الدكتور عادل رضا
09-09-2004, 05:22 PM
صراع قوي أم صراع رؤي؟ - 11 سبتمبر في الذكري الأولي - د. حسن حنفي
الإسلام المستنير مصطلح شائع منذ عقدين من الزمان. ويشير إلي تيار فكري يجمع
بين الإسلام والعصر، الماضي والحاضر، وكما عرف باسم الأصالة والمعاصرة أو التراث والتجديد، ويقال عادة إنه لا يوجد إسلام مستنير وإسلام غير مستنير فالإسلام واحد. والواقع أن الإسلام المستنير تيار ثقافي يوجد في كل عصر عبر تاريخ الإسلام الطويل يشير إلي تفسير معين للنصوص، واختيار جماعي معين. فهو يشير إلي تيار اجتماعي في مقابل تيارات أخري كما هو الحال في الفرق الكلامية معتزلة وأشاعرة، وفي المذاهب الفقهية مالكية وحنفية وشافعية وحنبلية، واتجاهات عقلية أو اشراقية، ومذاهب صوفية معتدلة ومغالية. وكلها تنتسب إلي الإسلام. الإسلام المستنير يمثل إحدي فرق العصر الحديث الكلامية ومذاهب الفقهية، وتياراته الفلسفية. وهو قادر علي أن يكون جسرا بين التيارات المتصارعة في عصرنا الحاضر وينهي القتال الدامي بين الأخوة الأعداء، العلمانيين، والسلفيين، أنصار الدنيا وأنصار الدين، المتحررين والمحافظين. يد مع العلمانيين وأنصار الدنيا والمتحررين لأنه يدافع عن مصالح الناس.
وبقدر ما تتعدد القوي تتعدد الرؤي. فالحدث نفسه، 11 أيلول (سبتمبر) مثلا يعبر عن صراع قوتين، قوة معلومة هي الولايات المتحدة الأمريكية وقوة مجهولة تناوئها، وتعاملها بالمنطق نفسه، منطق القوة، فلا يفل الحديد إلا الحديد. وكل قوة تستعمل عناصر مقوماتها، القوة العلنية تستعمل الآلة العسكرية والاقتصادية والإعلامية والقوة السرية تستعمل المفاجأة وضرب رموز الهيمنة الاقتصادية (منظمة التجارة العالمية)، والعسكرية (البنتاجون)، والسياسية (البيت الأبيض) بطائرات مدنية مختطفة ومن حيث لا ينتظر العدو الذي تعود علي مواجهة القوي الكبري والاستعداد بالصواريخ العابرة للقارات والصواريخ المضادة للصواريخ وحرب النجوم.
والكل يتذكر 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في نيويورك وواشنطن ولا أحد يتذكر 28 أيلول (سبتمبر) 2000 بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، الانتفاضة المسلحة، انتفاضة الأقصي، انتفاضة الاستقلال. تركناها بمفردها علي مدي عام، تهديم المنازل، وتجريف الأرض، وقتل الأطفال، والتصفية الجسدية للنشطاء أمام العجز العربي، العجز الكلي للنظم والتحركات النسبية للشعوب فكان لابد من أحد كي يصرخ ويعترض. أنين عال بصوت مدو يسمعه الجميع. فسبتمبر الثانية رد فعل علي سبتمبر الأولي. سبتمبر نيويورك وواشنطن رد فعل علي سبتمبر جنين ورام الله وطولكرم ونابلس والخليل.
فما هي دلالة 11 أيلول (سبتمبر) في ذكراه الأولي باعتبارها حدثا يعبر عن صراع قوي، كما يعبر صراع القوي عن صراع رؤي؟ وهل يمكن أن يتكرر طالما أن صراع القوي ما زال مستمرا وأن الرؤي لم تتغير، رؤية كل طرف للآخر؟ وهل في التاريخ القريب أو البعيد ما يشهد باستمرار هذا الصراع أو بتخفيف حدته وعودة الثقة إلي الأطراف المتصارعة؟
حوار الأديان
ففي التاريخ القريب وبعد حركات التحرر من الاستعمار بدأت موجات الحوار وأشكاله المختلفة بين المستعمِر القديم والمتحرر الحديث، بداية بحوار الأديان حتي يتواري الإسلام كعنصر من حركات المقاومة وأحد روافد حركات التحرر الوطني في المغرب العربي كله وفي شبه الجزيرة العربية. وكانت المبادرات باستمرار من الغرب من أجل بيان الاتفاق بين الإسلام والمسيحية في القيم مثل المحبة والسلام واحترام الآخر من أجل إخفاء حدة الصراع بين الغرب والإسلام تمهيدا لأشكال أخري من الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية.
ثم استـُؤنف حوار الأديان في حوار الحضارات بعد حوادث أيلول (سبتمبر) الماضي بعد مقالة هنتنغتون الشهيرة التي كان الهدف منها أيضا إخفاء صراع المصالح، والاعلان عما مارسه الغرب عمليا منذ عصوره الحديثة والالتفاف حول العالم القديم من البحار والمحيطات بعد أن فشل غزو القلب من داخل البحر الأبيض المتوسط إلي فلسطين أثناء الحروب الصليبية. فاحتل نصف الكرة الغربي، وتم القضاء علي السكان الأصليين واستئصالهم ومن بقي منهم في محميات كموضوعات للسينما والمتاحف وتاريخ الفنون والأنثروبولوجيا. احتلها البريطانيون والفرنسيون والأسبان والبرتغاليون وكل الهاربين والخارجين علي القانون والمضطهدون في الغرب القديم. وتم الالتفاف حول أفريقيا بعد احتلال سواحلها واصطياد عشرات الملايين من سكانها عبيداً إلي نصف الكرة الغربي لتعميره. وأصبحت أفريقيا أنجلوفونية وفرانكفونية، وضاع احتمال وجود لغة واحدة للقارة السمراء، السواحيلي أو الزولو. وحدث الشيء نفسه في آسيا عندما قضت بريطانيا علي امبراطورية المغول في الهند وقضت علي أول تجربة وحدوية في تاريخها بفضل الإسلام ومحمود الغزنوي. وانتشرت اللغات الأسبانية والبرتغالية والهولندية في جنوب شرق آسيا. وشعر المسلمون في آسيا كالمسلمين في أفريقيا بأنهم مهددون ثقافة ولغة وتراثا ومصالح وأمة. وما زال هذا الإحساس يتراكم يوما بعد يوم حتي انفجر في ايلول (سبتمبر) الماضي وما زال قادرا علي الانفجار مرات أخري وبأشكال متعددة.
واستمر الحوار بعد ذلك باسم حوار الشرق والغرب في عصر الاستقطاب، وانتهي بانتهائه بعد أن أصبح الشرق جزءا من الغرب. انتهي حلف وارسو وأصبح جزءا من حلف الأطلنطي، وأصبحت أوروبا ممتدة من الأطلنطي حتي الأورال. ثم بدأ حوار الشمال والجنوب كحوار بين (الطرشان)، الشمال يريد استغلال الجنوب كأسواق وعمالة ومواد أولية، والجنوب يود استكمال حركات تحرره الوطني في فلسطين وكشمير وسبته ومليلية بالإضافة إلي المشاركة في ثروات العالم تعويضا له عن قرون الاستعمار.
ثم بدأت مبادرات لأشكال أخري من الحوار مثل الحوار المتوسطي لادخال إسرائيل كطرف فيه، وإزاحة القومية العربية التي تشمل دولا غير متوسطية مثل دول شبه الجزيرة العربية والعراق والسودان والصومال وموريتانيا، ولربط نصف الوطن العربي بالغرب باسم البحر الأبيض المتوسط، ثقافة وتاريخا وجوارا في حين يرتبط النصف الآخر بآسيا وأفريقيا للقضاء علي وحدة الوطن العربي. ثم هناك الحوار الشرق أوسطي الذي يهدف أيضا إلي إدخال إسرائيل طرفا فيه باعتبارها دولة شرق أوسطية مع إيران وتركيا وقبرص واليونان. ومن ثم يتم القضاء علي القومية العربية كوحدة قومية وعلي الإسلام كأمة واتساع جغرافي وعمق تاريخي.
وقد وقعت حوادث سبتمبر الماضي بعد مؤتمر دوربان الأخير حيث رفضت الولايات المتحدة الاعتذار أو التعويض لاصطياد الملايين من أفريقيا عبيدا لتعمير نصف الكرة الغربي. كما رفضت مع إسرائيل مساواة الصهيونية بالعنصرية ومعاداة الولايات المتحدة وإسرائيل لشعوب العالم كلها ممثلة في المنظمات غير الحكومية.كان الجو مشحونا بين الولايات المتحدة والعالم كله.
واستعادت الذاكرة أجواء الستينيات والعدوان الأمريكي علي شعب فيتنام وحركات التحرر الوطني في ذروتها. وأصبحت العولمة شبحا جديدا يقلق الشعوب، وتعبر عن أحد أشكال الهيمنة للمركزية الأوروبية. ورموزها منظمة التجارة العالمية، البيت الأبيض، البنتاغون، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، الشركات العابرة للقارات، مجموعة الثمانية كمؤسسات مالية واقتصادية باسم ثورة الاتصالات، والعالم قرية واحدة، واقتصاد السوق، ونهاية التاريخ، والديمقراطية والمجتمع الحر والليبرالية، مع استخدام المنظمات الدولية كغطاء شرعي للعدوان علي الشعوب.
نشأ لدي شعوب العالم الثالث، والشعوب الإسلامية في قلبها إحساس بالظلم والامتهان والعجز أمام هذا (الشيطان الأكبر) بتعبير الثورة الإسلامية في إيران. وبدأ استقطاب جديد ينشأ بين المستكبرين وعلي قمتهم الولايات المتحدة الأمريكية والمستضعفين وفي أدناهم المسلمون. وأصيب الغرب بالغرور، غرور القوة والاستعلاء في الأرض، واختالوا مرحا. وانقسم العالم فسطاطين، فسطاط العدوان والكبر والظلم وفسطاط المعتدي عليه والعجز وضياع الحقوق. وفي الوقت نفسه يتم تبرير العدوان بمعايير مزدوجة تقوم علي النفاق والإدعاء الكاذب. ففي الوقت نفسه الذي يتم فيه العدوان علي الشعوب لتخليصها من النظم التسلطية يتم تدعيم النظم التسلطية ضد الشعوب إذا ما كانت هذه النظم موالية للغرب. وتوصف المقاومة الفلسطينية بأنها إرهاب، والعدوان الإسرائيلي علي شعب فلسطين بالدفاع عن النفس. ويلصق الإرهاب بالدين، والدين هو الإسلام ولا يوصف العنف الأيرلندي بأنه إرهاب ديني أو العنف في منطقة الباسك أو في الهند ضد المسلمين خاصة في كشمير بأنه إرهاب. أصبح الإرهاب، إرهاب الأمراء وليس إرهاب الدول. والمجتمع الأمريكي من البداية إلي النهاية قام علي الإرهاب والاستئصال والجماعات الدينية والسياسية المتطرفة مثل جماعة (ويكو) التي حرقتها أمريكا والجماعات الرافضة للفيدرالية التي دمرت المبني الفيدرالي في أوكلاهوما.
وبعد سقوط المنظومة الاشتراكية واختفاء العدو الأحمر وراء (الستار الحديدي) ونهاية النظم (الشمولية) حاول الغرب إيجاد عدو جديد يبرر عدوانه عليه وتنشيط المجمع الصناعي العسكري. فوجده في الإسلام في أوروبا الشرقية بدعوي تهديد الهوية الأوروبية وعدم السماح بقيام دولة إسلامية في أوروبا، يكفيه تركيا في جناحها الأوروبي، استانبول وريثة القسطنطينية. ولا يريد مسلمين مهاجرين في أوروبا يهددون الهوية العنصرية البيضاء في ألمانيا وفرنسا مع تصاعد اليمين الأوروبي. والإسلام ما زال يقاوم في إيران الثورة، وفي فلسطين المقاومة، وفي جنوب لبنان المحررة، وفي الجمهوريات الإسلامية المستقلة في أواسط آسيا، وفي النهضة الصناعية لماليزيا وأندونيسيا حيث الإسلام هو الهوية الوطنية والباعث علي التقدم والنهضة. فتحول الإسلام إلي عدو متوهم بديل عن الشيوعية والنظم الشمولية. فالإسلام هو الإرهاب والعنف والتخلف والقهر والسفه والخرافة إلي آخر ما تروجه أجهز الإعلام الغربية وكتب المدارس والأعمال الأدبية المسموعة والمرئية من صور سلبية للعرب والمسلمين. ويصرح به أحيانا قادة الغرب في ما يسمي بزلات اللسان. أصبح كل المسلمين (طالبان)، وكل القادة (أسامة بن لادن)، وكل النظم الإسلامية (القاعدة)، وكل مظاهر الحداثة المرأة المحجبة وراء الأسوار. ونسي الغرب أن هذا الإسلام هو أيضا وراء الحضارة الإسلامية الزاهرة وما أبدعته من علوم رياضية وطبيعية ترجمها الغرب من العربية إلي اللاتينية مباشرة أو عبر العبرية وكانت وراء نهضته الحديثة. وهو ما زال باقيا في غرناطة وأشبيلية وقرطبة وطليطلة وبيزنطة وجنوب إيطاليا وصقلية.
اسلام تقليدي
والإسلام التقليدي هو الغالب علي الحركة الإصلاحية المعاصرة، وما يتعلمه الطلاب في الجامعات الدينية مثل الأزهر والقرويين والزيتونة والإمام وديوباند في الهند. وهو إسلام حرفي نصي تعبدي شعائري من حيث السلوك الفردي وجهادي نضالي مقاوم من حيث الجماعة. وهو الإسلام الذي حملته العمائم في أفغانستان والذي رعته (القاعدة). والحقيقة أنه الإسلام الذي حافظ علي الهوية في لحظات الضعف. فالانغلاق علي الذات أحد وسائل الدفاع عن النفس ضد مخاطر الاغتراب في الغير. هو الإسلام الذي ما زال يعطي الأمة حياتها وبقاءها علي مدي التاريخ. وربما يكون هو المرشح لأن يقوم بدور القطب الثاني في مواجهة القطب الأول بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. فهو ما زال حيا في القلوب. لم يقطع المسلمون مع تراثهم القديم كما قطع الغرب. وما زال المسلمون يتساءلون عن ماضيهم الزاهر وكيفية استعادته، ومستقبلهم وكيفية الوصول إليه، وحاضرهم وكيفية الخروج من المأزق الراهن، الاحتلال والقهر والفقر والتجزئة والتبعية والتغريب واللامبالاة.
لذلك سيظل التوتر بين الإسلام والغرب قائما طالما هناك إحساس بالظلم والإحباط عند المسلمين، وبالتفوق والعظمة في الغرب. يعيش كلاهما علي شاطئ البحر الأبيض المتوسط، الغرب في الشمال، والإسلام في الجنوب. إذا قوي الشاطئ الشمالي امتد إلي الجنوب كما كان الحال في العصر اليوناني الروماني، والغرب الاستعماري الحديث، وإذا قوي الشاطئ الجنوبي امتد إلي الشمال كما كان الحال في أيام الفتوحات الأولي حين انتشر الإسلام في الأندلس وجنوب إيطاليا وصقلية ومالطة. وإذا كان الغرب الآن في أزمة قيم، وكان الإسلام هو الدين الثاني في أوروبا فهل يستطيع الإسلام أن يعود إلي الانتشار من الجنوب إلي الشمال ليس فقط عن طريق الهجرات العربية ولكن عن طريق القيم الإسلامية التي يحتاجها الغرب ويتحول إلي الإسلام من أجلها، التعاون، والروحانية، والمساواة بين البشر؟ هذا هو تحدي المستقبل بالنسبة للإسلام والغرب، أن يقدم الإسلام نفسه باعتباره منقذا لإفلاس القيم في الغرب، وأن يقدم الغرب نفسه للإسلام باعتباره صديقا متساويا معه في شراكة تتكافأ فيها الأطراف. كان الغرب معلما للإسلام مرتين، في العصر اليوناني الروماني، وفي العصر الحديث. وكان الإسلام معلما للغرب مرتين، في بدايات عصر النهضة الأوروبي وربما الآن بما يمكن أن يمده الإسلام للغرب من قيم جديدة. فهل يأتي عصر قادم يتعلم الإسلام والغرب، كل منهما من الآخر، معلمين ومتعلمين متكافئين، من دون النموذج الأحادي، المعلم الأبدي والتلميذ الأبدي الذي يعبر عن المركزية الأوروبية الحديثة، وثنائية المركز والأطراف؟
جريدة (الزمان) العدد 1307 التاريخ 2002 - 9 -9
الإسلام المستنير مصطلح شائع منذ عقدين من الزمان. ويشير إلي تيار فكري يجمع
بين الإسلام والعصر، الماضي والحاضر، وكما عرف باسم الأصالة والمعاصرة أو التراث والتجديد، ويقال عادة إنه لا يوجد إسلام مستنير وإسلام غير مستنير فالإسلام واحد. والواقع أن الإسلام المستنير تيار ثقافي يوجد في كل عصر عبر تاريخ الإسلام الطويل يشير إلي تفسير معين للنصوص، واختيار جماعي معين. فهو يشير إلي تيار اجتماعي في مقابل تيارات أخري كما هو الحال في الفرق الكلامية معتزلة وأشاعرة، وفي المذاهب الفقهية مالكية وحنفية وشافعية وحنبلية، واتجاهات عقلية أو اشراقية، ومذاهب صوفية معتدلة ومغالية. وكلها تنتسب إلي الإسلام. الإسلام المستنير يمثل إحدي فرق العصر الحديث الكلامية ومذاهب الفقهية، وتياراته الفلسفية. وهو قادر علي أن يكون جسرا بين التيارات المتصارعة في عصرنا الحاضر وينهي القتال الدامي بين الأخوة الأعداء، العلمانيين، والسلفيين، أنصار الدنيا وأنصار الدين، المتحررين والمحافظين. يد مع العلمانيين وأنصار الدنيا والمتحررين لأنه يدافع عن مصالح الناس.
وبقدر ما تتعدد القوي تتعدد الرؤي. فالحدث نفسه، 11 أيلول (سبتمبر) مثلا يعبر عن صراع قوتين، قوة معلومة هي الولايات المتحدة الأمريكية وقوة مجهولة تناوئها، وتعاملها بالمنطق نفسه، منطق القوة، فلا يفل الحديد إلا الحديد. وكل قوة تستعمل عناصر مقوماتها، القوة العلنية تستعمل الآلة العسكرية والاقتصادية والإعلامية والقوة السرية تستعمل المفاجأة وضرب رموز الهيمنة الاقتصادية (منظمة التجارة العالمية)، والعسكرية (البنتاجون)، والسياسية (البيت الأبيض) بطائرات مدنية مختطفة ومن حيث لا ينتظر العدو الذي تعود علي مواجهة القوي الكبري والاستعداد بالصواريخ العابرة للقارات والصواريخ المضادة للصواريخ وحرب النجوم.
والكل يتذكر 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في نيويورك وواشنطن ولا أحد يتذكر 28 أيلول (سبتمبر) 2000 بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، الانتفاضة المسلحة، انتفاضة الأقصي، انتفاضة الاستقلال. تركناها بمفردها علي مدي عام، تهديم المنازل، وتجريف الأرض، وقتل الأطفال، والتصفية الجسدية للنشطاء أمام العجز العربي، العجز الكلي للنظم والتحركات النسبية للشعوب فكان لابد من أحد كي يصرخ ويعترض. أنين عال بصوت مدو يسمعه الجميع. فسبتمبر الثانية رد فعل علي سبتمبر الأولي. سبتمبر نيويورك وواشنطن رد فعل علي سبتمبر جنين ورام الله وطولكرم ونابلس والخليل.
فما هي دلالة 11 أيلول (سبتمبر) في ذكراه الأولي باعتبارها حدثا يعبر عن صراع قوي، كما يعبر صراع القوي عن صراع رؤي؟ وهل يمكن أن يتكرر طالما أن صراع القوي ما زال مستمرا وأن الرؤي لم تتغير، رؤية كل طرف للآخر؟ وهل في التاريخ القريب أو البعيد ما يشهد باستمرار هذا الصراع أو بتخفيف حدته وعودة الثقة إلي الأطراف المتصارعة؟
حوار الأديان
ففي التاريخ القريب وبعد حركات التحرر من الاستعمار بدأت موجات الحوار وأشكاله المختلفة بين المستعمِر القديم والمتحرر الحديث، بداية بحوار الأديان حتي يتواري الإسلام كعنصر من حركات المقاومة وأحد روافد حركات التحرر الوطني في المغرب العربي كله وفي شبه الجزيرة العربية. وكانت المبادرات باستمرار من الغرب من أجل بيان الاتفاق بين الإسلام والمسيحية في القيم مثل المحبة والسلام واحترام الآخر من أجل إخفاء حدة الصراع بين الغرب والإسلام تمهيدا لأشكال أخري من الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية.
ثم استـُؤنف حوار الأديان في حوار الحضارات بعد حوادث أيلول (سبتمبر) الماضي بعد مقالة هنتنغتون الشهيرة التي كان الهدف منها أيضا إخفاء صراع المصالح، والاعلان عما مارسه الغرب عمليا منذ عصوره الحديثة والالتفاف حول العالم القديم من البحار والمحيطات بعد أن فشل غزو القلب من داخل البحر الأبيض المتوسط إلي فلسطين أثناء الحروب الصليبية. فاحتل نصف الكرة الغربي، وتم القضاء علي السكان الأصليين واستئصالهم ومن بقي منهم في محميات كموضوعات للسينما والمتاحف وتاريخ الفنون والأنثروبولوجيا. احتلها البريطانيون والفرنسيون والأسبان والبرتغاليون وكل الهاربين والخارجين علي القانون والمضطهدون في الغرب القديم. وتم الالتفاف حول أفريقيا بعد احتلال سواحلها واصطياد عشرات الملايين من سكانها عبيداً إلي نصف الكرة الغربي لتعميره. وأصبحت أفريقيا أنجلوفونية وفرانكفونية، وضاع احتمال وجود لغة واحدة للقارة السمراء، السواحيلي أو الزولو. وحدث الشيء نفسه في آسيا عندما قضت بريطانيا علي امبراطورية المغول في الهند وقضت علي أول تجربة وحدوية في تاريخها بفضل الإسلام ومحمود الغزنوي. وانتشرت اللغات الأسبانية والبرتغالية والهولندية في جنوب شرق آسيا. وشعر المسلمون في آسيا كالمسلمين في أفريقيا بأنهم مهددون ثقافة ولغة وتراثا ومصالح وأمة. وما زال هذا الإحساس يتراكم يوما بعد يوم حتي انفجر في ايلول (سبتمبر) الماضي وما زال قادرا علي الانفجار مرات أخري وبأشكال متعددة.
واستمر الحوار بعد ذلك باسم حوار الشرق والغرب في عصر الاستقطاب، وانتهي بانتهائه بعد أن أصبح الشرق جزءا من الغرب. انتهي حلف وارسو وأصبح جزءا من حلف الأطلنطي، وأصبحت أوروبا ممتدة من الأطلنطي حتي الأورال. ثم بدأ حوار الشمال والجنوب كحوار بين (الطرشان)، الشمال يريد استغلال الجنوب كأسواق وعمالة ومواد أولية، والجنوب يود استكمال حركات تحرره الوطني في فلسطين وكشمير وسبته ومليلية بالإضافة إلي المشاركة في ثروات العالم تعويضا له عن قرون الاستعمار.
ثم بدأت مبادرات لأشكال أخري من الحوار مثل الحوار المتوسطي لادخال إسرائيل كطرف فيه، وإزاحة القومية العربية التي تشمل دولا غير متوسطية مثل دول شبه الجزيرة العربية والعراق والسودان والصومال وموريتانيا، ولربط نصف الوطن العربي بالغرب باسم البحر الأبيض المتوسط، ثقافة وتاريخا وجوارا في حين يرتبط النصف الآخر بآسيا وأفريقيا للقضاء علي وحدة الوطن العربي. ثم هناك الحوار الشرق أوسطي الذي يهدف أيضا إلي إدخال إسرائيل طرفا فيه باعتبارها دولة شرق أوسطية مع إيران وتركيا وقبرص واليونان. ومن ثم يتم القضاء علي القومية العربية كوحدة قومية وعلي الإسلام كأمة واتساع جغرافي وعمق تاريخي.
وقد وقعت حوادث سبتمبر الماضي بعد مؤتمر دوربان الأخير حيث رفضت الولايات المتحدة الاعتذار أو التعويض لاصطياد الملايين من أفريقيا عبيدا لتعمير نصف الكرة الغربي. كما رفضت مع إسرائيل مساواة الصهيونية بالعنصرية ومعاداة الولايات المتحدة وإسرائيل لشعوب العالم كلها ممثلة في المنظمات غير الحكومية.كان الجو مشحونا بين الولايات المتحدة والعالم كله.
واستعادت الذاكرة أجواء الستينيات والعدوان الأمريكي علي شعب فيتنام وحركات التحرر الوطني في ذروتها. وأصبحت العولمة شبحا جديدا يقلق الشعوب، وتعبر عن أحد أشكال الهيمنة للمركزية الأوروبية. ورموزها منظمة التجارة العالمية، البيت الأبيض، البنتاغون، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، الشركات العابرة للقارات، مجموعة الثمانية كمؤسسات مالية واقتصادية باسم ثورة الاتصالات، والعالم قرية واحدة، واقتصاد السوق، ونهاية التاريخ، والديمقراطية والمجتمع الحر والليبرالية، مع استخدام المنظمات الدولية كغطاء شرعي للعدوان علي الشعوب.
نشأ لدي شعوب العالم الثالث، والشعوب الإسلامية في قلبها إحساس بالظلم والامتهان والعجز أمام هذا (الشيطان الأكبر) بتعبير الثورة الإسلامية في إيران. وبدأ استقطاب جديد ينشأ بين المستكبرين وعلي قمتهم الولايات المتحدة الأمريكية والمستضعفين وفي أدناهم المسلمون. وأصيب الغرب بالغرور، غرور القوة والاستعلاء في الأرض، واختالوا مرحا. وانقسم العالم فسطاطين، فسطاط العدوان والكبر والظلم وفسطاط المعتدي عليه والعجز وضياع الحقوق. وفي الوقت نفسه يتم تبرير العدوان بمعايير مزدوجة تقوم علي النفاق والإدعاء الكاذب. ففي الوقت نفسه الذي يتم فيه العدوان علي الشعوب لتخليصها من النظم التسلطية يتم تدعيم النظم التسلطية ضد الشعوب إذا ما كانت هذه النظم موالية للغرب. وتوصف المقاومة الفلسطينية بأنها إرهاب، والعدوان الإسرائيلي علي شعب فلسطين بالدفاع عن النفس. ويلصق الإرهاب بالدين، والدين هو الإسلام ولا يوصف العنف الأيرلندي بأنه إرهاب ديني أو العنف في منطقة الباسك أو في الهند ضد المسلمين خاصة في كشمير بأنه إرهاب. أصبح الإرهاب، إرهاب الأمراء وليس إرهاب الدول. والمجتمع الأمريكي من البداية إلي النهاية قام علي الإرهاب والاستئصال والجماعات الدينية والسياسية المتطرفة مثل جماعة (ويكو) التي حرقتها أمريكا والجماعات الرافضة للفيدرالية التي دمرت المبني الفيدرالي في أوكلاهوما.
وبعد سقوط المنظومة الاشتراكية واختفاء العدو الأحمر وراء (الستار الحديدي) ونهاية النظم (الشمولية) حاول الغرب إيجاد عدو جديد يبرر عدوانه عليه وتنشيط المجمع الصناعي العسكري. فوجده في الإسلام في أوروبا الشرقية بدعوي تهديد الهوية الأوروبية وعدم السماح بقيام دولة إسلامية في أوروبا، يكفيه تركيا في جناحها الأوروبي، استانبول وريثة القسطنطينية. ولا يريد مسلمين مهاجرين في أوروبا يهددون الهوية العنصرية البيضاء في ألمانيا وفرنسا مع تصاعد اليمين الأوروبي. والإسلام ما زال يقاوم في إيران الثورة، وفي فلسطين المقاومة، وفي جنوب لبنان المحررة، وفي الجمهوريات الإسلامية المستقلة في أواسط آسيا، وفي النهضة الصناعية لماليزيا وأندونيسيا حيث الإسلام هو الهوية الوطنية والباعث علي التقدم والنهضة. فتحول الإسلام إلي عدو متوهم بديل عن الشيوعية والنظم الشمولية. فالإسلام هو الإرهاب والعنف والتخلف والقهر والسفه والخرافة إلي آخر ما تروجه أجهز الإعلام الغربية وكتب المدارس والأعمال الأدبية المسموعة والمرئية من صور سلبية للعرب والمسلمين. ويصرح به أحيانا قادة الغرب في ما يسمي بزلات اللسان. أصبح كل المسلمين (طالبان)، وكل القادة (أسامة بن لادن)، وكل النظم الإسلامية (القاعدة)، وكل مظاهر الحداثة المرأة المحجبة وراء الأسوار. ونسي الغرب أن هذا الإسلام هو أيضا وراء الحضارة الإسلامية الزاهرة وما أبدعته من علوم رياضية وطبيعية ترجمها الغرب من العربية إلي اللاتينية مباشرة أو عبر العبرية وكانت وراء نهضته الحديثة. وهو ما زال باقيا في غرناطة وأشبيلية وقرطبة وطليطلة وبيزنطة وجنوب إيطاليا وصقلية.
اسلام تقليدي
والإسلام التقليدي هو الغالب علي الحركة الإصلاحية المعاصرة، وما يتعلمه الطلاب في الجامعات الدينية مثل الأزهر والقرويين والزيتونة والإمام وديوباند في الهند. وهو إسلام حرفي نصي تعبدي شعائري من حيث السلوك الفردي وجهادي نضالي مقاوم من حيث الجماعة. وهو الإسلام الذي حملته العمائم في أفغانستان والذي رعته (القاعدة). والحقيقة أنه الإسلام الذي حافظ علي الهوية في لحظات الضعف. فالانغلاق علي الذات أحد وسائل الدفاع عن النفس ضد مخاطر الاغتراب في الغير. هو الإسلام الذي ما زال يعطي الأمة حياتها وبقاءها علي مدي التاريخ. وربما يكون هو المرشح لأن يقوم بدور القطب الثاني في مواجهة القطب الأول بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. فهو ما زال حيا في القلوب. لم يقطع المسلمون مع تراثهم القديم كما قطع الغرب. وما زال المسلمون يتساءلون عن ماضيهم الزاهر وكيفية استعادته، ومستقبلهم وكيفية الوصول إليه، وحاضرهم وكيفية الخروج من المأزق الراهن، الاحتلال والقهر والفقر والتجزئة والتبعية والتغريب واللامبالاة.
لذلك سيظل التوتر بين الإسلام والغرب قائما طالما هناك إحساس بالظلم والإحباط عند المسلمين، وبالتفوق والعظمة في الغرب. يعيش كلاهما علي شاطئ البحر الأبيض المتوسط، الغرب في الشمال، والإسلام في الجنوب. إذا قوي الشاطئ الشمالي امتد إلي الجنوب كما كان الحال في العصر اليوناني الروماني، والغرب الاستعماري الحديث، وإذا قوي الشاطئ الجنوبي امتد إلي الشمال كما كان الحال في أيام الفتوحات الأولي حين انتشر الإسلام في الأندلس وجنوب إيطاليا وصقلية ومالطة. وإذا كان الغرب الآن في أزمة قيم، وكان الإسلام هو الدين الثاني في أوروبا فهل يستطيع الإسلام أن يعود إلي الانتشار من الجنوب إلي الشمال ليس فقط عن طريق الهجرات العربية ولكن عن طريق القيم الإسلامية التي يحتاجها الغرب ويتحول إلي الإسلام من أجلها، التعاون، والروحانية، والمساواة بين البشر؟ هذا هو تحدي المستقبل بالنسبة للإسلام والغرب، أن يقدم الإسلام نفسه باعتباره منقذا لإفلاس القيم في الغرب، وأن يقدم الغرب نفسه للإسلام باعتباره صديقا متساويا معه في شراكة تتكافأ فيها الأطراف. كان الغرب معلما للإسلام مرتين، في العصر اليوناني الروماني، وفي العصر الحديث. وكان الإسلام معلما للغرب مرتين، في بدايات عصر النهضة الأوروبي وربما الآن بما يمكن أن يمده الإسلام للغرب من قيم جديدة. فهل يأتي عصر قادم يتعلم الإسلام والغرب، كل منهما من الآخر، معلمين ومتعلمين متكافئين، من دون النموذج الأحادي، المعلم الأبدي والتلميذ الأبدي الذي يعبر عن المركزية الأوروبية الحديثة، وثنائية المركز والأطراف؟
جريدة (الزمان) العدد 1307 التاريخ 2002 - 9 -9