرق على شئ إلا شانه ،، أو قول الامام علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ,, من عامل بالعنف ندم ،، .
ثانيا ـ الديمقراطية بناء ذاتي ، ينبع من ذات الانسان أولا ، وقبل كل شئ ، فهو قناعة وحاجة وشعور ، قبل أن تكون سلعة أو قطع غيار تستورد من الخارج . فالشعب الذي ينشد البناء الديمقراطي ، يلزمه أولا أن يبدأ البناء من ذاته ، ليشيد لبناته الواحدة تلو الاخرى ، ثم تأتي بعد ذلك كل الامور الأخرى ، كعوامل مساعدة تزيد من فرص البناء وتساعد على تشييده وتساهم في نجاحه ، ولذلك فان من المستحيل تشييد الديمقراطية في بلد يرفضها شعبه ، أو لا يتحسس بضرورتها .
إن نقطة إنطلاق التغيير نحو الديمقراطية ، تبدأ من الذات ، ومن ثم تنفتح لتستوعب كل العوامل المساعدة الأخرى ، الى جانب تجارب الآخرين ووسائلهم ، وعوامل النجاح ومقومات الثبات والاستمرار ، أما أن ترفض أمة من الامم الديمقراطية ، ثم تجلس على قارعة الطريق تستجدي المارة ليجودوا بها عليها ، فهذا ليس إلا ضرب من ضروب الخيال ، أو قل ضرب من ضروب الجنون ، لأن الديمقراطية بناء ذاتي أولا وقبل كل شئ ، يشاد في عقول الرجال ، أولا ، وفي نفوسهم وشعورهم وذواتهم ، وربما إلى هذا المعنى كذلك أشار القرآن الكريم في قول الله عزوجل ,, إن الله لا يغير ما بقوم ، حتى يغيروا ما بأنفسهم ،، ففي الآية إشارة واضحة وصريحة ورائعة ، في آن ، الى رفض إرادة الله عزوجل ، الخالق الجبار ، التدخل المباشر في تغيير حال الامم والأقوام ، إذا لم يبادروا هم بأنفسهم الى إتخاذ الخطوة الاولى ، لتأتي بعد ذلك إرادة الله تعالى ، التي ستساعدهم على تحقيق التغيير الذاتي ، فهي إذن عامل مساعد وليس الأصل في عملية التغيير التي يجب أن تنطلق من الذات والذات فقط .
إن الشعب الذي يهب له الآخرون الديمقراطية ، سوف لن يتمتع بإمتيازاتها أبدا ، لأنه سيشعر وكأنها علبة سردين صدرت له قهرا ، كما أنه سوف لا يبدي أي نوع من الاستعداد للدفاع عنها إذا ما تعرضت للخطر ، لأنه لا يشعر بها كجزء من كيانه ، أو أنها نبعت من ذاته ، بالاضافة الى أنه لا يشعر بكونه قد دفع ثمنا لها ، فلماذا يدفع دما لصيانتها من عبث العابثين ؟. تشبه حالته هذه ، حالة المستأجرة التي تبكي على فقيد الناس بمقدار قيمة ما يدفع لها من أجر .
لنحرص ، إذن ، على أن يأتي البناء الديمقراطي في العراق الجديد ، نابعا من ذات كل مواطن عراقي ، وليدفع كل العراقيين ثمنا من أنفسهم لتشييده ، وليتحسسوا أهميته وضرورته ، من أجل أن يهبوا جميعا هبة رجل واحد للدفاع عنه إذا ما تعرض للخطر ، ولذلك يلزم أن نمنح العراقيين فرصة الحوار والنقاش والسؤال والتعليق وكل ما من شأنه أن يساهم في إشراكهم في عملية البناء ، ليأتي المولود عراقيا ، منسجما مع خصوصيات العراقيين ، غير مشوها أو مشبوه الانتماء الى أحد الأبوين .
ثالثا ـ العراقيون اليوم أمام مفترق طرق ، فإما أن يختاروا الديمقراطية ، لينعموا بفوائدها ويتمتعوا بحسناتها ، هم وأجيالهم القادمة ، أو أن يفشلوا في تحقيقها ، فيعودوا القهقري ويهربوا الى الماضي المظلم ، ليعود الاستبداد والديكتاتورية والانظمة الشمولية ، هي سيدة الموقف ، لتعود معها بالتالي ، الأنفال وحلبجة والمقابر الجماعية والهجرة القسرية والحروب العبثية ، وما الى ذلك .
إنهم أمام فرصة تاريخية عظيمة ، قد لا تعود ثانية إلا بشق الأنفس ، فأي الأمرين سيختارون ؟.
الحقيقة المرة التي يجب أن لا نغفل عنها أو نهرب منها ، هي ، أن تشييد الديمقراطية في العراق ، أمر صعب جدا ، ولكنه ، في نفس الوقت ، ليس مستحيلا أبدا ، وفرق بين أن يكون الهدف ، أي هدف ، صعب المنال أو مستحيل المنال ، فالهدف الذي يستحيل على التحقق لا يسير اليه صاحبه ، أما الآخر صعب المنال ، فإن صاحبه يسير اليه على أي حال ومهما طال الزمن ، وغلى الثمن ، لأنه سيناله أو بعضه ، بالرغم من كل شئ ، ومهما كانت الظروف والتحديات ، لأن بصيص الأمل يشجع المرء على ركوب الصعاب من أجل تحقيق الهدف شريطة أن يتسلح بالوسائل الصحيحة والأدوات السليمة ، وأن يتحلى بطول بال وصبر كبيرين ، وإلى هذا المعنى يشير الامام أمير المؤمنين عليه السلام بقوله ,, ما أعدم الصبور الظفر ، وإن طال به الزمان ،، كما أن عليه أن يتسلح بالهمة والمثابرة ، وفي الحديث الشريف ,, يطير المؤمن بهمته ، كما يطير الطائر بجناحيه ،، . طبعا ، لا أريد هنا ـ بكل تأكيد ـ تثبيط العراقيين ، ليدب اليأس في نفوسهم ، فيتوقفوا عن العمل ويتركوا الهدف ، ولكنني ، في نفس الوقت ، لا أريد أن أخدعهم ، فأسهل لهم الطريق الصعب ، وأبسط لهم الأمور ، فالصديق من صدقك ، لا من صدقك ، بتشديد الدال ، إنما أريد هنا أن أكون واقعيا معهم ، أعرض عليهم الأمور كما أراها ، بمقاييسها الصحيحة والحقيقية ، من دون تبسيط أو تهويل ، أو غش أو خداع ، إذ ,, من غش ليس منا ،، كما في الحديث الشريف ، ليعدوا العدة المطلوبة للهدف ، ويأخذوا بكل أسباب النجاح ، وزيادة، ويفكروا بكل الاحتمالات ، حتى لا يصطدموا في وسط الطريق ، أو يخدعوا بالشعارات البراقة والكلام المعسول وببالونات الأختبار ، فإن من العقل والحكمة أن يعرف المرء كل التفاصل ويرى الصورة كاملة غير منقوصة ، ويقف أمام المرآة السليمة ، وليس أمام المقعرة أو اللامة التي لا تعكس له الصورة الحقيقية ، وإلى ذلك
أشار الامام جعفر الصادق عليه السلام بقوله ,, العارف بزمانه ، لا تهجم عليه اللوابس ،، .
أقول ، إن بناء الديمقراطية في العراق ، أمر صعب مستصعب ، لعدة أسباب ؛
ألف ـ تركة النظام الشمولي البائد ، الذي خلفها وراءه ، بعد حكم إستبدادي ديكتاتوري دام أكثر من ثلاثة عقود من الزمن .
لقد ترك النظام البائد ، آثارا سلبية كثيرة ، تجذر بعضها في شخصية الانسان العراقي عبر عدة أجيال ، وليس من السهل كنس هذه الآثار بين ليلة وضحاها ، بل يلزم العمل ليل نهار من أجل إعادة صياغة الشخصية العراقية الجديدة بكل تفاصيلها ، وعلى مختلف الأصعدة ، وعلى رأسها الصعيدالفكري والثقافي والاخلاقي والاجتماعي ، بما يتلاءم ومتطلبات ومقومات الديمقراطية ، التي تتناقض مع النظام الشمولي جذريا ، إذ لا مجال للتزاوج بينهما أبدا .
المطلوب ، تغيير طريقة تفكير الانسان العراقي ، وأسلوب تعامله مع الآخرين ، وكيفية رؤيته للحدث ، لينبذ ، مثلا ، التعصف الأعمى والحقد والعنف في معالجة الامور ، وحديث التكفير والتخوين والاحتقار والاستصغار ، والسباب والتهجم غير المبرر والاستهزاء بآراء الآخرين ، مهما إختلف معهم ، إن كل ذلك يعد من مخلفات سياسات النظام البائد التي يجب أن ننظف منها العراق ، كما ننظفه من أسلحة الدمار الشامل واليورانيوم والسموم .
وإذا أضفنا الى مخلفات النظام البائد ، التركة الثقيلة التي توارثها العراقيون من تاريخهم الذي تراكمت في صفحاته وكتبه ووقائعه ، صور الفوضى أو الاستبداد ، فسنعرف كم هي معقدة مسؤولية إعادة البناء ، التي لو عرضت على الجبال لأشفقن منها .
باء ـ طبيعة البديل الذي حل محل النظام الشمولي البائد ، وأقصد به حركة المعارضة العراقية ـ سابقا ـ . فالبديل الذي أعرفه عن قرب ، بتياراته وتنظيماته وزعاماته ورموزه وشخصياته ، لا يختلف كثيرا ، وللأسف الشديد ، عن النظام البائد ، في الكثير من ثقافاته وأساليبه ووسائله ، وأحيانا حتى في أهدافه وطريقة تفكيره ، وذلك بسبب إسقاطات النظام البائد عليه طوال عقود متمادية من الزمن ، فليس البديل إلا نتاج الواقع العراقي بكل مشاكله وتناقضاته ، فهو لم ينزل علينا من السماء ، وإنما ولد ونمى وترعرع في هذا الواقع ، خاصة وأن بعضه من إفرازات النظام البائد مباشرة ومن دون واسطة .
إن من الصعب جدا ، أن ينجو معارضا لنظام شمولي ، كنظام الطاغية الذليل ، من إسقاطاته ، سواء في الوسائل والأساليب ، أو في الشعارات والأهداف وطريقة التفكير ، فلقد أثبت علماء الاجتماع ، بمشاهداتهم ودراساتهم وبحوثهم العلمية الرصينة ، أن الضحية يصاب ، في كثير من الأحيان ، بأمراض الجلاد ، خاصة على الصعيد النفسي والمعنوي ، فهذا إبن خلدون ، عالم الاجتماع المعروف ، مثلا يقول ، ـ إن المغلوب يقلد الغالب ، للاعتقاد بكماله ، فهو يقلده في شعاره وزيه ونحلته وسائر عوائده ـ ، ولهذا السبب ربما ، أصيبت حركة المعارضة العراقية ـ الأحزاب السياسية العراقية حاليا والتي تبوأت مقاعد السلطة بعد سقوط النظام ـ بالكثير من أمراض النظام البائد ، بصورة باتت تقلق المواطن العراقي كثيرا ، والذي لم يلمس حتى الآن أي فرق جوهري بين الماضي والحاضر، لدرجة أن الكثير من العراقيين بات مقتنعا ، بأن الواقع ذاته لم يتغير ، إنما الذي تغير هو الأسماء والمسميات والعناوين والأشخاص ، وأن الذي تغيرهو القشور ، أما الجوهر واللباب ، فلم يتغير منه شيئا ، وهذا هو أخطر ما يمكن أن يمر بخاطر العراقيين .
صحيح إن الأحزاب السياسية العراقية ـ حركة المعارضة العراقية سابقا ـ هي ضحية النظام البائد ، إلا أنها في الحقيقة لم تكن لتخف إعجابها به ، وبشخص الطاغية الذي يقلده الآن بعض ضحاياه بمجرد أن تسنموا موقعا أو مسؤولية ، فنراهم يوميا وهم يحاولون تقليده بطريقة الحديث وحركات اليد ، بل وحتى بالمصطلحات التي طالما كان يكررها الطاغية ، ويبقى أن يقلد مثل هؤلاء ، وبعضهم وزراء ومحافظين في العهد الجديد ، ضحكاته ، بعد أن قلدوا طريقة أزلامه في إدارة الاجتماعات ، عندما إستخدموا الأيدي والأرجل كوسيلة للتفاهم فيما بينهم ، كما حدث ذلك في الاسبوع الماضي في أحد إجتماعات الحكومة الانتقالية الموقتة ، والتي أصيب بها أحدهم بضربة كم في إحدى عينيه ، فيما أصيب آخر بكسر في يده .
ولشدة إعجاب هؤلاء بالطاغية الذليل ، طالما كان يتكرر إسمه في الاجتماعات الحركية والحزبية والجبهوية وأمثالها ، بصفته ـ الرجل ـ الحاسم والقادر على ضبط الامور مثلا أو ما أشبه ، ولذلك حاول الكثير من الزعامات ـ عن قصد أو من دون قصد ، لا أدري ـ تمثل صفاته وخصوصياته ، خاصة على صعيد الفكر الشمولي ، ولهذا السبب إستبد الزعماء ، وتحولت تنظيماتهم وأحزابهم إلى تيارات شمولية ، لا ترى إلا نفسها ، ولا تعترف إلا بزعاماتها ورموزها ، الأمر الذي أصابها بمرض التمزق والتفرق المزمن ، والذي رافق مسيرتها طوال الوقت ، كما تسببت الديكتاتورية في التنظيم ، وإستبداد القادة والزعماء ، بإنتاج مرض خطير آخر ، ألا وهو مرض الانشقاقات التي أصيبت بها طوال الوقت لدرجة الهبوط الى الحالة الأميبية ، فكان التنظيم ينقسم على نفسه حوليا ، كما كان الاثنان ينقسما على نفسهما ليعلنا عن تشكيل ثلاثة أحزاب ، وكل ذلك بسبب الديكتاتورية التي إنتقلت من الجلاد الى الضحية ، والتي عادة ـ أقصد الديكتاتورية ـ لا تستوعب الآخر ولا تصغ الى المخالف ، ولذلك ، فكلما كان يشهد حزب إنشقاقا ، كانت الفروع تنشق على نفسها كذلك ، وهكذا ، ولأن الاصل والفرع ، كل يدعي الشرعية ، وتمثيله لمبادئ الحزب لحظة التأسيس ، رافضا تغيير الاسم ليتميز عن صنوه ، إنتهت بهم الاسماء الى طريق مسدود ، فلم يعد المائز بين تنظيم وآخر إلا بحرف جر فقط ، كأن يكون حرف الجر ـ في ـ أو ـ بـ ـ ، أو ما أشبه .
طبعا ، حصل هذا لكل التيارات ، الاسلامية منها والقومية واليسارية التي تسمي نفسها بالديمقراطية كما حصل ذلك للأحزاب التي تسمي نفسها بالأساسية ، والأخرى التي ترفض وصفها بغير الأساسية ، وكل ذلك ، وغيره الكثير يدلل على أن الخلف يتطابق ، وللأسف الشديد ، الى حد بعيد مع السلف ، فكيف ، يا ترى ننتظر منه أن يصنع للعراق الجديد ديمقراطية حقيقية ، وهو الذي رأيناه كيف سقط في أول إختبار للمصداقية ، إبان تجربة مجلس الحكم المنحل ، فبين متهالك وضعيف في الشخصية وصاحب نظرة حزبية ضيقة ، ضاعت الكثير من حقوق العراقيين ؟.
إن فاقد الشئ لا يعطيه ، فكيف يمكن أن يصنع البديل نظاما ديمقراطيا ، وهو الذي لم يؤمن ، أو يتعامل ، مع مبادئها ، في وسطه الحزبي الداخلي ، فهل يمكن أن يتعامل بها مع الآخرين ؟.
كلنا يتمنى ذلك ، وإن كنا نشك في قدرتهم وإرادتهم .
إن التنظيم أو الحزب الذي لم يشهد في صفوفه ، أية عملية إنتخابية حقيقية ، لاختيار زعاماته أوهيئاته القيادية والتنفيذية طوال حياته ، والتي تمتد أحيانا لعشرات السنين ، هل سيقتنع فيتشجع للجوء الى صندوق الاقتراع ليتنافس مع الآخرين ؟.
نتمنى ذلك مرة أخرى ، وإن كنا نشك في ذلك ، إذ ربما يتعلم هؤلاء من تجاربهم النضالية العريقة ، أو على الأقل ، يأخذوا العبرة من النهاية التي آل اليها الطاغية الذليل ونظامه وزبانيته .
حقا ، إنها لمصيبة عظمى أن لا يلمس العراقيون ، فرقا بين العهدين ، بعد كل الذي جرى ، لأن ذلك يصيبهم بالأحباط الشديد لدرجة اليأس ، ربما ، من التغيير الجذري والحقيقي .
جيم ـ محيط العراق ، الذي يتشكل بمجمله ، من أنظمة شمولية بدرجة أو بأخرى ، بالاضافة الى محيطه العربي والاسلامي ، فالديمقراطية بالنسبة له ، شذوذ مستهجن ، لا يحق للعراقيين أن يختاروه أبدا ، ولذلك يدفع هذا المحيط ، باتجاه عرقلة بناء الديمقراطية في العراق الجديد ، من خلال التحريض على العنف والارهاب والقتل والاختطاف ، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر ، وبتوظيف كل الوسائل القذرة والادوات الوسخة ، وبظل كل الشعارات واللافتات ، حتى الدين والفتوى الدينية سخرها هذا المحيط ليجهض الحمل ويقتل الجنين في بطن أمه .
إن محيط العراق ، ومعه الانظمة العربية ، يعتبر الديمقراطية أكبر تحدي له ، ولذلك نراه كيف يفعل المستحيل ، من أجل صد العراقيين عن مواصلة المشوار بالاتجاه الصحيح ، وهو بذلك يختلف جذريا عن محيط المانيا أو اليابان ، بعد الحرب العالمية الثانية ، والذي كان محيطا ديمقراطيا ، النازية فيه شذوذ ، فكان يتطلع لرؤية المانيا أو يابان ديمقراطية ، ولذلك ، عندما سقطت النازية في المانيا ، ساعدها محيطها على بناء النظام الديمقراطي ، أما في حالة العراق ، فالعكس هو الصحيح تماما ، لأن محيطه يتصور بأن الديمقراطية في العراق تحد كبير ورهيب ، وعدو لدود لأنظمته الاستبدادية الديكتاتورية الشمولية ، بدرجة أو بأخرى ، ولذلك ، لم يكتف هذا المحيط بالكف عن مساعدة العراقيين في محنتهم وتجربتهم الجديدة ، بل عمد الى فعل كل ما من شأنه أن يدمرهم ، ويقضي على الأمل
نعم ، لقد كان النظام البائد من سنخ محيطه ، ولذلك كان مقبولا ، لأن الطيور على أشكالها تقع ، فرأينا كيف دعمه محيطه بكل أسباب القوة والاستمرار ، المادية منها والمعنوية ، ومن دون أن يصغ لصرخات الضحايا ولا لحظة واحدة ، أما العراق الديمقراطي ، فسيكون كالطير الذي يغرد خارج سربه ، ولذك فهو مرفوض جملة وتفصيلا ، لأن الديمقراطية بالنسبة لهذا المحيط الشمولي حرب مصيرية ، وهي حرب وجود وليست حرب حدود ، حتى يمكن التفكير بالتنازل عنها إلى حين ، مثلا . لقد دفع هذا المحيط البائس بموجات العنف والارهاب بدرجة مرعبة ، فالأردن مثلا لم يأل جهدا في دعم مجموعات العنف والارهاب التي دخلت العراق من حدوده المفتوحة ، كما لم يوفر فرصة إلا ووظفها لتصفية حساباته مع خصوم مفترضين ، لصالح النظام البائد وأزلامه وأعوانه ، أو لصالح أجهزة مخابرات إقليمية أو دولية تتأبط شرا بالعراق ، ناسيا أو متناسيا بأن تدمير العراق سيأتي من بعده الطوفان الذي سيغرقه ومن معه .
دال ـ إسرائيل التي لا تريد أن ترى دولة قوية في المنطقة ، وعلى أي صعيد كان ، سياسيا أو إقتصاديا أو أمنيا أو ما إلى ذلك .
ومن المعلوم ، فإن الديمقراطية مصدر قوة وثبات وإستقرار ، لأية دولة في هذا العالم ، تختارها كنظام حكم ، كما أن الديكتاتورية مصدر ضعف وتخلف وقلق ودمار ، لكل شعب يبتلى بها ، ولذلك فإن قيام نظام ديمقراطي في العراق ، سيكون ، بلا أدنى شك ، سببا لقوة العراق وشعبه ، كما أنه سيكون عامل تنمية وتطور وتقدم واستقرار ، وكل هذا ما لا تريده إسرائيل أبدا ، وهي التي بنت كيانها واستمرت في وجودها ، على أساس تحقيق مبدأ أو نظرية التفوق على دول المنطقة ، فكيف يا ترى ، ستترك العراق يفلت من هذه الحلقة ، فتتركه وشأنه ، يبني نظاما ديمقراطيا ، يؤهله ليكون دولة قوية ، بشعب آمن منتج ، ونظام مستقر ؟. سيظل وجود إسرائيل في المنطقة ، عائقا مباشرا يحول دون إقامة نظام ديمقراطي ، سواء في العراق أو في غيره ، خاصة في ظل دعم إقليمي ودولي واسع لها .
هاء ـ إن الديمقراطية في العراق ، ستقلب معادلة سياسية حاكمة متوارثة على مدى أجيال وأجيال ، ستقلبها رأسا على عقب .
لقد حكمت الأقلية العراق ، قرونا طوال ، لأن كل الأنظمة التي تعاقبت على حكمه ، لم تنبثق عن صندوق الاقتراع ، ولم يختارها العراقيون بأنفسهم ، إنما فرضت عليهم فرضا ، إما باسم الشرعية الدينية ، أو بمؤامرات القصور الحاكمة ، أو بالانقلابات العسكرية ـ السرقات المسلحة ـ ، وظل العراق على هذه الحالة طوال تاريخه ، يئن تحت سلطة الأقلية التي أقصت الأكثرية عن السلطة ، فهل سيتمكن العراقيون هذه المرة من إغتنام الفرصة الذهبية ، ليبنوا نظام حكم ديمقراطي ينبثق عن صندوق الاقتراع بانتخابات حرة ونزيهة ، لا يميز بين مواطن وآخر ، إلا على أساس الكفاءة والنزاهة والتجربة والقابلية على الانجاز الصحيح والسليم ، وأن كل العراقيين فيه سواسية ومن الدرجة الاولى ، لا فرق بين عربهم وكردهم وتركمانهم وكلدانهم وآشوريهم ، ومسلمهم ومسيحيهم وشيعيهم وسنيهم ، بل أنهم شركاء في هذا الوطن ، يتقاسمون خيراته ويدافعون عنه ، ولا يفرطون في وحدة شعبه وأرضه ؟.