المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شرافة مكة تبلغ القمة والنهاية معا على يد الحسين بن علي



الفتى الذهبي
05-20-2010, 03:20 AM
http://www.alaalem.com/admin/upload/irq_119294030



يقول عالم الاجتماع العراقي علي الوردي إن مؤلفه ( لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) شكل بالنسبة اليه «كتاب العمر». ولعل قارىء هذا السفر، المكون من 6 أجزاء في ثمانية كتب، سيجد ان ذلك الرجل الجليل لم يضيع عمره سدى. فهو من الاعمال العلمية النادرة في مملكة الكتاب العربي الذي تحول الى سفر شعبي في العراق، تتداوله ايدي عامة الناس فضلا عن المهتمين والمعنيين.

ولكن على الرغم من ذلك فان مادة الكتاب لم تصبح كلها شعبية ومقروءة. فهذا الكتاب، الذي تعيد « العالم» نشره على حلقات، وهو ملحق للجزء السادس من « اللمحات»، لم يأخذ الاهتمام الكافي شأن بقية المادة. ان عنوان هذا الملحق، المنشور في ذيل اللمحات ككتاب مستقل، هو (قصة الاشراف وابن سعود). ولربما ظن الكثيرون انه لا يخص العراق فاهمل نوعا ما. ولكنه في الواقع يرتبط بالعراق مثلما بغيره من دول عربية اخرى، لأنه يتوقف عند ما يمكن اعتباره فجر تاريخ العرب الحديث.

ولعله يمثل افضل مقاربة علمية حتى اليوم لشخصيات تركت تأثيرها الواضح، واحيانا الكبير، في تاريخ العرب الحديث مثل مفجر الثورة العربية الشريف الحسين بن علي، وهو والد اول ملوك الاردن وسوريا والعراق، ومثل عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية.

وقد اصبح تاريخ بعض هذه الشخصيات اشكاليا نوعا ما، نظرا لخضوع النظر اليها الى عوامل « الثروة والثروة»، او المال والعقائد السياسية، فضاعت الحقائق عنهم تحت عواصف الدعاية والدعاية المضادة. لكن هذا الكتاب، المثير والممتع، فريد من هذه الناحية شأن كل اعمال المؤلف. فالوردي عالم نذر نفسه للبحث عن الحقيقة، وكان فوق ذلك سيرة مقاتل ضد زمانه.

بين عون وزيد


دام الحكم المصري في الحجاز نحو ثلاثين سنة إذ لم ينسحب الجيش المصري من الحجاز إلا في عام 1840م. وكانت تلك الفترة ذات أثر كبير في منصب الشرافة، فقد كان شريف مكة قبل ذلك يحكم الحجاز حكماً مطلقاً وتكاد سيادة الدولة العثمانية عليه تكون اسمية. أما بعد ذلك فقد اصبح الشريف يشاركه في الحكم وال تركي ومعه قوات نظامية تخضع لأمره. وقد بدأ منذ ذلك الحين صراع بين الوالي والشريف يشتد تارة ويخف تارة أخرى. فالوالي يريد أن يفرض سيادة الدولة في الحجاز، بينما الشريف يريد أن يستعيد مجد أجداده في الحكم المطلق.

ومن الممكن القول ان الصراع بين الأشراف أنفسهم قد دخل فيه من جراء ذلك عامل جديد لم يكن موجوداً من قبل، هو نفوذ الدولة وأمر السلطان. فبعد ما كان الصراع بين الأسر المتنافسة محصوراً في داخل الحجاز ويعتمد على القوة وحدها، اصبح الآن يدور بالإضافة إلى ذلك في أروقة اسطنبول حيث تحاول كل أسرة نيل الحظوة لدى السلطان وتشويه سمعة غريمتها لديه.

شهدت فترة الحكم المصري في الحجاز بداية الصراع المشهور بين أسرتين من الأشراف هما: أسرة ذوي زيد وأسرة ذوي عون. وهو الصراع الذي استمر حتى عهد ما بعد الحرب العالمية الأولى وكان له اثره في تاريخ الأشراف القريب.

كان عبد المطلب بن غالب هو زعيم ذوي زيد، وقد تولى الشرافة في عام 1827، ولكن عهده لم يدم طويلاً إذ كان ينافسه على الشرافة محمد بن عبد المعين زعيم ذوي عون. ويدعي ذوو زيد أن محمد بن عبد المعين لم يكن شريفاً بل هو مجهول النسب كان يعمل خادماً عند الشريفة حزيمة أخت عبد المطلب ولكن محمد علي باشا أراد أن يجعل منه نداً لعبد المطلب نكاية به ولكي يشق الأشراف ويضعفهم.

شرافة عبد المطلب


وفي أوائل عام 1828م حدثت معركة شديدة في الطائف بين قوات عبد المطلب وقوات محمد بن عبد المعين، وقد ساعدت القوات المصرية محمداً فانتصر على خصمه. فطلب عبد المطلب منه الأمان، وغادر الحجاز ذاهباً إلى اسطنبول. وقد احتفى به السلطان محمود عند وصوله وأكرمه وأبقاه عنده في اسطنبول.

استمرت شرافة محمد حتى عام 1851 عندما صدر أمر السلطان بعزله لسبب غير معروف، وقد عينت الدولة عبد المطلب في الشرافة مكانه. وقد ذهب محمد إلى اسطنبول فعاش هو وأولاده في كنف السلطان مكرماً على نحو ما عاش خصمه عبد المطلب من قبل.

لم تدم شرافة عبد المطلب في هذه المرة سوى أربع سنوات تقريباً، ففي عام 1854 حدث حادث أدى إلى عزله. وخلاصة الحادث أن الوالي التركي كامل باشا قد وصله أمر من السلطان بمنع بيع الرقيق علناً في الأسواق تنفيذاً لمعاهدة عقدت بين الدولة العثمانية وبريطانيا. وقد استدعى كامل باشا دلالي الرقيق وأبلغهم الأمر، ولم يكد ينتشر الخبر في مكة حتى هاج الناس وتنادوا بالجهاد، واجتمع طلبة العلم في بيت رئيس العلماء وطلبوا منه أن لا يرضخ لهذا الأمر الذي هو مخالف للشرع في نظرهم، كما طلبوا منه أن يذهب معهم إلى دار القاضي ليمنع من صدور الأمر. فاستجاب رئيس العلماء لطلبهم وسار معهم متجهاً إلى دار القاضي، وانضم الجمهور إليهم في الطريق وهم ينادون بالثورة، واشتبكوا مع الحامية التركية في قتال عنيف امتد إلى المسجد الحرام، وسقط فيه عدة قتلى من الفريقين.

كان الشريف عبد المطلب يومذاك في الطائف، ولما علم بالأمر قرر أن يقف إلى جانب الأهالي ضد الحامية التركية، وجمع أتباعه وتوجه بهم نحو مكة. وأسرعت الحامية التركية بالانسحاب إلى جدة، فتحصنت فيها. وأعلن الوالي أن أمر السلطان قد وصله بعزل عبد المطلب من الشرافة وإعادة محمد بن عبد المعين إليها.

وفي 26 نيسان 1855 وصلت باخرة إلى جدة وهي تحمل محمد بن عبد المعين، فأقيمت الزينات في جدة احتفاءً بمقدمه. وسار محمد على رأس قوات كبيرة نحو الطائف التي كان عبد المطلب متحصناً فيها. ثم هاجم الطائف هجوماً شديداً واقتحمها وأسر عبد المطلب، وأرسله مخفوراً إلى اسطنبول، فعفا عنه السلطان وأقامه في أحد القصور مكرماً.

وفي 29 آذار 1858 مات محمد بن عبد المعين على أثر مرض لم يمهله إلا أياماً، فتولى الشرافة من بعده ابنه عبد الله. وظل عبد الله في منصب الشرافة إلى أن حل عهد الدستور الأول في الدولة العثمانية على يد مدحت باشا في عام 1877، فعزل عبد الله وعين مكانه أخاه الحسين بن محمد الذي كان من المؤيدين لمدحت باشا والدستور.

دامت شرافة الحسين بن محمد سنتين وبضعة أشهر، ففي عام 1880 قتل الحسين في جدة على يد درويش أفغاني إذ طعنه بخنجر مسموم. وقد اختلفت الأقاويل في سبب قتله، وقيل ان السلطان عبد الحميد هو الذي دبر أمر اغتياله بعد إلغاء الدستور ونفي مدحت باشا.

أعيد عبد الملطب إلى منصب الشرافة وقد نقلته من اسطنبول إلى الحجاز باخرة سلطانية خاصة. فوصل إلى مكة في 28 أيار 1880م، فاستقبل فيها استقبالاً عظيماً، وكان حينذاك كبير السن، وأخذ يقسو على اتباع ذوي عون وعلى أنصار الدستور. وفي عام 1881م عندما جيء بمدحت باشا واصحابه إلى مكة في طريقهم إلى سجن الطائف كان عبد المطلب يطل عليهم من نافذة قصره وهو يقول: “نصحت لك يا مدحت فلم تقبل”.

لم تبق أسرة ذوي عون ساكتة تجاه حكم عبد المطلب، فقد ذهب وفد منهم إلى اسطنبول وأبرزوا للسلطان عبد الحميد وثائق تثبت اتصال عبد المطلب بالإنكليز. ويدعي ذوو زيد أن الوثائق كانت مزورة. والظاهر أنها أثرت على السلطان فأصدر أمره في عام 1882 بعزل عبد المطلب من الشرافة، وعين مكانه رجلا من ذوي عون هو عون بن محمد ابن عبد المعين – وهو المشهور باسم “عون الرفيق”. وقد اعتقل عبد المطلب على اثر ذلك وظل رهن الاعتقال حتى مات في أوائل عام 1886م عن عمر يناهز المائة عام.

عون الرفيق


تولى عون الرفيق شرافة مكة ثلاثا وعشرين سنة من عام 1882 إلى 1905 والواقع أنه يستحق أن يكتب عنه كتاب قائم بذاته لما اشتهر به من غرابة الأطوار وما دار حوله من أقاويل مختلفة وأساطير.

وصفه أحد المؤرخين بقوله ان شرافة مكة بلغت في عهده “منتهى ضعفها وغاية هبوطها”، بينما وصفه مؤرخ آخر بأنه “مأمون عصره ورشيد مصره”. وقد أعطانا مؤلف “تاريخ مكة” صورة عنه لعلها أقرب إلى الواقع من غيرها، فهو يقول فيه ما نصه:

“ويبدو أن الشريف عون كان.. غريب الأطوار متناقض الأعمال، يقدس بعض معاصريه في غزارته العلمية ومحبته للخير العام وتبسطه في مجالسه الخاصة وتودده للمسالمين. وينعى عليه غيرهم تبذله بين ندمائه، وقسوته في معاملة الحجاج، وإمعانه في عقوبة مخالفيه، واصطناعه (الخزناوية) الذين كانوا يضطهدون الشعب.. ويصف مؤلف “تاريخ مكة” الخزناوية بأنهم رجال اتخذهم الشريف عون كحرس خاص لخدمته فصاروا يتسلطون على الأهالي ويستغلون نفوذهم في اضطهاد من يضطهدونه أو يطمعون في أمواله فكان لا يجرؤ أحد على الشكوى منهم. وقيل ان الشريف عون كان يختارهم من طبقات العامة ويخولهم من النفوذ ما يستطيعون به إذلال الخاصة نكاية بهم.

من الأمور التي اشتهر بها الشريف عون الرفيق تقريبه لرجل من المجاذيب اسمه “علي بو”، فقد كان هذا الرجل قبلئذ يذرع الشوارع بجسمه العاري وهو مطرق لا يكلم الناس، فإذا حادثه أحد المارة وألح عليه في الحديث أجابه بعبارة واحدة اعتاد عليها ولا يجيب بغيرها، وهي: “مقضية، مقضية، إن شاء الله”. ويقال في سبب تقريب الشريف عون له أنه تنبأ له بنبوءة صحت فيما بعد، فآمن عون بقدسيته، وبنى له قصراً فخماً وألبسه الملابس الفاخرة، واتخذه أنيساً له، وجعل أعيان مكة يقبلون يده ويحترمونه. وقد ظل هذا الرجل على هذه المنزلة العالية إلى أن مات عون الرفيق في عام 1905، فعاد إلى الشوارع يذرعها من جديد.

ومما اشتهر به الشريف عون أيضاً انه كان يحب العدل، أو كان يريد الاشتهار به، إلى درجة عجيبة. قيل انه كان أحياناً يأمر بحبس الحيوانات والجمادات إذا كانت سبباً في وقوع جناية على أحد، فإذا وقعت صخرة على إنسان فجرحته أمر بضرب تلك الصخرة أو إعدامها لكي يفهم الناس أنه لا يفوته قصاص مجرم ولو كان جماداً لا تكليف عليه. وحدث مرة أن سقط ديك على أخشاب تعود لامرأة شامية، وسببت الأخشاب له جرحاً، فأمر الشريف بحبس الأخشاب، ولم يطلق سراحها إلا بعد أن قدمت له المرأة عريضة بذلك.

من التهم التي اتهم بها الشريف عون أنه كان يميل إلى العقيدة الوهابية، وسبب هذه التهمة أنه أمر بهدم بعض القبور المقدسة كقبر عبد الله بن الزبير في مكة، وقبر حواء في جدة. ويروي أمين الريحاني أن قناصل الدول الأجنبية اعترضوا على الشريف عون عندما أمر بهدم قبر حواء، وقالوا له: “لك ما تشاء من الأولياء، ولكن حواء أم الناس أجمعين، ونحن نحتج على هدم مقامها”. فاقتنع الشريف عون بما قالوا وترك هدم ذلك القبر.

والغريب أنه في الوقت الذي كان فيه خصومه يتهمونه بالوهابية كان الشيعة يظنون أنه منهم. فقد كان الشيخ باقر التستري، وهو من علماء الشيعة، مقرباً إلى الشريف عون يفد عليه ويقضي الأعوام عنده، وكان هذا الشيخ واثقاً من تشيع الشريف عون.

ويستدل الشيعة على تشيع الشريف عون بعدة أمور منها: أنه أبطل مظاهر الفرح التي اعتاد عليها أهل الحجاز في يوم عاشوراء اعتقاداً منهم أنه اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح على الجودي، فقال الشريف عون لهم: “إننا أمة محمد، وسفينة آل الرسول صادفت هذا اليوم بلاءها المشهور – يقصد مقتل الحسين في كربلاء – فلابد أن يحزن فيه الرسول وتحزن أمته”.

ومنها أنه نظم قصيدة طويلة في رثاء فاطمة الزهراء وذم من آذاها، وألقاها بنفسه على الحجاج في الكعبة عام 1904. والواقع أن هذه القصيدة اشتهرت لدى الشيعة في العراق، وما زال قراء التعزية يتلونها في مجالسهم الحسينية، وهم يرددون منها البيت التالي بوجه خاص:

بنت من؟ أم من؟ حليلة من؟

ويل لمن سن ظلمها وأذاها

يمكن القول على أي حال ان الشريف عون لم يكن وهابياً ولا شيعياً، بل كان مذهباً قائماً بذاته. يصفه أحد الذين خالطوه وعرفوه بقوله: “إنه كان يجاري كل طائفة بأكمل ما عندهم حتى يستطلع ما في خواطرهم، وينفذ فيهم سياسته وارادته، ويستجمع من كل ذلك قلوب الطوائف الإسلامية قريبها والبعيد... وكان الشريف عون عالماً بارعاً في الفنون متضلعاً في أكثر العلوم لا يدخل عليه عالم إلا ويخرج معتقداً أن علمه دون علم الشريف. وكانت كل طائفة من المسلمين تحج وتعتقد أن أمير الحرمين أحد أفراد طائفتها..”

إن هذه السياسة الغريبة التي سار عليها الشريف عون لابد أن يرضى عنها قوم ويغضب منها آخرون. والظاهر أن العامة كانوا في الغالب راضين عنها ومعجبين بها، أما الخاصة فكانوا ناقمين عليها. فقد كان في مقدمة الناقمين على الشريف عون الوالي نوري باشا وأعيان مكة وعلماؤها، وكتبوا عليه المضابط إلى السلطان عبد الحميد يشكونه ويذمونه. فأرسل السلطان إلى مكة لجنة للتحقيق برئاسة راتب باشا.

وحين وصلت اللجنة إلى جدة كان في استقبالها رسول من الشريف عون وهو يحمل صرة فيها ستة آلاف ليرة ذهب هدية إلى راتب باشا ولما حققت اللجنة في الشكاوى بعدئذ وجدت أنها لا صحة لها وبرأت الشريف عون من التهم التي ألصقت به “زوراً وبهتاناً”. وبعد مدة قصيرة أمر السلطان بعزل نوري باشا من الولاية وتعيين راتب باشا مكانه.

وفي عام 1904 نظم الشاعر المعروف أحمد شوقي قصيدة طويلة ذم فيها الشريف عون ذماً مقذعاً وحث السلطان على عزله. وقد رفع القصيدة إلى السلطان. وفيما يلي ننقل أبياتأً نموذجية منها:

ضج الحجاز وضج البيت والحرم

واستصرخت ربها في مكة الأمم

قد مسها في حماك الضر فاقض لها

خليفة الله أنت السيد الحكم

لك الربوع التي ربع الحجيج بها

أللشريف عليها أم لك العلم

أهين فيها ضيوف الله واضطهدوا

إن انت لم تنتقم فالله منتقم

أفي الضحى وعيون الجند ناظرة

تسبى النساء ويؤذي الأهل والحشم

ويسفك الدم في أرض مقدسة

وتستباح بها الأعراض والحرم

يد الشريف على أيدي الولاة علت

ونعله دون ركن البيت تُستلم

نيرون ان قيس في باب الطغاة به

مبالغ فيه والحجاج متهم

أدّبه أدّب أمير المؤمنين فما

في العفو عن فاسق فضل ولا كرم

لا ترج فيه وقاراً للرسول فما

بين البغاة وبين المصطفى رحم

ابن الرسول فتى فيه شمائله

وفيه نخوته والعهد والشمم

ما كان طه لرهط الفاسقين اباً

آل النبي بأعلام الهدى ختموا

محمد روعت في القبر أعظمه

وبات مستأمناً في قومه الصنم

وخان عون الرفيق العهد في بلد

منه العهود أتت للناس والذمم

لم تؤثر هذه القصيدة على بلاغتها في السلطان شيئاً. ولعل الصرر التي كان الوالي يتسلمها من الشريف عون كانت أكثر بلاغة من القصيدة.

وعلى أي حال فقد مات عون في السنة التالية، فتولى الشرافة من بعده أخوه علي بن عبد الله ولكنه عزل في عام 1908، وتولى الشرافة من بعده الحسين بن علي.

الحسين بن علي


إن الحسين بن علي هو أشهر من تولى شرافة مكة في جميع العصور. فهو قد وصل الشرافة إلى القمة ولكنها سرعان ما انهارت على يده. وهو فوق ذلك ذو أهمية كبرى في تاريخ العرب المعاصر وتاريخ القومية العربية. وسنحاول في هذا الفصل ذكر شيء من حياته حتى قيامه بالثورة على الأتراك، على أن نعود لدراسة بقية حياته في فصول تالية.

بداية حياته


هو الحسين بن علي بن محمد بن عبد المعين من ذوي عون. ولد في اسطنبول في عام 1853 من أم شركسية اسمها “وسيلة خانم”. وكان جده وأبوه وأعمامه يعيشون يومذاك في اسطنبول عندما كانت الشرافة في يد خصمهم عبد المطلب من ذوي زيد.

وفي عام 1855 عندما تولى الشرافة محمد بن عبد المعين – على اثر عزل عبد المطلب منها – غادر اسطنبول إلى مكة مع أولاده واهل بيته، وكان من بينهم حفيده الصغير الحسين. وفي عام 1858 حين مات محمد تولى الشرافة من بعده ابنه عبد الله.

وقد عاد علي والد الحسين إلى اسطنبول حيث توفي فيها عام 1870. أما ولده الحسين فقد بقي في كنف عمه عبد الله في مكة. وفي عام 1875 تزوج الحسين عابدية خانم، وهي ابنة عمه عبد الله، فولدت له أربعة أولاد هم: الحسن وعلي وعبد الله وفيصل.

وقد مات الأول منهم في صباه، ثم ماتت الأم أيضاً في عام 1889.

ظهرت أولى بوادر نشاطه السياسي في عام 1880 حين تولى الشرافة عبد المطلب من ذوي زيد للمرة الثانية. فقد كان الحسين من جملة أعضاء الوفد العوني الذي ذهب إلى اسطنبول لتحريض السلطان على عزل عبد المطلب. ويدعي ذوو زيد أن الحسين كان من أنشط أعضاء الوفد، وأنه هو الذي قام بتزوير الوثائق ضد عبد المطلب، كما اتهموه بأنه اتصل بالسفير البريطاني في اسطنبول طالباً منه مساعدته ضد ذوي زيد، وحثه على الاعتماد على ذوي عون دون غيرهم.

ولما تم عزل عبد المطلب من الشرافة في عام 1882، وتولى عون الرفيق الشرافة من بعده، كانت العلاقة بين الحسين وعمه عون حسنة جداً. فقد كان عون يكثر من زيارة الحسين في بيته ويلاطف أهله ويلاعب أولاده حتى أنه كان يضع اللجام في فم عبد الله بن الحسين ويأمره بالجري كالفرس ليأنس به.

ويروي عبد الله في مذكراته حادثة طريفة جرت له في تلك الأيام، خلاصتها أنه وأخوته كان لهم معلم يعلمهم الخط اسمه الشيخ عثمان اليمني، وكان هذا المعلم ذا لثة دامية وفم كريه، وقد اعتاد أن يضع القلم في فمه ثم يغمسه في الدواة فيختلط فيها الحبر بالدم.

وأراد عبد الله أن يعمل له مقلباً فجاء بشيء من الفلفل القوي ووضعه في محبرة أخيه فيصل. ولما وضع الشيخ القلم في فمه بعد غمسه في المحبرة، أحس بلذع الفلفل، ثم اشتد به الألم وتورم فمه، وقرر معاقبة فيصل ظناً منه أنه الفاعل، ووضع قدمي فيصل في الفلقة، وصار فيصل يصرخ ويقسم أنه بريء. وانتهى الحادث بصرف المعلم بعد الاعتذار إليه ومنحه نقوداً وكسوة.

ولما وصل الخبر إلى الشريف عون الرفيق استدعى إليه عبد الله، وصار يضحك ويتعجب من عمله ويقول: “فطنة عجيبة غريبة”. ثم أمر بإحضار المعلم كما أمر بإحضار طبيب الأسنان، وقال للمعلم: “يا عثمان، تريد أن تعلم أبناءنا الخط وهم علموك كيف تكون النظافة”، ثم نادى طبيب الأسنان وأمره بأن يخلع أسنان المعلم، فأخذ المعلم يصيح ويستغيث. فأمر الشريف عون بالكف عنه وبإعطائه ألفاً وخمسمائة ريال وأوصاه بأن يتداوى.

محطة اسطنبول


لم تبق العلاقة الحسنة بين الحسين وعمه الشريف عون طويلاً، بل صارت تسوء شيئاً فشيئاً بمرور الأيام. فقد أخذ الشريف عون يتهم الحسين بأنه يؤلب الناس عليه ويحرضهم على التذمر منه، وطلب من السلطان عبد الحميد استدعاءه إلى اسطنبول ليتخلص منه. فورد الأمر من السلطان بأن يأتي الحسين إليه. فرحل الحسين إلى اسطنبول في عام 1893 واستقبله السلطان بلطف، وعينه عضواً في مجلس شورى الدولة. وأمر بأن تعد له دار مؤثثة على البوسفور.

عندما استقر الحسين في داره في اسطنبول استدعى إليه أولاده وأهل بيته، فوصل هؤلاء إليها في أوائل آذار 1894. وبعد وصولهم بخمسة عشر يوماً صدرت الإرادة السلطانية بتعيين صفوت أفندي العوا – وهو ضابط شامي – لتعليم أولاد الحسين بعض الدروس كالحساب والتاريخ والجغرافية واللغة التركية. ويروي أمين الريحاني أن عبد الله كان دؤوباً على الدرس بينما كان فيصل كسولاً متأخراً في دروسه دائماً، وقد ذهب صفوت العوا إلى الحسين يشكو إليه من كسل فيصل وتأخره، فقال له الحسين: “اضربه يا ابني ولا تخف..”.

تزوج الحسين في اسطنبول فتاة شركسية ولدت له ابنته صالحة، وقد ماتت الزوجة بعد فترة قصيرة، فتزوج الحسين بعدها عادلة هانم وهي حفيدة رشيد باشا السياسي التركي المشهور، فولدت له ولده زيد وبنتين هما: فاطمة وسارة.

تروي المس بيل في إحدى رسائلها نقلاً عن نوري السعيد: أن عبد الله كان الولد المفضل لأبيه، بينما كان فيصل غير مقرب إليه. أما علي فكثيراً ما كان الخصام يحصل بينه وبين زوجة أبيه عادلة هانم على إدارة البيت، ولهذا كان علي يكره ابنها زيد، بينما كان فيصل يحبه.

طال بقاء الحسين في اسطنبول نحو سبعة عشر عاماً. ولم تكن حياته فيها مرفهة بالدرجة المناسبة لمركزه. تروي المسز ارسكين عن فيصل أنه قال في وصف حياتهم في اسطنبول: “إنها كانت ضيقة شاقة، فلم يكن يتوفر لنا اللحم فيها إلا مرة واحدة في الأسبوع الواحد”. ويقول عبد الله في مذكراته: “أما إقامتنا في اسطنبول فكانت إقامة جبر وإكراه، وإقامة تعلم وعبر..”.