بهلول
01-20-2010, 07:47 AM
الأحد, 17 يناير 2010
نهلة الشهال - الحياة
تلك جملة قالها المفكر الفرنسي من أصل جزائري، دانيال بن سعيد، بخصوص ما تسببت به الستالينية من أضرار «لم يتم بعد تقدير حجم آثارها». والرجل بقي يقاتل ضد الانزلاق نحو «الواقعية» بما هي استسلام للواقع كما يقدم نفسه، معتبراً ذلك بمثابة فقدان للروح، حتى تُوُفى منذ أيام عن 63 سنة بعد أن صارع مرضاً عضالاً لمدة خمس عشرة سنة، كانت كل أزمة صحية تطرحه تدفع أصدقاءه للخوف من النهاية، فإذا به يعود إليهم بقامته النحيلة وضحكته المجلجلة وصوته الأبح القوي، وخصوصاً، خصوصاً، بتلك الحماسة الجياشة وإنما الواعية، وذاك النفس العاطفي أو الإنساني الفائض الذي يُحب البعض إرجاعه إلى أصوله الشرقية.
دانيال بن سعيد كان يكتب بكثرة، ويحاضر بكثرة، وينزل بكثرة في التظاهرات الغاضبة، ويعلِّم بكثرة في جامعة باريس الثامنة. تلامذته، ممن لم يكن شيء يمكنه أن يعيقهم عن دروسه، وهؤلاء منهم من أنجز بإشرافه أطروحة الدكتوراه، يشعرون اليوم وكأنهم فقدوا أباً، كما يقول احدهم، مستدركاً أنه كان مع ذلك ضد كل أشكال الممارسات الأبوية.
بن سعيد كان يكتب ويحاضر ويعلم كمناضل، وليس فقط كأكاديمي من طراز رفيع. فهو من مؤسسي «الرابطة الشيوعية الثورية»، ومن أبرز قياديي الأممية الرابعة. ولكنه كان نقيض الدوغمائية، بحيث ناضل – هنا أيضاً – لحل تلك الرابطة واعتماد إطار حركي أوسع وأكثر انفتاحاً، فكانت ولادة «الحزب الجديد ضد الرأسمالية»، الذي لا يَفترض بنفسه شرط التروتسكية ولا حتى الماركسية، بل الهدف الذي يحمله اسمه. وبغض النظر عن صواب ذلك، أو نجاحه العملي في التحقق، كان بن سعيد يطبق بدعوته تلك مناهضته للتكلس. وهو الذي لم يتعب يوماً من سؤال التاريخ، وتقليب الأجوبة المتوفرة لظواهره، كان يتفحص بالمقدار نفسه قناعاته، تلك المرتبطة بالنظرية الماركسية، وتلك الأخرى السياسية المتعلقة بتأويل الأحداث.
سيكون من اليسير البرهان على ثورية بن سعيد من خلال تناول موقفه من فلسطين، وهو اليهودي المولد. لكن ذلك ليس فريداً أو مميزاً لمن كان مثله. لا تمنع تلك الحقيقة من الإشارة إلى أنه وقّع مع آخرين في جريدة «لوموند» الفرنسية، في شباط (فبراير) 2009 واحدة من أعنف المطالعات ضد التواطؤ الدولي في العدوان على غزة، متهماً الرئيس الفرنسي ونظراءه بأن تحركاتهم الديبلوماسية في تلك الأثناء ما كانت إلا وسيلة لإفساح أكبر وقت ممكن أمام إسرائيل كي تنجز عمليتها.
وهو كثيراً ما مال إلى نشر كتب مشتركة مع مفكرين آخرين، ولعله بهذه الطريقة كان يمارس قلقه الفكري، فيبرز كيف أن مسألة واحدة يمكن أن تضاء من زوايا مختلفة. وآخر تلك الكتب «ديموقراطية في أي حالة؟» الصادر عن دار «لافبريك» المميزة، والتي نشرت معظم النصوص المفكّكة للصهيونية، والشارحة لدور إسرائيل، وكتّابها جلهم من أصول يهودية. ولكنها لا تكتفي بهذا الجانب بل تنشر نصوصاً فلسفية نقدية حول حال العالم، هي من عيون ما يكتب اليوم. شارك في «ديموقراطية في أي حالة؟»، علاوة على بن سعيد، سبعة مفكرين منهم جورجيو أغمبان، وألان باديو، وجاك رانسيير، وسلافوي زيزك.
تقول مقدمـــة الكتاب التـــي حررهـــا إيريك أزان صاحــب الدار والشريك الفعلي في كل ما يختار للنشر: «ما هي الديموقراطية لو سمحتم؟ هذه كلمة عامة مبتذلة، بلا تحديد، كلمة مطاطية. مضـــى على السؤال والحكم القاطع هذيــــن، اللذين صاغهما أوغست بلانكي، أكثر مـــن قرن ونصف، ولكنهما ما زالا يمتلكان راهنية يبرهن عنها صدور هذا الكتاب. ولا يجب توقع الحصول منه على تعريف للديموقراطية ولا على كيفية استخدامها، ولا بالأخص على حكم معها أو ضدها. بل يتشارك الفلاسفة الثمانية في فكرة وحيدة، هي أن الديموقراطية ليست حتماً ورقة يجري إسقاطها بين الحين والآخر في صندوق بلاستيكي شفاف. وأفكارهم دقيقة في اختلافها بل وحتى في تناقضها، وهو ما كان متوقعاً بل مرغوباً به. وخلاصة الأمر أن كلمة «ديموقراطية» على اهترائها جراء كثرة الاستخدام، لا يجب أن تُترك للعدو لأنها ما زالت تمثل الدعامة التي تدور حولها، منذ أفلاطون، السجالات الأكثر تناقضاً حول السياسة».
في ذلك الكتاب شارك بن سعيد بفصل عنوانه «الفضيحة المستمرة»، يفتتحه بوصف ما يسميه «مسرح الظل»، معتبراً أن هناك تسميتين مجردتين تحتلان نهايات القرن المنصرم: الديموقراطية والتوتاليتارية.
اما المعنى العائم للأولى، التي افتُرض انتصارها في المنازلة مع انهيار «الاستبداد البيروقراطي» (أي الاتحاد السوفياتي)، فقد تحول من «التسوية الفوردية» أو الكينزية، إلى الغرب المنتصر بقيادة الولايات المتحدة. ولكن بن سعيد يلاحظ الكراهية التي تثيرها الديموقراطية عند من يُفترض أنهم دعاتها، مستعرضاً ومساجلاً آراء رفاقه في الكتاب، كما آراء أبرز خصومه الفكريين، مثل بيار روزنفالون، مذكّراً بكتابات روسو وماركس وهنه أرنت، وأيضـــا كاستورياديس وكلود لوفور، منتهياً إلى تسجيل حاجة الديموقراطية إلى تجــــاوز أشكالها الممأسسة بلا انقطاع، ووضع المساواة أمام تحدي الحرية... ولأنها تعبــث بذلك التوزيع غير المؤكد بين السياسي والاجتماعي، وتعارض بالمقدار نفسه الاعتداءات على الملكية الفردية وتجاوزات الدولة على الفضاء العــام والأملاك المشتركة، فهي «لا تكون وفية لذاتها إلا حين تكون فضائحية حتى النهاية». وهكذا يمضي نص بن سعيد، مجسداً فكراً جدلياً هو من بين الأصفى والأعمق، علاوة على تحرره من القوالب.
إلا أن أجمل كُتب بن سعيد يبقى «أنا، الثورة»، وهو سيرة شخصية حميمة، وإن تناولت القناعات. ولكنه أكثر كتبه شبهاً به: رقيق وعنيد في الوقت نفسه، يفيض تواضعاً وحياء، متوافر لمن يحتاجه، بلا منّة ولا تثاقل...مفتقَد حتماً!
نهلة الشهال - الحياة
تلك جملة قالها المفكر الفرنسي من أصل جزائري، دانيال بن سعيد، بخصوص ما تسببت به الستالينية من أضرار «لم يتم بعد تقدير حجم آثارها». والرجل بقي يقاتل ضد الانزلاق نحو «الواقعية» بما هي استسلام للواقع كما يقدم نفسه، معتبراً ذلك بمثابة فقدان للروح، حتى تُوُفى منذ أيام عن 63 سنة بعد أن صارع مرضاً عضالاً لمدة خمس عشرة سنة، كانت كل أزمة صحية تطرحه تدفع أصدقاءه للخوف من النهاية، فإذا به يعود إليهم بقامته النحيلة وضحكته المجلجلة وصوته الأبح القوي، وخصوصاً، خصوصاً، بتلك الحماسة الجياشة وإنما الواعية، وذاك النفس العاطفي أو الإنساني الفائض الذي يُحب البعض إرجاعه إلى أصوله الشرقية.
دانيال بن سعيد كان يكتب بكثرة، ويحاضر بكثرة، وينزل بكثرة في التظاهرات الغاضبة، ويعلِّم بكثرة في جامعة باريس الثامنة. تلامذته، ممن لم يكن شيء يمكنه أن يعيقهم عن دروسه، وهؤلاء منهم من أنجز بإشرافه أطروحة الدكتوراه، يشعرون اليوم وكأنهم فقدوا أباً، كما يقول احدهم، مستدركاً أنه كان مع ذلك ضد كل أشكال الممارسات الأبوية.
بن سعيد كان يكتب ويحاضر ويعلم كمناضل، وليس فقط كأكاديمي من طراز رفيع. فهو من مؤسسي «الرابطة الشيوعية الثورية»، ومن أبرز قياديي الأممية الرابعة. ولكنه كان نقيض الدوغمائية، بحيث ناضل – هنا أيضاً – لحل تلك الرابطة واعتماد إطار حركي أوسع وأكثر انفتاحاً، فكانت ولادة «الحزب الجديد ضد الرأسمالية»، الذي لا يَفترض بنفسه شرط التروتسكية ولا حتى الماركسية، بل الهدف الذي يحمله اسمه. وبغض النظر عن صواب ذلك، أو نجاحه العملي في التحقق، كان بن سعيد يطبق بدعوته تلك مناهضته للتكلس. وهو الذي لم يتعب يوماً من سؤال التاريخ، وتقليب الأجوبة المتوفرة لظواهره، كان يتفحص بالمقدار نفسه قناعاته، تلك المرتبطة بالنظرية الماركسية، وتلك الأخرى السياسية المتعلقة بتأويل الأحداث.
سيكون من اليسير البرهان على ثورية بن سعيد من خلال تناول موقفه من فلسطين، وهو اليهودي المولد. لكن ذلك ليس فريداً أو مميزاً لمن كان مثله. لا تمنع تلك الحقيقة من الإشارة إلى أنه وقّع مع آخرين في جريدة «لوموند» الفرنسية، في شباط (فبراير) 2009 واحدة من أعنف المطالعات ضد التواطؤ الدولي في العدوان على غزة، متهماً الرئيس الفرنسي ونظراءه بأن تحركاتهم الديبلوماسية في تلك الأثناء ما كانت إلا وسيلة لإفساح أكبر وقت ممكن أمام إسرائيل كي تنجز عمليتها.
وهو كثيراً ما مال إلى نشر كتب مشتركة مع مفكرين آخرين، ولعله بهذه الطريقة كان يمارس قلقه الفكري، فيبرز كيف أن مسألة واحدة يمكن أن تضاء من زوايا مختلفة. وآخر تلك الكتب «ديموقراطية في أي حالة؟» الصادر عن دار «لافبريك» المميزة، والتي نشرت معظم النصوص المفكّكة للصهيونية، والشارحة لدور إسرائيل، وكتّابها جلهم من أصول يهودية. ولكنها لا تكتفي بهذا الجانب بل تنشر نصوصاً فلسفية نقدية حول حال العالم، هي من عيون ما يكتب اليوم. شارك في «ديموقراطية في أي حالة؟»، علاوة على بن سعيد، سبعة مفكرين منهم جورجيو أغمبان، وألان باديو، وجاك رانسيير، وسلافوي زيزك.
تقول مقدمـــة الكتاب التـــي حررهـــا إيريك أزان صاحــب الدار والشريك الفعلي في كل ما يختار للنشر: «ما هي الديموقراطية لو سمحتم؟ هذه كلمة عامة مبتذلة، بلا تحديد، كلمة مطاطية. مضـــى على السؤال والحكم القاطع هذيــــن، اللذين صاغهما أوغست بلانكي، أكثر مـــن قرن ونصف، ولكنهما ما زالا يمتلكان راهنية يبرهن عنها صدور هذا الكتاب. ولا يجب توقع الحصول منه على تعريف للديموقراطية ولا على كيفية استخدامها، ولا بالأخص على حكم معها أو ضدها. بل يتشارك الفلاسفة الثمانية في فكرة وحيدة، هي أن الديموقراطية ليست حتماً ورقة يجري إسقاطها بين الحين والآخر في صندوق بلاستيكي شفاف. وأفكارهم دقيقة في اختلافها بل وحتى في تناقضها، وهو ما كان متوقعاً بل مرغوباً به. وخلاصة الأمر أن كلمة «ديموقراطية» على اهترائها جراء كثرة الاستخدام، لا يجب أن تُترك للعدو لأنها ما زالت تمثل الدعامة التي تدور حولها، منذ أفلاطون، السجالات الأكثر تناقضاً حول السياسة».
في ذلك الكتاب شارك بن سعيد بفصل عنوانه «الفضيحة المستمرة»، يفتتحه بوصف ما يسميه «مسرح الظل»، معتبراً أن هناك تسميتين مجردتين تحتلان نهايات القرن المنصرم: الديموقراطية والتوتاليتارية.
اما المعنى العائم للأولى، التي افتُرض انتصارها في المنازلة مع انهيار «الاستبداد البيروقراطي» (أي الاتحاد السوفياتي)، فقد تحول من «التسوية الفوردية» أو الكينزية، إلى الغرب المنتصر بقيادة الولايات المتحدة. ولكن بن سعيد يلاحظ الكراهية التي تثيرها الديموقراطية عند من يُفترض أنهم دعاتها، مستعرضاً ومساجلاً آراء رفاقه في الكتاب، كما آراء أبرز خصومه الفكريين، مثل بيار روزنفالون، مذكّراً بكتابات روسو وماركس وهنه أرنت، وأيضـــا كاستورياديس وكلود لوفور، منتهياً إلى تسجيل حاجة الديموقراطية إلى تجــــاوز أشكالها الممأسسة بلا انقطاع، ووضع المساواة أمام تحدي الحرية... ولأنها تعبــث بذلك التوزيع غير المؤكد بين السياسي والاجتماعي، وتعارض بالمقدار نفسه الاعتداءات على الملكية الفردية وتجاوزات الدولة على الفضاء العــام والأملاك المشتركة، فهي «لا تكون وفية لذاتها إلا حين تكون فضائحية حتى النهاية». وهكذا يمضي نص بن سعيد، مجسداً فكراً جدلياً هو من بين الأصفى والأعمق، علاوة على تحرره من القوالب.
إلا أن أجمل كُتب بن سعيد يبقى «أنا، الثورة»، وهو سيرة شخصية حميمة، وإن تناولت القناعات. ولكنه أكثر كتبه شبهاً به: رقيق وعنيد في الوقت نفسه، يفيض تواضعاً وحياء، متوافر لمن يحتاجه، بلا منّة ولا تثاقل...مفتقَد حتماً!