هبة الله
05-02-2003, 05:21 PM
http://www.balagh.com/mosoa/tablg/images/223702.jpg
* علاقة الإيمان بالعمل ...
أراد الإسلام من الإنسان المسلم في حياته العامة والخاصة .. أن يعيش إيمانه ويجسده في كل عمل .. كمسلم يعتقد أن الإسلام عقيدة وعمل .. فلا قيمة للإيمان بلا عمل .. ولا قيمة للعمل بلا إيمان ...
ولذلك رأينا القرآن الكريم .. يقرن الإيمان بالعمل الصالح في كل آية يذكر فيها الإيمان كقيمة آخروية كبيرة .. للإيحاء باقترانهما في مجال العقيدة والحياة ...
وقد تردد كثيراً في الأحاديث .. أن الإيمان بلا عمل كالشجر بلا ثمر .. وقد جاء في بعض أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام إعتبار (الإيمان هو العمل) .. مما يوحي بأن الإيمان في الإسلام .. يعبر عن مضمون عملي .. كما يعبر عن مضمون قلبي ...
فقد روى الجعفي ـ كما في الكافي ـ قال : سألت أبا عبد الله (جعفر الصادق) عن الإيمان فقال : الإيمان أن يطاع الله فلا يعصى ...
وفي حديث الكناني عن أبي جعفر (الإمام محمد الباقر) قال : قيل لأمير المؤمنين من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله كان مؤمنا .. قال فأين فرائض الله ...
وسمعته يقول : كان علي (ع) يقول لو كان الإيمان كلاماً لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام ...
وفي حديث محمد بن حكيم قال : قلت لأبي الحسن : " الكبائر تخرج من الإيمان ؟ .. قال نعم وما دون الكبائر .. قال رسول الله (ص) لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن ...
* تأثير السيرة العملية للداعية على تجاوب الناس (مع الفكرة) ...
هذا في موضوع المؤمن بشكل عام .. أما إذا انطلق المسلم في مجال الدعوة إلى الله .. فإن القضية تأخذ بعداً جديداً .. ووضعاً خاصاً .. لأن الجانب العملي .. لا يتمثل في الحياة الخاصة .. التي تحدد للإنسان مصيره في الدنيا والآخرة .. بل ينعكس على حركة الدعوة ومسيرتها الظافرة .. لما للسيرة العملية للداعية من تأثير على تجاوب الناس مع الفكرة .. وإنفعالهم بها وإيمانهم بجديتها وواقعيتها ...
ينما تعطي السيرة المضادة .. تأثيراً عكسياً يوحي بالابتعاد عنها .. نظراً إلى فقدان الانسجام في حياة الداعية بين النظرية والتطبيق .. فيولد في نفوس الآخرين إنطباعاً بأن هذه النظرية لم تطرح للتطبيق .. بل لتبقى فكرة حالمة خيالية .. كبقية الأفكار الحالمة الخيالية .. التي عاشت في إطار المثال .. ولم تقترب من إطار الواقع .. لأنها لم تستطع أن تغير حياة أصحابها .. فكيف يمكن أن يطلب منها تغيير حياة الآخرين ...
ولهذا كانت قيمة الرسالات السماوية .. أنها كانت تستمد قوتها في الدعوة من طبيعة الفكرة ومن تجسيدها .. واقعاً حياً في سلوك النبي وعمله .. ليسمع الناس حديث الدعوة من جهة .. ويتلمسوا واقعها في حركة الحياة الممتدة من جهة أخرى ...
( أ ) ـ تجسد الإسلام في سلوك النبي (ص) ...
وقد قال بعض الناس أن الله .. لو أرسل القرآن في كتاب مجموع منزل .. ولم يرتبط بحياة النبي وسلوكه .. لما استطاع الإسلام أن يخطو خطواته الكبيرة في الحياة ...
ولكن الناس .. كانوا يستمعون إلى القرآن من النبي من جهة .. وكانوا يشاهدونه كصورة حية متحركة في حياته من جهة أخرى .. فقد تجسدت لهم أخلاق النبي وأعماله قرآنا يتحرك على الأرض .. كما حدثت عنه زوجته " عائشة " ـ فيما روى عنها ـ أنها قالت ـ وقد سألت كيف تصف خلق النبي ـ " كان خلقه القرآن " ...
وقد كان حديث القرآن عن علاقة سلوكه القرآني .. بنجاحه في الدعوة .. صريحاً واضحاً وذلك هو قوله تعالى ...
( فبما رحمة من الله لنت لهم .. ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ) (159:3) ...
( وإنك لعلى خلق عظيم ) (4:68) ...
( لقد جاءكم رسول من أنفسكم .. عزيز عليه ما عنتم .. حريص عليكم بالمؤمنين .. رؤوف رحيم ) (128:9) ...
وقد ركز الإسلام على القدوة في عنصر الرسالة .. كما ركز على عنصر الدعوة .. فاعتبر عمله وتقريره سنة .. كما إعتبر قوله سنة .. فأوجب إتباع النبي (ص) في سلوكه كما في قوله تعالى ...
( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة .. لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر كثيراً ) (21:33) ...
كما أوجب إتباعه في دعوته كما في قوله تعالى :
( يا أيها الذين أمنوا إستجيبوا لله وللرسول .. إذ دعاكم لما يحييكم ) (24:8) ...
وربما كان هذا التركيز ـ من الإسلام ـ على عنصر القدوة .. إلى جانب تأكيده على عنصر الدعوة .. إيحاء للعاملين بأن من واجبهم أن يقتدوا بالنبي في ذلك .. ليكون سلوكهم دعوة .. كما يكون كلامهم دعوة .. فيرتبط الناس بأشخاصهم من ناحية عملية .. كما يرتبطون بأفكارهم من ناحية عقيدية ...
وجاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (ع) مخاطباً أصحابه :
" كونوا دعاة للناس بالخير .. بغير ألسنتكم .. ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع " ...
وقد أنذر الله المؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون إنذاراً صارخاً .. بأسلوب حازم وذلك قوله تعالى :
(يا أيها الذين أمنوا لم تقولون ما لا تفعلون .. كبر مقتاً عند الله .. أن تقولوا ما لا تفعلون ) (3:61) ...
وأنكر على أهل الكتاب .. هذه الازدواجية بين الأمر بالخير وبين العمل بالشر .. وذلك هو قوله تعالى :
( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم .. وأنتم تتلون الكتاب .. أفلا تعقلون ) (44:2) ...
( ب ) ـ تجسد الإسلام في سلوك الإمام علي (ع) ...
ولعلنا نلمح في سلوك الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب .. في ممارسته للمسئولية .. بالطريقة القاسية .. التي ألزم بها نفسه ...
هذا الاتجاه الإسلامي .. في تجسيد الانسجام بين القول وبين العمل .. حتى في الحالات الطارئة .. التي يمكن فيها للإنسان أن يأخذ لنفسه جانب الرخصة في كثير من جوانب العمل ...
لتكون الممارسة دعوة واقعية متجسدة .. تسجل على نفسها الموقف بصورة شديدة .. قبل أن تدعوا الآخرين إليه .. وذلك هو ما نستوحيه من قوله (عليه السلام) ... " ألا وأن لكل مأموم إماما يقتدي به ويستضئ بنور علمه .. ألا وأن إمامكم قد إكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه .. ألا وأنكم لا تقدرون على ذلك .. ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد "...
فقد أطلق الدعوة بالكلمة .. بعد أن جسدها واقعاً حياً بالسلوك العملي ...
وقد نستوحي ذلك من موقفه الذي وقفه ضد أولئك الذين جاءوا يطلبون إليه في بداية خلافته .. أن يقرب إليه رؤساء العشائر .. وولاة البلدان .. ليستميلهم إليه .. فإذا إستقام له الحكم وأمسك بزمام الأمور ..تصرف بما يحلو له .. مما يفرضه عليه خطه المستقيم في الحياة في السير على طريق الحق ما أمكنه ذلك ...
فامتنع عليهم أشد إمتناع وخاطبهم بهذه الكلمات الرائعة ...
" أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه .. والله لا أطور به ما سمر سمير .. وما أمّ نجم في السماء نجماً .. لو كان المال لي لسويت بينهم .. فكيف وإنما المال مال الله .. ألا وأن إعطاء المال في غير حقه تبذيراً وإسراف .. وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند الله ...
ولم يضع إمرؤ في غير حقه ولا عند غير أهله .. إلا حرمه الله شكرهم وكان لغيره ودهم .. فإن زلت به النعل يوماً .. فاحتاج إلى معونتهم .. فشر خليل وألأم خدين " ...
فإننا نستوحي من هذا الموقف دور الحاكم .. كما نستوحي دور الإنسان الرسالي .. الذي يطلق للناس دعوات الحق في خارج الحكم ليقربهم إلى الرسالة .. ويربطهم بها من خلال ذلك .. فإذا جاء إلى الحكم .. شعر بأن الموقف يفرض عليه مسئوليتين ...
مسئولية الناس في تحقيق المساواة بينهم وتطبيق الشريعة في حياتهم .. ومسئولية الرسالة في تحقيق الانسجام في إطارها بين جانب القول وبين جانب العمل .. للتدليل على واقعيتها وجديتها وإخلاص الداعين إليها والعاملين في سبيلها ...
وقد نشعر بالحاجة إلى بعض التفاصيل .. التي قد تحتاج إلى إلقاء الضوء عليها في قضايا القول والعمل في عدة نقاط :
1- أهمية فعل الداعي للمستحبات ...
ربما كان من الضروري أن لا يقتصر العاملون في سبيل الدعوة إلى الله .. على فعل الواجبات وترك المحرمات ..فإن ذلك قد يمثل قيمة دينية في مجال التقييم الإسلامي الذاتي للإنسان .. ولكنه لا يجسد القيمة الكبيرة في حياته كداعية ...
بل يحاولون أن يضيفوا إلى ذلك الأخذ بالمستحبات الشرعية .. التي تمثل المنهج العملي الإسلامي المرتبط بالجانب الأخلاقي .. الذي لا يلزم الإسلام به أتباعه بل يترك لهم أمر ممارسته بشكل اختياري .. وذلك بالأسلوب الذي تثير فيه التشريع أمام الإنسان رجحان الفعل .. ويلوح له بالثواب عليه .. ويؤمنه من العقاب في حال تركه .. لتكون الأخلاق الإسلامية نابعة من صميم الذات لا من طبيعة الإلزام ...
ثم قد يلزم الأمر أن يتركوا بعض المكروهات .. التي هي عكس المستحبات .. لأن الرجحان هنا في جانب الترك .. بينما كان هناك في جانب الفعل .. ولكنهما يلتقيان في بناء الشخصية الإسلامية القائمة على عنصر الاختيار .. لأن عناصر الشخصية تتكون من عنصر سلبي وعنصر إيجابي .. وقد تدعو الحاجة إلى أن يترك بعض المباحات إذا كان فعلها غير مألوف في حياة الناس مما يوجب الإضرار بالدعوة وبصاحبها ...
وهكذا نجد أن مسئوليته كداعية تقتضي أن يجسد المثل الرائع للإنسان المسلم في نظر الناس .. فيحبه الناس من خلال سلوكه .. ويتحول ذلك الحب .. إلى إخلاص لدعوته عندما يجدون الانسجام الكامل بين الدعوة وبين العمل ...
2- التأكيد على ممارسة الداعية لما يقول ...
إننا نحاول التأكيد على هذا الجانب من الممارسة في حياة الداعية .. إنطلاقاً من التجارب العملية التي عاشها بعض العاملين في الحقل الديني من علماء الدين وغيرهم ...
عندما إستسلموا إلى الحياة إستسلام المشغوفين بها .. المندفعين إليها .. بكل شوق ولهفة .. مما جعلهم يعبون منها بلا حساب .. ويستنزفون رخصها حتى آخر قطرة .. ويقتربون من محرماتها بأفكارهم وإن إبتعدوا عنها بأفعالهم .. حتى تراهم يفتشون عن وجوه الإباحة في كل مجال ...
أما المستحبات .. فلا يتعبون أنفسهم بها .. لأنها لا تستتبع العقاب في تركها .. أما ثوابها فلا حاجة لهم به .. فيكفيهم ما يحصلونه من الثواب في الواجبات .. وأما المكروهات والمباحات فلماذا يتركونها .. فهكذا يقولون .. وما دامت القضية لا تستتبع عقاباً في الفعل فلماذا يحرمون أنفسهم من الاستمتاع بعنصر الإباحة في الشرع .. فإن الله يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر ...
وتستمر الحياة بهم هكذا .. ويستمرون في مواعظهم ونصائحهم وإرشاداتهم .. ويتحدثون عن الزهد في الدنيا وما أعد الله للزاهدين .. ويقصون على الناس قصص الزهاد الذين يقتصرون على القليل القليل من الطعام .. ولكنهم لا يزهدون في الدنيا .. هذا الزهد الذي يحدثون الناس به ...
وتسألهم عن تفسير لذلك فيجيبونك بأن هذا الزهد ليس بواجب فلماذا نلزم أنفسنا به .. لأن الواجب علينا هو الزهد عن الحرام .. وهذا ما نفعله .. وهكذا ...
وقد ورد في بعض الأحاديث .. عن أئمة أهل البيت .. ما يشير إلى الوقوف موقف الحذر والإتهام .. من العناصر التي تعيش هذه الروح المشغوفة بالدنيا .. كما في الحديث الوارد عن الإمام جعفر الصادق (ع) قال : " إذا رأيتم العالم محباً لدنياه .. فاتهموه على دينكم .. فإن كل محب لشيء يحوط ما أحب " ...
3- ضرورة الإعداد الروحي والديني للداعية ...
إن القضية ـ كما ألمحنا إلى ذلك ـ لا تتجمد في موقف الإنسان الذاتي إزاء موضوع الدعوة إلى الدين والعمل به .. بل تمتد إلى قضية الدعوة كإطار .. تتحرك فيه العقيدة .. لتطبعها بطابع الثبات والجدية .. أو بطابع الإهتزاز وعدم الصدق .. بما يجعل من هذا السلوك الذي يمارسه العاملون في سبيل الله .. جريمة وخيانة للرسالة .. من حيث يريدون أو لا يريدون ...
ولهذا فإننا نريد التركيز على ضرورة الإعداد الروحي والديني للعلماء الدينيين والدعاة إلى الله إلى جانب الإعداد الثقافي والفكري .. ليستطيعوا الانطلاق إلى الدعوة من خلال العمل والتطبيق .. كما ينطلقون إليها من خلال الفكرة والنظرية ...
وذلك بالتوفر على الدراسة الدقيقة .. مع التحفظ على الأساليب المتعارفة لدى المرتاضين .. الذين يتولون تدريب أنفسهم وتدريب أتباعهم على جهاد النفس .. بالأساليب التي تخلق لدى الإنسان عقدة كبيرة في نهاية المطاف .. وبالمضمون الذي يلتقي مع الأفكار الإنعزالية التي تعزل الإنسان عن الحياة .. وتشل حركته حتى عن الدعوة إلى الله .. بسبب الخوف من الرياء أو غير ذلك .. مما يجعله ضعيف الإرادة عن مواجهة التحديات .. بدلاً من الحصول على القوة التي يواجه بها كل شيء ...
وقد شاركت هذه الأساليب .. في عزل كثير من الطاقات الحية وتجميدها عن العمل .. لأنها إعتبرت الرياضة الروحية هدفاً .. بعد أن كانت وسيلة .. وتعلمت من أساتذتها .. أن التأمل والتفرغ للعبادة والعزلة عن الناس .. هو السبيل للقرب من الله والحصول على رضاه ...
إننا نتحفظ في تشجيع ذلك .. لأننا نريد مواجهة الداعية للحياة .. بتربية روحية تربط الفكر والإرادة بالمضمون الإسلامي الذي يربط المؤمن بالحياة المتحركة النابضة بالحق .. وبعزله عن رغباتها وأوضاعها المنحرفة المرتبطة بخط الباطل ...
فليست الحركة في موضعها هدفاً مستقلاً .. وليست العزلة في مجالها ..هدفاً آخر ...
بل هما وسيلتان متكاملتان .. يكمل أحدهما الآخر في خلق الشخصية المسلمة الواعية المنفتحة على الحياة بالعمل .. وعلى داخل النفس بالرقابة والتربية .. لئلا يتحول جهاد النفس .. إلى عنصر ضعف بدلاً من أن يكون عنصر قوة ...
4- قيمة السلوك العملي المستقيم للداعية .. كأسلوب للدعوة الحية ...
إننا نجد في تاريخ الدعوة الإسلامية كثيراً من الأساليب العملية التي تتجسد فيها روح الإسلام وتعاليمه .. فنلاحظ نجاحها في كسب الآخرين إلى جانب الإيمان بالإسلام .. بالمستوى الذي لا يمكن مقارنتها بأي شيء من الأساليب البيانية التبشيرية ...
ولعل السبب في ذلك .. أن الإنسان الذي يستمع إلى إنسان آخر .. في مجال الدعوة .. ربما يكون خاضعاً لحالة نفسية معينة .. تقيم الحواجز بينه وبين الوصول إلى القناعة الفكرية ...
لأن الشعور بالخطر الذي يتحدى قناعاته السابقة .. يخلق عنده حالة من حالات المواجهة والمجابهة للفكر الجديد .. مما يؤدي به إلى رفض ذلك كله ...
أما الأسلوب الذي يعتمد على السلوك العفوي .. في طبيعته .. أو في طريقته العملية التي توحي بذلك .. فإنها تقتحم على الإنسان كل قناعاته الفكرية بمواجهته لكل مشاعره وحواسه وأفكاره من دون شعور بأي نوع من أنواع التحدي والمعارضة .. أو أي إيحاء بذلك من قبل الداعية ...
حيث يقف الإنسان وجهاً لوجه أمام التجسيد الحي للإسلام في حركته التطبيقية .. مما يحطم كل الأفكار المضادة التي كان يحملها عنه دفعة واحدة .. وهذه بعض النماذج الحية من حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام ...
* وجد الإمام علي (ع) درعه عند رجل نصراني .. فأقبل به إلى شريح .. قاضيه .. يخاصمه مخاصمة رجل من عامة رعاياه ...
وقال : إنها درعي ولم أبع .. ولم أهب ...
فسأل شريح النصراني : ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين ...
قال النصراني : ما الدرع إلا درعي .. وما أمير المؤمنين عندي إلا بكاذب ...
فالتفت شريح إلى علي يسأله : يا أمير المؤمنين .. هل من بينة .. فضحك علي وقال : أصاب شريح .. ما لي بينة .. فقضى بالدرع للنصراني .. فأخذها ومشى ...
وأمير المؤمنين ينظر إليه .. إلا أن النصراني لم يخط خطوات إلا عاد يقول : أما أنا فأشهد أن هذه أحكام أنبياء .. أمير المؤمنين يديينني إلى قاضيه .. فيقضي عليه .. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ...
الدرع درعك يا أمير المؤمنين .. أتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين .. فخرجت من بعيرك الأورق ...
فقال علي : أما إذا أسلمت فهي لك ...
إننا نلاحظ ـ في هاتين القضيتين ـ أن الإمام علي .. لو إستعمل كل بلاغته في سبيل هداية هذين الرجلين إلى الإسلام .. لما استطاع أن يحصل على نتيجة كبيرة في هذا المجال .. لأن الحواجز النفسية التي تقيمها العقيدة المضادة في الداخل .. تقف سداً منيعاً بين الكلمة .. وبين القلب .. فلا تسمح لها بالوصول إليه إلا بجهد جهيد ...
ولكن الإنسجام العفوي مع تعاليم الإسلام التي يمارسها المسلم من غير تكلف .. ومن دون ملاحظة لطبيعة المستوى الاجتماعي .. إستطاعت أن تهز هذا الإنسان من أعماقه لتفتح للفطرة نوافذ المعرفة والانفتاح على الحق من أقرب طريق .. من دون ضجة أو ضوضاء .. أو جدل أو صراع ...
وتلك هي قيمة السلوك العملي المستقيم للداعية .. في تجسيد الفكرة في حياته وحياة الآخرين لتكون أعماله دعوة حية للإسلام .. صامتة بكلماتها .. ناطقة بوحيها الهادئ الوديع ...
من كتاب : خطوات على طريق الإسلام .. للسيد محمد فضل الله ...
المصدر : http://www.balagh.com/mosoa/tablg/ug0wx65t.htm
* علاقة الإيمان بالعمل ...
أراد الإسلام من الإنسان المسلم في حياته العامة والخاصة .. أن يعيش إيمانه ويجسده في كل عمل .. كمسلم يعتقد أن الإسلام عقيدة وعمل .. فلا قيمة للإيمان بلا عمل .. ولا قيمة للعمل بلا إيمان ...
ولذلك رأينا القرآن الكريم .. يقرن الإيمان بالعمل الصالح في كل آية يذكر فيها الإيمان كقيمة آخروية كبيرة .. للإيحاء باقترانهما في مجال العقيدة والحياة ...
وقد تردد كثيراً في الأحاديث .. أن الإيمان بلا عمل كالشجر بلا ثمر .. وقد جاء في بعض أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام إعتبار (الإيمان هو العمل) .. مما يوحي بأن الإيمان في الإسلام .. يعبر عن مضمون عملي .. كما يعبر عن مضمون قلبي ...
فقد روى الجعفي ـ كما في الكافي ـ قال : سألت أبا عبد الله (جعفر الصادق) عن الإيمان فقال : الإيمان أن يطاع الله فلا يعصى ...
وفي حديث الكناني عن أبي جعفر (الإمام محمد الباقر) قال : قيل لأمير المؤمنين من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله كان مؤمنا .. قال فأين فرائض الله ...
وسمعته يقول : كان علي (ع) يقول لو كان الإيمان كلاماً لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام ...
وفي حديث محمد بن حكيم قال : قلت لأبي الحسن : " الكبائر تخرج من الإيمان ؟ .. قال نعم وما دون الكبائر .. قال رسول الله (ص) لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن ...
* تأثير السيرة العملية للداعية على تجاوب الناس (مع الفكرة) ...
هذا في موضوع المؤمن بشكل عام .. أما إذا انطلق المسلم في مجال الدعوة إلى الله .. فإن القضية تأخذ بعداً جديداً .. ووضعاً خاصاً .. لأن الجانب العملي .. لا يتمثل في الحياة الخاصة .. التي تحدد للإنسان مصيره في الدنيا والآخرة .. بل ينعكس على حركة الدعوة ومسيرتها الظافرة .. لما للسيرة العملية للداعية من تأثير على تجاوب الناس مع الفكرة .. وإنفعالهم بها وإيمانهم بجديتها وواقعيتها ...
ينما تعطي السيرة المضادة .. تأثيراً عكسياً يوحي بالابتعاد عنها .. نظراً إلى فقدان الانسجام في حياة الداعية بين النظرية والتطبيق .. فيولد في نفوس الآخرين إنطباعاً بأن هذه النظرية لم تطرح للتطبيق .. بل لتبقى فكرة حالمة خيالية .. كبقية الأفكار الحالمة الخيالية .. التي عاشت في إطار المثال .. ولم تقترب من إطار الواقع .. لأنها لم تستطع أن تغير حياة أصحابها .. فكيف يمكن أن يطلب منها تغيير حياة الآخرين ...
ولهذا كانت قيمة الرسالات السماوية .. أنها كانت تستمد قوتها في الدعوة من طبيعة الفكرة ومن تجسيدها .. واقعاً حياً في سلوك النبي وعمله .. ليسمع الناس حديث الدعوة من جهة .. ويتلمسوا واقعها في حركة الحياة الممتدة من جهة أخرى ...
( أ ) ـ تجسد الإسلام في سلوك النبي (ص) ...
وقد قال بعض الناس أن الله .. لو أرسل القرآن في كتاب مجموع منزل .. ولم يرتبط بحياة النبي وسلوكه .. لما استطاع الإسلام أن يخطو خطواته الكبيرة في الحياة ...
ولكن الناس .. كانوا يستمعون إلى القرآن من النبي من جهة .. وكانوا يشاهدونه كصورة حية متحركة في حياته من جهة أخرى .. فقد تجسدت لهم أخلاق النبي وأعماله قرآنا يتحرك على الأرض .. كما حدثت عنه زوجته " عائشة " ـ فيما روى عنها ـ أنها قالت ـ وقد سألت كيف تصف خلق النبي ـ " كان خلقه القرآن " ...
وقد كان حديث القرآن عن علاقة سلوكه القرآني .. بنجاحه في الدعوة .. صريحاً واضحاً وذلك هو قوله تعالى ...
( فبما رحمة من الله لنت لهم .. ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ) (159:3) ...
( وإنك لعلى خلق عظيم ) (4:68) ...
( لقد جاءكم رسول من أنفسكم .. عزيز عليه ما عنتم .. حريص عليكم بالمؤمنين .. رؤوف رحيم ) (128:9) ...
وقد ركز الإسلام على القدوة في عنصر الرسالة .. كما ركز على عنصر الدعوة .. فاعتبر عمله وتقريره سنة .. كما إعتبر قوله سنة .. فأوجب إتباع النبي (ص) في سلوكه كما في قوله تعالى ...
( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة .. لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر كثيراً ) (21:33) ...
كما أوجب إتباعه في دعوته كما في قوله تعالى :
( يا أيها الذين أمنوا إستجيبوا لله وللرسول .. إذ دعاكم لما يحييكم ) (24:8) ...
وربما كان هذا التركيز ـ من الإسلام ـ على عنصر القدوة .. إلى جانب تأكيده على عنصر الدعوة .. إيحاء للعاملين بأن من واجبهم أن يقتدوا بالنبي في ذلك .. ليكون سلوكهم دعوة .. كما يكون كلامهم دعوة .. فيرتبط الناس بأشخاصهم من ناحية عملية .. كما يرتبطون بأفكارهم من ناحية عقيدية ...
وجاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (ع) مخاطباً أصحابه :
" كونوا دعاة للناس بالخير .. بغير ألسنتكم .. ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع " ...
وقد أنذر الله المؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون إنذاراً صارخاً .. بأسلوب حازم وذلك قوله تعالى :
(يا أيها الذين أمنوا لم تقولون ما لا تفعلون .. كبر مقتاً عند الله .. أن تقولوا ما لا تفعلون ) (3:61) ...
وأنكر على أهل الكتاب .. هذه الازدواجية بين الأمر بالخير وبين العمل بالشر .. وذلك هو قوله تعالى :
( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم .. وأنتم تتلون الكتاب .. أفلا تعقلون ) (44:2) ...
( ب ) ـ تجسد الإسلام في سلوك الإمام علي (ع) ...
ولعلنا نلمح في سلوك الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب .. في ممارسته للمسئولية .. بالطريقة القاسية .. التي ألزم بها نفسه ...
هذا الاتجاه الإسلامي .. في تجسيد الانسجام بين القول وبين العمل .. حتى في الحالات الطارئة .. التي يمكن فيها للإنسان أن يأخذ لنفسه جانب الرخصة في كثير من جوانب العمل ...
لتكون الممارسة دعوة واقعية متجسدة .. تسجل على نفسها الموقف بصورة شديدة .. قبل أن تدعوا الآخرين إليه .. وذلك هو ما نستوحيه من قوله (عليه السلام) ... " ألا وأن لكل مأموم إماما يقتدي به ويستضئ بنور علمه .. ألا وأن إمامكم قد إكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه .. ألا وأنكم لا تقدرون على ذلك .. ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد "...
فقد أطلق الدعوة بالكلمة .. بعد أن جسدها واقعاً حياً بالسلوك العملي ...
وقد نستوحي ذلك من موقفه الذي وقفه ضد أولئك الذين جاءوا يطلبون إليه في بداية خلافته .. أن يقرب إليه رؤساء العشائر .. وولاة البلدان .. ليستميلهم إليه .. فإذا إستقام له الحكم وأمسك بزمام الأمور ..تصرف بما يحلو له .. مما يفرضه عليه خطه المستقيم في الحياة في السير على طريق الحق ما أمكنه ذلك ...
فامتنع عليهم أشد إمتناع وخاطبهم بهذه الكلمات الرائعة ...
" أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه .. والله لا أطور به ما سمر سمير .. وما أمّ نجم في السماء نجماً .. لو كان المال لي لسويت بينهم .. فكيف وإنما المال مال الله .. ألا وأن إعطاء المال في غير حقه تبذيراً وإسراف .. وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند الله ...
ولم يضع إمرؤ في غير حقه ولا عند غير أهله .. إلا حرمه الله شكرهم وكان لغيره ودهم .. فإن زلت به النعل يوماً .. فاحتاج إلى معونتهم .. فشر خليل وألأم خدين " ...
فإننا نستوحي من هذا الموقف دور الحاكم .. كما نستوحي دور الإنسان الرسالي .. الذي يطلق للناس دعوات الحق في خارج الحكم ليقربهم إلى الرسالة .. ويربطهم بها من خلال ذلك .. فإذا جاء إلى الحكم .. شعر بأن الموقف يفرض عليه مسئوليتين ...
مسئولية الناس في تحقيق المساواة بينهم وتطبيق الشريعة في حياتهم .. ومسئولية الرسالة في تحقيق الانسجام في إطارها بين جانب القول وبين جانب العمل .. للتدليل على واقعيتها وجديتها وإخلاص الداعين إليها والعاملين في سبيلها ...
وقد نشعر بالحاجة إلى بعض التفاصيل .. التي قد تحتاج إلى إلقاء الضوء عليها في قضايا القول والعمل في عدة نقاط :
1- أهمية فعل الداعي للمستحبات ...
ربما كان من الضروري أن لا يقتصر العاملون في سبيل الدعوة إلى الله .. على فعل الواجبات وترك المحرمات ..فإن ذلك قد يمثل قيمة دينية في مجال التقييم الإسلامي الذاتي للإنسان .. ولكنه لا يجسد القيمة الكبيرة في حياته كداعية ...
بل يحاولون أن يضيفوا إلى ذلك الأخذ بالمستحبات الشرعية .. التي تمثل المنهج العملي الإسلامي المرتبط بالجانب الأخلاقي .. الذي لا يلزم الإسلام به أتباعه بل يترك لهم أمر ممارسته بشكل اختياري .. وذلك بالأسلوب الذي تثير فيه التشريع أمام الإنسان رجحان الفعل .. ويلوح له بالثواب عليه .. ويؤمنه من العقاب في حال تركه .. لتكون الأخلاق الإسلامية نابعة من صميم الذات لا من طبيعة الإلزام ...
ثم قد يلزم الأمر أن يتركوا بعض المكروهات .. التي هي عكس المستحبات .. لأن الرجحان هنا في جانب الترك .. بينما كان هناك في جانب الفعل .. ولكنهما يلتقيان في بناء الشخصية الإسلامية القائمة على عنصر الاختيار .. لأن عناصر الشخصية تتكون من عنصر سلبي وعنصر إيجابي .. وقد تدعو الحاجة إلى أن يترك بعض المباحات إذا كان فعلها غير مألوف في حياة الناس مما يوجب الإضرار بالدعوة وبصاحبها ...
وهكذا نجد أن مسئوليته كداعية تقتضي أن يجسد المثل الرائع للإنسان المسلم في نظر الناس .. فيحبه الناس من خلال سلوكه .. ويتحول ذلك الحب .. إلى إخلاص لدعوته عندما يجدون الانسجام الكامل بين الدعوة وبين العمل ...
2- التأكيد على ممارسة الداعية لما يقول ...
إننا نحاول التأكيد على هذا الجانب من الممارسة في حياة الداعية .. إنطلاقاً من التجارب العملية التي عاشها بعض العاملين في الحقل الديني من علماء الدين وغيرهم ...
عندما إستسلموا إلى الحياة إستسلام المشغوفين بها .. المندفعين إليها .. بكل شوق ولهفة .. مما جعلهم يعبون منها بلا حساب .. ويستنزفون رخصها حتى آخر قطرة .. ويقتربون من محرماتها بأفكارهم وإن إبتعدوا عنها بأفعالهم .. حتى تراهم يفتشون عن وجوه الإباحة في كل مجال ...
أما المستحبات .. فلا يتعبون أنفسهم بها .. لأنها لا تستتبع العقاب في تركها .. أما ثوابها فلا حاجة لهم به .. فيكفيهم ما يحصلونه من الثواب في الواجبات .. وأما المكروهات والمباحات فلماذا يتركونها .. فهكذا يقولون .. وما دامت القضية لا تستتبع عقاباً في الفعل فلماذا يحرمون أنفسهم من الاستمتاع بعنصر الإباحة في الشرع .. فإن الله يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر ...
وتستمر الحياة بهم هكذا .. ويستمرون في مواعظهم ونصائحهم وإرشاداتهم .. ويتحدثون عن الزهد في الدنيا وما أعد الله للزاهدين .. ويقصون على الناس قصص الزهاد الذين يقتصرون على القليل القليل من الطعام .. ولكنهم لا يزهدون في الدنيا .. هذا الزهد الذي يحدثون الناس به ...
وتسألهم عن تفسير لذلك فيجيبونك بأن هذا الزهد ليس بواجب فلماذا نلزم أنفسنا به .. لأن الواجب علينا هو الزهد عن الحرام .. وهذا ما نفعله .. وهكذا ...
وقد ورد في بعض الأحاديث .. عن أئمة أهل البيت .. ما يشير إلى الوقوف موقف الحذر والإتهام .. من العناصر التي تعيش هذه الروح المشغوفة بالدنيا .. كما في الحديث الوارد عن الإمام جعفر الصادق (ع) قال : " إذا رأيتم العالم محباً لدنياه .. فاتهموه على دينكم .. فإن كل محب لشيء يحوط ما أحب " ...
3- ضرورة الإعداد الروحي والديني للداعية ...
إن القضية ـ كما ألمحنا إلى ذلك ـ لا تتجمد في موقف الإنسان الذاتي إزاء موضوع الدعوة إلى الدين والعمل به .. بل تمتد إلى قضية الدعوة كإطار .. تتحرك فيه العقيدة .. لتطبعها بطابع الثبات والجدية .. أو بطابع الإهتزاز وعدم الصدق .. بما يجعل من هذا السلوك الذي يمارسه العاملون في سبيل الله .. جريمة وخيانة للرسالة .. من حيث يريدون أو لا يريدون ...
ولهذا فإننا نريد التركيز على ضرورة الإعداد الروحي والديني للعلماء الدينيين والدعاة إلى الله إلى جانب الإعداد الثقافي والفكري .. ليستطيعوا الانطلاق إلى الدعوة من خلال العمل والتطبيق .. كما ينطلقون إليها من خلال الفكرة والنظرية ...
وذلك بالتوفر على الدراسة الدقيقة .. مع التحفظ على الأساليب المتعارفة لدى المرتاضين .. الذين يتولون تدريب أنفسهم وتدريب أتباعهم على جهاد النفس .. بالأساليب التي تخلق لدى الإنسان عقدة كبيرة في نهاية المطاف .. وبالمضمون الذي يلتقي مع الأفكار الإنعزالية التي تعزل الإنسان عن الحياة .. وتشل حركته حتى عن الدعوة إلى الله .. بسبب الخوف من الرياء أو غير ذلك .. مما يجعله ضعيف الإرادة عن مواجهة التحديات .. بدلاً من الحصول على القوة التي يواجه بها كل شيء ...
وقد شاركت هذه الأساليب .. في عزل كثير من الطاقات الحية وتجميدها عن العمل .. لأنها إعتبرت الرياضة الروحية هدفاً .. بعد أن كانت وسيلة .. وتعلمت من أساتذتها .. أن التأمل والتفرغ للعبادة والعزلة عن الناس .. هو السبيل للقرب من الله والحصول على رضاه ...
إننا نتحفظ في تشجيع ذلك .. لأننا نريد مواجهة الداعية للحياة .. بتربية روحية تربط الفكر والإرادة بالمضمون الإسلامي الذي يربط المؤمن بالحياة المتحركة النابضة بالحق .. وبعزله عن رغباتها وأوضاعها المنحرفة المرتبطة بخط الباطل ...
فليست الحركة في موضعها هدفاً مستقلاً .. وليست العزلة في مجالها ..هدفاً آخر ...
بل هما وسيلتان متكاملتان .. يكمل أحدهما الآخر في خلق الشخصية المسلمة الواعية المنفتحة على الحياة بالعمل .. وعلى داخل النفس بالرقابة والتربية .. لئلا يتحول جهاد النفس .. إلى عنصر ضعف بدلاً من أن يكون عنصر قوة ...
4- قيمة السلوك العملي المستقيم للداعية .. كأسلوب للدعوة الحية ...
إننا نجد في تاريخ الدعوة الإسلامية كثيراً من الأساليب العملية التي تتجسد فيها روح الإسلام وتعاليمه .. فنلاحظ نجاحها في كسب الآخرين إلى جانب الإيمان بالإسلام .. بالمستوى الذي لا يمكن مقارنتها بأي شيء من الأساليب البيانية التبشيرية ...
ولعل السبب في ذلك .. أن الإنسان الذي يستمع إلى إنسان آخر .. في مجال الدعوة .. ربما يكون خاضعاً لحالة نفسية معينة .. تقيم الحواجز بينه وبين الوصول إلى القناعة الفكرية ...
لأن الشعور بالخطر الذي يتحدى قناعاته السابقة .. يخلق عنده حالة من حالات المواجهة والمجابهة للفكر الجديد .. مما يؤدي به إلى رفض ذلك كله ...
أما الأسلوب الذي يعتمد على السلوك العفوي .. في طبيعته .. أو في طريقته العملية التي توحي بذلك .. فإنها تقتحم على الإنسان كل قناعاته الفكرية بمواجهته لكل مشاعره وحواسه وأفكاره من دون شعور بأي نوع من أنواع التحدي والمعارضة .. أو أي إيحاء بذلك من قبل الداعية ...
حيث يقف الإنسان وجهاً لوجه أمام التجسيد الحي للإسلام في حركته التطبيقية .. مما يحطم كل الأفكار المضادة التي كان يحملها عنه دفعة واحدة .. وهذه بعض النماذج الحية من حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام ...
* وجد الإمام علي (ع) درعه عند رجل نصراني .. فأقبل به إلى شريح .. قاضيه .. يخاصمه مخاصمة رجل من عامة رعاياه ...
وقال : إنها درعي ولم أبع .. ولم أهب ...
فسأل شريح النصراني : ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين ...
قال النصراني : ما الدرع إلا درعي .. وما أمير المؤمنين عندي إلا بكاذب ...
فالتفت شريح إلى علي يسأله : يا أمير المؤمنين .. هل من بينة .. فضحك علي وقال : أصاب شريح .. ما لي بينة .. فقضى بالدرع للنصراني .. فأخذها ومشى ...
وأمير المؤمنين ينظر إليه .. إلا أن النصراني لم يخط خطوات إلا عاد يقول : أما أنا فأشهد أن هذه أحكام أنبياء .. أمير المؤمنين يديينني إلى قاضيه .. فيقضي عليه .. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ...
الدرع درعك يا أمير المؤمنين .. أتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين .. فخرجت من بعيرك الأورق ...
فقال علي : أما إذا أسلمت فهي لك ...
إننا نلاحظ ـ في هاتين القضيتين ـ أن الإمام علي .. لو إستعمل كل بلاغته في سبيل هداية هذين الرجلين إلى الإسلام .. لما استطاع أن يحصل على نتيجة كبيرة في هذا المجال .. لأن الحواجز النفسية التي تقيمها العقيدة المضادة في الداخل .. تقف سداً منيعاً بين الكلمة .. وبين القلب .. فلا تسمح لها بالوصول إليه إلا بجهد جهيد ...
ولكن الإنسجام العفوي مع تعاليم الإسلام التي يمارسها المسلم من غير تكلف .. ومن دون ملاحظة لطبيعة المستوى الاجتماعي .. إستطاعت أن تهز هذا الإنسان من أعماقه لتفتح للفطرة نوافذ المعرفة والانفتاح على الحق من أقرب طريق .. من دون ضجة أو ضوضاء .. أو جدل أو صراع ...
وتلك هي قيمة السلوك العملي المستقيم للداعية .. في تجسيد الفكرة في حياته وحياة الآخرين لتكون أعماله دعوة حية للإسلام .. صامتة بكلماتها .. ناطقة بوحيها الهادئ الوديع ...
من كتاب : خطوات على طريق الإسلام .. للسيد محمد فضل الله ...
المصدر : http://www.balagh.com/mosoa/tablg/ug0wx65t.htm