الدكتور عادل رضا
09-09-2004, 07:24 PM
عصر النص وعصر الاجتهاد
مر المسلمون خلال فترة تجاوزت الاربعة عشر قرناً منذ بعثة الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله) وحتى يومنا هذا بمرحلتين او عصرين بمنظار تبليغ التشريع والأحكام الالهية، مرحلة عصر النص والتي بدأت منذ اليوم الاول لبعثة الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله) وانتهت بنهاية فترة الغيبة الصغرى للامام المهدي (عج) عام 329 هـ، وابتدأت مرحلة او عصر الاجتهاد منذ بداية الغيبة الكبرى (أي عام 329 هـ)، ولا زالت حتى يومنا هذا.
ولا يخفى من تسمية كل عصر او مرحلة... انه في مرحلة عصر النص كانت الاحكام الالهية تبلغ للأمّة عن طريق المعصوم، فكان تشريعاً معصوماً في تبليغه للأمة وفي بيانه، أما في مرحلة عصر الاجتهاد فقد انقطع التبليغ والبيان المعصوم للتشريع الالهي وقام مقامه الاجتهاد غير المعصوم سواء في تبليغ التشريع الالهي او في بيانه.
وكان لكلا العصرين والمرحلتين مميزات وخصائص بعضها ايجابي والآخر سلبي، فمرحلة عصر النص كانت لا تعاني بشكل عام من أي قصور على مستوى التعرف على الحكم الالهي الواقعي في أي قضية من قضايا الحياة. وبسبب توفر وتحقق هذه الميزة العظيمة فانه لم تكن هناك حاجة للتعرف على الكثير من العلوم التي نشأت او تطورت لاحقاً.. كعلوم الحديث.. او علوم الرجال.. او علم الفقه او أصول الفقه او ما ارتبط فيها من علوم اخرى.
اما في مرحلة الاجتهاد، فقد نشأت الحاجة الى علوم ودراسات اخرى كما ذكرنا.. كعلوم الحديث او الرجال او الفقه او أصول الفقه وما يرتبط بها من علوم ودراسات مختلفة. ولكن مع تحقق هذا الانجاز العلمي الكبير فان المحصلة النهائية بهدف التعرف على الحكم الالهي الواقعي في أي قضية من قضايا الحياة كانت سلبية بالمقارنة مع عصر النص.
وهذه المحصلة السلبية تركت آثارها وبصماتها واضحة بشكل سلبي نسبياً على هذه المرحلة وذلك العصر الذي لا زلنا نحيا فيه ونعيش أيامه.
ونتطرق هنا الى جملة من تلك الآثار السلبية وكيف السبيل للتغلب عليها والتخفيف من آثارها.
في عصر النص، اي عصر الرسول والائمة عليهم أفضل الصلاة والسلام لم تتوفر لهم الامكانية للحكم وادارة شؤون الدولة ما خلا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفترة بسيطة من حكم الامام علي (عليه السلام) والامام الحسن (عليه السلام). وهذا الواقع جعل الكثير من ممارساتهم ومواقفهم التي يتخذونها نابعة من ظرفهم الموضوعي.
فصلاة الجمعة على سبيل المثال لم يكن بمقدور الامام المعصوم أن يؤديها بشكل علني لما فيها من تحد واضح للحكم القائم في مرحلة من المراحل، او عدم القدرة على أدائها لأن الامام المعصوم كان معتقلاً في السجن او في المعسكر المعادي فضلاً عن أسباب أخرى كعدم اعطاء الشرعية للحاكم الذي يزعم أنه خليفة الرسول (صلى الله عليه وآله).
كما أن عدم تصدي الائمة المعصومين للحكم وكذلك حال خلفائهم لفترة قاربت الاربعة عشر قرناً جعلت العلماء المجتهدين لا يولون الاحاديث المرتبطة بذلك الامر الاهتمام الكافي، فغدت قضية الولاية من الامور التي لم تشبع بالدراسة الوافية، كما أن عدم تصدي الكثير من المجتهدين للامور العامة، أدى الى تحديد مواصفات المجتهد المؤهل للمرجعية بكونه الاعلم باستنباط الاحكام الشرعية، ولم يكن للقدرة ذكر (ما خلا قلة من المجتهدين المعاصرين) [1] .. كما انه لم يكن يقصد بالاحكام الشرعية بشكل عام في هذا المجال غير احكام العبادات والمعاملات، وهذا الامر يخالف وبشكل واضح ما أثبته الائمة المعصومون في عصر النص [2]، ولكن الحاجة لم تكن تستدعي اكثر من ذلك الشرط الاساسي خلال فترة غير قصيرة من تاريخنا الاسلامي القديم حيث كانت المجتمعات صغيرة وغير معقدة، فلم تكن هناك حاجة ضرورية أن يكون الفقيه قادراً أو عالماً بأمور الادارة التي تعقدت بشكل كبير ضمن مجتمعاتنا المعاصرة التي تتسم بالضخامة والتشعب والتعقيد.
فضلاً عن ذلك فقد نشأت خلال فترة تجاوزت الالف عام من بداية الغيبة الكبرى وحتى يومنا هذا الكثير من التقاليد والممارسات والقيم والمفاهيم التي ليس لها علاقة بالاسلام ولكنها نالت درجة من القدسية المستمدة من ارتباطها بالحوزة، بل اصبحت من المسلّمات والأعراف المقبولة، ككثير من الصيغ المرتبطة بطريقة استلام الخمس وتقسيمه وبعض مصارفه، او ما يسمى بالحاشية وتأثيرها في كثير من الاحيان وبشكل سلبي على ما يصل للمرجع من معلومات بل حتى على ما يتخذه من كثير من المواقف او ما يبديه من الآراء.
فضلاً عن الكثير من الاعراف غير المرتبطة بالشرع كبعض السلوكيات المتعلقة بامامة صلاة الجمعة (كما سنبينه لاحقاً).. بل ان بعض الاعراف تتناقض مع بديهيات الاخلاق الاسلامية، كما في بعض حالات الامتناع عن التزاور بين المجتهدين او في بعض حالات تقديس السادة العلويين من تقبيل الايادي وغيرها من الاعراف، بل وصل الحال الى درجة افشاء الاسرار والتعامل مع الحاكم الظالم للايقاع والتخلص من بعض العلماء المجتهدين انطلاقاً من مبدأ الحفاظ على الحوزة من التأثيرات السياسية. وهكذا فاننا نستطيع أن نلخص الآثار السلبية التي تميز بها عصر الاجتهاد بأربعة آثار اساسية هي:
1ـ عدم الاستيعاب الحقيقي والواقعي لكثير من ممارسات الائمة (ع) نتيجة لظروفهم الموضوعية الخاصة والتي قد تختلف اختلافاً جذرياً عن وضعنا الحالي المعاش (كأداء صلاة الجمعة مثلاً).
2ـ ضعف الدراسات والابحاث فيما يختص بالكثير من المفردات والمسائل الشرعية بسبب ضعف الاحتياج اليها في مرحلة طويلة من مراحل التاريخ (كقضية الولاية مثلاً).
3ـ التقصير في التعرف على الكثير من الاحكام الشرعية بسبب التعامل مع الشريعة لسد حاجات ظرفية وليس ككونها منهجاً شاملاً يستوعب جميع مناحي الحياة وبجميع ظروفه (كالابحاث المتعلقة بتطبيقات الاقتصاد الاسلامي ومنهاج الحكم في الاسلام وتفريعات الولاية وغيرها).
4ـ انتشار الكثير من الممارسات والاعراف والتقاليد السلبية التي ترعرعت خلال فترة ناهزت الالف عام من تاريخ الحوزة العلمية.
ومع وجود وبروز تلك السلبيات.. فان هذا لا يعني ان العلماء وقفوا موقف المتفرج ازاء ذلك الواقع السلبي بل تحرك الكثير منهم في السابق وفي الحاضر لتصحيح الكثير من الانحرافات السلبية، اما في تاريخنا المعاصر فقد انبرى ثلاثة من الرجال العظام والمجتهدين الكبار للتصدي لهذا الواقع السلبي وهدم ركام التقاليد واحياء السنن السابقة لائمة أهل بيت النبوة عليهم أفضل الصلاة والسلام، وهؤلاء المراجع الكبار هم آية الله روح الله الخميني (قدس سره) مفجر أعظم ثورة اسلامية في تاريخنا المعاصر، وآية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) اعظم مفكر اسلامي في تاريخنا المعاصر على الاطلاق، وآية الله الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) صاحب أعظم انجاز اجتماعي اسلامي في تاريخ العراق المعاصر. وقد تميز الشهيد الصدر الثاني عمن سبقه بميزتين:
الميزة الاولى انه تتلمذ على يد الشهيد الصدر الاول والسيد الخميني، فاستوعب منهج الرجلين وأضاف اليه قدراته الخلاقة، والميزة الثانية انه شهد تجربة العملاقين وشهد عناصر قوتهما وعناصر ضعفهما ثم شهد نتائجها.
لقد كان ملازماً للصدر الاول، وعاش التجربة معه كما عاشها الآخرون من المقربين، ولكنه تميز عنهم جميعاً بأنه كان الوحيد منهم الذي استطاع استثمار التجربة بكافة ابعادها، وبالتالي استطاع وبحق حصد ما زرعه الشهيد الصدر الاول.
وقبل التعرف على منهجه وانجازاته لا بد من القاء الضوء على:
سيرته الذاتية:
1ـ نسبه:
ولد السيد الشهيد في 17 ربيع الاول عام 1362 هـ الموافق 23/3/1943 في مدينة النجف الاشرف، ووالده السيد محمد صادق ابن السيد محمد مهدي ابن السيد اسماعيل (الذي ترجع اليه اسرة الصدر) ابن السيد صدر الدين الصدر ابن السيد صالح بن محمد ابراهيم شرف الدين (الذي ترجع اليه اسرة آل شرف الدين) ثم يصل نسبه الى الامام موسى الكاظم عليه السلام.
2ـ دراسته:
بدأ السيد الشهيد دراسته الحوزوية في عمر مبكر في عام 1373 هـ ـ 1954م على يد والده السيد محمد صادق الصدر ثم على يد السيد محمد تقي الحكيم وآخرين، وقد دخل كلية الفقه في النجف الاشرف وتخرج في دورتها الاولى عام 1964.
ودرس على يد السيد ابو القاسم الخوئي، والسيد الشهيد محمد باقر الصدر والسيد الامام الخميني وذكر آراءهم في محاضرات، وكان يسمي الاول (استاذنا أبو جعفر)، ويسمي الثاني (استاذنا ابو احمد).
وقد بلغ رتبة الاجتهاد عام 1978 حيث قام بتدريس الفقه الاستدلالي (بحث الخارج) بطلب من الشهيد الصدر وكانت مادة البحث المختصر النافع للعلامة الحلي.
3ـ مؤلفاته:
ألف الكثير من الكتب، وكان أهم ما ألفه موسوعته عن الامام المهدي (عج) في اربعة مجلدات حيث وصفها الشهيد الصدر الاول بأنها موسوعة لم يسبق لها مثيل في تاريخ التصنيف الشيعي حول المهدي (عج).
وله مصنفات عديدة أخرى اهمها نظرات اسلامية في اعلان حقوق الانسان، وما وراء الفقه وهي موسوعة فقهية بعشرة أجزاء، وفقه الاخلاق، وبحث حول الرجعة ورسالته العملية باسم (منهج الصالحين) ومنه الحنان في الدفاع عن القرآن (بلغ حوالي الخمسين مجلداً ـ مخطوط) والكثير من المصنفات الاخرى والتي بلغت حوالي الثلاثين مصنفاً.
منهج الشهيد الصدر الثاني
يمكننا التعرف على منهج الشهيد الصدر الثاني من خلال دراسة ثلاثة محاور وهي:
1ـ مجابهته لطاغوت العراق بمنتهى البراعة تحقيقاً للمصلحة الاسلامية الكبرى.
2ـ منهجه التربوي الصريح لاصلاح الحوزة العلمية وتقويمها.
3ـ اسلوبه التربوي لخلق اوسع قاعدة شعبية اسلامية مؤمنة في تاريخ العراق المعاصر مرتبطة بالحوزة ومضحية بالنفس من اجلها.
مجابهة الطاغوت
لقد تعامل السيد الشهيد مع سلطة الطاغوت خلال مرحلتين تاريخيتين متباينتين:
المرحلة الاولى قبل تصديه للمرجعية حيث كان حبيس بيته ويتبع اسلوب التقية المكثفة [3]، حيث اعتقل في هذه الفترة ثلاث مرات: الاولى عام 1972 والثانية عام 1974 حيث عذب تعذيباً شديداً وركز المحققون معه على علاقته بالامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر وبحزب الدعوة الاسلامية، اما الاعتقال الثالث فكان عام 1991 بعد اصداره بياناً شديد اللجهة مؤيداً للانتفاضة بعد حرب الخليج الثانية.
لقد بقيت آثار التعذيب بادية على جسده الشريف حتى بعد استشهاده .. وقد تصدى للمرجعية عام 1984 وقدم رسالته العملية للطبع ولكن الحكومة لم تمنحه اجازة لطبعها، فكتب تعليقه بخط اليد على منهاج الصالحين لنسخها وتداولها بين مقلديه.
ولكن بعد قيام حرب الخليج الثانية وتحسن العلاقة بين العراق وبين الجمهورية الاسلامية في ايران ومحاولة كسب التيار الديني الشعبي داخل العراق سمحت له الحكومة بطباعة رسالته العملية .. بل كافة مؤلفاته. وان اعطاء هذه الحرية للسيد محمد الصدر من قبل الحكومة العراقية كان لاغراض خاصة بها فضلاً عن الاسباب المذكورة اعلاه ... ومنها ان السلطة تعلم انه لابد ان يكون للشيعة مرجع عالم مجتهد، فليكن في النجف وليس في قم، وان كان في النجف فليكن عربياً وليس ايرانياً ... فضلاً عن كل هذا فان السلطة كانت تجهل فكر السيد الشهيد وتجهل قدراته وامكانياته وما يمكن ان يحققه وما يمكن ان يشكله من خطر عليها ان فسحت له المجال ... كان هذا الجهل نابعاً من اسلوب التقية المكثفة التي كان يعيشها السيد الشهيد قبل تصديه للمرجعية بشكل فاعل.
وعلى اثر ذلك وجد الشهيد الصدر نفسه على مفترق طريق، اما ان يبقى حبيس بيته واما ان يتحرك لمصلحة الحوزة. فقال مقولته الشهيرة نقلاً عن احد تلامذته (قلت لنفسي أتتحملين السب والشتم والغيبة من اجل الحفاظ على كيان الحوزة؟ فقالت ـ نعم) [4]، وهكذا بدأ مشواره الطويل لتحقيق اهدافه في خدمة المصلحة الاسلامية العليا، لقد خاض تجربة من اصعب التجارب على الاطلاق، فالدولة تريد ان تدعي بأنه مرجع السلطة لتركب الموجة الايمانية التي بدأها صدام بكتابة عبارة (الله اكبر) على العلم العراقي بعد احتلاله للكويت واستخدام الشعار الاسلامي لخداع المسلمين والعرب خارج وداخل العراق ولرفعه بوجه اميركا والغرب خلال الحرب ولرفع الحصار بعد انتهاء الحرب ... كان ذلك الظرف مناسباً جداً للسيد الشهيد وأعطاه حرية نسبية للتحرك، ولكنه تحرك محفوف بالشبهات ومملوء بالاتهامات، ولكنه استغل هذا الظرف واستخدم تلك الحرية بكل براعة خلال فترة الثماني سنوات، فالسلطة كانت تلملم جراحاتها على اثر حرب الخليج الثانية والانتفاضة في الجنوب وفقدان السيطرة في الشمال فضلاً عن اعمال المجاهدين في الاهوار وباقي مدن العراق وحالة التصعيد بين حين وآخر مع الاميركان ولجان التفتيش وما تركه الحصار من آثار سلبية على الاوضاع داخل العراق بشكل عام وضعف الاجهزة القمعية بشكل خاص بسبب الحاجة والعوز وتفشي الرشوة وما الى ذلك.
وفجأة اكتشفت السلطة ان السيد الشهيد استطاع خلال هذه الفترة وفي ظل ذلك الظرف انشاء قاعدة شعبية واسعة وجيل عريض من المؤمنين الواعين ... واخذت السلطة تتخبط في مواقعها ... فهذا الوضع كان يشكل خطراً عليها ... ولكنه كان وضعاً ساهمت هي في ايجاده ... في سماحها للسيد الشهيد للتحرك بتلك الحرية ... ولم يخطر في بالها بالمرة ان هذا الخطأ من قبلها سيؤدي الى هذه النتائج الفادحة الخطرة عليها.
اما السيد الشهيد فعندما استطاع ان يحقق اهدافه لهذه المرحلة ووجد نفسه يستند على قاعدة شعبية قوية يحسب لها من السلطة الف حساب ... بدأ في ذلك الوقت بالتحرك بمنطلقات اخرى.
وللتعرف على هذه المنطلقات لابد من التعرف على المتبنيات الفكرية التي انطلق منها السيد الشهيد.
متبنياته الفكرية لمواجهة الطاغوت
قام السيد الشهيد باعطاء معان جديدة لكثير من المفاهيم الاسلامية، هذه المعاني كانت جديدة على مستوى الامة بل حتى على مستوى الحوزة على نطاق الممارسة في عصر الاجتهاد، ولكنها معان حقيقية مستمدة من وضوح واستيعاب كامل للاسلام الحقيقي على مستوى عصر النص ... من هذه المفاهيم:
أـ التقية: حيث يقول (ان التقية محرمة على المرجع او القائد الاسلامي اذا كانت خوفاً على نفسه، وفقط تجوز له اذا كانت خوفاً على الاسلام) [5] ... ويعلق وبكل جرأة في أحد لقاءاته الصحفية المسجلة (لقد حاول احد العلماء المجاهدين ان ينهض بالامة قبل اكثر من عقدين من الزمن فراجع بذلك احد الشخصيات المهمة فأجابه الآخر انه يخاف، فصار السيد العالم المجاهد يقول بحرارة ـ في مثل هذا العمر ويخاف ـ والحق ان التقية بالنظرة الضيقة هي التي دعت هذا العالم إلى قوله أخاف، وعلى الأكثر انه لم يكن يخاف على نفسه فقط، بل قد يكون خوفه حفاظاً على دماء المسلمين، ولكن النتيجة ان دماء المسلمين قد اهدرت وتدهورت الحوزة والمرجعية واما السيد العالم المجاهد فقد نصره الله نصراً مؤزراً لصموده البطولي). [6]
ب ـ الصبر: حيث يقول بالمعنى (ان الصبر صبران، صبر سلبي وصبر ايجابي، الصبر السلبي هو الصبر على الظلم، والصبر الايجابي هو الصبر على مقارعة الظلم والظالمين، والصبر المأمورون به والمأجورون عليه هو الصبر الايجابي وهو مقارعة الظلم والظالمين، اما الصبر السلبي فهو كناية عن الخضوع والخنوع والذل، وهذا صبر مذموم لا يؤجر عليه الانسان، بل قد يأثم عليه ان ادى الى النقص في دينه او ضياع الحقوق). [7]
لم يكتف السيد الشهيد بطرح هذه المفاهيم بتلك المعاني وانما مارسها بالفعل.
حيث تحرك قبل استشهاده بحوالي السنة والنصف على مستوى صلاة الجمعة .. حيث اقيمت في اكثر من سبعين منطقة من مناطق العراق، وكان معدل الحضور في هذه المناطق يعد بعشرات الالوف، اما الصلاة التي كانت تقام في الكوفة فكانت بمئات الالوف، واما الصلاة التي اقيمت في السهلة في 15 شعبان 1419 هـ فقد حضرها حسب تقدير الكثير من شهود العيان حوالي المليوني مصل، وافلام الفيديو التي كانت تصور الجموع البشرية من دون الاحاطة بنهايتها دليل على ذلك، ومهما يكن الاختلاف في تحديد العدد النهائي فانه لا خلاف على ان العدد كان بمئات الالوف.
... ومع هذا العدد الكبير وذلك الاسناد الواسع استطاع السيد الشهيد ان يتحرك بكل قوة في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر متحركاً بالمفاهيم التي طرحها بالتقية لا خوفاً على نفسه بل الا اذا كان هناك خوف على الاسلام، وبمفهوم الصبر لا على الظلم، بل على مقارعة الطاغوت والظلم والظالمين.
ومن هذا المنطلق امتنع عن الدعاء لصدام ومنع جميع وكلائه من الدعاء للطاغوت، وكان هذا الموقف بالمنظار الصدامي هو اكبر تحد لصدام فحاول جلاوزته ارغام السيد ووكلائه بجميع الوسائل للدعاء لصدام اثناء الخطبة، فلم يستجب السيد لهم، فعين صدام مجموعة من ائمة المساجد كأئمة لصلاة الجمعة وبث بين الناس ان هؤلاء هم وكلاء السيد محمد محمد صادق الصدر، فاضطر السيد الشهيد للاعلان على الملأ واثناء صلاة الجمعة بأن هؤلاء لا يمثلونه وليسوا بوكلائه، فقامت الجماهير بطردهم من المساجد وبالقوة ووضعوا مكانهم وبالقوة وكلاء السيد كأئمة لصلاة الجمعة.
... ولم يكتف بذلك، بل عندما قامت السلطة بمنع زيارة الحسين (ع) في النصف من شعبان قال في خطبة الجمعة ان هذا المنع يصب في مصلحة اسرائيل واميركا ... موحياً وبشكل واضح ولكن غير مباشر إلى القوى التي تقف خلف صدام وتسانده.
ولم يكتف الصدر بكل ذلك فأرسل رسالة مع ممثله السيد جعفر ابن السيد الشهيد الصدر الاول ليبلغها للشعب الايراني وقيادته السياسية بمناسبة افتتاح مكتب السيد في قم وكان مما جاء في هذه الرسالة (حيا الله الشعب الايراني الجليل الاخ في الله والاخ في الاسلام وفي المذهب، وحيا الله الدولة الايرانية الجليلة الباسطة شرف الاسلام على العالم، وحيا الله العراقيين النازحين من بلادهم ـ الذين اخروا من ديارهم بغير حق الا أن يقولوا ربنا الله)... ولكن للاسف الشديد لم يفتح مكتب السيد لاسباب لسنا بصدد ذكرها، ولم تقرأ الكلمة.
ولم يكتف الصدر بكل ذلك بل وضع النظام في خانة قتلة الحسين (ع) حين قال في احدى خطب الجمعة (لماذا الصلاة في الشارع في البصرة والعمارة مسموحة وفي الكوفة ممنوعة؟ نحن لا نقبل بذلك فللحسين (ع) قتلة كثيرون في كل جيل وفي الاجيال القادمة ـ وما اگدر أحچي ـ) [8] وكلمة (ما اگدر أحچي) هنا هي إشارة واضحة الى الطرف الذي هو تحت سلطته فلا يستطيع الحديث امامه ... وهو سلطة طاغوت العراق.
قام صدام باعتقال وكلاء السيد، فقامت تظاهرات ومواجهات في مختلف المدن العراقية مطالبة بالافراج عنهم واستشهد الكثير من المؤمنين اثناء تلك المواجهات، وقام السيد الشهيد وبشكل علني اثناء صلاة الجمعة يطالب الحكومة بالافراج عنهم ويدعو المصلين للمطالبة وبشكل جماعي للافراج عنهم.
لقد حاولت السلطة وبكل الوسائل ايقافه عن اداء صلاة الجمعة فرفض الاذعان وتحداهم بلبس الكفن اثناء الصلاة موطناً نفسه على الشهادة.
لقد خاطب السيد الشهيد الصدر المقربين منه (جهزوا اكفانكم ... لم يبق لنا من الخيار سوى الاستشهاد). [9]
ويذكر احد المقربين من السيد الشهيد الصدر قبل استشهاده ببضعة اشهر انه قال بأنه هو المقصود في الاحاديث الواردة بشأن (مقتل محمد ذي النفس الزكية مع سبعين من الصالحين في ظهر الكوفة).
فالمقصود بظهر الكوفة هو النجف، ولم يقتل في تاريخنا المعروف شخص غيره وبمنزلته اسمه محمد في النجف (حيث السيد محمد باقر الصدر قتل في بغداد وليس في النجف)، اما عدد السبعين من الصالحين فمن المعلوم ان المئات قد قتلوا في كافة مدن العراق اثر استشهاده ولكن الرقم سبعين هو كناية عن الكثرة كما ورد في كتاب الله (ان تستغفر لهم سبعين مرة)، وقد يكون العدد سبعين صحيحاً بالنسبة للشهداء من ظهر الكوفة ـ أي النجف الاشرف ـ .
(لقد نقل لي هذا الحديث عن السيد الشهيد من لا أشك في صدقه، والسيد الشهيد هو اعرف الناس بأحاديث الامام المهدي (عج) حيث انه صاحب اوسع موسوعة في هذا المجال، فهو اعرف انسان بمصاديق انطباق هذا الحديث على نفسه).
لقد هدد السيد الشهيد في خطبة الجمعة قبل ثلاثة اسابيع من استشهاده بالدعوة للتحرك للافراج عن وكلائه المعتقلين، لقد طالب الجماهير ان تهتف معه بشكل جماعي (نريد ... نريد ... نريد ... فوراً ... فوراً ... اطلاق سراح المعتقلين) ... ثم قال (لأجل استنكار اعتقال خطباء الجمعة ارفعوا اصواتكم بالصلاة على محمد وآل محمد. ولأجل المطالبة باطلاق سراحهم فوراً صلوا على محمد وآل محمد، ولأجل عدم حصول ذلك مستقبلاً الصلاة على محمد وآل محمد، وهناك فكرة لانشاء بناء في مسجد الكوفة ليعيق المصلين يوم الجمعة ولأجل استنكار هذه الفكرة الخبيثة، الصلاة على محمد وآل محمد) [10] ... ولما وجدت السلطة هذا التحدي الصارخ من قبل السيد والجماهير معاً، تحدياً لم يسبق له مثيل بهذه القوة وهذا الاجماع وفي حكم صدام التكريتي، فاضطر صدام للاتصال مباشرة به وطلب منه الامتناع عن اداء صلاة الجمعة فرفض السيد وتحدى السلطة وصدام واضعاً دمه على كفه، فاستشهد مع ولديه السيدين مصطفى ومؤمل باطلاق النار عليهم بعد ادائه لصلاة الجمعة الأخيرة.
مر المسلمون خلال فترة تجاوزت الاربعة عشر قرناً منذ بعثة الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله) وحتى يومنا هذا بمرحلتين او عصرين بمنظار تبليغ التشريع والأحكام الالهية، مرحلة عصر النص والتي بدأت منذ اليوم الاول لبعثة الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله) وانتهت بنهاية فترة الغيبة الصغرى للامام المهدي (عج) عام 329 هـ، وابتدأت مرحلة او عصر الاجتهاد منذ بداية الغيبة الكبرى (أي عام 329 هـ)، ولا زالت حتى يومنا هذا.
ولا يخفى من تسمية كل عصر او مرحلة... انه في مرحلة عصر النص كانت الاحكام الالهية تبلغ للأمّة عن طريق المعصوم، فكان تشريعاً معصوماً في تبليغه للأمة وفي بيانه، أما في مرحلة عصر الاجتهاد فقد انقطع التبليغ والبيان المعصوم للتشريع الالهي وقام مقامه الاجتهاد غير المعصوم سواء في تبليغ التشريع الالهي او في بيانه.
وكان لكلا العصرين والمرحلتين مميزات وخصائص بعضها ايجابي والآخر سلبي، فمرحلة عصر النص كانت لا تعاني بشكل عام من أي قصور على مستوى التعرف على الحكم الالهي الواقعي في أي قضية من قضايا الحياة. وبسبب توفر وتحقق هذه الميزة العظيمة فانه لم تكن هناك حاجة للتعرف على الكثير من العلوم التي نشأت او تطورت لاحقاً.. كعلوم الحديث.. او علوم الرجال.. او علم الفقه او أصول الفقه او ما ارتبط فيها من علوم اخرى.
اما في مرحلة الاجتهاد، فقد نشأت الحاجة الى علوم ودراسات اخرى كما ذكرنا.. كعلوم الحديث او الرجال او الفقه او أصول الفقه وما يرتبط بها من علوم ودراسات مختلفة. ولكن مع تحقق هذا الانجاز العلمي الكبير فان المحصلة النهائية بهدف التعرف على الحكم الالهي الواقعي في أي قضية من قضايا الحياة كانت سلبية بالمقارنة مع عصر النص.
وهذه المحصلة السلبية تركت آثارها وبصماتها واضحة بشكل سلبي نسبياً على هذه المرحلة وذلك العصر الذي لا زلنا نحيا فيه ونعيش أيامه.
ونتطرق هنا الى جملة من تلك الآثار السلبية وكيف السبيل للتغلب عليها والتخفيف من آثارها.
في عصر النص، اي عصر الرسول والائمة عليهم أفضل الصلاة والسلام لم تتوفر لهم الامكانية للحكم وادارة شؤون الدولة ما خلا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفترة بسيطة من حكم الامام علي (عليه السلام) والامام الحسن (عليه السلام). وهذا الواقع جعل الكثير من ممارساتهم ومواقفهم التي يتخذونها نابعة من ظرفهم الموضوعي.
فصلاة الجمعة على سبيل المثال لم يكن بمقدور الامام المعصوم أن يؤديها بشكل علني لما فيها من تحد واضح للحكم القائم في مرحلة من المراحل، او عدم القدرة على أدائها لأن الامام المعصوم كان معتقلاً في السجن او في المعسكر المعادي فضلاً عن أسباب أخرى كعدم اعطاء الشرعية للحاكم الذي يزعم أنه خليفة الرسول (صلى الله عليه وآله).
كما أن عدم تصدي الائمة المعصومين للحكم وكذلك حال خلفائهم لفترة قاربت الاربعة عشر قرناً جعلت العلماء المجتهدين لا يولون الاحاديث المرتبطة بذلك الامر الاهتمام الكافي، فغدت قضية الولاية من الامور التي لم تشبع بالدراسة الوافية، كما أن عدم تصدي الكثير من المجتهدين للامور العامة، أدى الى تحديد مواصفات المجتهد المؤهل للمرجعية بكونه الاعلم باستنباط الاحكام الشرعية، ولم يكن للقدرة ذكر (ما خلا قلة من المجتهدين المعاصرين) [1] .. كما انه لم يكن يقصد بالاحكام الشرعية بشكل عام في هذا المجال غير احكام العبادات والمعاملات، وهذا الامر يخالف وبشكل واضح ما أثبته الائمة المعصومون في عصر النص [2]، ولكن الحاجة لم تكن تستدعي اكثر من ذلك الشرط الاساسي خلال فترة غير قصيرة من تاريخنا الاسلامي القديم حيث كانت المجتمعات صغيرة وغير معقدة، فلم تكن هناك حاجة ضرورية أن يكون الفقيه قادراً أو عالماً بأمور الادارة التي تعقدت بشكل كبير ضمن مجتمعاتنا المعاصرة التي تتسم بالضخامة والتشعب والتعقيد.
فضلاً عن ذلك فقد نشأت خلال فترة تجاوزت الالف عام من بداية الغيبة الكبرى وحتى يومنا هذا الكثير من التقاليد والممارسات والقيم والمفاهيم التي ليس لها علاقة بالاسلام ولكنها نالت درجة من القدسية المستمدة من ارتباطها بالحوزة، بل اصبحت من المسلّمات والأعراف المقبولة، ككثير من الصيغ المرتبطة بطريقة استلام الخمس وتقسيمه وبعض مصارفه، او ما يسمى بالحاشية وتأثيرها في كثير من الاحيان وبشكل سلبي على ما يصل للمرجع من معلومات بل حتى على ما يتخذه من كثير من المواقف او ما يبديه من الآراء.
فضلاً عن الكثير من الاعراف غير المرتبطة بالشرع كبعض السلوكيات المتعلقة بامامة صلاة الجمعة (كما سنبينه لاحقاً).. بل ان بعض الاعراف تتناقض مع بديهيات الاخلاق الاسلامية، كما في بعض حالات الامتناع عن التزاور بين المجتهدين او في بعض حالات تقديس السادة العلويين من تقبيل الايادي وغيرها من الاعراف، بل وصل الحال الى درجة افشاء الاسرار والتعامل مع الحاكم الظالم للايقاع والتخلص من بعض العلماء المجتهدين انطلاقاً من مبدأ الحفاظ على الحوزة من التأثيرات السياسية. وهكذا فاننا نستطيع أن نلخص الآثار السلبية التي تميز بها عصر الاجتهاد بأربعة آثار اساسية هي:
1ـ عدم الاستيعاب الحقيقي والواقعي لكثير من ممارسات الائمة (ع) نتيجة لظروفهم الموضوعية الخاصة والتي قد تختلف اختلافاً جذرياً عن وضعنا الحالي المعاش (كأداء صلاة الجمعة مثلاً).
2ـ ضعف الدراسات والابحاث فيما يختص بالكثير من المفردات والمسائل الشرعية بسبب ضعف الاحتياج اليها في مرحلة طويلة من مراحل التاريخ (كقضية الولاية مثلاً).
3ـ التقصير في التعرف على الكثير من الاحكام الشرعية بسبب التعامل مع الشريعة لسد حاجات ظرفية وليس ككونها منهجاً شاملاً يستوعب جميع مناحي الحياة وبجميع ظروفه (كالابحاث المتعلقة بتطبيقات الاقتصاد الاسلامي ومنهاج الحكم في الاسلام وتفريعات الولاية وغيرها).
4ـ انتشار الكثير من الممارسات والاعراف والتقاليد السلبية التي ترعرعت خلال فترة ناهزت الالف عام من تاريخ الحوزة العلمية.
ومع وجود وبروز تلك السلبيات.. فان هذا لا يعني ان العلماء وقفوا موقف المتفرج ازاء ذلك الواقع السلبي بل تحرك الكثير منهم في السابق وفي الحاضر لتصحيح الكثير من الانحرافات السلبية، اما في تاريخنا المعاصر فقد انبرى ثلاثة من الرجال العظام والمجتهدين الكبار للتصدي لهذا الواقع السلبي وهدم ركام التقاليد واحياء السنن السابقة لائمة أهل بيت النبوة عليهم أفضل الصلاة والسلام، وهؤلاء المراجع الكبار هم آية الله روح الله الخميني (قدس سره) مفجر أعظم ثورة اسلامية في تاريخنا المعاصر، وآية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) اعظم مفكر اسلامي في تاريخنا المعاصر على الاطلاق، وآية الله الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) صاحب أعظم انجاز اجتماعي اسلامي في تاريخ العراق المعاصر. وقد تميز الشهيد الصدر الثاني عمن سبقه بميزتين:
الميزة الاولى انه تتلمذ على يد الشهيد الصدر الاول والسيد الخميني، فاستوعب منهج الرجلين وأضاف اليه قدراته الخلاقة، والميزة الثانية انه شهد تجربة العملاقين وشهد عناصر قوتهما وعناصر ضعفهما ثم شهد نتائجها.
لقد كان ملازماً للصدر الاول، وعاش التجربة معه كما عاشها الآخرون من المقربين، ولكنه تميز عنهم جميعاً بأنه كان الوحيد منهم الذي استطاع استثمار التجربة بكافة ابعادها، وبالتالي استطاع وبحق حصد ما زرعه الشهيد الصدر الاول.
وقبل التعرف على منهجه وانجازاته لا بد من القاء الضوء على:
سيرته الذاتية:
1ـ نسبه:
ولد السيد الشهيد في 17 ربيع الاول عام 1362 هـ الموافق 23/3/1943 في مدينة النجف الاشرف، ووالده السيد محمد صادق ابن السيد محمد مهدي ابن السيد اسماعيل (الذي ترجع اليه اسرة الصدر) ابن السيد صدر الدين الصدر ابن السيد صالح بن محمد ابراهيم شرف الدين (الذي ترجع اليه اسرة آل شرف الدين) ثم يصل نسبه الى الامام موسى الكاظم عليه السلام.
2ـ دراسته:
بدأ السيد الشهيد دراسته الحوزوية في عمر مبكر في عام 1373 هـ ـ 1954م على يد والده السيد محمد صادق الصدر ثم على يد السيد محمد تقي الحكيم وآخرين، وقد دخل كلية الفقه في النجف الاشرف وتخرج في دورتها الاولى عام 1964.
ودرس على يد السيد ابو القاسم الخوئي، والسيد الشهيد محمد باقر الصدر والسيد الامام الخميني وذكر آراءهم في محاضرات، وكان يسمي الاول (استاذنا أبو جعفر)، ويسمي الثاني (استاذنا ابو احمد).
وقد بلغ رتبة الاجتهاد عام 1978 حيث قام بتدريس الفقه الاستدلالي (بحث الخارج) بطلب من الشهيد الصدر وكانت مادة البحث المختصر النافع للعلامة الحلي.
3ـ مؤلفاته:
ألف الكثير من الكتب، وكان أهم ما ألفه موسوعته عن الامام المهدي (عج) في اربعة مجلدات حيث وصفها الشهيد الصدر الاول بأنها موسوعة لم يسبق لها مثيل في تاريخ التصنيف الشيعي حول المهدي (عج).
وله مصنفات عديدة أخرى اهمها نظرات اسلامية في اعلان حقوق الانسان، وما وراء الفقه وهي موسوعة فقهية بعشرة أجزاء، وفقه الاخلاق، وبحث حول الرجعة ورسالته العملية باسم (منهج الصالحين) ومنه الحنان في الدفاع عن القرآن (بلغ حوالي الخمسين مجلداً ـ مخطوط) والكثير من المصنفات الاخرى والتي بلغت حوالي الثلاثين مصنفاً.
منهج الشهيد الصدر الثاني
يمكننا التعرف على منهج الشهيد الصدر الثاني من خلال دراسة ثلاثة محاور وهي:
1ـ مجابهته لطاغوت العراق بمنتهى البراعة تحقيقاً للمصلحة الاسلامية الكبرى.
2ـ منهجه التربوي الصريح لاصلاح الحوزة العلمية وتقويمها.
3ـ اسلوبه التربوي لخلق اوسع قاعدة شعبية اسلامية مؤمنة في تاريخ العراق المعاصر مرتبطة بالحوزة ومضحية بالنفس من اجلها.
مجابهة الطاغوت
لقد تعامل السيد الشهيد مع سلطة الطاغوت خلال مرحلتين تاريخيتين متباينتين:
المرحلة الاولى قبل تصديه للمرجعية حيث كان حبيس بيته ويتبع اسلوب التقية المكثفة [3]، حيث اعتقل في هذه الفترة ثلاث مرات: الاولى عام 1972 والثانية عام 1974 حيث عذب تعذيباً شديداً وركز المحققون معه على علاقته بالامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر وبحزب الدعوة الاسلامية، اما الاعتقال الثالث فكان عام 1991 بعد اصداره بياناً شديد اللجهة مؤيداً للانتفاضة بعد حرب الخليج الثانية.
لقد بقيت آثار التعذيب بادية على جسده الشريف حتى بعد استشهاده .. وقد تصدى للمرجعية عام 1984 وقدم رسالته العملية للطبع ولكن الحكومة لم تمنحه اجازة لطبعها، فكتب تعليقه بخط اليد على منهاج الصالحين لنسخها وتداولها بين مقلديه.
ولكن بعد قيام حرب الخليج الثانية وتحسن العلاقة بين العراق وبين الجمهورية الاسلامية في ايران ومحاولة كسب التيار الديني الشعبي داخل العراق سمحت له الحكومة بطباعة رسالته العملية .. بل كافة مؤلفاته. وان اعطاء هذه الحرية للسيد محمد الصدر من قبل الحكومة العراقية كان لاغراض خاصة بها فضلاً عن الاسباب المذكورة اعلاه ... ومنها ان السلطة تعلم انه لابد ان يكون للشيعة مرجع عالم مجتهد، فليكن في النجف وليس في قم، وان كان في النجف فليكن عربياً وليس ايرانياً ... فضلاً عن كل هذا فان السلطة كانت تجهل فكر السيد الشهيد وتجهل قدراته وامكانياته وما يمكن ان يحققه وما يمكن ان يشكله من خطر عليها ان فسحت له المجال ... كان هذا الجهل نابعاً من اسلوب التقية المكثفة التي كان يعيشها السيد الشهيد قبل تصديه للمرجعية بشكل فاعل.
وعلى اثر ذلك وجد الشهيد الصدر نفسه على مفترق طريق، اما ان يبقى حبيس بيته واما ان يتحرك لمصلحة الحوزة. فقال مقولته الشهيرة نقلاً عن احد تلامذته (قلت لنفسي أتتحملين السب والشتم والغيبة من اجل الحفاظ على كيان الحوزة؟ فقالت ـ نعم) [4]، وهكذا بدأ مشواره الطويل لتحقيق اهدافه في خدمة المصلحة الاسلامية العليا، لقد خاض تجربة من اصعب التجارب على الاطلاق، فالدولة تريد ان تدعي بأنه مرجع السلطة لتركب الموجة الايمانية التي بدأها صدام بكتابة عبارة (الله اكبر) على العلم العراقي بعد احتلاله للكويت واستخدام الشعار الاسلامي لخداع المسلمين والعرب خارج وداخل العراق ولرفعه بوجه اميركا والغرب خلال الحرب ولرفع الحصار بعد انتهاء الحرب ... كان ذلك الظرف مناسباً جداً للسيد الشهيد وأعطاه حرية نسبية للتحرك، ولكنه تحرك محفوف بالشبهات ومملوء بالاتهامات، ولكنه استغل هذا الظرف واستخدم تلك الحرية بكل براعة خلال فترة الثماني سنوات، فالسلطة كانت تلملم جراحاتها على اثر حرب الخليج الثانية والانتفاضة في الجنوب وفقدان السيطرة في الشمال فضلاً عن اعمال المجاهدين في الاهوار وباقي مدن العراق وحالة التصعيد بين حين وآخر مع الاميركان ولجان التفتيش وما تركه الحصار من آثار سلبية على الاوضاع داخل العراق بشكل عام وضعف الاجهزة القمعية بشكل خاص بسبب الحاجة والعوز وتفشي الرشوة وما الى ذلك.
وفجأة اكتشفت السلطة ان السيد الشهيد استطاع خلال هذه الفترة وفي ظل ذلك الظرف انشاء قاعدة شعبية واسعة وجيل عريض من المؤمنين الواعين ... واخذت السلطة تتخبط في مواقعها ... فهذا الوضع كان يشكل خطراً عليها ... ولكنه كان وضعاً ساهمت هي في ايجاده ... في سماحها للسيد الشهيد للتحرك بتلك الحرية ... ولم يخطر في بالها بالمرة ان هذا الخطأ من قبلها سيؤدي الى هذه النتائج الفادحة الخطرة عليها.
اما السيد الشهيد فعندما استطاع ان يحقق اهدافه لهذه المرحلة ووجد نفسه يستند على قاعدة شعبية قوية يحسب لها من السلطة الف حساب ... بدأ في ذلك الوقت بالتحرك بمنطلقات اخرى.
وللتعرف على هذه المنطلقات لابد من التعرف على المتبنيات الفكرية التي انطلق منها السيد الشهيد.
متبنياته الفكرية لمواجهة الطاغوت
قام السيد الشهيد باعطاء معان جديدة لكثير من المفاهيم الاسلامية، هذه المعاني كانت جديدة على مستوى الامة بل حتى على مستوى الحوزة على نطاق الممارسة في عصر الاجتهاد، ولكنها معان حقيقية مستمدة من وضوح واستيعاب كامل للاسلام الحقيقي على مستوى عصر النص ... من هذه المفاهيم:
أـ التقية: حيث يقول (ان التقية محرمة على المرجع او القائد الاسلامي اذا كانت خوفاً على نفسه، وفقط تجوز له اذا كانت خوفاً على الاسلام) [5] ... ويعلق وبكل جرأة في أحد لقاءاته الصحفية المسجلة (لقد حاول احد العلماء المجاهدين ان ينهض بالامة قبل اكثر من عقدين من الزمن فراجع بذلك احد الشخصيات المهمة فأجابه الآخر انه يخاف، فصار السيد العالم المجاهد يقول بحرارة ـ في مثل هذا العمر ويخاف ـ والحق ان التقية بالنظرة الضيقة هي التي دعت هذا العالم إلى قوله أخاف، وعلى الأكثر انه لم يكن يخاف على نفسه فقط، بل قد يكون خوفه حفاظاً على دماء المسلمين، ولكن النتيجة ان دماء المسلمين قد اهدرت وتدهورت الحوزة والمرجعية واما السيد العالم المجاهد فقد نصره الله نصراً مؤزراً لصموده البطولي). [6]
ب ـ الصبر: حيث يقول بالمعنى (ان الصبر صبران، صبر سلبي وصبر ايجابي، الصبر السلبي هو الصبر على الظلم، والصبر الايجابي هو الصبر على مقارعة الظلم والظالمين، والصبر المأمورون به والمأجورون عليه هو الصبر الايجابي وهو مقارعة الظلم والظالمين، اما الصبر السلبي فهو كناية عن الخضوع والخنوع والذل، وهذا صبر مذموم لا يؤجر عليه الانسان، بل قد يأثم عليه ان ادى الى النقص في دينه او ضياع الحقوق). [7]
لم يكتف السيد الشهيد بطرح هذه المفاهيم بتلك المعاني وانما مارسها بالفعل.
حيث تحرك قبل استشهاده بحوالي السنة والنصف على مستوى صلاة الجمعة .. حيث اقيمت في اكثر من سبعين منطقة من مناطق العراق، وكان معدل الحضور في هذه المناطق يعد بعشرات الالوف، اما الصلاة التي كانت تقام في الكوفة فكانت بمئات الالوف، واما الصلاة التي اقيمت في السهلة في 15 شعبان 1419 هـ فقد حضرها حسب تقدير الكثير من شهود العيان حوالي المليوني مصل، وافلام الفيديو التي كانت تصور الجموع البشرية من دون الاحاطة بنهايتها دليل على ذلك، ومهما يكن الاختلاف في تحديد العدد النهائي فانه لا خلاف على ان العدد كان بمئات الالوف.
... ومع هذا العدد الكبير وذلك الاسناد الواسع استطاع السيد الشهيد ان يتحرك بكل قوة في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر متحركاً بالمفاهيم التي طرحها بالتقية لا خوفاً على نفسه بل الا اذا كان هناك خوف على الاسلام، وبمفهوم الصبر لا على الظلم، بل على مقارعة الطاغوت والظلم والظالمين.
ومن هذا المنطلق امتنع عن الدعاء لصدام ومنع جميع وكلائه من الدعاء للطاغوت، وكان هذا الموقف بالمنظار الصدامي هو اكبر تحد لصدام فحاول جلاوزته ارغام السيد ووكلائه بجميع الوسائل للدعاء لصدام اثناء الخطبة، فلم يستجب السيد لهم، فعين صدام مجموعة من ائمة المساجد كأئمة لصلاة الجمعة وبث بين الناس ان هؤلاء هم وكلاء السيد محمد محمد صادق الصدر، فاضطر السيد الشهيد للاعلان على الملأ واثناء صلاة الجمعة بأن هؤلاء لا يمثلونه وليسوا بوكلائه، فقامت الجماهير بطردهم من المساجد وبالقوة ووضعوا مكانهم وبالقوة وكلاء السيد كأئمة لصلاة الجمعة.
... ولم يكتف بذلك، بل عندما قامت السلطة بمنع زيارة الحسين (ع) في النصف من شعبان قال في خطبة الجمعة ان هذا المنع يصب في مصلحة اسرائيل واميركا ... موحياً وبشكل واضح ولكن غير مباشر إلى القوى التي تقف خلف صدام وتسانده.
ولم يكتف الصدر بكل ذلك فأرسل رسالة مع ممثله السيد جعفر ابن السيد الشهيد الصدر الاول ليبلغها للشعب الايراني وقيادته السياسية بمناسبة افتتاح مكتب السيد في قم وكان مما جاء في هذه الرسالة (حيا الله الشعب الايراني الجليل الاخ في الله والاخ في الاسلام وفي المذهب، وحيا الله الدولة الايرانية الجليلة الباسطة شرف الاسلام على العالم، وحيا الله العراقيين النازحين من بلادهم ـ الذين اخروا من ديارهم بغير حق الا أن يقولوا ربنا الله)... ولكن للاسف الشديد لم يفتح مكتب السيد لاسباب لسنا بصدد ذكرها، ولم تقرأ الكلمة.
ولم يكتف الصدر بكل ذلك بل وضع النظام في خانة قتلة الحسين (ع) حين قال في احدى خطب الجمعة (لماذا الصلاة في الشارع في البصرة والعمارة مسموحة وفي الكوفة ممنوعة؟ نحن لا نقبل بذلك فللحسين (ع) قتلة كثيرون في كل جيل وفي الاجيال القادمة ـ وما اگدر أحچي ـ) [8] وكلمة (ما اگدر أحچي) هنا هي إشارة واضحة الى الطرف الذي هو تحت سلطته فلا يستطيع الحديث امامه ... وهو سلطة طاغوت العراق.
قام صدام باعتقال وكلاء السيد، فقامت تظاهرات ومواجهات في مختلف المدن العراقية مطالبة بالافراج عنهم واستشهد الكثير من المؤمنين اثناء تلك المواجهات، وقام السيد الشهيد وبشكل علني اثناء صلاة الجمعة يطالب الحكومة بالافراج عنهم ويدعو المصلين للمطالبة وبشكل جماعي للافراج عنهم.
لقد حاولت السلطة وبكل الوسائل ايقافه عن اداء صلاة الجمعة فرفض الاذعان وتحداهم بلبس الكفن اثناء الصلاة موطناً نفسه على الشهادة.
لقد خاطب السيد الشهيد الصدر المقربين منه (جهزوا اكفانكم ... لم يبق لنا من الخيار سوى الاستشهاد). [9]
ويذكر احد المقربين من السيد الشهيد الصدر قبل استشهاده ببضعة اشهر انه قال بأنه هو المقصود في الاحاديث الواردة بشأن (مقتل محمد ذي النفس الزكية مع سبعين من الصالحين في ظهر الكوفة).
فالمقصود بظهر الكوفة هو النجف، ولم يقتل في تاريخنا المعروف شخص غيره وبمنزلته اسمه محمد في النجف (حيث السيد محمد باقر الصدر قتل في بغداد وليس في النجف)، اما عدد السبعين من الصالحين فمن المعلوم ان المئات قد قتلوا في كافة مدن العراق اثر استشهاده ولكن الرقم سبعين هو كناية عن الكثرة كما ورد في كتاب الله (ان تستغفر لهم سبعين مرة)، وقد يكون العدد سبعين صحيحاً بالنسبة للشهداء من ظهر الكوفة ـ أي النجف الاشرف ـ .
(لقد نقل لي هذا الحديث عن السيد الشهيد من لا أشك في صدقه، والسيد الشهيد هو اعرف الناس بأحاديث الامام المهدي (عج) حيث انه صاحب اوسع موسوعة في هذا المجال، فهو اعرف انسان بمصاديق انطباق هذا الحديث على نفسه).
لقد هدد السيد الشهيد في خطبة الجمعة قبل ثلاثة اسابيع من استشهاده بالدعوة للتحرك للافراج عن وكلائه المعتقلين، لقد طالب الجماهير ان تهتف معه بشكل جماعي (نريد ... نريد ... نريد ... فوراً ... فوراً ... اطلاق سراح المعتقلين) ... ثم قال (لأجل استنكار اعتقال خطباء الجمعة ارفعوا اصواتكم بالصلاة على محمد وآل محمد. ولأجل المطالبة باطلاق سراحهم فوراً صلوا على محمد وآل محمد، ولأجل عدم حصول ذلك مستقبلاً الصلاة على محمد وآل محمد، وهناك فكرة لانشاء بناء في مسجد الكوفة ليعيق المصلين يوم الجمعة ولأجل استنكار هذه الفكرة الخبيثة، الصلاة على محمد وآل محمد) [10] ... ولما وجدت السلطة هذا التحدي الصارخ من قبل السيد والجماهير معاً، تحدياً لم يسبق له مثيل بهذه القوة وهذا الاجماع وفي حكم صدام التكريتي، فاضطر صدام للاتصال مباشرة به وطلب منه الامتناع عن اداء صلاة الجمعة فرفض السيد وتحدى السلطة وصدام واضعاً دمه على كفه، فاستشهد مع ولديه السيدين مصطفى ومؤمل باطلاق النار عليهم بعد ادائه لصلاة الجمعة الأخيرة.