أمير الدهاء
03-16-2010, 11:48 PM
الرجل الذى قال: «أطلقوا النار على الحشود واحتفظوا بالبترول كاحتياطى لإسرائيل
محمد الباز - العربي
وقف شاه إيران إلى جانب إسرائيل، وكان داعما لها، بل إنه بذل جهودا خارقة من أجل إقرار الصلح بينها وبين جيرانها من الدول العربية، لقد ظهر تسجيل صوتى للشاه أثناء اجتماع مع مستشاريه العسكريين وقت المظاهرات، كان يعطيهم الأوامر بإطلاق النار على الحشود المتظاهرة، ويطلب الاحتفاظ بالبترول كاحتياط لإسرائيل، وهو التسجيل الذى كان مبررا للمتظاهرين أن يواصلوا زحفهم ضد الشاه، الذى يريد الموت لهم والحياة لإسرائيل.
إن فرح بهلوى تشكك فى صحة وصدق هذا التسجيل الصوتي، تقول إنه كان تقليدا متقنا لصوت الشاه يقول هذه الكلمات التى تدين قائلها، وكانت بقية الشريط مقتطفات من خطب فعلية ألقاها الشاه فى مناسبات مختلفة، وتؤكد بهلوى أن التسجيل الصوتى أرسل بالفعل إلى معمل أمريكى لتحليله، وأثبت أن هذه الجملة لصوت يقلد الشاه وليست للشاه نفسه، لكن الوقت كان قد مضي، وأصبح الشاه خارج قصره.
لكن ولو افترضنا أن هناك من قلد صوت الشاه ونسب إليه هذه الجملة، فإنها لم تأت من فراغ، لقد كان الجميع يعرف علاقة الشاه بإسرائيل ودعمه لها، ولو لم يقل هذه الجملة ضمنا فقد فعلها على أرض الواقع، وهو ما كان كافيا جدا للمتظاهرين الذى كانوا قد قرروا إزاحته من فوق عرشه.
ورغم هذه العلاقة الوثيقة التى ربطت الشاه بتل أبيب، إلا أن فرح بهلوى لم تذكر شيئا عن علاقات إيران بإسرائيل مطلقا، ربما لأنها تعرف أنها لو فعلت ذلك، فإن الأمر حتما سيكون ضد زوجها، فإسرائيل لا تزال العدو الأول والخصم الكبير للدول العربية والإسلامية، بل إن كثيرا من شرعية النظام الإيرانى الحالى تأتى من أنه يمثل تهديدا لإسرائيل، وللدقة كانت هناك إشارة واحدة فى المذكرات إلى مشاركة السفير الإسرائيلى فى جنازة الشاه، لقد توفى فى القاهرة فى مستشفى المعادى العسكرى فى 27 نوفمبر 1980، وشيعت جنازته بعدها بيومين فقط.
عن الجنازة تقول فرح بهلوي: "سجى جثمانه فى قصر عابدين حيث عزفوا السلام الجمهورى الإمبراطوري، وأثار سماعه انفعالنا جميعا، فهى المرة الأولى التى نسمعه منذ رحيلنا من إيران (خرج الشاه وزوجته الملكة من إيران فى 16 يناير 1979)، ووسط جو حر خانق غادر الموكب المصاحب للجثمان قصر عابدين إلى مسجد الرفاعي، الذى سيصبح المثوى الأخير لزوجي، وفى البلدان الإسلامية لا تسير النساء تقليديا خلف النعش، لكننى صممت على أن أكون حاضرة، وقال الرئيس السادات لمسئولى البروتوكول: سوف نفعل ما تريده فرح، وعلى طول الرحلة كان حشد ضخم يشيع نعش الملك المسجى على عربة مدفع تجرها خيول.
كنا على رأس الموكب عن يمينى ليلى ترتدى ثوبا أبيض، وفرح ناز وعلى رضا، وعلى يسارى ريتشارد نيكسون وابنى الأكبر رضا ثم الرئيس السادات، وجيهان السادات، وكان حولنا إخوة الملك، وتبعنا بعض الأصدقاء المخلصين، الملك قسطنطين ملك اليونان والملكة آن ماري، والأمير فيكتور إمانويل من سافوي، وسط سفراء يمثلون عدة دول، وأرسل الملك الحسن الثانى ملك المغرب واحدا من أقرب أقاربه مولاى حافظ علوى الذى أحضر قطعة من كسوة الكعبة لوضعها على ضريح زوجي".
الإشارة كانت فى مذكرات امرأة أخرى فى السيدة جيهان السادات "امرأة من مصر"، تقول: لم تنظم جنازة رسمية أكبر من هذه، نظم أنور كل شيء بنفسه، مشرفا على أدق التفاصيل، تقدم الموكب آلاف من طلاب أكاديميتنا العسكرية، كلهم يعزفون الآلات الموسيقية، ويرتدون الزى العسكرى الأبيض والأصفر والأسود بحسب رتبهم، وسار وراءهم الجنود حاملين أكاليل الورود وزهور السوسن، يتبعهم ضباط راكبين خيولا، ثم جاءت سرية من الرجال حاملى نياشين الشاه العسكرية فوق وسائد من القطيفة السوداء، تتقدم النعش الملفوف بعلم إيران، فوق عربة مدفع يجرها ثمانية من الخيول العربية، ونحن نسير خلفه.
كان ذلك اليوم من أيام الصيف شديد الحرارة جدا فى القاهرة، بينما نحن نسير ثلاثة أميال من قصر عابدين إلى مسجد الرفاعي، حيث سيدفن الشاه، ووفقا لتوجيه أنور مشيت مع فرح للمرة الأولى والوحيدة التى سرت فيها فى موكب جنائزي، قال لى أنور: افعلى ما تفعله فرح، علينا أن نساعدها على اجتياز هذا اليوم الأصعب والأشد حزنا، وهكذا بقيت إلى جانبها.
وامتد خلفنا لأبعد مدى استطعنا أن نراه بقية أولئك الذين احترموا ذكرى الشاه، سار معنا وزراء الحكومة المصرية، وكذلك الرئيس الأمريكى السابق نيكسون، وملك اليونان السابق قسطنطين، وسفراء من الولايات المتحدة وفرنسا وأستراليا وإسرائيل".
كان من يمثل إسرائيل موجودا فى الجنازة إذن، وهو ما يؤكد أن العلاقات كانت وثيقة بين الثلاثى إيران الشاه وإسرائيل وأمريكا، لكن عندما خرج الشاه من مملكته هاربا لم ترحب به أمريكا، بل أرسلت له رسالة واضحة وهي:
أنت غير مرغوب فيك، ولم تخضع أمريكا إلا عندما أصبح من الملح أن يدخلها الشاه مريضا يستحق العلاج، لا صديقا سابقا، ولأن آيات الله كانوا يشككون فى مرض الشاه، ويعتبرون استضافة أمريكا له دعما لاستعادة عرشه، فقد احتلت السفارة الأمريكية فى طهران، وهو ما جعل أمريكا تلاحق الشاه وتطلب منه سرعة مغادرة أراضيها خوفا على رعاياها.
لكن وحده الرئيس السادات فعلها، منذ اللحظة الأولي، لقد نزل الشاه بطائرته فى أسوان فى 16 يناير 1979، وتفصح فرح بهلوى عن سر العلاقة العميقة بين السادات والشاه تقول: كانت الروابط بين زوجى وأنور السادات تعود إلى السبعينات، عندما خرج الرئيس المصرى على دبلوماسية سلفه عبدالناصر واستهل تقاربا مع الولايات المتحدة قاد إلى اتفاقيات كامب ديفيد، وقبل ذلك قام الرئيس السادات بمبادرة الذهاب إلى القدس فى نوفمبر 1977، فى زيارة اعتبرت منذ ذلك الحين حدثا تاريخيا، وأيد الملك إقامة سلام دائم مع البلدان العربية وإسرائيل، وكان دائما على اتصال قوى بالرئيس السادات خلال السبعينات.
بدأت فرح بهلوى بالحديث عن العلاقة بين الرئيس السادات وزوجها الشاه بأنها علاقة صداقة وتأييد، لكنها سرعان ما تذكرت أنها تتحدث فى النهاية عن ملك، الذى هو بالنسبة لها فى النهاية أعلى وأرفع قدرا من الرئيس.
تعرفت فرح بهلوى على جيهان السادات خلال لقاءاتهما الرسمية، تقول فرح بهلوي: أصبحنا صديقتين حقيقيتين بصرف النظر عن أنشطتنا الرسمية.
كانت جيهان السادات هى صاحبة الدعوة لفرح بهلوى وزوجها، كانت دائمة الاتصال بها تليفونيا بصورة منتظمة خلال خريف 1978، وفى آخر مرة دعتها إلى أسوان، قالت لها: فرح تعالي.. نحن هنا فى انتظاركم".. تعلق فرح بهلوى على دعوة جيهان السادات بقولها: أحببت الطريقة الخاصة التى ذكرت بها اسمى الأول.. كانت فيها دفء وحنان حقيقي.
نزل الشاه وزوجته فى فندق أوبروى المبنى على جزيرة وسط النيل، كان أولادهما الأربعة رضا وعلى رضا وفرح ناز وليلى جميعا فى أمريكا، ولم يكن الشاه قد قرر أن يظل فى مصر، بعد ستة أيام فقط قضاها فى مصر قرر الرحيل إلى المغرب.
تصف فرح بهلوى هذه اللحظة قائلة: جاءت دعوة الملك الحسن الثانى كنجدة لزوجي، الذى لم يرغب فى إساءة استغلال كرم ضيافة الرئيس السادات، على الرغم من أن الرئيس جدد دعوته، وأوضح بوجه خاص أن مصر أقرب إلى إيران من أجل تنظيم المقاومة التى كان يعد لها الشاه،
كان تأييد السادات للشاه واستضافته أمرا محيرا بالفعل، فحلفاؤه السابقون وقبل حتى أن يخرج من طهران باعوه، ففى الرابع من يناير 1979 اجتمع الرئيس جيمى كارتر رئيس الولايات المتحدة والمستشار الأمانى هلموت شميث ورئيس الوزراء البريطانى جيمس كالاهان والرئيس الفرنسى فاليرى جيسكار ديستان فى جزر جوادلوب وقرروا تأييد نظام الحكم فى إيران.
خرج الشاه من مصر إلى المغرب، فى تغريبة طويلة أغلقت فى وجهه كل الأبواب، كان النظام الإيرانى الجديد يهدد ويتوعد ـ حسب إدعاءات فرح بهلوى ـ كل من يستضيف الشاه، فقد أبلغ ألكسندر دو مارنش قائد القوات الخاصة الفرنسية أن آية الله الخمينى أمر أنصاره بخطف أفراد من الأسرة الملكية حتى يمكن مبادلتهم بالشاه ومن معه، لكن الملك الحسن رد : إنه أمر فظيع، لكن ذلك لا يغير قرارى بأدنى قدر، لا أستطيع أن أرفض استضافة رجل يمر بفترة مأساوية فى حياته.
لكن الشاه اضطر فى النهاية أن يترك المغرب، خرج على طائرة الملك الخاصة إلى جزر البهاما، التى توسط صديقه القديم كيسنجر ليحصل له على إقامة مؤقتة فيها لا تزيد على ثلاثة أشهر، فى هذه الأثناء كانت مطاردة آيات الله تشتد للشاه ومن معه.
قبل ثلاثة أسابيع من فترة الأشهر الثلاثة المسموح بها فى جزر البهاما، يظهر الرئيس السادات مرة أخري، تقول فرح: رفضتنا السفارات واحدة إثر الأخري، السادات فقط من كرر دعوته معلقا على نحو عابر بأنه من المؤسف أن يجد جميع هؤلاء الناس الخائفين من توفير ملاذ، غير أن الرئيس السادات كان قد وقع لتوه اتفاقيات كامب ديفيد، مما أثار جانبا كبيرا من العالم العربى ضده ورأى زوجى أن ذلك يكفيه.
من جزر البهاما إلى المكسيك، لكن كان لابد من أن يذهب الشاه لأمريكا ليتلقى العلاج، وقد أخذت الإدارة الأمريكية القرار فى 19 أكتوبر 1979 خلال الاجتماع الأسبوعى الذى كان جيمى كارتر يخصصه لقضايا السياسة الخارجية، كانت الخارجية الأمريكية قد أكدت أن الشاه مريض للغاية وأن الرعاية الطبية الملائمة لا يمكن تقديمها فى المكسيك، وأعاد وزير الخارجية التوصية بأن يسمح له الرئيس كارتر بالدخول إلى الولايات المتحدة، فحالته طبية ملحة ولا يمكن تفسيرها على أنها تصريح بالإقامة.
أجمع المجتمعون على مائدة الرئيس الأمريكى أن دخول الشاه إلى أمريكا أمر ينطوى على نوع من أنواع المخاطرة، لكنهم مدينون للشاه بعد ما عاملوه بطريقة سيئة للغاية لعدة شهور، عندما أراد أن يستقر فى الولايات المتحدة وتم إبلاغه أنه غير مرحب به.
كان كارتر نفسه مؤيدا للقيام بهذه اللفتة تجاه الشاه، لكنه كان مترددا خشية أن يقع مكروه للسفارة الأمريكية فى طهران، سأل معاونوه وكان ردهم: دع الشاه يدخل الولايات المتحدة، وسلم كارتر بوجهة نظرهم لكنه قال: وبماذا سوف تشيرون إذا احتلوا السفارة وأخذوا رجالنا رهائن؟.
وهو ما حدث بالفعل، فقد احتل طلاب الثورة الإسلامية السفارة الأمريكية فى 4 نوفمبر 1979، ظل الشاه خائفا، فقد كان يعرف أن رجال الخمينى لن يتركوه، يمكن أن يقتلوه ، ويبدو أن السادات عرف أن الشاه ليس مطمئنا لوجوده فى أمريكا، وهنا يظهر للمرة الثالثة.
تقول فرح: اتصل الرئيس السادات، وقال له: يا أخى طائرتى على استعداد لنقلك ستكون على الرحب والسعة متى أردت أن تأتي، واتصلت بى جيهان السادات عدة مرات وقالت لى كثيرا: لا تلقى بالا لما تقوله الصحف.. نحن هنا.. فرح.. نحن هنا.
كان كل شيء حول الشاه يدعوه إلى أن يترك الولايات المتحدة، إنه يسبب حرجا بالغا لهم، الطلاب الإيرانيون يهتفون بموته، نقل الشاه إلى كارتر مخاوفه وأخبره أنه سوف يغادر الولايات المتحدة فى أقرب وقت ممكن، وعندما أراد أن يعود إلى المكسيك من حيث أتي، وجد أن كل الأبواب مغلقة، وقد عرفت فرح بهلوى بعد ذلك أن فيدل كاسترو أبلغ الرئيس المكسيكى "لوبيز بورتيلو" أن كوبا سوف تصوت لصالح دخول بلاده مجلس الأمن بشرط أن يرفض استقبال الشاه وقد كان.
قضى الشاه بعض الوقت فى قاعدة حربية أمريكية فى تكساس، ومنها إلى بنما، لكن الإقامة هناك كانت أشبه بالمقامرة، وهنا ظهرت يد الرئيس السادات مرة رابعة ولم يستطع الشاه أو زوجته المقاومة.
وهنا تأتى روايتان أيضا، الأولى تقول فيها فرح بهلوي: فى ظل هذا الوضع الجنونى اتصلت بجيهان السادات، التى كانت تسأل دائما عن أحوالنا، وكنت أدركت أنه لن يستطيع طبيب إجراء العملية فى بنما لزوجى فى ظل هذه الظروف، وأن موقفنا صار ميئوسا منه، لكننى كنت موقنة أنه يجرى التنصت على حديثي، وقلت لها وأنا فى حالتى المرتبكة أن تتصل بشقيقة زوجى فى نيويورك لتتعرف على ما يجرى حولنا، من دون أن أشك أن تليفون الأميرة أشرف مراقب أيضا، فهمت جيهان السادات وقالت، تعالوا.. نحن بانتظاركم فى القاهرة.
الرواية الثانية لجيهان السادات من مذكراتها أيضا، تقول: "فى مارس 1980 اتصلت بى فرح تليفونيا من بنما، وقالت: جيهان.. موقفنا يدعو لليأس.. السرطان انتشر فى طحال زوجى وإذا لم يجر عملية فورا فسوف يموت لكننى لا أستطيع الثقة فى أحد هنا.
فسألت: لماذا يا فرح لماذا؟.. بدا صوتها قريبا من البكاء، وقالت: من الصعب أن أشرح فى التليفون، وتركتنى أستنتج أن تليفونها مراقب، وأضافت: ولكننا يجب أن نغادر بنما فورا، هناك أنباء تنذر بسوء، وعرفت فورا ما ترمى إليه، لأننى أيضا سمعت شائعات عن أن بنما ربما تساوم خمينى على إعادة الشاه إلى إيران نحو موت محقق.
قلت: لا شك أن الحكومة الأمريكية يمكن أن تتدخل لصالحكم، وردت فرح بأسي: الحكومة الأمريكية؟ لقد شبعنا من مساعدتها بما يكفينا بقية العمر.
اتصلت بأنور فى مكتبه، لأبلغه بخطورة الموقف، وقلت: أخبرت فرح للتو أنها ينبغى أن تأتى هى والشاه فورا إلى مصر، وأضفت: هل أخطأت؟ قال: إطلاقا يا جيهان، أبلغى فرح أننى سأرسل طائرة الرئاسة فورا، قلت له: هل أنت متأكد؟ تعلم أنه سيكون هناك متاعب، لكنه كان واثقا وقال: سوف يرضى ذلك الله".
كانت هناك محاولات لإثناء أنور السادات عن عرضه، حيث كانت أمريكا تفكر جديا فى اعتقال الشاه أو على الأقل وضعه تحت الإقامة الجبرية حتى تتفاوض على رعاياها المحتجزين فى سفارتها بطهران، أحد المسئولين الأمريكان قال لفرح: إن وجودكم فى القاهرة يهدد بإضعاف الموقف الصعب بالفعل للرئيس السادات، ومن ثم يمكن أن يضر بجهود السلام فى الشرق الأوسط، لكنها ردت عليه بصورة قاطعة: الرئيس المصرى الذى جدد دعوته ليس بحاجة لأحد كى يخبره كيف يتصرف، وحسم الشاه أمره بالرحيل إلى مصر.
محمد الباز - العربي
وقف شاه إيران إلى جانب إسرائيل، وكان داعما لها، بل إنه بذل جهودا خارقة من أجل إقرار الصلح بينها وبين جيرانها من الدول العربية، لقد ظهر تسجيل صوتى للشاه أثناء اجتماع مع مستشاريه العسكريين وقت المظاهرات، كان يعطيهم الأوامر بإطلاق النار على الحشود المتظاهرة، ويطلب الاحتفاظ بالبترول كاحتياط لإسرائيل، وهو التسجيل الذى كان مبررا للمتظاهرين أن يواصلوا زحفهم ضد الشاه، الذى يريد الموت لهم والحياة لإسرائيل.
إن فرح بهلوى تشكك فى صحة وصدق هذا التسجيل الصوتي، تقول إنه كان تقليدا متقنا لصوت الشاه يقول هذه الكلمات التى تدين قائلها، وكانت بقية الشريط مقتطفات من خطب فعلية ألقاها الشاه فى مناسبات مختلفة، وتؤكد بهلوى أن التسجيل الصوتى أرسل بالفعل إلى معمل أمريكى لتحليله، وأثبت أن هذه الجملة لصوت يقلد الشاه وليست للشاه نفسه، لكن الوقت كان قد مضي، وأصبح الشاه خارج قصره.
لكن ولو افترضنا أن هناك من قلد صوت الشاه ونسب إليه هذه الجملة، فإنها لم تأت من فراغ، لقد كان الجميع يعرف علاقة الشاه بإسرائيل ودعمه لها، ولو لم يقل هذه الجملة ضمنا فقد فعلها على أرض الواقع، وهو ما كان كافيا جدا للمتظاهرين الذى كانوا قد قرروا إزاحته من فوق عرشه.
ورغم هذه العلاقة الوثيقة التى ربطت الشاه بتل أبيب، إلا أن فرح بهلوى لم تذكر شيئا عن علاقات إيران بإسرائيل مطلقا، ربما لأنها تعرف أنها لو فعلت ذلك، فإن الأمر حتما سيكون ضد زوجها، فإسرائيل لا تزال العدو الأول والخصم الكبير للدول العربية والإسلامية، بل إن كثيرا من شرعية النظام الإيرانى الحالى تأتى من أنه يمثل تهديدا لإسرائيل، وللدقة كانت هناك إشارة واحدة فى المذكرات إلى مشاركة السفير الإسرائيلى فى جنازة الشاه، لقد توفى فى القاهرة فى مستشفى المعادى العسكرى فى 27 نوفمبر 1980، وشيعت جنازته بعدها بيومين فقط.
عن الجنازة تقول فرح بهلوي: "سجى جثمانه فى قصر عابدين حيث عزفوا السلام الجمهورى الإمبراطوري، وأثار سماعه انفعالنا جميعا، فهى المرة الأولى التى نسمعه منذ رحيلنا من إيران (خرج الشاه وزوجته الملكة من إيران فى 16 يناير 1979)، ووسط جو حر خانق غادر الموكب المصاحب للجثمان قصر عابدين إلى مسجد الرفاعي، الذى سيصبح المثوى الأخير لزوجي، وفى البلدان الإسلامية لا تسير النساء تقليديا خلف النعش، لكننى صممت على أن أكون حاضرة، وقال الرئيس السادات لمسئولى البروتوكول: سوف نفعل ما تريده فرح، وعلى طول الرحلة كان حشد ضخم يشيع نعش الملك المسجى على عربة مدفع تجرها خيول.
كنا على رأس الموكب عن يمينى ليلى ترتدى ثوبا أبيض، وفرح ناز وعلى رضا، وعلى يسارى ريتشارد نيكسون وابنى الأكبر رضا ثم الرئيس السادات، وجيهان السادات، وكان حولنا إخوة الملك، وتبعنا بعض الأصدقاء المخلصين، الملك قسطنطين ملك اليونان والملكة آن ماري، والأمير فيكتور إمانويل من سافوي، وسط سفراء يمثلون عدة دول، وأرسل الملك الحسن الثانى ملك المغرب واحدا من أقرب أقاربه مولاى حافظ علوى الذى أحضر قطعة من كسوة الكعبة لوضعها على ضريح زوجي".
الإشارة كانت فى مذكرات امرأة أخرى فى السيدة جيهان السادات "امرأة من مصر"، تقول: لم تنظم جنازة رسمية أكبر من هذه، نظم أنور كل شيء بنفسه، مشرفا على أدق التفاصيل، تقدم الموكب آلاف من طلاب أكاديميتنا العسكرية، كلهم يعزفون الآلات الموسيقية، ويرتدون الزى العسكرى الأبيض والأصفر والأسود بحسب رتبهم، وسار وراءهم الجنود حاملين أكاليل الورود وزهور السوسن، يتبعهم ضباط راكبين خيولا، ثم جاءت سرية من الرجال حاملى نياشين الشاه العسكرية فوق وسائد من القطيفة السوداء، تتقدم النعش الملفوف بعلم إيران، فوق عربة مدفع يجرها ثمانية من الخيول العربية، ونحن نسير خلفه.
كان ذلك اليوم من أيام الصيف شديد الحرارة جدا فى القاهرة، بينما نحن نسير ثلاثة أميال من قصر عابدين إلى مسجد الرفاعي، حيث سيدفن الشاه، ووفقا لتوجيه أنور مشيت مع فرح للمرة الأولى والوحيدة التى سرت فيها فى موكب جنائزي، قال لى أنور: افعلى ما تفعله فرح، علينا أن نساعدها على اجتياز هذا اليوم الأصعب والأشد حزنا، وهكذا بقيت إلى جانبها.
وامتد خلفنا لأبعد مدى استطعنا أن نراه بقية أولئك الذين احترموا ذكرى الشاه، سار معنا وزراء الحكومة المصرية، وكذلك الرئيس الأمريكى السابق نيكسون، وملك اليونان السابق قسطنطين، وسفراء من الولايات المتحدة وفرنسا وأستراليا وإسرائيل".
كان من يمثل إسرائيل موجودا فى الجنازة إذن، وهو ما يؤكد أن العلاقات كانت وثيقة بين الثلاثى إيران الشاه وإسرائيل وأمريكا، لكن عندما خرج الشاه من مملكته هاربا لم ترحب به أمريكا، بل أرسلت له رسالة واضحة وهي:
أنت غير مرغوب فيك، ولم تخضع أمريكا إلا عندما أصبح من الملح أن يدخلها الشاه مريضا يستحق العلاج، لا صديقا سابقا، ولأن آيات الله كانوا يشككون فى مرض الشاه، ويعتبرون استضافة أمريكا له دعما لاستعادة عرشه، فقد احتلت السفارة الأمريكية فى طهران، وهو ما جعل أمريكا تلاحق الشاه وتطلب منه سرعة مغادرة أراضيها خوفا على رعاياها.
لكن وحده الرئيس السادات فعلها، منذ اللحظة الأولي، لقد نزل الشاه بطائرته فى أسوان فى 16 يناير 1979، وتفصح فرح بهلوى عن سر العلاقة العميقة بين السادات والشاه تقول: كانت الروابط بين زوجى وأنور السادات تعود إلى السبعينات، عندما خرج الرئيس المصرى على دبلوماسية سلفه عبدالناصر واستهل تقاربا مع الولايات المتحدة قاد إلى اتفاقيات كامب ديفيد، وقبل ذلك قام الرئيس السادات بمبادرة الذهاب إلى القدس فى نوفمبر 1977، فى زيارة اعتبرت منذ ذلك الحين حدثا تاريخيا، وأيد الملك إقامة سلام دائم مع البلدان العربية وإسرائيل، وكان دائما على اتصال قوى بالرئيس السادات خلال السبعينات.
بدأت فرح بهلوى بالحديث عن العلاقة بين الرئيس السادات وزوجها الشاه بأنها علاقة صداقة وتأييد، لكنها سرعان ما تذكرت أنها تتحدث فى النهاية عن ملك، الذى هو بالنسبة لها فى النهاية أعلى وأرفع قدرا من الرئيس.
تعرفت فرح بهلوى على جيهان السادات خلال لقاءاتهما الرسمية، تقول فرح بهلوي: أصبحنا صديقتين حقيقيتين بصرف النظر عن أنشطتنا الرسمية.
كانت جيهان السادات هى صاحبة الدعوة لفرح بهلوى وزوجها، كانت دائمة الاتصال بها تليفونيا بصورة منتظمة خلال خريف 1978، وفى آخر مرة دعتها إلى أسوان، قالت لها: فرح تعالي.. نحن هنا فى انتظاركم".. تعلق فرح بهلوى على دعوة جيهان السادات بقولها: أحببت الطريقة الخاصة التى ذكرت بها اسمى الأول.. كانت فيها دفء وحنان حقيقي.
نزل الشاه وزوجته فى فندق أوبروى المبنى على جزيرة وسط النيل، كان أولادهما الأربعة رضا وعلى رضا وفرح ناز وليلى جميعا فى أمريكا، ولم يكن الشاه قد قرر أن يظل فى مصر، بعد ستة أيام فقط قضاها فى مصر قرر الرحيل إلى المغرب.
تصف فرح بهلوى هذه اللحظة قائلة: جاءت دعوة الملك الحسن الثانى كنجدة لزوجي، الذى لم يرغب فى إساءة استغلال كرم ضيافة الرئيس السادات، على الرغم من أن الرئيس جدد دعوته، وأوضح بوجه خاص أن مصر أقرب إلى إيران من أجل تنظيم المقاومة التى كان يعد لها الشاه،
كان تأييد السادات للشاه واستضافته أمرا محيرا بالفعل، فحلفاؤه السابقون وقبل حتى أن يخرج من طهران باعوه، ففى الرابع من يناير 1979 اجتمع الرئيس جيمى كارتر رئيس الولايات المتحدة والمستشار الأمانى هلموت شميث ورئيس الوزراء البريطانى جيمس كالاهان والرئيس الفرنسى فاليرى جيسكار ديستان فى جزر جوادلوب وقرروا تأييد نظام الحكم فى إيران.
خرج الشاه من مصر إلى المغرب، فى تغريبة طويلة أغلقت فى وجهه كل الأبواب، كان النظام الإيرانى الجديد يهدد ويتوعد ـ حسب إدعاءات فرح بهلوى ـ كل من يستضيف الشاه، فقد أبلغ ألكسندر دو مارنش قائد القوات الخاصة الفرنسية أن آية الله الخمينى أمر أنصاره بخطف أفراد من الأسرة الملكية حتى يمكن مبادلتهم بالشاه ومن معه، لكن الملك الحسن رد : إنه أمر فظيع، لكن ذلك لا يغير قرارى بأدنى قدر، لا أستطيع أن أرفض استضافة رجل يمر بفترة مأساوية فى حياته.
لكن الشاه اضطر فى النهاية أن يترك المغرب، خرج على طائرة الملك الخاصة إلى جزر البهاما، التى توسط صديقه القديم كيسنجر ليحصل له على إقامة مؤقتة فيها لا تزيد على ثلاثة أشهر، فى هذه الأثناء كانت مطاردة آيات الله تشتد للشاه ومن معه.
قبل ثلاثة أسابيع من فترة الأشهر الثلاثة المسموح بها فى جزر البهاما، يظهر الرئيس السادات مرة أخري، تقول فرح: رفضتنا السفارات واحدة إثر الأخري، السادات فقط من كرر دعوته معلقا على نحو عابر بأنه من المؤسف أن يجد جميع هؤلاء الناس الخائفين من توفير ملاذ، غير أن الرئيس السادات كان قد وقع لتوه اتفاقيات كامب ديفيد، مما أثار جانبا كبيرا من العالم العربى ضده ورأى زوجى أن ذلك يكفيه.
من جزر البهاما إلى المكسيك، لكن كان لابد من أن يذهب الشاه لأمريكا ليتلقى العلاج، وقد أخذت الإدارة الأمريكية القرار فى 19 أكتوبر 1979 خلال الاجتماع الأسبوعى الذى كان جيمى كارتر يخصصه لقضايا السياسة الخارجية، كانت الخارجية الأمريكية قد أكدت أن الشاه مريض للغاية وأن الرعاية الطبية الملائمة لا يمكن تقديمها فى المكسيك، وأعاد وزير الخارجية التوصية بأن يسمح له الرئيس كارتر بالدخول إلى الولايات المتحدة، فحالته طبية ملحة ولا يمكن تفسيرها على أنها تصريح بالإقامة.
أجمع المجتمعون على مائدة الرئيس الأمريكى أن دخول الشاه إلى أمريكا أمر ينطوى على نوع من أنواع المخاطرة، لكنهم مدينون للشاه بعد ما عاملوه بطريقة سيئة للغاية لعدة شهور، عندما أراد أن يستقر فى الولايات المتحدة وتم إبلاغه أنه غير مرحب به.
كان كارتر نفسه مؤيدا للقيام بهذه اللفتة تجاه الشاه، لكنه كان مترددا خشية أن يقع مكروه للسفارة الأمريكية فى طهران، سأل معاونوه وكان ردهم: دع الشاه يدخل الولايات المتحدة، وسلم كارتر بوجهة نظرهم لكنه قال: وبماذا سوف تشيرون إذا احتلوا السفارة وأخذوا رجالنا رهائن؟.
وهو ما حدث بالفعل، فقد احتل طلاب الثورة الإسلامية السفارة الأمريكية فى 4 نوفمبر 1979، ظل الشاه خائفا، فقد كان يعرف أن رجال الخمينى لن يتركوه، يمكن أن يقتلوه ، ويبدو أن السادات عرف أن الشاه ليس مطمئنا لوجوده فى أمريكا، وهنا يظهر للمرة الثالثة.
تقول فرح: اتصل الرئيس السادات، وقال له: يا أخى طائرتى على استعداد لنقلك ستكون على الرحب والسعة متى أردت أن تأتي، واتصلت بى جيهان السادات عدة مرات وقالت لى كثيرا: لا تلقى بالا لما تقوله الصحف.. نحن هنا.. فرح.. نحن هنا.
كان كل شيء حول الشاه يدعوه إلى أن يترك الولايات المتحدة، إنه يسبب حرجا بالغا لهم، الطلاب الإيرانيون يهتفون بموته، نقل الشاه إلى كارتر مخاوفه وأخبره أنه سوف يغادر الولايات المتحدة فى أقرب وقت ممكن، وعندما أراد أن يعود إلى المكسيك من حيث أتي، وجد أن كل الأبواب مغلقة، وقد عرفت فرح بهلوى بعد ذلك أن فيدل كاسترو أبلغ الرئيس المكسيكى "لوبيز بورتيلو" أن كوبا سوف تصوت لصالح دخول بلاده مجلس الأمن بشرط أن يرفض استقبال الشاه وقد كان.
قضى الشاه بعض الوقت فى قاعدة حربية أمريكية فى تكساس، ومنها إلى بنما، لكن الإقامة هناك كانت أشبه بالمقامرة، وهنا ظهرت يد الرئيس السادات مرة رابعة ولم يستطع الشاه أو زوجته المقاومة.
وهنا تأتى روايتان أيضا، الأولى تقول فيها فرح بهلوي: فى ظل هذا الوضع الجنونى اتصلت بجيهان السادات، التى كانت تسأل دائما عن أحوالنا، وكنت أدركت أنه لن يستطيع طبيب إجراء العملية فى بنما لزوجى فى ظل هذه الظروف، وأن موقفنا صار ميئوسا منه، لكننى كنت موقنة أنه يجرى التنصت على حديثي، وقلت لها وأنا فى حالتى المرتبكة أن تتصل بشقيقة زوجى فى نيويورك لتتعرف على ما يجرى حولنا، من دون أن أشك أن تليفون الأميرة أشرف مراقب أيضا، فهمت جيهان السادات وقالت، تعالوا.. نحن بانتظاركم فى القاهرة.
الرواية الثانية لجيهان السادات من مذكراتها أيضا، تقول: "فى مارس 1980 اتصلت بى فرح تليفونيا من بنما، وقالت: جيهان.. موقفنا يدعو لليأس.. السرطان انتشر فى طحال زوجى وإذا لم يجر عملية فورا فسوف يموت لكننى لا أستطيع الثقة فى أحد هنا.
فسألت: لماذا يا فرح لماذا؟.. بدا صوتها قريبا من البكاء، وقالت: من الصعب أن أشرح فى التليفون، وتركتنى أستنتج أن تليفونها مراقب، وأضافت: ولكننا يجب أن نغادر بنما فورا، هناك أنباء تنذر بسوء، وعرفت فورا ما ترمى إليه، لأننى أيضا سمعت شائعات عن أن بنما ربما تساوم خمينى على إعادة الشاه إلى إيران نحو موت محقق.
قلت: لا شك أن الحكومة الأمريكية يمكن أن تتدخل لصالحكم، وردت فرح بأسي: الحكومة الأمريكية؟ لقد شبعنا من مساعدتها بما يكفينا بقية العمر.
اتصلت بأنور فى مكتبه، لأبلغه بخطورة الموقف، وقلت: أخبرت فرح للتو أنها ينبغى أن تأتى هى والشاه فورا إلى مصر، وأضفت: هل أخطأت؟ قال: إطلاقا يا جيهان، أبلغى فرح أننى سأرسل طائرة الرئاسة فورا، قلت له: هل أنت متأكد؟ تعلم أنه سيكون هناك متاعب، لكنه كان واثقا وقال: سوف يرضى ذلك الله".
كانت هناك محاولات لإثناء أنور السادات عن عرضه، حيث كانت أمريكا تفكر جديا فى اعتقال الشاه أو على الأقل وضعه تحت الإقامة الجبرية حتى تتفاوض على رعاياها المحتجزين فى سفارتها بطهران، أحد المسئولين الأمريكان قال لفرح: إن وجودكم فى القاهرة يهدد بإضعاف الموقف الصعب بالفعل للرئيس السادات، ومن ثم يمكن أن يضر بجهود السلام فى الشرق الأوسط، لكنها ردت عليه بصورة قاطعة: الرئيس المصرى الذى جدد دعوته ليس بحاجة لأحد كى يخبره كيف يتصرف، وحسم الشاه أمره بالرحيل إلى مصر.