المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ذكريات برجس حمود البرجس : جابر الأحمد عرض عليَّ إدارة مكتبه.. وجابر العلي تأسيس «كونا»



فاتن
01-01-2010, 08:54 AM
http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictures/2009/12/31/3d4b1109-70ab-4f02-a76c-20dc8133faed_main.jpg

السدرة



الحلقة 13

بعد استقالتي من وزارة الصحة منحني الشيخ جابر الأحمد ولي العهد آنذاك ثلاثة أشهر للراحة والتفكير بعد أن اعتذرت عن قبول العمل في مكتبه. ولكن هذه الأشهر الثلاثة كانت بمنزلة وقت أصبحت فيه سجين عرضين. فمن جهة هناك عرض العمل في مكتب ولي العهد، ومن جهة ثانية هناك العرض الذي طرحه عليّ الشيخ جابر العلي وزير الإعلام بأن أتولى تأسيس وكالة الأنباء الكويتية (كونا).
سـبق أن عرضت فكــــرة الوكالـة على مجلس الأمة فرفضها، إلا انها لم تغادر ذهن الشيخ جابر العلي. فما ان تم حل مجلس الأمة في عام 1976 حتى عاد إليها، واستدعاني إلى مكتبـه وقـال لي:
«أريدك أن تستلم وكالة الأنباء الكويتية. الفكرة ما زالت قائمة، ومجلس الأمة رفضها، والآن أريدك أن تعمل على هذا الموضوع والمجلس غائب».
قلت فوراً:
«هذا ليس مجال عملي».
فأصر على تسليمي مسؤولية تأسيس الوكالة:
«فكر بالأمر ملياً».

تأسيس «كونا»

مرت بضعة أيام، ولم أجد في ذهني سوى ما قلت منذ البداية. لا جواب لدي. وظل الحال هكذا إلى أن أرسل ولي العهد في طلبي للمرة الثانية، وهذه المرة ليس للعمل في مكتبه بل لتأسيس وكالة الأنباء. ومرة أخرى قلت هذا ليس مجال عملي، ولا خبرة لدي في هذا المجال، واضفت: أخشى أن أفشل وأكون سبباً في تضييع الوقت.
استمع إليّ ولي العهد وأنا أقدم حججي وأعذاري، ثم قال بهدوء:
«أريدك أنت بالتحديد.. وإذا فشلت فسأكون أنا المسؤول».
وتساءل محرضاً:
«ألا تستطيع القيام بواجبك الوطني؟».
هنا أحسست أن كل أعذاري تطايرت، ولم أجد ما أقول سوى:
«والله أنا مستعد!».
«إذن.. اقبل بتأسيس الوكالة».
جاء هذا الطلب الشبيه بالأمر استنتاجاً منطقيا، فما دمت مستعداً للقيام بواجبي، وهذا هو ما كرست له سنوات عمري، لماذا أرفض إذن؟ ومع ذلك ظل التهيب ملازما، ليس لأنني أرفض الخدمة، ولكن لأنني أود أن أخدم في المكان الصحيح الملائم لما جمعته من خبرات. وتحت ظل هذه الهواجس رتبت جوابي: «اعطني يومين للتفكير..».
«ولا يوم.. اعتبر الموضوع منتهياً».
حسم الأمر اذن ولا مجال الا للقليل من الوقت للتشاور مع من أعرف.

دعم معنوي

خرجت وأنا غارق في أفكاري، واتصلت بالمرحوم جاسم الصقر ويعقوب الحميضي كصديقين، ورويت على أسماعهما القصة، وكيف أنني لا أعرف ما أفعل. فكان جوابهما معاً:
«اذا لم تقبل أنت فسيقبل غيرك، وهذا مشروع مهم جداً لمصلحة البلد، وأنت أكفأ شخص لهذه المهمة، فاقبل بها».
في اليوم التالي اتصلت بالسكرتير عبد العزيز المشاري وقلت له مسلماً: «توكلنا على الله».
وعدت للقاء ولي العهد بطلب منه، وهنا، وقد أصبح الأمر منتهياً، تحدث إليّ طويلا عن أهمية الاعلام، وألقى ما يشبه محاضرة تثقيفية ألم فيها بأطراف من قصص أشهر الاعلاميين في التاريخ، وضرب مثلا بالدور الذي لعبه غوبلز خلال الحرب العالمية الثانية، وكيف كان اعلامه أقوى من السلاح الألماني، مشددا على دور الاعلام في نشاط الدول والبلدان المختلفة، وعلى ابراز دور الشعب في الرسالة الاعلامية.

وكالة مستقلة

لم أقاطعه خلال كل هذا، كنت أتلقى بانتباه كل كلمة وفكرة، وذهني مشغول بشيء آخر. وحانت الفرصة لقول ما فكرت فيه منذ البداية حين توقف عن حديثه وتطلع الي منتظرا ردة فعلي، فقلت: «يا طويل العمر.. لي طلبٌ واحد، هو مساعدة سموكم حتى أستطيع أن أعمل كل هذا. أتمنى على سموكم أن تكون وكالة الأنباء مستقلة، لديها حرية واستقلالية، ألا تكون تابعة لوزارة الاعلام، أن تكون مثل البي بي سي البريطانية».
وصدر المرسوم الأميري في 6 نوفمبر 1976 بتعييني رئيس مجلس ادارة ومدير عام وكالة الأنباء الكويتية، واعتبارها مؤسسة عامة ذات شخصية اعتبارية، يشرف عليها وزير الاعلام الشيخ جابر العلي.
وفي مكتب الوزير الذي طلبني بعد صدور المرسوم وجدته بدأ سلفاً بالتفكير بكيفية تنفيذ وظيفة الاشراف. قال منذ اللحظة الأولى: «سيكون مكتبك بجوار مكتبي».
قلت، وأيضاً منذ اللحظة الأولى: «لا أريد أن يكون مكتبي في وزارة الاعلام حتى لا أسبب ضيقاً لزملائي».
سألني:
«وأين تريده؟»
كان جوابي جاهزا وفكرت فيه منذ عدة أيام:
«استأجرنا الدور الأول في بناية النقيب».

دشتي وأبو بكر

هنا بدانا الاعداد. كان معي صديقي أحمد دشتي خريج اعلام وفريد أبو بكر. واشتريت كل ما يتعلق بالإعلام من كتب متوافرة. وجلست أقرأ طوال النهار، وفي ذهني تتزاحم الأفكار وترتسم معالم النهج المناسب لعمل جاد يتطور باستمرار، لايمت بصلة إلى منطق غوبلز، عماده تعلم اكثر ما نستطيع من فنون اعلامية من الآخرين.
قبل أن أباشر العمل كانت هناك اتصالات مع وكالة رويترز، وعملنا عن طريقها، لكنني أعدت النظر في موضوع التعاون، وقلت لنفسي انني لا أريد أن أكون تابعا لرويترز، لا أريد أن أدور في محيطها، أريد أن أبدأ صغيرا ثم أكبر. اجتمعنا مع مسؤولي رويترز وانفصلنا عنها. وبحثت عن وكالة أنباء صغيرة ولكن متقدمة، فوجدت أمامي وكالة تاس والأسوشيتد برس والفرنسية واليونايتد برس. ناقشت أمر هذه الوكالات مع أحمد دشتي، وذهبنا لزيارتها.
زرت وكالة الأنباء الفرنسية في لندن وفي ذهني وكالة نستفيد منها. سمعت عن وكالة الأنباء الألمانية، وذهبنا اليها، والتقينا بمديرها العام الذي كان يشغل منصب رئيس غرفة تجارة هامبورغ قبل أن ينتقل الى هذه الوكالة، فطلبت التعاون معه وتزويدنا بدراسة عن الوكالة لنعرف كيف نبدأ. وبالفعل أرسلت الوكالة الألمانية الينا أحد موظفيها وزارنا في الكويت، وشرحنا له الوضع، وجاءنا منهم بعد ذلك تقرير بكيفية البدء، وعينوا لدينا مستشارين براتب شهري ظلوا طيلة سنتين، ثم أوقفنا الاعتماد عليهم وبدأنا نطلب خطوطا ذات تردد عال، اذ لم تكن الصحون اللاقطة متوافرة آنذاك. وأحضرنا للعمل معنا عدلي بسيسو وضياء الفاهوم مسؤول الأخبار في وزارة الاعلام، وكذلك اقبال الأحمد وأمل الخالد والمسؤول عن التحرير ضياء الفاهوم ويوسف السيباني وداوود سليمان وعبد الرحمن الامام.

«كونا» أو «وفا»

وتكونت مجموعة العاملين من كوادر كويتية ولبنانية وسودانية، وأغلبية المحررين من الفلسطينيين، الى درجة قيل عني أنني ضد الكويتيين ومع الفلسطينيين، وأن الوكالة لم تعد «كونا» بل وكالة «وفا». ولكن هذه الأقاويل لم تغير من مبدئي وخطي، كنت حريصا على أن يتعلم أبناء بلدي ويأخذوا الخبرة من أهل الخبرة.
لم أكن في كل هذا بعيداً عن الحس الصحفي، أو امتلاك فكرة عما هو العمل الاعلامي، كما قد يخيل لمن يقرأ كيف بدأت جولتي للاستفادة من خبرة من هنا وخبرة من هناك، وتكوين مجموعة العمل.
الحقيقة أنني مارست الكتابة في الصحافة مبكراً، لم تنقطع صلتي بها ولا متابعاتي لأجوائها، اضافة الى اهتمامي بمتابعة ما يكتب وما ينشر حول عمل وزارة الصحة، والمشاركة في الندوات والمؤتمرات. أي أنني كنت مهيأ فكرياً للعمل الصحفي وأمتلك خلفية ثقافية ضرورية في مجالات ثقافية وسياسية وتاريخية شتى لابد منها لكل من يدخل في هذا المجال. يضاف الى هذا أن تدريبي وممارستي لشؤون الادارة وفرت لي خلفية جعلتني أدير عملي وفق مبادئ الادارة العامة، أعني اعداد الكادر البشري والموارد اللازمة وتنظيمها. ما كنت بحاجة اليه فقط هو الالمام بالتقنيات الخاصة بمجال الاعلام، مجال عمل وكالة أنباء مستقلة تمتلك مساحة من الحرية تجعلها قادرة على المنافسة بحرفية ومهارة. وهذه أمور تعلمتها بالممارسة وحرصي على دقة العمل وتطويره دائماً.

أول مجلس إدارة

واجهت في البداية مسألة الحفاظ على استقلالية الوكالة الوظيفية، بالاضافة الى الاستقلالية في مضمار العمل بعيداً عن الروتين الحكومي. وبما أننا هيئة مستقلة كان من الواجب أن يكون الكادر الوظيفي مختلفاً حتى نوفر له الامكانيات والقدرات الفاعلة المناسبة. وأذكر أنني لهذا السبب نفسه لم أقبل عضوية جمعية الصحافيين حين عرضت عليّ، ولم أقبل أن ينتمي الى عضويتها أي من العاملين في الوكالة، لأنني اذا قبلت العضوية سيكون عدد كبير من العاملين في الوكالة أعضاء في الجمعية، وستكون لنا الأغلبية في الانتخابات، ولا نعلم متى تضع الحكومة يدها على جمعية الصحافيين. كنت مقتنعاً أننا يجب أن نحافظ على استقلاليتنا، ولا يجوز أن أنتخب لرئاسة جمعية الصحافيين وأنا مدير لوكالة أنباء مستقلة في الوقت نفسه.
من أجل هذا، اجتمع أعضاء مجلس ادارة «كونا» سعود العصيمي وعبدالله السابج وأحمد دشتي ود. فاروق العمر، وناقشنا منذ البداية قانون الكادر الوظيفي، واتصلنا بهيئة الفتوى والتشريع، فأصدروا لنا قانوناً أسوأ من قانون الكادر الوظيفي الحكومي. لم نسكت بالطبع، وذهبت مع أحمد دشتي الى هيئة الفتوى والتشريع وجلسنا مع الخبير هناك وقلنا له ان هذا القانون غير مقبول، فأصر على رأيه. أمام هذا لم أجد بداً من اخبار الشيخ جابر العلي وكان يحضر حفلا في قصر السلام، وتداولت بالموضوع مع حمد الجوعان الذي حضر الى مكاتب الوكالة، ثم عدنا الى الخبير في الفتوى والتشريع وقلت له:
«أمامك خياران، وأنا أعلم بمصلحة بلدي، فاذا أردت أن تحكم فاذهبْ واعلن هذا واحكم.. هذا القانون غير صالح».
تم رفع القانون الى مجلس الوزراء، وناقشته لجنة من المجلس معي، وقلت في نهاية النقاش انني لن أقبل الا بسلم الوظائف الذي اقترحته حتى تكون الوكالة ذات مستوى عالمي.
وأعيد القانون الى الفتوى والتشريع، وسألني الخبير:«ما الذي تريده؟».
شرحت له ما أريد، فوافق، وصدر القانون الخاص بالكادر الوظيفي للوكالة. وفوراً كتبت الى عبد الله الصانع رئيس البعثات في وزارة التربية أطلب منه أن يرسل إليّ الطلاب اليتامى الذين لا تؤهلهم درجاتهم لدخول الجامعة، كي أرسلهم الى الخارج على نفقة الوكالة. ولكن المؤسف أن الصانع نسي الموضوع، ولم يرسل إليّ أي طالب.
هكذا بدأت العمل معتاداً أن أكون على رأس عملي في الوكالة منذ السادسة صباحاً كي أبدأ متابعة الأخبار والتطورات الجارية في العالم. ولم يكن عملي من وراء مكتب فقط، بل كنت أشارك زملائي المحررين في العمل وأتعلم منهم، وبهذا استفدت من خبرة كل واحد منهم، وساعدني ولعي بالقراءة على التعلم بسرعة.

دهشة الإعلام

هناك أحداث بارزة تجلى فيها حسي الصحفي في منصبي الجديد، أشهرها الخبر الذي انفردت به «كونا» عن وفاة الرئيس السوفييتي ليونيد بريجنيف في 10 نوفمبر 1982. وأثار انفرادنا وقتها دهشة الأوساط الاعلامية العالمية والأوساط السياسية في وقت لم نكن فيه قد برزنا بما يكفي ليعرف العالم أن هناك وكالة أنباء كويتية حتى.
لهذا الحدث قصة تستحق أن تروى لتعلم من يأتي بعدنا أن العمل الصحفي ليس مجرد انتظار سقوط خبر بيد الصحافي، بل امتلاك أرضية فكرية تؤهل صاحبه للتحليل والاستنباط واصابة المرمى اعتماداً على أدلة ظرفية غير مباشرة أحيانا، أوفي غالب الأحيان.
بدأت القصة حين كنت أحضر مؤتمر قمة مجلس التعاون الخليجي في البحرين بعد الغزو الاسرائيلي للبنان ببضعة أشهر، وكان معروفاً آنذاك أن الزعيم السوفييتي على فراش المرض، فجاءني اتصال من وكالة كونا وأخبروني أن مندوبنا في موسكو يقول ان الاذاعات ومحطات التلفزة السوفييتية تبث موسيقى جنائزية، وأن المذيعات يظهرن على الشاشات بثياب سوداء!
طلبت منهم الاتصال بوكالة تاس ونوفوستي وجريدة البرافدا ومعرفة ما اذا كان لديها خبر عن وفاة أحد الزعماء السوفييت. وسأل مندوبنا هناك وتقصى وبحث لكنه لم يحصل على جواب. فطلبت منه بذل المزيد من الجهد واجراء المزيد من الاتصالات، وكان جوابه: «الناس كلهم هنا في حالة سكون، والموسيقى الجنائزية تتردد في أماكن كثيرة، والثياب السوداء تهيمن على ثياب المذيعات، ولكن لا خبر»
هنـا بدأت بتحليل معلومات ومشاهدات مندوبنا في موسكو، وتوصلت الى نتيجة مفادهــا:
«ليس هناك في الاتحاد السوفييتي أكبر من بريجنيف، وبريجنيف مريض.. اذن..!»
وتناولت سماعة الهاتف واتصلت بالمسؤول في الوكالة وقلت له: «اتصل بالمندوب في موسكو واطلب منه أن يرسل خبرا يعلن فيه وفاة بريجنيف» تحير المندوب وقال: «كيف؟»
قلت: «لا عليك.. ارسل والباقي علينا».
اتصلت بالوكالة وطلبت أن يعدوا الخبر، ويبثوه معلنين أن بريجنيف مات.
وبالفعل بثت كونا الخبر كما طلبت، ولم يكن هناك من قام ببث مثل هذا الخبر سوانا، فتحير العالم، وتحركت وكالات الأنباء، ولكنها لم تجد شيئا يفيد بأن بريجنيف مات.

..ومات بريجنيف

حين توجهت كعادتي خلال وجودي في البحرين إلى جناح سمو أمير البلاد في الفندق، وجدت عنده عبداللطيف الحمد، ورويت القصة على مسامعهما، فقال سمو الأمير مستغربا: «تبث خبر وفاة بريجنيف، وبريجنيف لم يمت؟!».
طمأنت سموه وقلت: «أنا استنتجت أنه مات».
«وإذا لم يكن ميتا.. لا.. هذا لا يصح».
ووجه لي لوما، فقلت: «أنا أتحمل المسؤولية في هذه الحالة.. إذا لم يكن ميتا سأقدم استقالتي من رئاسة تحرير كونا.. وأذهب».
وضحك سموه.

حين عدت إلى غرفتي، لم ألبث إلا وقتا قصيرا، وإذا بي أفاجأ بالنداء علي، فتوجهت إلى المنادي، وسألت: «خيرا؟».

قال: «الشيخ يريدك».

توجهت إلى جناح سموه:

«نعم.. طال عمرك».

كانت ملامحه هذه المرة منبسطة لا تحمل تأنيبا ولا لوماً.

قال: «جاءنا الخبر اليقين.. أن بريجنيف مات».

كان هذا الحادث في الحقيقة سبقا صحفيا لوكالتنا تفوقت فيه حتى على وسائل الإعلام الأميركية التي كانت تراقب الاتحاد السوفيتي على مدار الساعة.

وأذكر أن دبلوماسيا أميركيا متخصصا في جنوب شرق آسيا روى ما حدث لديهم من ارتباك بالقصة التالية:

«سمعنا خبرا منسوبا إلى وكالة اسمها كونا لا نعرف أين توجد ولا نعرف من اين حصلت على هذا الخبر، فاتصلنا بسفيرنا في موسكو وسألناه: «هل مات بريجنيف؟».

أجاب بلهجة قاطعة: «لا.. لم يمت».

«لدينا خبرٌ بثته وكالة اسمها كونا، لا ندري أين توجد.. ربما في أميركا الجنوبية».

وعاد السفير ليؤكد أن لا علم لديه بمثل هذا الخبر، ولم نحمل الخبر على محمد الجد، ولم نعره اهتماما. ولكن بعد ساعة، عاد سفيرنا في موسكو وقال: «الخبر صحيح.. مات بريجنيف».


الحلقة الرابعة عشرة:

قلق خفي غامض يتحكم بحياة معظم زعماء العرب



http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictures/2009/12/31/10fc5c9e-b0b1-4c76-8f77-b2ea9985bfba_maincategory.jpg

برجس حمود البرجس


http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictures/2009/12/31/273c2385-4c05-476d-b642-09086749fa51.jpg

البرجس مع يفغيني بريماكوف وبوريس بيننسكي مراسل نوفوستي

فاتن
01-02-2010, 07:46 AM
السدرة (14)


قلق خفي غامض يتحكم بحياة معظم زعماء العرب



http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictures/2010/01/01/7ba78478-8718-45b8-87c3-9fb80f257928.jpg

• تكريم حجي يوسف الفليج أحد مؤسسي جمعية الهلال الأحمر الكويتية من قبل اتحاد الهلال والصليب الأحمر العربي مع عدد من الأهل والأقرباء والأصدقاء


ذكريات برجس حمود البرجس


لم يكن عملنا في الوكالة (كونا) مجرد تصيد للأخبار، بل كان في حقيقة الأمر أكثر من ذلك، كان استقصاء للعالم من حولنا وتعرفا على ما يحيط بنا، سواء تعلق الأمر بتغطية المؤتمرات أو متابعة تطورات القضايا والأحداث المحلية والعربية والعالمية أو لقاء رؤساء الدول من مختلف الجنسيات. وبسبب اهتمامي بالأمور السياسية، حرصت على إجراء المقابلات مع شخصيات عربية وأجنبية شخصياً، بصفتي مديرا لوكالة كونا، وكانت لي علاقات وصحبة مع الكثير من الشخصيات، واتخذت خلال ذلك قرارات صعبة أخذتها على مسؤوليتي بالكامل. ووجدت نفسي أتصادم مع رؤساء دول أحياناً كما سأروي.

بعض الناس ظن حين قبلت العمل في كونا أنني أصبحت في أحضان الحكومة. ولكن فكرة الوكالة التي رفضها مجلس الأمة حظيت باحترام الحكومة بالصيغة التي اقترحتها، وكانت تساعدني.

شخصيات ومصائر

الكثير من هذه التجارب، والشخصي منه بخاصة، لا يظهر في التقارير التي تبثها الوكالات عادة، ويظل في الذاكرة. وسأروي الآن قصصا هي بالنسبة لي أكثر كشفاً ودقة مما اعتاد الناس سماعه، فيها من الواقع ملامحه، ولكن فيها أيضاً من زاوية الرؤية الشخصية ملامح أكثر حيوية. هنا أجد نفسي في مكان الرسام الحامل لقماشة لوحته ليرسم ملامح شخصيات نشاهدها في المجال العام، ولكنه هنا يلتقط شيئا خاصا للشخصية وظروفها الزمانية والمكانية وسط عالم يموج كما عهدناه دائماً بالمتغيرات.
لم يكن مصادفة إذن أن التقي بشخصيات تقلبت مصائرها، بعضها مازال على قيد الحياة، وبعضها رحل عن عالمنا، بعضها يأسف الإنسان على غيابه وبعضها يتمنى لو لم يكن موجودا أصلا.

خلطة الإعلام

المكان الإعلامي العربي الذي وجدت نفسي فيه، عالمٌ ذو خصوصية، تختلط فيه عناصر سياسية ومخابراتية وتجارية ومعرفية، وبين كل هذا وذاك تجد نفسك في خضم الأمواج لا على الشاطئ، تستكشف ما حولك وما في نفسك، تمتحن خبرتك ومعرفتك، وتمتحن هذا العالم وتتعرف عليه.
وهو أيضاً عالم تواجه فيه واقعاً شاذا، تجد فيه الكثير من المرتزقة بأزياء الصحافيين حيث

تكتب غالبية هؤلاء، ونسبتها تقارب %65 كما قلت ذات يوم، في ضوء حجم المدفوعات، ولكل كلمة لديها سعر. وتجد فيه متعلمين يكتبون ولكنهم أميون إذا أردنا معرفة محتوى ما يكتبون. الأخطر من كل هؤلاء، ذلك النوع الذي يكتب ما لايؤمن به، فيظهر بلباس تقدمي بينما ممارساته عشائرية. ويكثر أمثال هؤلاء المرتزقة والأميين، ومن هناك لايقدمون جديداً لا في الفكر ولا في السياسة، بل يتحذلقون ويتلقطون ما يعود عليهم بالنفع ويبثونه بين الناس، يعزفون اللحن الذي يطلبه من يدفع، كما يقول مثل إنكليزي، وحين تكشفهم وتنتقدهم، يتطاولون عليك أنت الذي تعرف أن أسماءهم موجودة على قوائم دفع وزارات الإعلام الرسمية.

جولة آسيوية

لم يكن قد مرّ على تأسيس كونا سوى أربع سنوات حين سافرت مع سمو الأمير في جولة آسيوية في عام 1980. وهو عام لا ينسى مطلعه. فقد حفل بحروب وغزوات ستغير صورة منطقتنا والعالم من حولنا وسنعيش تداعياتها كما سنرى لعقود طويلة، مست محيطنا ومستنا مباشرة.
باكستان كانت محطتنا الأولى، وفي أول يوم وصلنا فيه إلى عاصمتها إسلام آباد أقاموا حفل عشاء على شرف الأمير الزائر. وخلال العشاء رويت للحاضرين من الباكستانيين أخباراً لم أكن أعرف أنها ستأخذني لألتقي وجها لوجه مع الجنرال ضياء الحق!
قلت لهم إن السوفيت حسب معلوماتي موجودون في أفغانستان، أدخلوا معهم ما لايقل عن 500 عنصر مخابراتي من الكي. جي. بي! واثارت هذه المعلومة اهتمام المضيفين، فسألوني كيف عرفت؟ قلت هي معلومات شخصية، ولــــم أزد على ذلك حرفـاً.
بعد العشاء ذهبنا إلى الفندق، فإذا بهاتف من مكتب الاستقبال يرنّ في غرفتي ويخبرني أن ضياء الحق يريد مقابلتي. دهشت بالطبع، وقلت لقريبي عبد الله السديراوي، وكان معي في الغرفة:

مع ضياء الحق

«ضياء الحق أرسل في طلبي، وأنـا لا معرفة لي بـه، ولا أعرف الموضوع الـذي يريدني من أجله!»
قال السديراوي:
«إنزل وشوف الموضوع»
نزلت من غرفتي، فوجدت ضابطاً في انتظاري. لم يكن الأمر مطمئناً، فالعسكر لا يؤمن جانبهم وبخاصة حين يحكمون بلداً تسمع عن غوامض تجري فيه وانقلابات لا أول لهــــا ولا آخر.
عدت إلى غرفتي وأخبرت السديراوي، وقلت له:
«اسمع.. أنا ذاهبٌ لمقابلة ضياء الحق وإذا لم أعد فأنت تعرف أين أنا»
ذهبت بصحبة الضابط إلى مقر الجنرال، وجلست في صالة لمدة ربع ساعة لا أعرف أين أنــــا ولمــــاذا جــــاءوا بي. ثم ظهر ضياء الحــــق من وراء حاجب وسلم عليّ وأنــــا مازلت مستغرباً. عندئذ قـــال بانكليزيـــة مبتورة باللهجـــة الباكستانيـــة:
«أخبرني أحد الوزراء أنك حدثته عن وجود عناصر الكي.جي. بي!»
أه.. فكرت بيني وبين نفسي، إذن وصله الخبر، هذا كل ما في الأمر.
قلت شاعراً بالارتياح:
«هل يعقل ياسيدي الرئيس أن يحتل السوفيت أفغانستان من دون أي تغطية من المخابرات؟»
هز رأسه وسألني:
«وكيف نأخذ معلومات عنهم؟»
«هذا ليس من شأني بل من شأنك أنت بصفتك رئيس المؤتمر الإسلامي.. أنت من يجب أن يتحرك»
هنا فاجأني بالقول:
هل تقبل تفويضاً مني لفتح الموضوع مع السوفيت؟
«بأي صفة؟»
لاذ الرئيس بالصمت ولم يرد، فتابعت:
«أنا لست بهذا المستوى، اعطني كتابا منكم.. وإلا فبأي صفة تريدني أن أذهب إليهم؟»
كان الجنرال خلال الحديث يفتح بين آونة وأخرى زراً من أزرار ردائه، كأنه يشعر بضيق في التنفس.
ثم انتقل إلى موضوع آخر:
«لدي خطاب سوف ألقيه في الأمم المتحدة، وأريد أن أعرف ما هي ملاحظاتك عن العالم الإسلامي»
قلت:
«أنا حاضر»
فمد يده إليّ ببطاقته الشخصية ورقم الفاكس الخاص به.
في اليوم التالي ذهبت مع الأمير لزيارة جبل يدعى ميريز، شديد البرودة يغطيه الضباب، وكنا في شهر سبتمبر. وهناك انتحى بي ضياء الحق جانباً، فملأتني الخشية من أن تظن جماعتي أن بيني وبينه شيئا خاصا.
قال وهو يشير إلى مناطق حولنا:
«أريد أن أهديك شيئاً»
شكرته وقلت:
«لا موجب للهدايا»
أصر:
«أريد أن أهديك أرضاً في ميريز»!
«لا أستطيع قبول هديتك حتى لا يظن في المستقبل أنني جاسوس لك»
ضحك، وقال:

رسالة إلى الأمير

«أطلب منك أن تخبر الأمير، بما أنه ذاهبٌ إلى الهند وسيلتقي بأنديرا غاندي، أن تذكره أن الهندوس يدخلون البقر إلى المساجد، ونحن لانستطيع اعتراض البقر لأنها مقدسة عندهم. إنهم يستفزوننا. يصلي المسلمون في المساجد وتدخل عليهم الأبقار والثيران..»
وعدته أن أحمل رسالته إلى الأمير، وقلت له:
«ولكنني لاأعلم إن كان الأمير سيتحدث حول هذا الموضوع أم لا»
وبالفعل نقلت الرسالة وما طلبه ضياء الحق، فوجدت لدى الأمير علما بالموضوع، وقال إنه سيناقشه مع أنديرا غاندي.
بعد ما يشبه هذه المغامرة الليلية في باكستان، التقيت بضياء الحق مرة أخرى في المؤتمر الإسلامي في الطائف. جاء اللقاء خلال الصلاة، وتصادف وجودي بجواره، ولاحظت أنه أطال الصلاة. حين انتهى سألته:
«لماذا أطلت الصلاة؟»
قال:
«أريد الجنة»
قلت مازحاً:
«الجنة.. دفعة واحدة!»

بذخ ملوك

ضحك، وربت على كتفي، وبعدها أرسل لي صورته وعليها إهداء «إلى صديقي العزيز».
واصلنا جولتنا، ودخلنا بنغلادش، وكانت هذه أول زيارة لي إلى بلد فيه هذا الفقر المدقع الذي يتجاوز خيال المتخيل. فقر واضح في العاصمة دكا، في طرقاتها وعلى ملامح الناس والأسواق. والغريب أن الرئيس مجيب الرحمن حين دعا جميع رؤساء التحرير وهبط ليستقبلنا، بدأت موسيقى الأبواق تعزف على إيقاع خطواته، وسار مبتهجاً كأنه إمبراطور من أيام زمان، يزهو وسط شعب يموت جوعاً فعلا لا مجازاً.
لم أنس هذا المشهد، ولذا ما إن اجتمع بنا مسؤول الإعلام مع بقية رؤساء التحرير، بادرته بالقول:
«ألاحظ أن نظامكم اشتراكي، ومع ذلك الناس يموتون من الجوع! أرجو المعذرة، فأنا أرى بذخا من فعل الملوك وليس من فعل قادة شعب فقير!»

تغيرت ملامح المسؤول الإعلامي، وسارع يقول بارتباك واضح:
«نتحدث في هذا الموضوع لاحقاً»
ولم يأت هذا الوقت اللاحق، فقد غادرنا إلى ماليزيا، وهناك في أول يوم دعانا السفيرالسعودي، وعرض علينا فيلماً وثائقيا عن الملك عبد العزيز بن سعود. بعد انتهاء الفيلم، ونحن على مائدة العشاء، جاءني محمد درويش العرادة وقال لي:
«الشيخ يريدك لأمر ضروري»
ذهبت إليه أستطلع الأمر، فقال لي ما أن شاهدني:
«علمت الآن أن العراق هجم على جزر إيرانية واحتلها، والوضع هناك ليس طبيعياً.. تحر الموضوع»
رجعت إلى الفندق وتحريت الموضوع، فقالوا لي أن هناك اشتباكات على الحدود العراقية- الإيرانية. أخبرت عبد اللطيف الحمد الذي كان معنا على مائدة العشاء، وطلبت أن ينقل الأخبار إلى الأمير. كان هذا في سبتمبر 1980، بداية الحرب العراقية- الإيرانية التي تواصلت طوال عقد كامل.
محطتنا الأخرى كانت جاكرتا في أندونيسيا. وخلال وجودنا على متن الطائرة، وكانت من نوع بوينغ 707، شاهدت رؤساء التحرير وبينهم فيصل المرزوق، ضابط يذهب مسرعا إلى حجرة الطيار ويخرج مسرعاً، وأحسست أن وضع الطائرة لم يكن طبيعياً. قال المرزوق:
«هناك شيء يحدث للطائرة.. ونحن برفقة الأمير»
ولم يكد يتم كلامه حتى هوت الطائرة، ثم عادت إلى الارتفاع، وظلت الحال هكذا بين هبوط وارتفاع إلى أن وصلنا مطار جاكرتا، وهناك كانت في انتظارنا سيارات الإسعاف والإطفاء، وكل هذا ونحن لانعلم مايحدث.
وواصلنا رحيلنا إلى سنغافورة، وهناك وجدنا طائرة كويتية جامبو جيت. وعدنا من رحلتنا الآسيوية ونحن مرتاحون، ولكن لنواجه عواصف أخرى بدأت تلم بمحيطنا القريب.

في العالم العربي

سانتقل الآن إلى قصص من عالمنا العربي، عالم تصيبني الدهشة الان، وأنا اتذكره في الثمانينات، وأتذكر معه كم كان زعماؤه يتماثلون مع زعماء رحلتنا الآسيوية، رغم اختلاف اللغة والبعد وخصوصية الجغرافية السياسية.
أربعة رؤساء التقيت بهم، أو أربعة مصائر، تكاد تلخص أوضاعنا إذا أردنا تلخيصاً بخطوط بسيطة. وكانت هذه اللقاءات في ظروف مختلفة، وتحت هاجس قضايا مختلفة. وكلها أعطتني تجربة ذات مغزى في تعامل رؤساء العالم الثالث عموما مع وسائل الإعلام. أنت لدى هؤلاء مرحبٌ بك إذا كنت من حملة المباخر والطبول، أما إذا كنت من حملة الرأي الآخر، فالنجوم أقرب إليك من المسؤولين الكبار في هذا العالم.
لست خبيراً نفسياً، ولكن لفت نظري تفضيل هؤلاء للإعلام الغربي رغم أنه لا يخدم إلا مصالح الأسياد القدامى، ولا يتوانى عن غرس بذور الفتنة والشقاق عندما تتاح له الفرصة. بينما نجدهم يحتفظون بنظرة شك إلى الإعلام في بلدانهم.

قلق خفي

إن ما أتذكره كسمة دائمة على وجوه هؤلاء الرؤساء هو القلق الذي يُخفى وراء شتى المظاهر الدبلوماسية، أو وراء التظاهر بأن كل شيء على ما يرام، قلق خفي غامض لا يجد تعبيره في كلماتهم، بل في حياة متقلبة راكدة تحيط بهم ويحيطونها بشتى التمويهات، ويستطيع أي إعلامي يمتلك أدنى حد من الحس السليم اكتشافها.
في عام 1980 ذاته حدثت مواجهة بيني وبين الرئيس السوداني جعفر نميري تصرف فيها تصرفا غامضا غير مفهوم، حين رفض الحديث إلا في موضوع واحد حدده هو، وأمام عدسات التلفزيون لا مع رئيس وكالة كونا، الذي يبدو أن فكرة مسبقة كانت لديه عن استقلاليتها عن أي تأثير رسمي.
كان في زيارة للكويت قادماً من باكستان، وهو يومها رئيس لجنة التضامن العربي. فأحببت أن أجري معه لقاء صحفياً، مع أنني شخصياً لا أتفق مع توجهاته السياسية،
ذهبت إلى مقر إقامته الرسمي في قصر السلام في الموعد المحدد وفي ذهني أن تتمحور الأسئلة التي سأوجهها حول عمل اللجنة التي يرأسها في رأب الصدع العربي وإصلاح العلاقات المتدهورة بين العديد من الدول العربية.

مع النميري

دخلت الحجرة المخصصة، فإذا بها تحتشد باستعدادات كاملة لتصوير المقابلة تلفزيونياً.
حضر الرئيس وصافحني، وأول سؤاله كان:
«ما هي طبيعة الأسئلة؟»
قلت:
«في ذهني إجراء مقابلة لوكالة الأنباء الكويتية، ولم أعلم أنه سيتم تصويرها تلفزيونياً».
وأعاد السؤال:
«ماهي طبيعة الأسئلة؟».
«يدور معظمها حول عمل لجنة التضامن..».
قاطعني: فاجأني ولم يترك لي فرصة إكمال جملتي:
«أنا أرفض الإجابة عن هذه الأسئلة»!
استغربت وقلت:
«يا سيـادة الرئيس، إن كنـت لست مرتــــاحـــاً للمقابلــــة، فيمكنك إلقـــاء بيـان عـن عمــل اللجنـــة التي ترأسها»
«ومن يضمن نشر ما أقوله؟»
نظرت حولي مشيراً إلى مسجلات الصوت وعدسات التصوير:
«هذه كلها تشهد أنني لن أضيف حرفاً واحداً ولن أشطب حرفاً مما ستقوله!».
توقعت أن يقبل العرض، إلا أن رد فعله ضاعف دهشتي:
«الآن لست مستعداً للحديث في موضوع التضامن العربي، لن أتحدث إلا عن العلاقات الكويتية- السودانية».
فشرحت:
«اسمح لي.. جئت لأسألك بصفتك مسؤول لجنة التضامن العربي، العلاقات الأخوية الجيدة بين الكويت والسودان بخير والحمد لله ولا يحتاج القــارئ أو المشاهد إلى معرفـــة أكثر مما هو ظاهر، ويمكن أن نتحدث عنها، ولكن المهم الآن التضامن العربي، توضيح من رئيس اللجنة حول ما وصلت إليه في عملها وإنجازاتها إن كانت أنجزت شيئاً»
رد النميري:
«أنا أقول ما في غير العلاقات الكويتية- السودانية»!
وأضاف بإصرار:
«أنا أرفض، ولن أتحدث إلا مع التلفزيون»!
هنا شعرت بأنه متوتر الأعصاب، واصبح الجو كله متوترا تبعاً لذلك، فقلت:
«لا.. هذا كلام لا يقال لي، أنا لست مندوب تلفزيون الكويت، هذا مندوب تلفزيون الكويت هناك وهو من يسألك عن العلاقات الكويتية- السودانية.. تعال يا أحمد عبد العال..».
اقترب عبد العال وجلس، وطلبت منه أن يمضي قدما في إجراء المقابلة معه، وخرجت، وأنا أردد بيني وبين نفسي «خليه يولي».
في الخارج التقيت ببعض مرافقي النميري، وبينهم الملحق الصحفي في السفارة السودانية الذي يبدو أنه سمع طرفاً مما جرى، فسألني:
«بو خالد.. أنت زعلان؟».
«والله.. لا أستطيع مقابلته، صعبٌ عليّ أن أقابله، خل التلفزيون يجري معه اللقاء. نحن وكالة أنباء حرة.. لا قيود عليها».
اعتذر الملحق الصحفي عن عدم تجاوب رئيسه ورفضه إجراء المقابلة حسب الاتفاق الأصلي، ورجاني ألا أعتبر الموضوع شخصياً، فأكدت له أن الموضوع ليس شخصياً إطلاقاً. ثم طلبت منه إذا أراد أن يخدمني توصيل رسالة إلى رئيسه.
سألني:
«ماهي؟»
قلت مشدداً على كل كلمة:
«أرجوك أن تبلغ الرئيس أو السفير على الأقل، قل له إن بو خالد يقول لك، أنت جئت هنا خادماً للشعب السوداني، وليس شعب السودان خادما لك»
رد الملحق الصحافي:
«والله العظيم سأقول له».
وبالفعل قام بإبلاغ رسالتي إلى أحد المسؤولين في الوفد، وأوصلها هذا إلى رئيسه، ولكن لم يمض على هذا الحادث أكثر من عشرة أيام، حتى نقلوا الملحق الصحفي من السفارة!.


الحلقة الخامسة عشرة
أمزجة الرؤساء مختلفة.. ويتفقون
على كره الصحافة والمعلومة

فاتن
01-02-2010, 07:53 AM
ذكريات برجس حمود البرجس


السدرة (15)

أمزجة الرؤساء مختلفة.. ويتفقون على كره الصحافة والمعلومة



http://www.alqabas-kw.com/Temp/Pictures/2010/01/02/bd6159dd-dedc-4af2-83fa-f31e02a4e08b.jpg
البرجس (الاول الى اليمين) مع د. أحمد الخطيب وأحمد السرحان وجاسم القطامي وجاسم الصقر
في مسيرة بالعاصمة البريطانية ضد الاحتلال العراقي للكويت 1990

تختلف أمزجة الرؤساء من واحد إلى آخر، إلا أن المزاج الأكثر شيوعاً هو أنك تجدهم يستشيطون غضبا حين يتجرأ الصحافي على مقاربة ما يعتبرونه من المحرمات، لكنهم يكبتون غضبهم، ويصطنعون هدوءاً وثقة بالنفس، بينما تشعر من نظراتهم الجامدة أو ضحكاتهم المفتعلة أنهم يغلون من الداخل. هؤلاء يتعاملون مع الإعلام بسطوتهم نفسها التي اعتادوا عليها مع شعوبهم، وربما بالخوف ذاته الذي يشعرون به في أعماقهم أحياناً. إلا أن أعجبهم ذاك الذي تشعر أنه سجين أوهام خاصة به، فلا تجد عنده سوى نفي كل واقعة أو معلومة تذكرها لأنها لا تلائم تصوراته.

نموذج صدام

يحضرني هنا نموذج صدام حسين حين التقيت به مع زملائي وإخواني رؤساء تحرير الصحف الكويتية في مدينة فاس حين احتضنت أحد مؤتمرات القمم العربية في عام 1982.
من عادتي في هكذا لقاءات، بصفتي رئيساً لمجلس إدارة كونا، أن لا أكون أول المتحدثين، بل أترك الحديث أولا لرؤساء التحرير، ثم يأتي دوري بعد ذلك.

ناقش رؤساء التحرير صدام في كل شيء، وفي العديد من القضايا، وغطوا جوانب كثيرة بحضور آخرين معه، طه ياسين رمضان وسعدون حمادي وطارق عزيز، هؤلاء الذين يحضرون في أغلب هذه المناسبات، إما للمصادقة على ما يقول، وإما لتزويده بما يجهله من معلومات كما تبين في ما بعد.
بعد أن اكتفى رؤساء التحرير، تقدمت للسؤال.

قلت له: «سيدي الرئيس.. أود أن أسألك سؤالا صريحاً. ومع أنك قد تتأثر منه قليلا، فإنني أود طرحه عليك؛ أريد أن أسأل، لماذا كل الصحف العراقية ووسائل الإعلام العراقي، تعتبر أنه لا يوجد في العراق سوى صدام حسين؟ أي أن الشعب العراقي لا دور له.. أريد أن أفهم لماذا؟».

أزعجه هذا السؤال بالطبع، ولكن إنزعاجه ظل في داخله، فمن طبيعته ألا ينفعل أبداً.. هادئ الأعصاب ولكنه يغلي من الداخل.

وجاء جوابه على سؤالي هكذا: «والله أنا في الحقيقة حين كنت نائباً للرئيس أحمد حسن البكر، كنت أتجول في المحافظات، وعندما أعود إلى بغداد تخرج تظاهرات ترحيب.. وكنت أقول، لا تقيموا تظاهرات لاستقبالي..».

وتابع موجها حديثه إلى طارق عزيز.. وسأله: «ألم أكن أقول لكم لا يوجد داع لهذه الجماهير، لا يوجد داع لهذه التظاهرات؟».

فرد طارق بجواب جاهز: «نعم سيدي».
لا أحد يستطيع أن يقول لا.. وإلا طار رأسه.

مع مبارك

النموذج الآخر الذي التقيت بـه، وايضاً وجدته يستاء من انتقاد قناعاته، ويسقط كأس الماء من يده، حتى لو كان النقد مجرد ملاحظات ننقلها إليه نيابة عن الناس، كان الرئيس حسني مبارك.
كان قد التقيت به مرتين، مرة خلال مؤتمر القمة في مسقط العمانية، ومرة وهو يلعب الاسكواش في ملعب في الكويت.

في مسقط، ألحّ عليّ وكيل وزارة الإعلام الشيخ ناصر المحمد، وكان موجودا هناك، على أن أجري مقابلة مع مبارك، فطلبت موعداً، وذهبت إليه. وجاء سؤالي الأول مستمداً من موضوع كامب ديفيد الذي كان أخطر تحول في الصف العربي من مقاومة المحتل الصهيوني إلى عقد المعاهدات معه: «أريد أن أسألك حول موضوع كامب ديفيد، وهو موضوع وضع في يد العرب قيوداً؛ الاعتراف بإسرائيل.. هذا وضع يضرّ بالعرب».

قال:

«وايه كمان؟».
قلت: «هذه العملية مسيئة للأمة العربية».
قال: «ما فيش حاجة تانية؟».

قلت: «نعم.. ووضعوا قوات دولية في سيناء حتى يضمنوا عدم تحرك مصر ضد اسرائيل».
قال: «خلصت؟ الكلام كله دا مالوش معنى! وانت يا ابني بتقول كلام كله غلط. كامب ديفيد خدمت مصر، وحترجع سينا لمصر، كل الأراضي اللي سلبتها اسرائيل رجعناها.. أين الخطأ في الاتفاقية؟».
قلت: «لم أقرأ نص الاتفاقية، ولكن الناس مستاؤون من الاتفاقية».

قال: «هذا الكلام غير صحيح، واستغرب كيف أن الناس تفكر هكذا!».
وأشارت ملامح مبارك وحركة عينيه الى أنه استاء من هذا الحديث، وسقط كأس الماء من يده على الأرض، فأشار الى رجال المباحث اليقظين حوله أن يبتعدوا قليلا.

وزدت من استيائه كما يبدو حين أضفت:
«هذه الاتفاقية مصيبة على العرب».

فسكت، وبدا أنه يدير فكرة ما في رأسه، ثم هتف وكأنه وجدها:
«اسمع.. أنا أعرف من الذي قال لك هذا الكلام، هذا كلام بتاع خالد محيي الدين الذي يشتري له القذافي الورق لصحيفته».

قلت: «أنا لا علاقة لي بخالد محيي الدين ولا على اتصال به، أنا التقيت به في وكالة كونا، ولكننا لم نناقش هذا الموضوع».

وعاد الى فكرته: «هل تعرف أن ورق صحيفة الأهالي من القذافي؟».
قلت: «هذا لا يعني لي شيئا سيدي الرئيس، ولا علاقـــة له بما أقول.. أرجوك اعذرني اذا أسأت!».
لم أخرج من اللقاء معه بشيء. بدأنا بالحديث عن اتفاقية كامب ديفيد، وانتهينا بأن ورق صحيفة الأهالي يأتي من القذافي.

أما حين جاء إلى الكويت، فلأنه أصبح يعرفني جيداً، فضلت ألا أوجه إليه السؤال مباشرة، واعطيت سؤالي إلى مندوب الوكالة، وطرحه عليه، وكان أيضا عن كامب ديفيد. فانتبه وسأله:
من أعطاك هذا السؤال؟

«قال المندوب: أنا من وكالة كونا».

لم يعلق، ولكنه أجاب باقتضاب وجفاف مكررا الكلام نفسه الذي سمعته منه في مسقط.
كان برفقته د. عبد الرحمن العوضي، وذهب بعدها إلى فندق الشيراتون لممارسة لعبة الإسكواش، وهناك رأيته، وسلمت عليه. قال كأنه فوجئ: هو أنت هنا!

وعقبَ بلهجة من يعيد عبارات ألقيت على سمعه: أنت توجهاتك يسارية.
قلت له وقد غلبتني روح الدعابة:

«ماركس لا أعرفه ولا يعرفني، ومات الله يرحمه»!

فالتفت إلى عبد الرحمن العوضي مبتسماً كأنه يستكمل حديثا دار بينهما:

«اسمع.. عاوز الله يرحمه كمان!»

الجزائر ليست هي

بعض الأحداث تمر بها الذاكرة مروراً عابراً، وبعضها تتعلق به أو يتعلق بها، وفي كلا الحالين وجدت أن طبيعة حياتك العملية هي التي تقرر ما الذي يبقى حاداً ولامعاً، وما الذي يبهت مع مرور الزمن. وتضيف حياة مثل الحياة الإعلامية التي عشتها في وكالة «كونا» لمدة خمسة عشر عاماً زحاما لا نظير له، فهي ليست حياة ساكنة على شاطئ بل هي حركة متواصلة في خضم أكثر قضايا العصر سخونة، ومعايشة للجغرافيا بكل تنوعاتها. وأضيف أيضا ان طبيعة الجغرافيا التي تزورها في زمن معين والشخصيات التي تلتقي بها قد تتغير أيضاً، وتتغير معها الألوان ووزن المكان والشخصيات، تبعاً لذلك.

حين ذهبنا إلى الجزائر عشية الاستقلال مع البعثة الطبية كان كل شيء مثيراً، أشبه بمغامرة اختلطت فيها المشاعر، مشاعر أن فجراً جديدا يبزغ، ليس على الجزائر بالذات كبلد عربي، بل علينا جميعا، نحن أصحاب المصير المشترك. واحتلت شخصيات تلك السنوات مكانة متميزة في الذاكرة.

لكن زيارتي خلال عملي في «كونا»، ورافقني فيها حسن الصايغ الذي عمل معنا في الكويت وهو حالياً في مكتب سمو رئيس مجلس الوزراء، جاءت في ظروف مختلفة.

ذهبنا هذه المرة، لا لنلتقي بثوار لوحت وجوههم الشموس في طريقهم إلى عاصمة بلدهم بعد تحريرها، بل برئيس مستقر في سدة الحكم طيلة ما يقارب عشر سنوات. كان الرئيس هو الشاذلي بن جديد، وكان الظرف باهت الملامح، فلا شيء يوحي بأنه يتقدم ويبشر بما كان يحلم به اولئك الثوار الذين شاهدناهم خلال زيارتنا لمقابر الشهداء، أو التقينا بهم وهم يضعون مسدساتهم أمامنا على الطاولة بدل الأقلام والأوراق.

مع الشاذلي بن جديد

ذهبنا للقاء الرئيس الذي لا أذكر أني لمحته آنذاك في زيارتي الأولى، فتعرفت عليه، وتناقشنا حول الأوضاع في الجزائر، وحول الحركات والقوى العمالية، وكان واضحا أن الرئيس العسكري النشأة لا يعيرها أي اهتمام. ومع ذلك استمع إلى ما طرحناه وتجاوب مع اقتراحاتنا وذكرياتنا عن جزائر واعدة قبل سبعة عشر عاماً. وجدنا لديه طموحات كثيرة. ولكنه لم يتحدث عن المجموعة التي تنشط ضده في قلب النظام. ولم يتضح الأمر إلا بعد هذا اللقاء، ومع متابعتنا للأخبار. لم يتقدم شيء، وبدأت الانقلابات، وبرزت الأحزاب الدينية رغم وجود حركات عمالية تعتبر من أقوى الحركات.

في هذا الوقت بالذات، كانت الاتهامات بالشيوعية هي الرائجة، ويتلقطها الرؤساء كما يتلقطها صغار الصحافيين، وكما يتلقطها موظفون طامعون في وظيفتك وإزاحتك، ويهمسون بها في آذان المسؤولين كما حدث معي منذ أن كنت وكيلا لوزارة الصحة.

في الجزائر، كانت الشيوعية تهمة توجه إلى رئيسة الحركة العمالية لويزة بن حنون، تلك الشخصية القيادية التي قرأت عنها كثيراً رغم أنني لم ألتق بها. وهي ذاتها التي رشحت نفسها أخيراً لرئاسة الجمهورية في مواجهة الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة.

ومع كرايسكي

ليس لدي ما أتذكره من هذا اللقاء سوى هذه الصفحة العابرة. لكن بعض الشخصيات لاتسمح لك بأن تخرج خالي الوفاض من اللقاء بها. وقد تترك فيك عبارة مرت أثراً لا ينسى. وسيكون من المناسب أن نرى على أرضية ما سبق من قصص رؤساء مثل ضياء الحق ونميري وصدام ومبارك، كيف تبرز شخصية مغايرة، صريحة وواضحة تحاور الآخر، سواء التقى معها أو اختلف. تلك هي شخصية المستشار النمساوي برونو كرايسكي الذي كنت أجده الأكثر تفهماً للوضع العربي بين السياسيين الأوروبيين.

توثقت علاقتي الشخصية بكرايسكي إلى درجة كبيرة منذ أن بدأت معرفتي به خلال الندوة الأولى للحوار بين وكالات الأنباء الأوروبية والعربية في فيينا في نوفمبر 1977. كانت هذه الندوة حلقة في سلسلة بدأتها بعد أن انتخبت رئيساً لاتحاد وكالات الأنباء العربية، وحرصت خلال ثماني سنوات من رئاستي على الحوار والتعاون المثمر بين وكالات الأنباء العربية والأوروبية، لخلق حوار اعلامي عربي- اوروبي، هذا الحوار الجاد لتطوير الاعلام العربي بالاستفادة من خبرات الاعلام الأوروبي الذي لم يستمر مع الأسف حين تركت «كونا» في عام 1992.

اثناء هذه الندوة الأولى جاءت زيارة السادات للقدس وبدأ قلب مفاهيم الصراع مع عدونا التاريخي، واتخذت كل قضايانا مسارات متشعبة، تتباعد فيها أهداف ووسائل كل الأطراف العربية بعضها عن بعض، ولكنها تكاد تلتقي حول أمر واحد، هو الانحراف باتجاه العجز عن مواجهة الهيمنة الصهيونية.

في اليوم التالي على هذا الحدث أقام كرايسكي مأدبة غداء تكريماً للوفود المشاركة في الحوار. وهنا دار بيني وبينه حديث طويل عن الزيارة، عن دوافعها وأهدافها والآثار التي ستتركها في العالم العربي. وكان مما قلته أنه لا يمكن أن تقام أي جسور بين اسرائيل وأي دولة عربية لأن الشعب العربي بشكل عام، والمصري بشكل خاص، يرفض هذا بقوة. وتابعت:

«قد تنجح اسرائيل في عقد معاهدة صلح رسمية بينها وبين أي حكومة عربية، وهو ما حدث لاحقاً بينها وبين مصر، ولكنها ستلاقي الفشل الذريع في كافة محاولاتها جعل العرب يقبلون بوجودها أو تطبيع العلاقات على الصعيد الشعبي معها».

قبل ذلك، وحين التقيت بكرايسكي في الكويت، وزرته في قصر السلام وتناقشنا في موضوع اسرائيل اتضح لي من كلامه أنه ضد اسرائيل، والآن وجدته يصغي لحديثي بجدية تامة، ولم تغير وجهة نظره حتى الانقلابات العربية على طريق هذا الصراع.

اللافت للنظر أنني حين رأيته بعد ذلك بسنوات، في عام 1985، اثناء مشاركتي في ندوة الصداقة العربية في بادن، وجدته يتحدث عن العلاقات العربية - الاسرائيلية، ويشرح للحضور ما يراه ممارسات خاطئة للأحزاب الاسرائيلية، ثم يفاجئ الحضور بالقول:
«لدي معلومات أظنها لا تخفى عليكم، بأن لدى اسرائيل قنبلة ذرية».

واثارت هذه المعلومة ضجة بين الحاضرين. وطلبت التعقيب على كلمته، فقلت:

«ان لدينا نحن العرب امكانية صناعة قنبلة ذرية، ولكننا غير متفقين للأسف الشديد».
فقال كرايسكي:

«ولكن هذا السلاح غير انساني».
قلت:
«لا أقصد القنبلة الذرية التي تنتجها المصانع العسكرية، بل امكانية أقوى تأثيراً من تلك الاسرائيلية، ولكنها لم تدخل حيز التنفيذ».

وبدت الدهشة على وجوه الحاضرين، فتابعت موضحاً:
«القنبلة التي ستفجر العالم العربي يوماً، وسيغطي تأثيرها على القنبلة الإسرائيلية هي غياب الديموقراطية عن عالمنا العربي.

الديموقراطية هي ذلك السلاح الذي لو مارسه العرب في إطاره الصحيح، لأخذت كل الشعوب العربية دورها الرائد في المنطقة، الدور الكفيل بإرجاع إسرائيل وكل من يدعمها إلى حجمهم الطبيعي».

وعلق كرايسكي: «إذا كان هذا القصد بالقنبلة فأنا أتفق معكم».

في مواجهة الإعلام الأميركي

لا يكتمل هذا الفصل من المواجهات واللقاءات والجولات الإعلامية في الجغرافية السياسية من دون ذكر مواجهاتي مع الأميركيين، وبخاصة الإعلام الأميركي، خلال إدارتي للوكالة. وفي هذا السياق هناك قصص وقصص تختفي وراءها الكثير من الالتباسات.

لقد دعيت عدة مرات للقيام بزيارة للولايات المتحدة، إلا انني كنت أتردد في القبول وأضع يدي على قلبي، لأن الصورة التي تكونت لدي عن تلك الدولة آنذاك هي أنها عالم قائم بذاته ولا تربطه بعالمنا أي صلة، وأنها مجتمع ليس بوسع الإنسان أن يعيش فيه عيشة طبيعية وبراحة نفسية. كما كانت تتملكني في كل مرة أتلقى فيها دعوة مشاعر تخوف بسبب الممارسات الأميركية ضد شعبنا العربي، وعلى وجه الخصوص موقفها المؤيد بشكل دائم للكيان الصهيوني على أرض فلسطين.

في عام 1980، وقبل موعد افتتاح مكتب «كونا» في واشنطن، زارني مسؤولون من السفارة الأميركية وجددوا لمرة ثالثة دعوتي لزيارة بلادهم ضيفاً على وزارة الخارجية.

قبلت الدعوة من ناحية المبدأ، إلا انني اشترطت أن لا تكون على نفقة وزارة الخارجية. واتصلت بالشيخ جابر العلي، وزير الإعلام، المشرف على عمل الوكالة، وأخبرته بقبول الدعوة مشروطة بما ذكرت، فلم يعارض، وقال: «اذهب على حساب الحكومة».

ممنوع من الدخول

وعندما اقترب موعد افتتاح مكتب «كونا»، قررت أن الوقت مناسب للقيام بهذه الزيارة، وأبلغت السفارة الأميركية انني سأتوجه إلى واشنطن بعد اسبوع فطلبوا جواز سفري لوضع تأشيرة الدخول. فأرسلته مع مندوب، وذهب المندوب وغاب طويلا، وظل جالساً كما علمت حتى أغلقت السفارة أبوابها من دون أن يحصل على جواز السفر، وعاد ليبلغني أن سبب التأخير هو جهاز الكمبيوتر، أو هكذا فهم من مسؤول السفارة.

لم اقتنع، وتضايقت، واتصلت بالسفارة أسأل عن حقيقة الأمر، فقالوا بصراحة ان اسمي وارد ضمن قائمة الممنوعين من دخول الولايات المتحدة!

لم أفاجأ، وابتسمت، وأخذت الموضوع بنية حسنة، وقلت لنفسي، هذه سفارة تعمل في خدمة مصلحة بلدها. ولكن ما أثار استغرابي وتساؤلاتي هو أنني لم أفعل شيئا بامكاناتي المتواضعة يهدد المصالح الأميركية. وتبادر الى ذهني أن هناك، حتى بالنسبة للولايات المتحدة من ينقل اليها معلومات مشوهة.

قلت للمندوب:

«عد واحضر جوازسفري، ولاتخرج من السفارة من دونه»

ماطلت القنصلية في ارجاع جواز سفري، فقلت لهم ، لم أعد راغباً في الذهاب الى أميركا.
بعد يومين تسلمت رسالة من السفير الأميركي يعتذر فيها عما أسماه سوء فهم؛ لقد تم وضع اسمي على قائمة الممنوعين عن طريق الخطأ، وعمم الأمر على سفاراتهم في كل أنحاء العالم.

وقال السفير إن اسمي رفع من القائمة، ويمكنني الحصول على تأشيرة دخول في أي وقت. بالطبع لم تعد الدعوة الأميركية الرسمية قائمة، فسافرت بصفتي رئيس مجلس ادارة كونا الى واشنطن لحضور حفل افتتاح مكتبنا هناك.

في تلك الزيارة تأكدت نظرتي الى أميركا؛ رغم أنني قابلت العديد من الأميركيين، لكنني لم أستطع حينها القول ان لي صديقاً بينهم. كان صديقي الوحيد خلال تلك الزيارة هو ابني الذي يدرس هناك.
بعض الأصدقاء الذين علموا بقصتي مع السفارة الأميركية، سألوني:

»هل عانيت المشكلة نفسها مع الاتحاد السوفيتي الذي زرته عدة مرات»؟

أجبت بالنفي، وفسرت السبب على شكل دعابة:

»قد يكون السبب أن السوفيت يعانون من تخلف في تقانة الكمبيوتر، ولذا هم يؤمنون بقيمة التعامل الانساني بعيداً عن التعامل بالوسائط الصناعية»!

ولكن هذا التفسير لم يكن دقيقا في ما يتعلق بالجانب الأميركي على الأقل. وقد برهن تدفق الصحافيين الأميركيين على الكويت في عام 1983، عندما وقعت تفجيرات ضد السفارتين الأميركية والفرنسية، وفي المقهيين الشعبيين، على أن ما يبدو تقانة صناعية، تقف وراءه أجهزة يعمل وراءها بشر بوجوه وملامح، لامجرد روبوتات صناعية. القليل من هؤلاء الصحافيين جاء لتغطية الانفجارات في المنشآت الكويتية، وانصرفت الأغلبية الى جمع معلومات لأجهزة معينة يعملون لديها، ولم يكن الهدف تزويد الرأي العام الأميركي بالمعلومات الدقيقة.

وحدث في وسائط الاعلام الغربية في تلك الأيام تشويش مقصود. من جهة تضخيم ما جرى في الكويت، رغم أنه تكاد تكون أمثاله أحداثا يومية في أميركا نفسها وفي معظم دول أوروبا، ومن جهة ثانية إبعاد المشاهد الأميركي عن معرفة أن التفجيرات التي تعرضت لها الكويت كانت موجهة ضد سياساتها المتوازنة والمستقلة، والى نظامها الديموقراطي ودستورها وبرلمانها المنتخب، ولتعطيل دورها في مجموعة دول عدم الانحياز.

والعجيب أن شبكة سي. بي. اس التي أجرى فريقها مقابلة معي في يوليو 1985، ورغــــم علمها أنها تستضيف رئيس مجلس ادارة وكالـــــة أنبــــاء كويتيـــــة، بثت من المقابلـــــة الجـــــزء الذي قلت فيـــــه ان الكويت لن تساوم على أمنها ولن تخضع للارهاب، وربطت فيه بين حرية الرهائن الأميركيين في لبنــــان وبـــين 17 سجيناً أدينــــوا بجرائم تفجيرات في الكويت في عــــام 1983. ولم تبث معظم مـــا قلتـــه حــــين حملت الولايات المتحــــدة مسؤولية مــــا يحصل لمواطنيها ومؤسساتها في المنطقة العربية. وأن الـرأي العربي يعتبر مـــا يحصل للرعـايا الأميركيين نتيجـة طبيعيــة لسياسات الحكومـة الأميركيـة.

لم تكن أجهزة الاعلام الأميركية تتحمل حتى توصيل حقيقة أن الغزو الاسرائيلي للبنان، وقتـل وتهجير الالاف من المدنيين اللبنانيـين الأبرياء، لم يكن ليتم لولا دعم الولايات المتحـدة المتواصل والكامل لاسرائيـل.


الحلقة السادسة عشرة:

التعتيم على الأخبار يشجع انتشار المدسوسة والملغومة