لا يوجد
05-05-2003, 07:07 PM
موضوع منقول من جريدة الشرق الأوسط للكاتبة المصرية صافى ناز كاظم وجدته جديرا بالقراءة
الشرق الأوسط 1/5/2003
صافي ناز كاظم
قال الشهيد سيد قطب في يوم من أيام تاريخنا: "ذهب الانجليز الحُمْر، وجاء الانجليز السُّمْر". مثل هذا المعنى ردده الشاعر نجيب سرور في مسرحيته "آه يا ليل يا قمر"، صائحاً: "اللي ياكل حقنا يبقى انجليزي حتى لو كان دمه مصري"، وأضاف الى هذه الحكمة مقولة أخرى في مسرحيته "ملك الشحاتين" : "لا أبو مطوة ينفع ولا أبو دراع".
مرت هذه الكلمات على خاطري، مع الكثير غيرها، وأنا أتابع ما يمكن تسميته الآن "المحنة العراقية". ويمكن بتعديل طفيف، لا أخرج به عن المعنى، أن أحسم: "اللي يشرب دمنا يبقى أميركاني حتى لو كان له وجه عربي". وتكبر في الشاشة صورة العدو المحتل بائع العراق "صدام حسين". نعم رحل الأميركي المحتل صاحب الوجه العربي غير مأسوف عليه، وجاء مكانه المحتل الأميركي الأميركي، وما زلنا كالمستجير من الرمضاء بالنار. ولكن من المؤكد أن مقاومة عدو محتل أجنبي واضح، أسهل كثيراً من مقاومة عدو محتل بلون الأرضية. لا يمكن الآن أن ينظر أحد الى مقاومة الشعب العراقي للمحتل الأجنبي على أنها "مسألة داخلية"، و"شأن وطني". لا يمكن الآن أن يلتبس الأمر كما كان الحال عند البعض الذين كانوا يرون في حكم البعث الصدامي على مدار 23 سنة "حكماً وطنياً". والحقيقة أن هذا الالتباس كان مفتعلاً. فمنذ يوليو 1979، حين تنازل أحمد حسن البكر لنائبه صدام حسين ليحل محله في الرئاسة، دب الخوف في قلب العراق. وبمقتل القيادة الجماعية للحزب في أغسطس 1979 وانفراد صدام بالسلطة، أدرك الجميع أنهم قد انتقلوا من نظام حكم استبدادي شمولي له بعض وعوده الايجابية، الى اجتياح عدواني يحتل العراق، وان أخذ هذا العدو المحتل لون الأرض، بملامحه العراقية ولكنته العربية، حين تربع صدام حسين على جسد العراق بمسؤوليات المعتمد الأميركي الحاكم باسم المصالح الأميركية.
كل العراق كان يعرف، منذ اللحظة الأولى لتولي صدام حسين مقاليد حكم العراق، أنه قد وقع في أيد أجنبية. كل العراق كان يعرف، وعلى رأسه حزب البعث نفسه من أعلى قياداته الى أدنى كوادره، حين أصبح الشعب العراقي مجبرا على الاختيار القسري بين الانتماء الى الحزب أو "الاعداااااام م م م". كنت وقتها في العراق منذ سبتمبر 1975 أعمل مدرسة لمادة المسرحية في كلية آداب المستنصرية، قسم اللغة الانجليزية، أدرس الفصول الصباحية والمسائية، من الصف الثاني الى الصف الرابع النهائي، وكان من بينها صف مسائي خاص بالعسكريين الحزبيين، في قائمة طلابه "عدنان خير الله طلفاح"، الذي لم أره قط، كنت أقرأ الأسماء لأثبت الحاضر والغائب وأقول: "الطالب عدنان خير الله طلفاح" لا يحضر البتة، فتسرى همهمة من الضحك بين الجالسين لأني لم أكن أعلم أنه ابن خال صدام وشقيق زوجته. حين بدأنا العام الدراسي 79 ـ 1980، في ظل صدام رأيت العجب. تأتيني الطالبة النجيبة "سهيلة ناصر" ترتجف مثل ورقة في مهب عاصفة: "ست، اتحاد الطلبة استدعاني، لا بد من الانضمام للحزب أو الاعدام... ست، المشكلة ليست اعدامي وحدي.. ست، يعدمون الأسرة بأكملها... الانضمام للحزب حرام في عقيدتي... ماذا أفعل؟". كانت تطلب مني فتوى، اجبتها: "ألست مجبرة وقلبك مطمئن بالايمان؟". كان وجه سهيلة يشحب كل يوم حتى صارت شبحاً، تقابلني وتضع في يدي ورقة في تستر، أقرأها: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة". ثم تختفي سهيلة. طلبوا منها تقارير تفصيلية عن الأهل والأقارب والجيران و... لا تحتمل، وتمر بجواري فتاة مسرعة هامسة: "سهيلة نالت شرف الشهادة". كل صباح أقرأ الأسماء لأثبت الحاضر والغائب. كل يوم غائب جديد يضاف الى قائمة الغائبين التي تزداد طولاً يوماً بعد يوم: باسم، عقيل، علي، طالب، نسيم، محمد، محمود، أحمد، هناء، رعد، جابر، جميلة... الى ما لا نهاية له في أسماء المسلمين. وتزداد الهفهفات المسرعة بالهمس: "نال شرف الشهادة... نالت شرف الشهادة". يقابلني الطالب الفلسطيني عند بوابة الجامعة، كأنه لا يخاطبني، يبتسم في مداراة: "الاعدامات شيء بيخوّف.."، مثل وحش السلعوة المسعور، المنقض من كل اتجاه، بلا منطق، ومن دون توقع. أصبح الخوف وباء يتحول الطيبون تحت وطأته الى قتلة يمارسون الذبح هرباً من أن يُذبحوا، ولكن لا مهرب حتى لهؤلاء. يأتيني "جليل" ـ من صف العسكريين الحزبيين ـ مثقلاً بالذنب، عفواً مثقلاً بالجرائم، ينظر اليّ في انكسار بعد محاضرة عن مسرحية شكسبير "ماكبث" يصف فيها أحد أبطالها أحوال بلاده تحت حكم السفاح قائلاً:
"وا أسفاه عليك أيها البلد المنكود،
لم يعد بامكانك التعرف على نفسك،
لم يعد ممكناً أن نسميك أمّنا،
بل قبرنا، حيث لم يعد هناك
أحد نراه يبتسم،
سوى الذي لا يدري شيئاً،
حيث صارت التنهدات، والتأوهات،
والحشرجات أموراً غير ملحوظة، لكثرتها،
حيث أصبح الحزن العاصف أمراً عادياً
لم يعد أحد يسأل من الذي مات،
فحياة الرجال الصالحين تنتهي
قبل أن تذبل الورود في قبعاتهم،
ويموتون قبل أن يصيبهم مرض".
خافتاً يقول "جليل" مازحاً: "بأي وقت مّر شكسبير بالعراق ست؟"، ثم يأتيني بعد غياب طويل: "سامحيني ست، والله الشغل كثير.. هادول الملاعين جواسيس المجوس ما يريدون يتركون لي فرصة للدرس، كل يوم وجبات اعدام لمئات وما يخلصون.. والله تعبنا ست، حتى الحانوتي صار يتذمر...."، أنظر في هلع، وينظر في انكسار ووجع، يريد أن يوصل اليّ الأخبار بأسلوب الشكوى، وأفهم بالترجمة الفورية أن معنى كلامه هو: "يا سيدتي نحن قتلة نذبح ونقتل أهلنا واخواننا وأبناء الوطن في مجازر جماعية..."، ثم يكمل "جليل" في سخرية: "صرت مثل ماكبث، ما أنام... سليب نو مور..."، بعدها يلتفت: "ادعي لي ست"، فأقول: "اللهم ارزقه شرف الشهادة"، فيهز رأسه في يأس: "وينها"؟
كان الشعب العراقي يعرف أن الاعدامات الجماعية هذه صارت شيئاً اعتيادياً، وروتيناً يومياً حتى أن الأسرة التي يتم اعتقال شاب من أبنائها تندهش لو عاد سليماً لأنها تحتسبه عند الله تعالى لحظة أن يذهب مع رجال الأمن. وكنت أسير في بغداد أكاد أشم الدم وأحس مذاقه حقيقة في حلقي وأنا أبلع ريقي. وعندما كلت الأجهزة المكلفة بالاعدام والدفن، وجدوا طريقة أوفر لهم في الجهد وهي دس نوع من سم الفئران في مشروب مصنوع من اللبن الزبادي (شراب عراقي شعبي يتناولونه دائماً خاصة في الصيف) يرغم من يتم اعتقاله، بتهمة الاسلام أو التعاطف مع الثورة الاسلامية ـ التي اندلعت في ايران فبراير (شباط) 1979 ـ على شربه ثم يطلق سراحة ويعود الى داره ليموت وتقع مسؤولية دفنه على أهله.
بعد انتهاء العام الدراسي 79 ـ 1980، حزمت أمتعتي وقلت لعميد الكلية انني ذاهبة لقضاء إجازتي الصيفية بالقاهرة. قال لي: "يعتقلوك في مصر". قلت بسرعة: "عندكم مثل عراقي يقول اللي يشوف الموت يفرح بالسخونة". أدار وجهه وقال: "في أمان الله". عدت الى القاهرة في 29/6/1980 وأنا مطلوبة على قائمة المدعي الاشتراكي بسبب معارضتي لاتفاقيات كامب ديفيد، ومفصولة من عملي في دار "الهلال" بقرار من أمينة السعيد في 11/11/1979، ومع ذلك قلت لمن استقبلني في المطار: "أحن شوقاً لمعتقل القناطر للنساء" وقد استقبلني فاتحاً ذراعيه.
هذا كلام لم أنتظر حتى أقوله اليوم فقط، فلقد كتبت تفاصيله شهادة لوجه الله في كراسة بتاريخ 1/3/1981م، الموافق 24 ربيع الثاني 1401هـ، ولم أجد ناشراً يطبعها لي سوى دار نشر "أوَن َرس" في لندن، وهي ايضا تفضلت بتوزيعها لتشفي صدور قوم مؤمنين وتذهب غيظ قلوبهم، تحت عنوان "يوميات بغداد". وهكذا، لم يكن احتلال صدام حسين للعراق سراً على أحد، وليست هناك دهشة أن يقوم بتسليم بلاد ما بين النهرين لأولياء نعمته وأعوان جرائمه: الأميركان، وتكون هذه الخطوة منه: "أم الجرائم".
* كاتبة مصرية
الشرق الأوسط 1/5/2003
صافي ناز كاظم
قال الشهيد سيد قطب في يوم من أيام تاريخنا: "ذهب الانجليز الحُمْر، وجاء الانجليز السُّمْر". مثل هذا المعنى ردده الشاعر نجيب سرور في مسرحيته "آه يا ليل يا قمر"، صائحاً: "اللي ياكل حقنا يبقى انجليزي حتى لو كان دمه مصري"، وأضاف الى هذه الحكمة مقولة أخرى في مسرحيته "ملك الشحاتين" : "لا أبو مطوة ينفع ولا أبو دراع".
مرت هذه الكلمات على خاطري، مع الكثير غيرها، وأنا أتابع ما يمكن تسميته الآن "المحنة العراقية". ويمكن بتعديل طفيف، لا أخرج به عن المعنى، أن أحسم: "اللي يشرب دمنا يبقى أميركاني حتى لو كان له وجه عربي". وتكبر في الشاشة صورة العدو المحتل بائع العراق "صدام حسين". نعم رحل الأميركي المحتل صاحب الوجه العربي غير مأسوف عليه، وجاء مكانه المحتل الأميركي الأميركي، وما زلنا كالمستجير من الرمضاء بالنار. ولكن من المؤكد أن مقاومة عدو محتل أجنبي واضح، أسهل كثيراً من مقاومة عدو محتل بلون الأرضية. لا يمكن الآن أن ينظر أحد الى مقاومة الشعب العراقي للمحتل الأجنبي على أنها "مسألة داخلية"، و"شأن وطني". لا يمكن الآن أن يلتبس الأمر كما كان الحال عند البعض الذين كانوا يرون في حكم البعث الصدامي على مدار 23 سنة "حكماً وطنياً". والحقيقة أن هذا الالتباس كان مفتعلاً. فمنذ يوليو 1979، حين تنازل أحمد حسن البكر لنائبه صدام حسين ليحل محله في الرئاسة، دب الخوف في قلب العراق. وبمقتل القيادة الجماعية للحزب في أغسطس 1979 وانفراد صدام بالسلطة، أدرك الجميع أنهم قد انتقلوا من نظام حكم استبدادي شمولي له بعض وعوده الايجابية، الى اجتياح عدواني يحتل العراق، وان أخذ هذا العدو المحتل لون الأرض، بملامحه العراقية ولكنته العربية، حين تربع صدام حسين على جسد العراق بمسؤوليات المعتمد الأميركي الحاكم باسم المصالح الأميركية.
كل العراق كان يعرف، منذ اللحظة الأولى لتولي صدام حسين مقاليد حكم العراق، أنه قد وقع في أيد أجنبية. كل العراق كان يعرف، وعلى رأسه حزب البعث نفسه من أعلى قياداته الى أدنى كوادره، حين أصبح الشعب العراقي مجبرا على الاختيار القسري بين الانتماء الى الحزب أو "الاعداااااام م م م". كنت وقتها في العراق منذ سبتمبر 1975 أعمل مدرسة لمادة المسرحية في كلية آداب المستنصرية، قسم اللغة الانجليزية، أدرس الفصول الصباحية والمسائية، من الصف الثاني الى الصف الرابع النهائي، وكان من بينها صف مسائي خاص بالعسكريين الحزبيين، في قائمة طلابه "عدنان خير الله طلفاح"، الذي لم أره قط، كنت أقرأ الأسماء لأثبت الحاضر والغائب وأقول: "الطالب عدنان خير الله طلفاح" لا يحضر البتة، فتسرى همهمة من الضحك بين الجالسين لأني لم أكن أعلم أنه ابن خال صدام وشقيق زوجته. حين بدأنا العام الدراسي 79 ـ 1980، في ظل صدام رأيت العجب. تأتيني الطالبة النجيبة "سهيلة ناصر" ترتجف مثل ورقة في مهب عاصفة: "ست، اتحاد الطلبة استدعاني، لا بد من الانضمام للحزب أو الاعدام... ست، المشكلة ليست اعدامي وحدي.. ست، يعدمون الأسرة بأكملها... الانضمام للحزب حرام في عقيدتي... ماذا أفعل؟". كانت تطلب مني فتوى، اجبتها: "ألست مجبرة وقلبك مطمئن بالايمان؟". كان وجه سهيلة يشحب كل يوم حتى صارت شبحاً، تقابلني وتضع في يدي ورقة في تستر، أقرأها: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة". ثم تختفي سهيلة. طلبوا منها تقارير تفصيلية عن الأهل والأقارب والجيران و... لا تحتمل، وتمر بجواري فتاة مسرعة هامسة: "سهيلة نالت شرف الشهادة". كل صباح أقرأ الأسماء لأثبت الحاضر والغائب. كل يوم غائب جديد يضاف الى قائمة الغائبين التي تزداد طولاً يوماً بعد يوم: باسم، عقيل، علي، طالب، نسيم، محمد، محمود، أحمد، هناء، رعد، جابر، جميلة... الى ما لا نهاية له في أسماء المسلمين. وتزداد الهفهفات المسرعة بالهمس: "نال شرف الشهادة... نالت شرف الشهادة". يقابلني الطالب الفلسطيني عند بوابة الجامعة، كأنه لا يخاطبني، يبتسم في مداراة: "الاعدامات شيء بيخوّف.."، مثل وحش السلعوة المسعور، المنقض من كل اتجاه، بلا منطق، ومن دون توقع. أصبح الخوف وباء يتحول الطيبون تحت وطأته الى قتلة يمارسون الذبح هرباً من أن يُذبحوا، ولكن لا مهرب حتى لهؤلاء. يأتيني "جليل" ـ من صف العسكريين الحزبيين ـ مثقلاً بالذنب، عفواً مثقلاً بالجرائم، ينظر اليّ في انكسار بعد محاضرة عن مسرحية شكسبير "ماكبث" يصف فيها أحد أبطالها أحوال بلاده تحت حكم السفاح قائلاً:
"وا أسفاه عليك أيها البلد المنكود،
لم يعد بامكانك التعرف على نفسك،
لم يعد ممكناً أن نسميك أمّنا،
بل قبرنا، حيث لم يعد هناك
أحد نراه يبتسم،
سوى الذي لا يدري شيئاً،
حيث صارت التنهدات، والتأوهات،
والحشرجات أموراً غير ملحوظة، لكثرتها،
حيث أصبح الحزن العاصف أمراً عادياً
لم يعد أحد يسأل من الذي مات،
فحياة الرجال الصالحين تنتهي
قبل أن تذبل الورود في قبعاتهم،
ويموتون قبل أن يصيبهم مرض".
خافتاً يقول "جليل" مازحاً: "بأي وقت مّر شكسبير بالعراق ست؟"، ثم يأتيني بعد غياب طويل: "سامحيني ست، والله الشغل كثير.. هادول الملاعين جواسيس المجوس ما يريدون يتركون لي فرصة للدرس، كل يوم وجبات اعدام لمئات وما يخلصون.. والله تعبنا ست، حتى الحانوتي صار يتذمر...."، أنظر في هلع، وينظر في انكسار ووجع، يريد أن يوصل اليّ الأخبار بأسلوب الشكوى، وأفهم بالترجمة الفورية أن معنى كلامه هو: "يا سيدتي نحن قتلة نذبح ونقتل أهلنا واخواننا وأبناء الوطن في مجازر جماعية..."، ثم يكمل "جليل" في سخرية: "صرت مثل ماكبث، ما أنام... سليب نو مور..."، بعدها يلتفت: "ادعي لي ست"، فأقول: "اللهم ارزقه شرف الشهادة"، فيهز رأسه في يأس: "وينها"؟
كان الشعب العراقي يعرف أن الاعدامات الجماعية هذه صارت شيئاً اعتيادياً، وروتيناً يومياً حتى أن الأسرة التي يتم اعتقال شاب من أبنائها تندهش لو عاد سليماً لأنها تحتسبه عند الله تعالى لحظة أن يذهب مع رجال الأمن. وكنت أسير في بغداد أكاد أشم الدم وأحس مذاقه حقيقة في حلقي وأنا أبلع ريقي. وعندما كلت الأجهزة المكلفة بالاعدام والدفن، وجدوا طريقة أوفر لهم في الجهد وهي دس نوع من سم الفئران في مشروب مصنوع من اللبن الزبادي (شراب عراقي شعبي يتناولونه دائماً خاصة في الصيف) يرغم من يتم اعتقاله، بتهمة الاسلام أو التعاطف مع الثورة الاسلامية ـ التي اندلعت في ايران فبراير (شباط) 1979 ـ على شربه ثم يطلق سراحة ويعود الى داره ليموت وتقع مسؤولية دفنه على أهله.
بعد انتهاء العام الدراسي 79 ـ 1980، حزمت أمتعتي وقلت لعميد الكلية انني ذاهبة لقضاء إجازتي الصيفية بالقاهرة. قال لي: "يعتقلوك في مصر". قلت بسرعة: "عندكم مثل عراقي يقول اللي يشوف الموت يفرح بالسخونة". أدار وجهه وقال: "في أمان الله". عدت الى القاهرة في 29/6/1980 وأنا مطلوبة على قائمة المدعي الاشتراكي بسبب معارضتي لاتفاقيات كامب ديفيد، ومفصولة من عملي في دار "الهلال" بقرار من أمينة السعيد في 11/11/1979، ومع ذلك قلت لمن استقبلني في المطار: "أحن شوقاً لمعتقل القناطر للنساء" وقد استقبلني فاتحاً ذراعيه.
هذا كلام لم أنتظر حتى أقوله اليوم فقط، فلقد كتبت تفاصيله شهادة لوجه الله في كراسة بتاريخ 1/3/1981م، الموافق 24 ربيع الثاني 1401هـ، ولم أجد ناشراً يطبعها لي سوى دار نشر "أوَن َرس" في لندن، وهي ايضا تفضلت بتوزيعها لتشفي صدور قوم مؤمنين وتذهب غيظ قلوبهم، تحت عنوان "يوميات بغداد". وهكذا، لم يكن احتلال صدام حسين للعراق سراً على أحد، وليست هناك دهشة أن يقوم بتسليم بلاد ما بين النهرين لأولياء نعمته وأعوان جرائمه: الأميركان، وتكون هذه الخطوة منه: "أم الجرائم".
* كاتبة مصرية