الدكتور عادل رضا
09-09-2004, 07:33 PM
السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر.. العلاقة بين الفقيه والمجتمع
وعي الإشكالية التاريخية.. والتأسيس الجديد
يمكن القول انّ الثقل الأساسي الذي اتخذته تجربة الشهيد محمد محمد صادق الصدر في الواقع العراقي، هو الثقل الاجتماعي، فلقد طغى هذا الجانب الاجتماعي على الكثير من مضامينها وآليات وأساليب عملها وحتى على ما يمايزها ـ اي هذه التجربة - عن غيرها من تجارب العمل والتحرك المرجعي. وكذلك في وعيها المسبق لضرورة رصد الحركة الاجتماعية وعلاقاتها بصورة عامة أي: علاقتها الداخلية، علاقتها مع المؤسسة الدينية، علاقتها مع السلطة.
هذا فضلاً عن رصد البنية السلوكية والقيمية للمجتمع وبنية الاعراف والتقاليد التي تراكمت عبر سنين طويلة، وامتزجت فيها عدة عوامل وأسس دخيلة أظهرها بواقع يخالف أو يتناقض مع السلوك الديني.
انّ هذا الثقل الاجتماعي لتجربة ومشروع الشهيد محمد محمد صادق الصدر، لا يعني وضعه كهدف نهائي يتطابق ويتساوى مع نمط آخر من أنماط واتجاهات العمل الاجتماعي كالاتجاه المحدود في أفقه التغييري أو الاتجاه الخيري ـ الإصلاحي الذي غالباً ما يعبر عن نفسه بمؤسسات أو هيئات اجتماعية تهدف إلى سد حاجات بعض القطاعات الاجتماعية، أو انها تعالج حالات طارئة في الساحة الاجتماعية، فليس خافياً أنّ مشروع الصدر الثاني عندما يأخذ هذا البعد الاجتماعي فهو يغاير تماماً هذا المعنى، لأنه في واقع الحال مشروع تغييري كلي تمتزج فيه كل ابعاد التغيير الإسلامي وصولاً إلى التغيير السياسي، وفق خطة ومنهج، إلاّ أنّ ظروفاً تأريخية وآنية فرضت هذا الثقل الاجتماعي للتحرك واكتشاف منهجه.
فالشهيد الصدر حتى لو كان متاحاً له أن يقتحم ابواب «السياسة» مباشرة، فهذا الاقتحام سيكون اقتحاماً فوقياً ما كان له أن يعالج من الواقع بالصورة التي حصلت.
ولا أن يظهر مشروعه بالشكل الذي حصل، فهو سيشكل ظاهرة محدودة من ظواهر العمل المرجعي السياسي لها حيزها المناصر المحدود أو قد يتاح له أن يشكل «احتجاجاً» سياسياً مرجعياً، اقرب إلى تسجيل الموقف الذي سينتهي به في واقع مثل الواقع العراقي إلى النهاية السريعة. ولذا فهو عندما فكر على مستوى الوطن وانجاز التغيير على مستوى كل الأمّة فسيكون «مضطراً» أن يتعامل اولاً مع البنى التحتية للعمل السياسي، أو الدور السياسي المباشر... وهي بنى اجتماعية يبقى التعامل معها بالضرورة من أصعب الصعوبات لأنّه سيخضع إلى اشكالية تاريخية وسيحتاج إلى جهد فكري وعملي كبير، وسيفرض خطاباً اجتماعياً لم يسعفه التاريخ المرجعي في العراق بسوابق كافية له، تتحول إلى ارضية انطلاق يمارس التطوير على ضوئها لانتاج خطابه الخاص، فهو عليه أن يخوض تجربة هذا الخطاب الاجتماعي، وأن يقدم نموذجاً تأسيسياً معاصراً له خاصاً بواقع العراق.
ففي خارج العراق كان هنالك خطاب الامام الخميني الذي يختلف في اتجاهاته العامة وطابعه الثوري، ومع هذا الاختلاف، فإنّه ـ أي خطاب الامام الخميني ـ شكل مجالاً اولياً للاستفادة منه لتأسيس خطابه الخاص، وبعبارة أدق فإنّ تجربة الإمام الخميني شكلت مجالاً أو نموذجاً يمكن الاستفادة منه بصورة إجمالية، أمّا في الدائرة العراقية التي قلنا انّ تاريخها لم يختزن سوابق خطابية تأسيسية ازاء الواقع الاجتماعي على الصعيد المرجعي، سيكون من الممكن ايضاً الاستفادة من نموذج الخطاب الصدري الأول الذي كان محدداً بظرف سياسي استثنائي وبعدد محدود من الوقائع منها خطابه إزاء ما عُرف باسم «وفود البيعة»، ومنها بياناته الثلاثة التي كانت بيانات مواجهة سياسية موجهة إلى المجتمع، ومنها خطاب نظري موجه إلى الوسط الطلابي الديني، إلاّ أنّه يحضر موضوع الأمّة والمجتمع، كموضوع خطير وملح في المشروع الديني بشكل عام، وهو ما عرف بـ (خطاب المحنة).
ويمكن القول انّ الشهيد محمد محمد صادق الصدر التقط الكثير من الاشارات على أهمية وخطورة اهمال المجال المجتمعي، والتقط اشارات اخرى ربما ضخمة فيما يمكن أن يؤديه المرجع الديني في هذا المجال، إلاّ أنّ هذه الاشارات والدلالات والمضامين تدخل في حيز التحفيز الذي يتحول إلى قناعة بضرورة التحرك على الأمّة، أما منهج هذا التحرك وآلياته وأساليبه وما يحتاج اليه من اضافات في المادة الفقهية، ومن خطط اجمالية، ومن اكتشاف لمداخله... فهو عمل ضخم قام به الشهيد محمد محمد صادق الصدر، بفترة زمنية قياسية، ولقد ساعدته ظروف العراق السياسية والفراغ القيادي المرجعي على ذلك. ولكن قبل الخوض في هذه التفاصيل، لابد من عودة إلى الوراء لمعرفة حجم الخلل التاريخي في هذا الاطار... ومن ثم حجم الصعوبة فيما تم انجازه على يد الشهيد محمد محمد صادق الصدر.
علاقة المرجع بالأمّة... إشكالية تاريخية
ففي السياق التاريخي العراقي المعاصر يمكن القول إنّ الشهيد محمد محمد صادق الصدر هو المرجع الوحيد الذي استطاع أن يخلق ظاهرة احضار الأمّة بالشكل الذي حصل منذ ثورة العشرين وتأسيس دولة العراق الحديثة، ولا يحتاج إلى تبيان بأنّ هذا القول، لا يصادر عمل الحركة الاسلامية في العراق بشقيها المنظم والمرجعي، ففي هذا المعنى يعتبر الشهيد الصدر الثاني كظاهرة تتويج طبيعي لجهود هذه الحركة وتاريخها... وهو انما استطاع ان يوظف نتائج هذا التاريخ من العمل توظيفاً سليماً... ومن ثم يضيف ابداعاته الخاصة ورؤاه الذاتية ليؤسس نمطاً جديداً من العمل، ومشروعاً جديداً، يعبأ فيه كل التاريخ الحركي وغير الحركي والممكنات الضائعة والمضيعة... لينطلق في تأسيس العمق الاجتماعي لهذا المشروع.. هذا العمق الذي خضع إلى اهمال تدريجي من المؤسسة الدينية، ومن ثم إلى اسقاط أو حذف خطير من برامجها وحركتها العامة.
وابتدأ هذا الاهمال من فترة ما بعد عودة المرجعية «المشروطة» بالابتعاد عن السياسة من المنفى «ايران»... إذ كان يفترض لهذه «الشروط» أن تكون مرحلية في العقل المرجعي... وهذه المرحلية تقتضي التواصل مع العمق الاجتماعي الذي كان أداةً للمواجهة بيد المرجعية في ثورة العشرين وما قبلها وما بعدها.
فلو كان هذا التخطيط «المرحلي» قائماً... لما حصل التدهور في نسق علاقة المؤسسة الدينية مع النسيج المجتمعي العراقي، والذي حصل بالضبط، هو تراكم اهمال هذا النسيج بسبب انعدام الحاجة اليه بعدما تم التخلي عن الدور السياسي.
إنّ هذا الواقع انتهى بالمرجعية إلى الانكفاء والتعاطي مع أضيق دائرة من دوائر الأمّة كما إنّ طبيعة هذا التعاطي انحسرت في الامور العبادية، واكتفت بآليات ارتباط روتينية فارغة من الهدفية التي تفرض نوايا التحشيد والتعبئة وشد الأمّة إلى قضايا معينة، فعندما تكون هذه القضايا غير موجودة أساساً في العقل المؤسسي الديني، فالتفكير سينصب على الدائرة الأضيق للدين.
بينما كانت معظم «المواقع الاجتماعية للقوى التي انضوت تحت راية الحركة الاسلامية وشكلت قاعدتها متباينة، ففضلاً عن سكان المدن، والقاعدة الواسعة التي يشكلها افراد العشائر، ضمت الحركة وجهاء المدن وزعماء العشائر والتجار الذين شكلوا غالباً القادة الاجتماعيين المباشرين لسكان المدن والعشائر، وحيث كان أفراد العشائر وسكان المدن اكثر ارتباطاً بالقيادة الدينية وأكثر انصياعاً لأوامرها من منطلقات عقائدية ايمانية فإنّ مواقف زعاماتهم الاجتماعية والسياسية تجاه العلماء والحركة الاسلامية كان يحددها في الغالب مصالحهم ومواقفهم الاجتماعية». [1]
إنّ هذه العلاقة ذات الطابع الشمولي مع كل فئات وشرائح المجتمع (سكان المدن، العشائر، التجار) انتابها تبدل جوهري خطير لمجرد تعيين الملك فيصل حاكماً للعراق، وبعد ذلك انحسار الدور السياسي لعلماء الدين، أو بالاحرى تخلّيهم عنه، فعندما نقول إنّ هذا التبدل أوصل العلاقات بين الأمّة والقيادة الدينية إلى «اضيق دائرة»، فإنّ هذه الدائرة هي دائرة «التجار» و«الزعامات الاجتماعية» التي يصف النص المتقدم موقفهم ازاء الحركة الإسلامية بأنّه محكوم إلى «مصالحهم ومواقعهم الاجتماعية».
فيما إنّ الدائرتين الاُخريين «سكان المدن» و«سكان العشيرة» الذين هم «اكثر ارتباطاً بالقيادة الدينية والأكثر انصياعاً لأوامرها من منطلقات عقائدية ـ ايمانية»، هما اللذان تصدعت العلاقة بينهما وبين القيادة الاسلامية.
وفيما أنّ علاقة المرجع بالتاجر بقيت في ايران ـ مثلاً ـ متميزة ايضاً، إلاّ أنها كانت تختلف اختلافاً جذرياً عما هي في العراق، فالتاجر في ايران بقي يلعب دوراً سياسياً مهماً طوال فترة القرن المنصرم، وانه سجل عبر «البازار» الايراني قوة فاعلة في المعادلة السياسية في البلاد إلى جانب الحوزة، ومثل هذا الدور للتاجر العراقي كان ولازال مفقوداً في الواقع السياسي العراقي، لظروف مختلفة ـ باستثناءات ضيقة طبعاً ـ إذ لم يلعب التاجر العراقي لأسباب عديدة دوراً سياسياً ملحوظاً في تركيبة البلاد السياسية، كما انه لم يشكل ثقلاً أو تكتلاً فاعلاً في هذ التركيبة، وربما ان احد اسباب غياب هذا التاجر عن المسرح السياسي يعود إلى انكفاء العمل المرجعي عن الواقع الاجتماعي والسياسي في العراق. فالتاجر الذي كان على علاقة «جيدة» مع المرجع، كان يشعر ربما بالاطمئنان لغياب هذا الدور السياسي من خلال رضا المرجع حول «دوره» المحدود في اعطاء الحقوق الشرعية.
ومن جهة اخرى، فان شيخ العشيرة الذي ضعفت علاقته بالمرجع وجد أنّ المجال المتاح أمامه هو أن يؤسس علاقاته مع السلطة بالشكل الذي يلحظ مصلحته، حتى في ظل الحكم الطائفي، وإبعاد الشيعة من مؤسسات الدولة.
«ومما لاشك فيه أنّ تفتت الشيعة زاد من صعوبة إشراكهم بصورة مناسبة في مؤسسات الدولة مثل البرلمان والحكومة والجيش والادارة، وبالرغم من أنّ الشيعة في المدن مثل بغداد والكاظمية تجمعهم العقيدة الشيعية بكل من شيوخ القبائل ورجال الدين في الأماكن المقدسة مثل كربلاء والنجف والكاظمية، إلاّ أنّ الطائفية الدينية لا يمكن مضاهاتها بالطائفية السياسية، حيث أنّ الطائفية الدينية للشيعة كانت تقوم على أسس دينية تختلف عن تلك التي يؤمن بها السنة، في مقابل ذلك استخدمت الطائفية السياسية الانتماء العنصري العرقي كأداة ووسيلة للسياسة، وكان أساس النشأة المختلفة للطائفية السياسية لدى الشيعة، هو أنّ شيوخ القبائل كانوا يستطيعون تحقيق أطماعهم ومصالحهم في اطار النظام السياسي القائم». [2]
لقد أدى هذا الواقع بالنهاية «الى تكريس المشاعر الطائفية والولاءات العشائرية في المجال السياسي العراقي بقوة في ربع القرن الأخير، وأدت في نهاية المطاف إلى هيمنة زمرة تستند إلى عوائل معينة من المدن «الريفية» للشمال الغربي العراقي على حزب البعث والحكومة العراقية.. هيمنة أساسها السياسة التآمرية والعصبية لتصفية المنافسين، وبدل أن تتطور الدولة لتتوسع في دائرة المحاصصة لجماعات وقطاعات أوسع، تحولت من تحالف جماعات إلى جماعة واحدة». [3]
إنّ هذا التفكك في العلاقة وطبيعته تواصل على ذات الوتيرة مع مرور الزمن، حيث بقيت علاقة المرجعية مقتصرة على دائرة «الوجهاء الاجتماعيين والتجار» فيما هي تراجعت وسارت على وتائر مغايرة مع الأوساط المجتمعية الاخرى.
فهي مع الوسط العشائري اتخذت وتيرة الاهمال التام واكتفت بحالات الارتباط «الروتيني» المقتصر على مناسبات عاشوراء أو إرسال بعض المبلغين الذين لا يهمهم أي وعي ديني أو سياسي بقدر ما تحركهم دوافع «معيشية» مصلحية في الأعم الاغلب.. وأمّا مع الأوساط الاخرى فإنّ الامر لا يقل سوءاً عن وسط العشيرة، حيث تركت هذه الأمّة مرتعاً للتيارات الفكرية اللادينية، ولعلّ من نتائجها البارزة طغيان المد الشيوعي الذي «استفز» فيما بعد مرجعية السيد محسن الحكيم ودخل في مواجهة «فتوائية» معه.
ومثلما إنّ العامل السياسي «لعب دوراً كبيراً في خلخلة وتفكك القاعدة الاجتماعية للحركة الاسلامية». [4] فإنّ العامل السياسي، أو العنوان السياسي هو الذي مثل المدخل الطبيعي للعودة في بناء هذه القاعدة الاجتماعية، وذلك بعد الشعور المتفاقم بالخطر الكبير الذي سيطر على نخبة من العلماء والمفكرين في عام 1957م وهو العام الذي أُسس فيه «حزب الدعوة الإسلامية».
كما إنّ هذ «الفرز العلاقاتي» بين المرجع والمجتمع، «التجار والوجهاء الاجتماعيين» من جهة والمرجع من جهة اخرى، أوحى بطابع «مصلحي»، أو اعطى العلاقة بينهما تفسير «المنفعة المتبادلة» حيث ان «التجار» هم مصدر التمويل الأساسي الذي تحتاجه المؤسسة الدينية في تسيير أمورها الذاتية.
على أية حال: في ظل هذا التفكك لبنى العلاقات بين المجتمع والمرجع، والتي لم يكن المجتمع مسؤولاً عنها... بل انه بخلاف ذلك قدم نموذجاً رائعاً في التضحية والبسالة في ثورة العشرين استجابة لواجبه الديني، ونداء القيادة الاسلامية، فإنّ مناهج الفهم النظري لواقعه اللاحق بعدما تم التخلي عنه اختلفت اختلافاً كبيراً بين مرجع وآخر، أو بعبارة أدق فإنّ منهج الفهم السلبي للمجتمع بعدما انخرط أبناؤه الباحثون عن دور سياسي لهم يعبرون فيه عن إرادتهم وانتمائهم في تيارات فكرية اخرى كان منهجاً مشككاً بالمجتمع، وسلبياً في النظرة إليه، وتصويره بأنه مجتمع لا يمكن الوثوق به من أجل تبني قضاياه.
وإنّ الناس بعيدون عن الدين فهم «لا يطيعوننا لو تحركنا بعنف، الناس يكذبون... انهم عبيد الشهوات... ولا يفتحون صدورهم للدين» [5]، على حد قول أحد المراجع.
وفي مقابل هذه النظرة السلبية للمجتمع كان المرجع الشهيد محمد باقر الصدر يذهب بهذه النظرة ازاءه إلى ذروة نقيضها أي ذروة الايجابية فهو من وجهة نظره، المجتمع ضحية، واذا كان ابتعاده عن الدين يمثل جريمة فهي «جريمتنا قبل أن تكون جريمتهم» [6] على حد قوله.
وفي وسط تعدد مناهج الفهم النظري للمجتمع من قبل المرجع، لم يكن من السهل اطلاقاً تصور فهم نظري بإمكانه أن يزيل تصدع العلاقة واعادتها مع أوسع دائرة من الأمّة، كما أنّ المهمة الأصعب تكمن في تحويل هذا الفهم النظري إلى واقع عملي ـ تطبيقي على الأرض.
وخلاصة ما يمكن قوله هنا أنّ إشكالية علاقة المرجع بالمجتمع تبلورت عبر عدة أنماط:
1ـ علاقة المرجع بالتاجر بقيت علاقة جيدة، لكنها فارغة من البعد السياسي.
2ـ علاقة المرجع برئيس العشيرة بقيت «مقبولة» إلاّ أنها جردت هي الاخرى من بعدها السياسي، الأمر الذي اضطر رئيس العشيرة أن يبحث عن خيارات اخرى لتحقيق دوره.
3ـ علاقة المرجع بـ «الوجيه الاجتماعي» اندرجت ايضاً ضمن نطاق «المقبولية».. وأيضاً بعيداً عن مجال التنسيق السياسي.
4ـ أمّا النمط الاخير من العلاقة، فتمثل بعلاقة المرجع مع سكان المدن وأفراد العشيرة، فهذا النمط هو الذي انتابه النكوص الخطير والذي أبرز الشكل الاخطر لتجلي الإشكالية التاريخية بين المرجع والأمّة.
نقول لقد وعى الشهيد محمد الصدر خطورة هذه الاشكالية في العلاقة بين الفقيه والمجتمع، وإنّ بعض نصوصه يمكن أن تعكس بشكل واقعي هذا الوعي فهو يقول في هذا الاطار:
ـ «إنّ أجيال المرجعية كانت تتناساهم وتتغافل عن أمورهم «أي العشائر»، ويكفينا في ذلك أنّ المشهور هو الحكم القائل: لا يجب على الفقيه أن يذهب إلى المكلّف ويبلغه حكمه بل يجب على المكلّف نفسه أن يأتي إلى الفقيه ويسأله.. نعم تصح هذه المقولة اذا توجه السؤال للفقيه وجب عليه حينئذ الجواب، أما أنّه يجب على الفقيه طرق باب المكلف بدون سؤال وأن يعطيه حكماً فهذا لا، وهذا مشهور، إذن فقد كان هنالك نحو من المقاطعة والانفصال النفسي والاجتماعي بين الحوزة والمرجعية من ناحية، وبين العشائر من ناحية اخرى». [7]
ـ «إنّ الذي كان يذهب اليهم «العشائر» يتصف بإحدى صفتين ناقصتين تحول دون حل المشاكل العشائرية:
1ـ إمّا أن يكون قليل التفقّه وإمّا هو مجرّد خطيب حسني «روزه خون».
2ـ وإمّا أن يكون ممن يحمل همّ دنياه على دينه فيكون ذهابه لأجل الحصول على مبلغ من المال قبل التفقه والهداية، وأمّا من كان متفقهاً ومخلصاً فقليل جداً في العهود السابقة من ذهب اليهم «أقصد العشائر»... وهذا ما أوجد سوء الظن عند العشائر بالحوزة الشريفة وبمن تُرسلهم اليهم، وللحقيقة إنّ الحوزة لا ترسل أحداً، وانما يذهب بعض الاشخاص لقضاء مصالحهم الخاصة وليس أكثر من ذلك فيسيئون أكثر مما يحسنون». [8]
ـ إننا قد اعتدنا من تلك السياسة «المرجعية أن نحافظ على أربعة أشياء تقليدية لا غير: صلاة الجمعة، الاستخارة، الفتوى، الدرس». [9]
إنّ هذه النصوص الثلاثة للشهيد محمد محمد صادق الصدر توضح ـ كما أشرناـ أبنية وعيه لهذه الإشكالية الخطيرة.. فهذا الوعي يحيط:
أولاً: بأساس الإشكالية «الفقهية»، وكذلك مقولاتها «الفقهية».
ثانياً: وأنّه يحيط بما أسميناه سلفاً إيحاء «المنفعة» الذي حكم وتيرة علاقة المرجع أو المبلغين بالمجتمع.
ثالثاً: إنّه يحيط بواقع الخلل في جهاز اتصال المرجع، فهذا الجهاز غير موجود أصلاً واذا ما وجد فهو جهاز غير فعال ومحكوم في معظمه إلى الاساس المصلحي، أو أساس عدم امتلاك الوعي الإسلامي المطلوب.
إشكالية العلاقة والأثر السياسي الداخلي
إنّ الإشكال التاريخي في اطار علاقة المرجع بالمجتمع بالاضافة إلى دوره في تغييب الاسلام عن مسرح الحركة السياسية التاريخية خلال أكثر من ثلاثين عاماً «1923 ـ 1957»، ومن ثم فترة اعادة اصلاح الواقع عبر العمل الحزبي السري التي استغرقت اكثر من عشرين عاماً اخرى، فهو كان مسؤولاً ايضاً عن بطء حركة الوعي الديني في أوساط المجتمع... أو بالاحرى إنه أدى إلى حالة شبيهة بحالة انعدام هذا الوعي، فلقد تحولت فترة ثورة العشرين إلى تاريخ بالنسبة للاجيال اللاحقة... تاريخ لا يجد آليات تفريغه في الواقع واسقاطه فيه، أو مواصلته، الأمر الذي ادى إلى وقوع العراق، كل العراق في معادلة سياسية خطيرة، صحيح انّ الفراغ الذي نجم من انسحاب القيادة الإسلامية ملأته تيارات سياسية علمانية اخرى، وان الجزء المسيس من المجتمع انخرط في هذه التيارات.. إلاّ أنّ كل هذه التيارات لم تنجح في نقل المجتمع إلى حالة تعبير مشتركة وشمولية عن ارادته السياسية الحقيقية، فالحزب الشيوعي حقق نفوذاً اجتماعياً محدداً عبأه واستدعاه في ممارسته الساسية، إلاّ أنّ هذه الممارسة حكمها منهج سياسي خاص وظروف سياسية خاصة... وهي بالتالي تعبر عن ارادته كحزب له نفوذ محدد، يمكن اعتباره «الذروة» فيما يمكن أن يصل إليه في بلد مثل العراق يبقى حتى في حال انعدام الوعي الديني له عمقه الخاص في الواقع...
ولذا فان هذا الحزب لم يستطع ان ينجز منعطفاً يختصر فيه ارادة غالبية الشارع العراقي، انما هو عكس ارادة اعضائه والمنتسبين اليه.. وهو بالتالي لم يمسك بالسلطة... ولم يعبر عن ارادة الأمّة في مسار الصراع وباختصار انه لم يقد ثورة ضد السلطات الحاكمة.
وكذلك الحال بالنسبة للتيار القومي عندما كان في موقع المعارضة، أمّا عندما أصبح في موقع السلطة فإنّه لجأ إلى آليات الإكراه في التعبئة.
لقد بقي التاريخ السياسي العراقي المعاصر مأزوماً بواقع اللاتكافؤ في توازن الصراع الداخلي ومسرحاً لحركة من الانقلابات العسكرية والمؤامرات السرية... وبقيت الأمّة تعبر عن ارادتها «لاسيما الجمهور الشيعي» عبر الانخراط الطوعي أو الجبري بالسلطة، أو بالاحزاب الاخرى، وكل ذلك حال دون فعل جمعي مشترك للمجتمع، ينسجم مع نظام سياسي يمثل فعلاً خيار هذا المجتمع بشكل متوازن، لاسيما وان انسحاب المرجعية عن الفعل السياسي واهمالها للمجتمع كرس من واقع «النظام الطائفي» وتركاته النفسية في الحس العام، ومن هنا قد لا تكون من الصدف أنّ القرن الماضي شهد ثلاثة أحداث وثورات، هي ثورة العشرين، وانتفاضة عام 1991م، وظاهرة الصدر الثاني... وهذه الأحداث والثورات الثلاث هي على علاقة مباشرة بدور المرجع وعلاقته بالمجتمع، وما عدا هذه الأحداث والثورات الثلاث لم يشهد القرن الماضي، ثورة أو حدثاً بمستواها ما عدا أحداث 1979 ـ 1980، وهي أحداث ذات علاقة بالمرجعية والحركة الاسلامية، فلم تفلح القوى العلمانية في العراق في انجاز حدث ثوري يمثل ارادة الأمّة أو الجزء الاعظم من ارادتها، فدور هذه القوىـ باستثناء الحالة الشيوعية التي ناقشناها سلفاً ـ كان عبارة عن انقلابات عسكرية تمارس انماط علاقاتها مع المجتمع بشكل اكراهي، وصل ذروته بعد وصول صدام حسين إلى السلطة.
إلى ماذا تشير هذه «المفارقات» في تاريخ العراق السياسي المعاصر؟ وما هو مضمون علاقتها بالصراع السياسي اللامتوازن الذي شهده هذا التاريخ؟
إنّ الاجابة على هذه التساؤلات ترتبط جوهرياً باشكالية العلاقة بين المرجع والأمّة، فعندما كانت هذه العلاقة طبيعية انتجت ثورة العشرين، وعندما عاد الاحساس بضرورتها وتم التأسيس لها من جديد وتوجت فيما بعد بـ «وفود البيعة» للمرجع الشهيد آية الله الصدر الأوّل... اثمرت تراكمات هذا المقطع من المواجهة ولو بعد حين، انتفاضة 1991م، وعندما تصدى المرجع الشهيد آية الله محمد محمد صادق الصدر حصلت ظاهرة الالتفاف المليونية حوله.
ومن هنا يمكن اعتبار «التاريخ الثوري» للعراق في القرن الماضي هو نتاج اندكاك المرجعية بواقع الأمّة... وان المأزق السياسي الخطير له وغياب حالة التوازن في الصراع الداخلي بما يغيب ارادة الأمّة نابع في اساسه من تلك الاشكالية التاريخية بين المرجعية والمجتمع والتي برزت ما بعد قيام دولة العراق الحديث وابتعاد المرجعية عن الواقع السياسي، ومن ثم الواقع الاجتماعي.
ولذا فإنّ اصرار الشهيد محمد محمد صادق الصدر على معالجة هذه الاشكالية بشكل لم يسبق إليه أحد ربما قام في أحد جوانبه على اختزان هذا المعنى السياسي الخطير في الواقع العراقي الداخلي... انه ادرك أنّ الفكر اللاإسلامي في العراق لم يفلح أن يقود المجتمع إلى حالة ثورية واحدة خلال قرن كامل، بحيث تقود هذه الحالة إلى ممارسة سياسية داخلية سليمة والى تنافس سياسي ايجابي ونظام سياسي عام نابع فعلاً من تنوع هذا المجتمع الطوائفي والقومي ومحقق لارادته.
فيما إنّ الفقيه والحركة الاسلامية استطاعا أن يقودا هذا المجتمع إلى ثورات أو تحشيد مجتمعي كبير، ولو انّ هذا النجاح لم يستطع بالنهاية الحسم وايجاد مثل هذا النظام السياسي، إلا انه على أقل تقدير عبر عن ارادة المجتمع وطموحه نحو هذا الهدف السياسي، وهذا ما دعا أحد الكتاب إلى القول «من أين جاء السيد محمد محمد صادق الصدر بتلك الرهافة الحسية والوعي بالضرورة، وبهذا القدر من الشجاعة الخارقة حين قرر بعد الانتفاضة مباشرة الخروج إلى منعطف الالغاء المتبادل ومن طرف واحد؟»، ويضيف: «فإنّ ما أقدم عليه وما كرّسه محمد الصدر هو سلوك جديد ومبدع يستحق أن يسجل كعلامة فاصلة وكبداية لعهد تاريخي جديد». [10]
إنّ ظروف تجربة الشهيد محمد محمد صادق الصدر ما كانت تسمح له أن يعبر عن هذا الفهم المختزن حول آليات الصراع السياسي الداخلي وتفصيلاته، لأنّ مدخله إلى التغيير افترض سياسة خاصة «غير صِدامية» مع السلطة الحاكمة في البداية، وما كان متاحاً له هو أن يتحدث بنظام الاشارة السياسية، أو أنّ خطابه السياسي كان يركز على محاور خارجية للحركة السياسية ازاء العراق، إلاّ إنّ السياق العام لمشروعه التغييري، وثقل هذا المضمون الاجتماعي، ووعيه لخطورة انعزال الفقيه عن الأمّة وعن السياسة وتعاطيه السياسي في مجالات اخرى.. كل ذلك ينم عن قراءة مركزة لواقع الخلل في معادلة الصراع ـ السياسي الداخلي، ومعادلة السلطة من جهة والأمّة من جهة اخرى، وغياب توازن الارادة القائم في هذه المعادلة، وبعبارة اخرى إنّ الخطوط العامة، والفرضيات الأساسية لمشروع الشهيد محمد محمد صادق الصدر تعبر عن معنى الاستيعاب الكامل لهذا الخلل المتمثل بتغييب ارادة الأمّة، والسعي إلى ايجاد نظام سياسي داخلي متوازن يحقق هذه الارادة، وذلك لا يكون إلاّ عبر الاسلام، وفق وقائع تاريخ قرن كامل من عمر العراق. فوفق هذه الخطوط والفرضيات التي احضرها الصدر الثاني بنصوصه وحركته، تتجلى حالة من الوعي الكامل بآليات الصراع السياسي الداخلي، سواء احضرها بنصوص خطابه ام لم يحضرها إذ أنّ هذه الآليات هي بالنهاية بنى تحتية ـ تفصيلية ـ فرعية للفرضيات الأساسية للمشروع على الباحث أن ينقب عنها في سياق محاولة استيعابه لهذا المشروع ونتائجه وآثاره.
وعي الإشكالية التاريخية.. والتأسيس الجديد
يمكن القول انّ الثقل الأساسي الذي اتخذته تجربة الشهيد محمد محمد صادق الصدر في الواقع العراقي، هو الثقل الاجتماعي، فلقد طغى هذا الجانب الاجتماعي على الكثير من مضامينها وآليات وأساليب عملها وحتى على ما يمايزها ـ اي هذه التجربة - عن غيرها من تجارب العمل والتحرك المرجعي. وكذلك في وعيها المسبق لضرورة رصد الحركة الاجتماعية وعلاقاتها بصورة عامة أي: علاقتها الداخلية، علاقتها مع المؤسسة الدينية، علاقتها مع السلطة.
هذا فضلاً عن رصد البنية السلوكية والقيمية للمجتمع وبنية الاعراف والتقاليد التي تراكمت عبر سنين طويلة، وامتزجت فيها عدة عوامل وأسس دخيلة أظهرها بواقع يخالف أو يتناقض مع السلوك الديني.
انّ هذا الثقل الاجتماعي لتجربة ومشروع الشهيد محمد محمد صادق الصدر، لا يعني وضعه كهدف نهائي يتطابق ويتساوى مع نمط آخر من أنماط واتجاهات العمل الاجتماعي كالاتجاه المحدود في أفقه التغييري أو الاتجاه الخيري ـ الإصلاحي الذي غالباً ما يعبر عن نفسه بمؤسسات أو هيئات اجتماعية تهدف إلى سد حاجات بعض القطاعات الاجتماعية، أو انها تعالج حالات طارئة في الساحة الاجتماعية، فليس خافياً أنّ مشروع الصدر الثاني عندما يأخذ هذا البعد الاجتماعي فهو يغاير تماماً هذا المعنى، لأنه في واقع الحال مشروع تغييري كلي تمتزج فيه كل ابعاد التغيير الإسلامي وصولاً إلى التغيير السياسي، وفق خطة ومنهج، إلاّ أنّ ظروفاً تأريخية وآنية فرضت هذا الثقل الاجتماعي للتحرك واكتشاف منهجه.
فالشهيد الصدر حتى لو كان متاحاً له أن يقتحم ابواب «السياسة» مباشرة، فهذا الاقتحام سيكون اقتحاماً فوقياً ما كان له أن يعالج من الواقع بالصورة التي حصلت.
ولا أن يظهر مشروعه بالشكل الذي حصل، فهو سيشكل ظاهرة محدودة من ظواهر العمل المرجعي السياسي لها حيزها المناصر المحدود أو قد يتاح له أن يشكل «احتجاجاً» سياسياً مرجعياً، اقرب إلى تسجيل الموقف الذي سينتهي به في واقع مثل الواقع العراقي إلى النهاية السريعة. ولذا فهو عندما فكر على مستوى الوطن وانجاز التغيير على مستوى كل الأمّة فسيكون «مضطراً» أن يتعامل اولاً مع البنى التحتية للعمل السياسي، أو الدور السياسي المباشر... وهي بنى اجتماعية يبقى التعامل معها بالضرورة من أصعب الصعوبات لأنّه سيخضع إلى اشكالية تاريخية وسيحتاج إلى جهد فكري وعملي كبير، وسيفرض خطاباً اجتماعياً لم يسعفه التاريخ المرجعي في العراق بسوابق كافية له، تتحول إلى ارضية انطلاق يمارس التطوير على ضوئها لانتاج خطابه الخاص، فهو عليه أن يخوض تجربة هذا الخطاب الاجتماعي، وأن يقدم نموذجاً تأسيسياً معاصراً له خاصاً بواقع العراق.
ففي خارج العراق كان هنالك خطاب الامام الخميني الذي يختلف في اتجاهاته العامة وطابعه الثوري، ومع هذا الاختلاف، فإنّه ـ أي خطاب الامام الخميني ـ شكل مجالاً اولياً للاستفادة منه لتأسيس خطابه الخاص، وبعبارة أدق فإنّ تجربة الإمام الخميني شكلت مجالاً أو نموذجاً يمكن الاستفادة منه بصورة إجمالية، أمّا في الدائرة العراقية التي قلنا انّ تاريخها لم يختزن سوابق خطابية تأسيسية ازاء الواقع الاجتماعي على الصعيد المرجعي، سيكون من الممكن ايضاً الاستفادة من نموذج الخطاب الصدري الأول الذي كان محدداً بظرف سياسي استثنائي وبعدد محدود من الوقائع منها خطابه إزاء ما عُرف باسم «وفود البيعة»، ومنها بياناته الثلاثة التي كانت بيانات مواجهة سياسية موجهة إلى المجتمع، ومنها خطاب نظري موجه إلى الوسط الطلابي الديني، إلاّ أنّه يحضر موضوع الأمّة والمجتمع، كموضوع خطير وملح في المشروع الديني بشكل عام، وهو ما عرف بـ (خطاب المحنة).
ويمكن القول انّ الشهيد محمد محمد صادق الصدر التقط الكثير من الاشارات على أهمية وخطورة اهمال المجال المجتمعي، والتقط اشارات اخرى ربما ضخمة فيما يمكن أن يؤديه المرجع الديني في هذا المجال، إلاّ أنّ هذه الاشارات والدلالات والمضامين تدخل في حيز التحفيز الذي يتحول إلى قناعة بضرورة التحرك على الأمّة، أما منهج هذا التحرك وآلياته وأساليبه وما يحتاج اليه من اضافات في المادة الفقهية، ومن خطط اجمالية، ومن اكتشاف لمداخله... فهو عمل ضخم قام به الشهيد محمد محمد صادق الصدر، بفترة زمنية قياسية، ولقد ساعدته ظروف العراق السياسية والفراغ القيادي المرجعي على ذلك. ولكن قبل الخوض في هذه التفاصيل، لابد من عودة إلى الوراء لمعرفة حجم الخلل التاريخي في هذا الاطار... ومن ثم حجم الصعوبة فيما تم انجازه على يد الشهيد محمد محمد صادق الصدر.
علاقة المرجع بالأمّة... إشكالية تاريخية
ففي السياق التاريخي العراقي المعاصر يمكن القول إنّ الشهيد محمد محمد صادق الصدر هو المرجع الوحيد الذي استطاع أن يخلق ظاهرة احضار الأمّة بالشكل الذي حصل منذ ثورة العشرين وتأسيس دولة العراق الحديثة، ولا يحتاج إلى تبيان بأنّ هذا القول، لا يصادر عمل الحركة الاسلامية في العراق بشقيها المنظم والمرجعي، ففي هذا المعنى يعتبر الشهيد الصدر الثاني كظاهرة تتويج طبيعي لجهود هذه الحركة وتاريخها... وهو انما استطاع ان يوظف نتائج هذا التاريخ من العمل توظيفاً سليماً... ومن ثم يضيف ابداعاته الخاصة ورؤاه الذاتية ليؤسس نمطاً جديداً من العمل، ومشروعاً جديداً، يعبأ فيه كل التاريخ الحركي وغير الحركي والممكنات الضائعة والمضيعة... لينطلق في تأسيس العمق الاجتماعي لهذا المشروع.. هذا العمق الذي خضع إلى اهمال تدريجي من المؤسسة الدينية، ومن ثم إلى اسقاط أو حذف خطير من برامجها وحركتها العامة.
وابتدأ هذا الاهمال من فترة ما بعد عودة المرجعية «المشروطة» بالابتعاد عن السياسة من المنفى «ايران»... إذ كان يفترض لهذه «الشروط» أن تكون مرحلية في العقل المرجعي... وهذه المرحلية تقتضي التواصل مع العمق الاجتماعي الذي كان أداةً للمواجهة بيد المرجعية في ثورة العشرين وما قبلها وما بعدها.
فلو كان هذا التخطيط «المرحلي» قائماً... لما حصل التدهور في نسق علاقة المؤسسة الدينية مع النسيج المجتمعي العراقي، والذي حصل بالضبط، هو تراكم اهمال هذا النسيج بسبب انعدام الحاجة اليه بعدما تم التخلي عن الدور السياسي.
إنّ هذا الواقع انتهى بالمرجعية إلى الانكفاء والتعاطي مع أضيق دائرة من دوائر الأمّة كما إنّ طبيعة هذا التعاطي انحسرت في الامور العبادية، واكتفت بآليات ارتباط روتينية فارغة من الهدفية التي تفرض نوايا التحشيد والتعبئة وشد الأمّة إلى قضايا معينة، فعندما تكون هذه القضايا غير موجودة أساساً في العقل المؤسسي الديني، فالتفكير سينصب على الدائرة الأضيق للدين.
بينما كانت معظم «المواقع الاجتماعية للقوى التي انضوت تحت راية الحركة الاسلامية وشكلت قاعدتها متباينة، ففضلاً عن سكان المدن، والقاعدة الواسعة التي يشكلها افراد العشائر، ضمت الحركة وجهاء المدن وزعماء العشائر والتجار الذين شكلوا غالباً القادة الاجتماعيين المباشرين لسكان المدن والعشائر، وحيث كان أفراد العشائر وسكان المدن اكثر ارتباطاً بالقيادة الدينية وأكثر انصياعاً لأوامرها من منطلقات عقائدية ايمانية فإنّ مواقف زعاماتهم الاجتماعية والسياسية تجاه العلماء والحركة الاسلامية كان يحددها في الغالب مصالحهم ومواقفهم الاجتماعية». [1]
إنّ هذه العلاقة ذات الطابع الشمولي مع كل فئات وشرائح المجتمع (سكان المدن، العشائر، التجار) انتابها تبدل جوهري خطير لمجرد تعيين الملك فيصل حاكماً للعراق، وبعد ذلك انحسار الدور السياسي لعلماء الدين، أو بالاحرى تخلّيهم عنه، فعندما نقول إنّ هذا التبدل أوصل العلاقات بين الأمّة والقيادة الدينية إلى «اضيق دائرة»، فإنّ هذه الدائرة هي دائرة «التجار» و«الزعامات الاجتماعية» التي يصف النص المتقدم موقفهم ازاء الحركة الإسلامية بأنّه محكوم إلى «مصالحهم ومواقعهم الاجتماعية».
فيما إنّ الدائرتين الاُخريين «سكان المدن» و«سكان العشيرة» الذين هم «اكثر ارتباطاً بالقيادة الدينية والأكثر انصياعاً لأوامرها من منطلقات عقائدية ـ ايمانية»، هما اللذان تصدعت العلاقة بينهما وبين القيادة الاسلامية.
وفيما أنّ علاقة المرجع بالتاجر بقيت في ايران ـ مثلاً ـ متميزة ايضاً، إلاّ أنها كانت تختلف اختلافاً جذرياً عما هي في العراق، فالتاجر في ايران بقي يلعب دوراً سياسياً مهماً طوال فترة القرن المنصرم، وانه سجل عبر «البازار» الايراني قوة فاعلة في المعادلة السياسية في البلاد إلى جانب الحوزة، ومثل هذا الدور للتاجر العراقي كان ولازال مفقوداً في الواقع السياسي العراقي، لظروف مختلفة ـ باستثناءات ضيقة طبعاً ـ إذ لم يلعب التاجر العراقي لأسباب عديدة دوراً سياسياً ملحوظاً في تركيبة البلاد السياسية، كما انه لم يشكل ثقلاً أو تكتلاً فاعلاً في هذ التركيبة، وربما ان احد اسباب غياب هذا التاجر عن المسرح السياسي يعود إلى انكفاء العمل المرجعي عن الواقع الاجتماعي والسياسي في العراق. فالتاجر الذي كان على علاقة «جيدة» مع المرجع، كان يشعر ربما بالاطمئنان لغياب هذا الدور السياسي من خلال رضا المرجع حول «دوره» المحدود في اعطاء الحقوق الشرعية.
ومن جهة اخرى، فان شيخ العشيرة الذي ضعفت علاقته بالمرجع وجد أنّ المجال المتاح أمامه هو أن يؤسس علاقاته مع السلطة بالشكل الذي يلحظ مصلحته، حتى في ظل الحكم الطائفي، وإبعاد الشيعة من مؤسسات الدولة.
«ومما لاشك فيه أنّ تفتت الشيعة زاد من صعوبة إشراكهم بصورة مناسبة في مؤسسات الدولة مثل البرلمان والحكومة والجيش والادارة، وبالرغم من أنّ الشيعة في المدن مثل بغداد والكاظمية تجمعهم العقيدة الشيعية بكل من شيوخ القبائل ورجال الدين في الأماكن المقدسة مثل كربلاء والنجف والكاظمية، إلاّ أنّ الطائفية الدينية لا يمكن مضاهاتها بالطائفية السياسية، حيث أنّ الطائفية الدينية للشيعة كانت تقوم على أسس دينية تختلف عن تلك التي يؤمن بها السنة، في مقابل ذلك استخدمت الطائفية السياسية الانتماء العنصري العرقي كأداة ووسيلة للسياسة، وكان أساس النشأة المختلفة للطائفية السياسية لدى الشيعة، هو أنّ شيوخ القبائل كانوا يستطيعون تحقيق أطماعهم ومصالحهم في اطار النظام السياسي القائم». [2]
لقد أدى هذا الواقع بالنهاية «الى تكريس المشاعر الطائفية والولاءات العشائرية في المجال السياسي العراقي بقوة في ربع القرن الأخير، وأدت في نهاية المطاف إلى هيمنة زمرة تستند إلى عوائل معينة من المدن «الريفية» للشمال الغربي العراقي على حزب البعث والحكومة العراقية.. هيمنة أساسها السياسة التآمرية والعصبية لتصفية المنافسين، وبدل أن تتطور الدولة لتتوسع في دائرة المحاصصة لجماعات وقطاعات أوسع، تحولت من تحالف جماعات إلى جماعة واحدة». [3]
إنّ هذا التفكك في العلاقة وطبيعته تواصل على ذات الوتيرة مع مرور الزمن، حيث بقيت علاقة المرجعية مقتصرة على دائرة «الوجهاء الاجتماعيين والتجار» فيما هي تراجعت وسارت على وتائر مغايرة مع الأوساط المجتمعية الاخرى.
فهي مع الوسط العشائري اتخذت وتيرة الاهمال التام واكتفت بحالات الارتباط «الروتيني» المقتصر على مناسبات عاشوراء أو إرسال بعض المبلغين الذين لا يهمهم أي وعي ديني أو سياسي بقدر ما تحركهم دوافع «معيشية» مصلحية في الأعم الاغلب.. وأمّا مع الأوساط الاخرى فإنّ الامر لا يقل سوءاً عن وسط العشيرة، حيث تركت هذه الأمّة مرتعاً للتيارات الفكرية اللادينية، ولعلّ من نتائجها البارزة طغيان المد الشيوعي الذي «استفز» فيما بعد مرجعية السيد محسن الحكيم ودخل في مواجهة «فتوائية» معه.
ومثلما إنّ العامل السياسي «لعب دوراً كبيراً في خلخلة وتفكك القاعدة الاجتماعية للحركة الاسلامية». [4] فإنّ العامل السياسي، أو العنوان السياسي هو الذي مثل المدخل الطبيعي للعودة في بناء هذه القاعدة الاجتماعية، وذلك بعد الشعور المتفاقم بالخطر الكبير الذي سيطر على نخبة من العلماء والمفكرين في عام 1957م وهو العام الذي أُسس فيه «حزب الدعوة الإسلامية».
كما إنّ هذ «الفرز العلاقاتي» بين المرجع والمجتمع، «التجار والوجهاء الاجتماعيين» من جهة والمرجع من جهة اخرى، أوحى بطابع «مصلحي»، أو اعطى العلاقة بينهما تفسير «المنفعة المتبادلة» حيث ان «التجار» هم مصدر التمويل الأساسي الذي تحتاجه المؤسسة الدينية في تسيير أمورها الذاتية.
على أية حال: في ظل هذا التفكك لبنى العلاقات بين المجتمع والمرجع، والتي لم يكن المجتمع مسؤولاً عنها... بل انه بخلاف ذلك قدم نموذجاً رائعاً في التضحية والبسالة في ثورة العشرين استجابة لواجبه الديني، ونداء القيادة الاسلامية، فإنّ مناهج الفهم النظري لواقعه اللاحق بعدما تم التخلي عنه اختلفت اختلافاً كبيراً بين مرجع وآخر، أو بعبارة أدق فإنّ منهج الفهم السلبي للمجتمع بعدما انخرط أبناؤه الباحثون عن دور سياسي لهم يعبرون فيه عن إرادتهم وانتمائهم في تيارات فكرية اخرى كان منهجاً مشككاً بالمجتمع، وسلبياً في النظرة إليه، وتصويره بأنه مجتمع لا يمكن الوثوق به من أجل تبني قضاياه.
وإنّ الناس بعيدون عن الدين فهم «لا يطيعوننا لو تحركنا بعنف، الناس يكذبون... انهم عبيد الشهوات... ولا يفتحون صدورهم للدين» [5]، على حد قول أحد المراجع.
وفي مقابل هذه النظرة السلبية للمجتمع كان المرجع الشهيد محمد باقر الصدر يذهب بهذه النظرة ازاءه إلى ذروة نقيضها أي ذروة الايجابية فهو من وجهة نظره، المجتمع ضحية، واذا كان ابتعاده عن الدين يمثل جريمة فهي «جريمتنا قبل أن تكون جريمتهم» [6] على حد قوله.
وفي وسط تعدد مناهج الفهم النظري للمجتمع من قبل المرجع، لم يكن من السهل اطلاقاً تصور فهم نظري بإمكانه أن يزيل تصدع العلاقة واعادتها مع أوسع دائرة من الأمّة، كما أنّ المهمة الأصعب تكمن في تحويل هذا الفهم النظري إلى واقع عملي ـ تطبيقي على الأرض.
وخلاصة ما يمكن قوله هنا أنّ إشكالية علاقة المرجع بالمجتمع تبلورت عبر عدة أنماط:
1ـ علاقة المرجع بالتاجر بقيت علاقة جيدة، لكنها فارغة من البعد السياسي.
2ـ علاقة المرجع برئيس العشيرة بقيت «مقبولة» إلاّ أنها جردت هي الاخرى من بعدها السياسي، الأمر الذي اضطر رئيس العشيرة أن يبحث عن خيارات اخرى لتحقيق دوره.
3ـ علاقة المرجع بـ «الوجيه الاجتماعي» اندرجت ايضاً ضمن نطاق «المقبولية».. وأيضاً بعيداً عن مجال التنسيق السياسي.
4ـ أمّا النمط الاخير من العلاقة، فتمثل بعلاقة المرجع مع سكان المدن وأفراد العشيرة، فهذا النمط هو الذي انتابه النكوص الخطير والذي أبرز الشكل الاخطر لتجلي الإشكالية التاريخية بين المرجع والأمّة.
نقول لقد وعى الشهيد محمد الصدر خطورة هذه الاشكالية في العلاقة بين الفقيه والمجتمع، وإنّ بعض نصوصه يمكن أن تعكس بشكل واقعي هذا الوعي فهو يقول في هذا الاطار:
ـ «إنّ أجيال المرجعية كانت تتناساهم وتتغافل عن أمورهم «أي العشائر»، ويكفينا في ذلك أنّ المشهور هو الحكم القائل: لا يجب على الفقيه أن يذهب إلى المكلّف ويبلغه حكمه بل يجب على المكلّف نفسه أن يأتي إلى الفقيه ويسأله.. نعم تصح هذه المقولة اذا توجه السؤال للفقيه وجب عليه حينئذ الجواب، أما أنّه يجب على الفقيه طرق باب المكلف بدون سؤال وأن يعطيه حكماً فهذا لا، وهذا مشهور، إذن فقد كان هنالك نحو من المقاطعة والانفصال النفسي والاجتماعي بين الحوزة والمرجعية من ناحية، وبين العشائر من ناحية اخرى». [7]
ـ «إنّ الذي كان يذهب اليهم «العشائر» يتصف بإحدى صفتين ناقصتين تحول دون حل المشاكل العشائرية:
1ـ إمّا أن يكون قليل التفقّه وإمّا هو مجرّد خطيب حسني «روزه خون».
2ـ وإمّا أن يكون ممن يحمل همّ دنياه على دينه فيكون ذهابه لأجل الحصول على مبلغ من المال قبل التفقه والهداية، وأمّا من كان متفقهاً ومخلصاً فقليل جداً في العهود السابقة من ذهب اليهم «أقصد العشائر»... وهذا ما أوجد سوء الظن عند العشائر بالحوزة الشريفة وبمن تُرسلهم اليهم، وللحقيقة إنّ الحوزة لا ترسل أحداً، وانما يذهب بعض الاشخاص لقضاء مصالحهم الخاصة وليس أكثر من ذلك فيسيئون أكثر مما يحسنون». [8]
ـ إننا قد اعتدنا من تلك السياسة «المرجعية أن نحافظ على أربعة أشياء تقليدية لا غير: صلاة الجمعة، الاستخارة، الفتوى، الدرس». [9]
إنّ هذه النصوص الثلاثة للشهيد محمد محمد صادق الصدر توضح ـ كما أشرناـ أبنية وعيه لهذه الإشكالية الخطيرة.. فهذا الوعي يحيط:
أولاً: بأساس الإشكالية «الفقهية»، وكذلك مقولاتها «الفقهية».
ثانياً: وأنّه يحيط بما أسميناه سلفاً إيحاء «المنفعة» الذي حكم وتيرة علاقة المرجع أو المبلغين بالمجتمع.
ثالثاً: إنّه يحيط بواقع الخلل في جهاز اتصال المرجع، فهذا الجهاز غير موجود أصلاً واذا ما وجد فهو جهاز غير فعال ومحكوم في معظمه إلى الاساس المصلحي، أو أساس عدم امتلاك الوعي الإسلامي المطلوب.
إشكالية العلاقة والأثر السياسي الداخلي
إنّ الإشكال التاريخي في اطار علاقة المرجع بالمجتمع بالاضافة إلى دوره في تغييب الاسلام عن مسرح الحركة السياسية التاريخية خلال أكثر من ثلاثين عاماً «1923 ـ 1957»، ومن ثم فترة اعادة اصلاح الواقع عبر العمل الحزبي السري التي استغرقت اكثر من عشرين عاماً اخرى، فهو كان مسؤولاً ايضاً عن بطء حركة الوعي الديني في أوساط المجتمع... أو بالاحرى إنه أدى إلى حالة شبيهة بحالة انعدام هذا الوعي، فلقد تحولت فترة ثورة العشرين إلى تاريخ بالنسبة للاجيال اللاحقة... تاريخ لا يجد آليات تفريغه في الواقع واسقاطه فيه، أو مواصلته، الأمر الذي ادى إلى وقوع العراق، كل العراق في معادلة سياسية خطيرة، صحيح انّ الفراغ الذي نجم من انسحاب القيادة الإسلامية ملأته تيارات سياسية علمانية اخرى، وان الجزء المسيس من المجتمع انخرط في هذه التيارات.. إلاّ أنّ كل هذه التيارات لم تنجح في نقل المجتمع إلى حالة تعبير مشتركة وشمولية عن ارادته السياسية الحقيقية، فالحزب الشيوعي حقق نفوذاً اجتماعياً محدداً عبأه واستدعاه في ممارسته الساسية، إلاّ أنّ هذه الممارسة حكمها منهج سياسي خاص وظروف سياسية خاصة... وهي بالتالي تعبر عن ارادته كحزب له نفوذ محدد، يمكن اعتباره «الذروة» فيما يمكن أن يصل إليه في بلد مثل العراق يبقى حتى في حال انعدام الوعي الديني له عمقه الخاص في الواقع...
ولذا فان هذا الحزب لم يستطع ان ينجز منعطفاً يختصر فيه ارادة غالبية الشارع العراقي، انما هو عكس ارادة اعضائه والمنتسبين اليه.. وهو بالتالي لم يمسك بالسلطة... ولم يعبر عن ارادة الأمّة في مسار الصراع وباختصار انه لم يقد ثورة ضد السلطات الحاكمة.
وكذلك الحال بالنسبة للتيار القومي عندما كان في موقع المعارضة، أمّا عندما أصبح في موقع السلطة فإنّه لجأ إلى آليات الإكراه في التعبئة.
لقد بقي التاريخ السياسي العراقي المعاصر مأزوماً بواقع اللاتكافؤ في توازن الصراع الداخلي ومسرحاً لحركة من الانقلابات العسكرية والمؤامرات السرية... وبقيت الأمّة تعبر عن ارادتها «لاسيما الجمهور الشيعي» عبر الانخراط الطوعي أو الجبري بالسلطة، أو بالاحزاب الاخرى، وكل ذلك حال دون فعل جمعي مشترك للمجتمع، ينسجم مع نظام سياسي يمثل فعلاً خيار هذا المجتمع بشكل متوازن، لاسيما وان انسحاب المرجعية عن الفعل السياسي واهمالها للمجتمع كرس من واقع «النظام الطائفي» وتركاته النفسية في الحس العام، ومن هنا قد لا تكون من الصدف أنّ القرن الماضي شهد ثلاثة أحداث وثورات، هي ثورة العشرين، وانتفاضة عام 1991م، وظاهرة الصدر الثاني... وهذه الأحداث والثورات الثلاث هي على علاقة مباشرة بدور المرجع وعلاقته بالمجتمع، وما عدا هذه الأحداث والثورات الثلاث لم يشهد القرن الماضي، ثورة أو حدثاً بمستواها ما عدا أحداث 1979 ـ 1980، وهي أحداث ذات علاقة بالمرجعية والحركة الاسلامية، فلم تفلح القوى العلمانية في العراق في انجاز حدث ثوري يمثل ارادة الأمّة أو الجزء الاعظم من ارادتها، فدور هذه القوىـ باستثناء الحالة الشيوعية التي ناقشناها سلفاً ـ كان عبارة عن انقلابات عسكرية تمارس انماط علاقاتها مع المجتمع بشكل اكراهي، وصل ذروته بعد وصول صدام حسين إلى السلطة.
إلى ماذا تشير هذه «المفارقات» في تاريخ العراق السياسي المعاصر؟ وما هو مضمون علاقتها بالصراع السياسي اللامتوازن الذي شهده هذا التاريخ؟
إنّ الاجابة على هذه التساؤلات ترتبط جوهرياً باشكالية العلاقة بين المرجع والأمّة، فعندما كانت هذه العلاقة طبيعية انتجت ثورة العشرين، وعندما عاد الاحساس بضرورتها وتم التأسيس لها من جديد وتوجت فيما بعد بـ «وفود البيعة» للمرجع الشهيد آية الله الصدر الأوّل... اثمرت تراكمات هذا المقطع من المواجهة ولو بعد حين، انتفاضة 1991م، وعندما تصدى المرجع الشهيد آية الله محمد محمد صادق الصدر حصلت ظاهرة الالتفاف المليونية حوله.
ومن هنا يمكن اعتبار «التاريخ الثوري» للعراق في القرن الماضي هو نتاج اندكاك المرجعية بواقع الأمّة... وان المأزق السياسي الخطير له وغياب حالة التوازن في الصراع الداخلي بما يغيب ارادة الأمّة نابع في اساسه من تلك الاشكالية التاريخية بين المرجعية والمجتمع والتي برزت ما بعد قيام دولة العراق الحديث وابتعاد المرجعية عن الواقع السياسي، ومن ثم الواقع الاجتماعي.
ولذا فإنّ اصرار الشهيد محمد محمد صادق الصدر على معالجة هذه الاشكالية بشكل لم يسبق إليه أحد ربما قام في أحد جوانبه على اختزان هذا المعنى السياسي الخطير في الواقع العراقي الداخلي... انه ادرك أنّ الفكر اللاإسلامي في العراق لم يفلح أن يقود المجتمع إلى حالة ثورية واحدة خلال قرن كامل، بحيث تقود هذه الحالة إلى ممارسة سياسية داخلية سليمة والى تنافس سياسي ايجابي ونظام سياسي عام نابع فعلاً من تنوع هذا المجتمع الطوائفي والقومي ومحقق لارادته.
فيما إنّ الفقيه والحركة الاسلامية استطاعا أن يقودا هذا المجتمع إلى ثورات أو تحشيد مجتمعي كبير، ولو انّ هذا النجاح لم يستطع بالنهاية الحسم وايجاد مثل هذا النظام السياسي، إلا انه على أقل تقدير عبر عن ارادة المجتمع وطموحه نحو هذا الهدف السياسي، وهذا ما دعا أحد الكتاب إلى القول «من أين جاء السيد محمد محمد صادق الصدر بتلك الرهافة الحسية والوعي بالضرورة، وبهذا القدر من الشجاعة الخارقة حين قرر بعد الانتفاضة مباشرة الخروج إلى منعطف الالغاء المتبادل ومن طرف واحد؟»، ويضيف: «فإنّ ما أقدم عليه وما كرّسه محمد الصدر هو سلوك جديد ومبدع يستحق أن يسجل كعلامة فاصلة وكبداية لعهد تاريخي جديد». [10]
إنّ ظروف تجربة الشهيد محمد محمد صادق الصدر ما كانت تسمح له أن يعبر عن هذا الفهم المختزن حول آليات الصراع السياسي الداخلي وتفصيلاته، لأنّ مدخله إلى التغيير افترض سياسة خاصة «غير صِدامية» مع السلطة الحاكمة في البداية، وما كان متاحاً له هو أن يتحدث بنظام الاشارة السياسية، أو أنّ خطابه السياسي كان يركز على محاور خارجية للحركة السياسية ازاء العراق، إلاّ إنّ السياق العام لمشروعه التغييري، وثقل هذا المضمون الاجتماعي، ووعيه لخطورة انعزال الفقيه عن الأمّة وعن السياسة وتعاطيه السياسي في مجالات اخرى.. كل ذلك ينم عن قراءة مركزة لواقع الخلل في معادلة الصراع ـ السياسي الداخلي، ومعادلة السلطة من جهة والأمّة من جهة اخرى، وغياب توازن الارادة القائم في هذه المعادلة، وبعبارة اخرى إنّ الخطوط العامة، والفرضيات الأساسية لمشروع الشهيد محمد محمد صادق الصدر تعبر عن معنى الاستيعاب الكامل لهذا الخلل المتمثل بتغييب ارادة الأمّة، والسعي إلى ايجاد نظام سياسي داخلي متوازن يحقق هذه الارادة، وذلك لا يكون إلاّ عبر الاسلام، وفق وقائع تاريخ قرن كامل من عمر العراق. فوفق هذه الخطوط والفرضيات التي احضرها الصدر الثاني بنصوصه وحركته، تتجلى حالة من الوعي الكامل بآليات الصراع السياسي الداخلي، سواء احضرها بنصوص خطابه ام لم يحضرها إذ أنّ هذه الآليات هي بالنهاية بنى تحتية ـ تفصيلية ـ فرعية للفرضيات الأساسية للمشروع على الباحث أن ينقب عنها في سياق محاولة استيعابه لهذا المشروع ونتائجه وآثاره.