الدكتور عادل رضا
09-09-2004, 05:18 PM
الإسلام المستنير... شروع في صراع سياسي بين المتحررين والمحافظين - د. حسن حنفي
الإسلام المستنير مصطلح شائع منذ عقدين من الزمان. ويشير إلي تيار فكري يجمع
بين الإسلام والعصر، الماضي والحاضر، وكما عرف باسم الأصالة والمعاصرة أو التراث والتجديد، ويقال عادة إنه لا يوجد إسلام مستنير وإسلام غير مستنير فالإسلام واحد. والواقع أن الإسلام المستنير تيار ثقافي يوجد في كل عصر عبر تاريخ الإسلام الطويل يشير إلي تفسير معين للنصوص، واختيار جماعي معين. فهو يشير إلي تيار اجتماعي في مقابل تيارات أخري كما هو الحال في الفرق الكلامية معتزلة وأشاعرة، وفي المذاهب الفقهية مالكية وحنفية وشافعية وحنبلية، واتجاهات عقلية أو اشراقية، ومذاهب صوفية معتدلة ومغالية. وكلها تنتسب إلي الإسلام. الإسلام المستنير يمثل إحدي فرق العصر الحديث الكلامية ومذاهب الفقهية، وتياراته الفلسفية. وهو قادر علي أن يكون جسرا بين التيارات المتصارعة في عصرنا الحاضر وينهي القتال الدامي بين الأخوة الأعداء، العلمانيين، والسلفيين، أنصار الدنيا وأنصار الدين، المتحررين والمحافظين. يد مع العلمانيين وأنصار الدنيا والمتحررين لأنه يدافع عن مصالح الناس.
ويحاول نقل المجتمع كله من عصر إلي عصر، ويد مع المحافظين السلفيين وأنصار الدين لأنه يبدأ من تراث الأغلبية وهي المحافظة الدينية، ويلتحم بالسلفية لأنها الاتجاه الغالب علي الناس، ويحقق مقاصد الشرعية.
والإسلام المستنير ليس غريبا علي الإسلام فقد بدأ منذ نشأته الأولي. كان فهما مستنيرا لليهودية والمسيحية بعيدا عن عبادة الأحبار والرهبان وتعظيمهم واعتزازا بدور العقل في رفضه مظاهر الشرك والتعدد، وتأكيد المسؤولية الفردية، واستحقاق الإنسان بصرف النظر عن انتسابه إلي جماعة أو انتظار مخلص، اعتمادا علي الفطرة الأولي، الطيبة الطاهرة بلا وزر، لا حيلة للإنسان فيه، يتوارثه عن غيره. السلطة فيه بيعة من الناس، والأمر شوري بينهم، والعدالة الاجتماعية سارية فيهم، ومن ثم أصبح الإسلام منذ نشأته دين العقل والحرية والفردية والطبيعة والإنسان والتقدم. وهو ما عرف في الغرب بعد ذلك بفلسفة التنوير.
وقد عبرت الاتجاهات الفكرية عبر تاريخ الإسلام الطويل عن هذه الروح. ففي علم التوحيد ظهر الاعتزال مؤكدا أصل التوحيد والعدل أو أنه لا توحيد دون عدل، ولا عدل من دون توحيد، ويشمل العدل أصل الحرية والعقل، فلا عدل دون أن يكون الانسان حرا عاقلا. والحرية تأتي قبل العقل، ويتفرد بها عن غيره، ثم يأتي العقل سندا للحرية. والعقل قادر علي الفهم والتأويل، فالعقل أساس النقل. والانسان باستحقاقه، آخرته مشروطة بعمله في دنياه، الثواب والعقاب طبقا للعمل الحسن أو القبيح، وأن صلة الحاكم بالمحكوم عقد اجتماعي يبايع فيه المحكوم الحاكم ويطيعه بشرط طاعة الحاكم لشروط العقد وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب علي المحكوم قوله وواجب علي الحاكم سماعه.
وقد ظهر التنوير أيضا عند الحكماء، الفلسفة والدين شيء واحد متفقان في الهدف
وهو الوصول إلي الحكمة وفي الوسيلة وهو العقل. لذلك كثيرا ما نصت الآيات علي العقل (أفلا تعقلون) وكذلك الأحاديث النبوية (أول ما خلق الله خلق العقل ...). والنظر أول الواجبات علي المسلم، والنظر يتم بالعقل وهو شرط التكليف، فلا تكليف لصبي أو مجنون، وجود الله وخلق العالم، وخلود النفس، كل ذلك يثبت بالعقل.
بل أن الصوفية جعلوا الذوق مرادفا للعقل، وسيلتان لغاية واحدة فالصوفي يشاهد ما يعقله الفيلسوف. الفيلسوف يعقل ما يشاهده الصوفي. وحكمة الإشراق منطق ذوقي. فالكشف له منطق وقضاياه وأقيسته. والفلسفة الإلهية حكمة تعبر عن الكون الذي يشعر به الصوفي بالعقل.
أما الأصوليون فالعقل لديهم مصدر من مصادر التشريع يسمونه القياس، تعدية الحكم من
الأصل إلي الفرع لتشابه بينهما في العلة. هو الاستحسان أو الاستصحاب أو أصل العقل. والأشياء علي البراءة الأصلية قبل حكم الشرع أي أنها علي حكم العقل. وطرق استنباط العلة، تنقيح المناط، وتخريج المناط، وتحقيق المناط كلها منطق يجمع بين العقل والتجربة في فهم النص والواقع. ومن لا منطق له لا ثقة بعمله.
وأما الفقهاء، فالعقل لديهم أيضا أساس النقل كما عرضه ابن تميمة في (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول)، ومن قدح في العقل فقد قدح في النقل. ومن مبادئ المنطق الإسلامي، ما لا دليل عليه يجب نفيه، وقياس الأولي، وهي كلها أقيسة عقلية تقوم علي البداهة والاتساق.
وقد استمر التنوير في النهضة العربية المعاصرة في كل التيارات الفكرية الإصلاحية والليبرالية والعلمية. تجلي ذلك عند الأفغاني ومحمد عبده مقتربين من الاعتزال القديم. العقل قادر علي إدراك حسن الأشياء وقيمها، والإرادة مستقلة، لها حرية الاختيار، والطبيعة لها سننها، و(للكون نظامه) و(لن تجد لسنة الله تبديلا)، والإسلام حركة في التاريخ، تدفعه نحو التقدم والكمال كما عرض محمد عبده في (رسالة التوحيد). الإسلام أساس قيام المدنية، العلم والحضارة، الطبيعة والمجتمع كما بين في نقاشه مع فرح أنطون. وغياب تحكيم العقل عند الكواكبي أحد أسباب الاستبداد.
وقد أصبحت الليبرالية في عصر النهضة كما مثلها الطهطاوي وخلفاؤه: علي مبارك
وأحمد لطفي السيد وطه حسين والعقاد تعادل التنوير بل وتقتصر عليه، ويقتصر هو عليها نظرا لوجود الطهطاوي في فرنسا في عصر التنوير ورواده وتحول التنوير إلي ثورة. فأدرك أن قاعدة الحسن والقبح العقليين هما ما سماه الغرب التنوير، وأن ابن خلدون هو مونتسكيو العرب، وأن مونتسكيو هو ابن خلدون فرنسا. فلا فرق بين (المقدمة) و(روح القوانين)، بين العمران والاندوستريا، بين الفكر والوطن (فليكن هذا الوطن مكانا لسعادتنا أجمعين. فنبنيه بالحرية والفكر والمصنع). وتعليم البنات لا يقل أهمية عن تعليم البنين. والإسلام مرتبط بالأوطان ارتباط الرسول بالحجاز.
وعلي الرغم من أن التيار العلمي الذي أسسه شبلي شميل، وفرح أنطون، ويعقوب صروف،
وسلامة موسي، وإسماعيل مظهر يعتمد علي التجربة أساسا، إلا أن التجربة نفسها تعتمد علي العقل، والعقل أساس العلوم الرياضية والطبيعية علي حد السواء لمعرفة نظام الكون. العقل والطبيعة صوتان، وصوت العقل هو صوت الطبيعة، ودراسة النفس ودراسة البدن لمعرفة أسرار الكون كما كان الحال عند الحكماء، الفلاسفة الأطباء. وما سماه فرح أنطون العلمانية هو في الحقيقة تأسيس مصالح الناس علي العقل والعلم. والطبيعة كتاب مفتوح ينظر العقل فيها كما ينظر في الكتاب المدون.
السلام المستنير
والسلام المستنير أساس الثورات العربية الحديثة منذ ثورة عرابي 1881 ــ 1882 فقد كان تلميذا للأفغاني متأثرا بتعاليمه، الإسلام في مواجهة القهر في الداخل والاستعمار في الخارج. فوقف في وجه الخديوي والإنكليز (إن الله خلقنا أحرارا ولم يخلقنا عقارا، والله لا نورث بعد اليوم). وقامت ثورة 1919 علي أفكار محمد عبده الذي صاغ مبادئ الحزب الوطني بعد أن وضع الأفغاني شعار (مصر للمصريين). ومن ثنايا الثورة المصرية الثانية تأسست الجامعات وقامت النظم البرلمانية، وتمت صياغة الدستور الذي يكفل الحريات العامة.
بل إن الثورة المصرية في 1952 وفي مواثيقها وصفا لجذور النضال الوطني تشير إلي المدرسة الإصلاحية عند الأفغاني ومحمد عبده والفكر الليبرالي عند أحمد لطفي السيد وقاسم أمين. وكان نصف أعضاء مجلس قيادة الثورة من الإخوان المسلمين. وكان سيد قطب الأول قبل الصدام بين الإخوان والثورة نموذجا للإسلام المستنير جامعا بين الإصلاح والليبرالية والاشتراكية في ثلاثيته (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، و(معركة الإسلام والرأسمالية)، و(السلام العالمي والإسلام).
يستطيع الإسلام المستنير أن يحيي المشروع القومي العربي بعد أن بدأ يتفكك ويتضاءل وتبهت معالمه. أولا تحرير الأرض ضد الاحتلال في فلسطين. ثانيا، تحرير المواطن ضد صنوف القهر والطغيان والقوانين الاستثنائية وتزييف الانتخابات وبقايا نظم الحزب الواحد باسم الحزب أو القبيلة، أو الطبقة، قريش أو الجيش. ثالثا، تحقيق العدالة الاجتماعية ضد التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء. رابعا، تحقيق وحدة الأمة بدلا من التفتت والتجزؤ والتناحر علي الحدود والقضاء علي الأوطان باسم الأقليات. خامسا، الدفاع عن الهوية والأصالة ضد التغريب والتقليد. سادسا، التنمية المستقلة للموارد الطبيعية والقوي البشرية ضد التبعية والاستسلام للقوي الأجنبية. سابعا، حشد الجماهير وتجنيد قوي الشعب من أجل أن تكون حاملا لهذا المشروع القومي بدلا من أن تقوم به الدولة بلا شعب فيتضخم جهاز الدولة وتنتشر البيروقراطية، فيدير الناس ظهورهم لأهدافهم.
والإسلام المستنير قادر علي أن يكون خطابا موحدا لأنواع الخطاب السياسي القائم. فهو
موجود في الخطاب الليبرالي منذ نشأته وتبنيه الإسلام المستنير كمصدر له بالإضافة إلي المصدر الغربي. وهو موجود في الخطاب القومي، فالقومية هو الحامل للإسلام، وتحرير الجزيرة العربية أولا كان شرط انطلاق الإسلام منها شرقا إلي فارس وغربا إلي بلاد الروم. والقومية لغة العرب، والإسلام ثقافتها. وهو موجود في الخطاب الماركسي العربي في كل محاولات تأصيل الاشتراكية في مبادئ الإسلام عن العدالة الاجتماعية والمساواة. الإسلام المستنير إذن هو القاسم المشترك في الأيديولوجيات العربية المعاصرة والقادرة علي التقريب بينها في برنامج عمل وطني مشترك.
والإسلام المستنير ثقافة الناس، النخبة والجماهير والطبقات المتوسطة. تستعمله النخبة
لإعطائها شرعية التاريخ، وتستعمله الطبقات المتوسطة دفاعا عن القانون والنظام. وهو حي في الثقافة الشعبية التي تمتد إلي الناس بتصرفاتهم وقيمهم ومعاييرهم. هو أساس مشترك للجميع، يسهل الانتساب إليه والولاء له بعيدا عن الاختيارات الأيديولوجية المتنافرة والتنظيمات الحزبية المغلقة. وهو موجود في المدارس والجامعات والمساجد والصحف وأجهزة الإعلام من دون حاجة إلي منبر مستقل وجهاز إعلامي جديد وهو الرابطة بين الحاكم والمحكوم، بين الحكومة والمعارضة. ممكن الاحتكام إليه حتي لو تباينت التفسيرات. لا يرفض الحاكم أن يكون الأمر بينه وبين المحكوم شوري، وأن يحكم بالعدل، وأن يحقق العدالة الاجتماعية والمساواة وأن يستمع إلي النصح، وأن يدافع عن التغور وأن يعلم الناس،
وأن ينمي موارد البلاد. ولا يرفض المحكوم أن يتم تحقيق مصالحه باسم ثقافته حتي يتوحد ماضيه في حاضره، وحاضره في ماضيه. فلا يثور علي الحاضر باسم الماضي، ولا يثور علي الماضي باسم الحاضر.
الإسلام المستنير إذن تيار ثقافي واختيار فكري، وممارسة عملية لبناء الأوطان، وتغيير المجتمعات لما هو أفضل في إطار من الثقافة المشتركة والعمل الوطني الموحد، بعيدا عن التنازع والتناحر والقتال بين الأخوة الأعداء ففي أوقات التحديات الكبري تتوحد الجهود.
جريدة (الزمان) العدد 1306 التاريخ 2002 - 9 -7/8
الإسلام المستنير مصطلح شائع منذ عقدين من الزمان. ويشير إلي تيار فكري يجمع
بين الإسلام والعصر، الماضي والحاضر، وكما عرف باسم الأصالة والمعاصرة أو التراث والتجديد، ويقال عادة إنه لا يوجد إسلام مستنير وإسلام غير مستنير فالإسلام واحد. والواقع أن الإسلام المستنير تيار ثقافي يوجد في كل عصر عبر تاريخ الإسلام الطويل يشير إلي تفسير معين للنصوص، واختيار جماعي معين. فهو يشير إلي تيار اجتماعي في مقابل تيارات أخري كما هو الحال في الفرق الكلامية معتزلة وأشاعرة، وفي المذاهب الفقهية مالكية وحنفية وشافعية وحنبلية، واتجاهات عقلية أو اشراقية، ومذاهب صوفية معتدلة ومغالية. وكلها تنتسب إلي الإسلام. الإسلام المستنير يمثل إحدي فرق العصر الحديث الكلامية ومذاهب الفقهية، وتياراته الفلسفية. وهو قادر علي أن يكون جسرا بين التيارات المتصارعة في عصرنا الحاضر وينهي القتال الدامي بين الأخوة الأعداء، العلمانيين، والسلفيين، أنصار الدنيا وأنصار الدين، المتحررين والمحافظين. يد مع العلمانيين وأنصار الدنيا والمتحررين لأنه يدافع عن مصالح الناس.
ويحاول نقل المجتمع كله من عصر إلي عصر، ويد مع المحافظين السلفيين وأنصار الدين لأنه يبدأ من تراث الأغلبية وهي المحافظة الدينية، ويلتحم بالسلفية لأنها الاتجاه الغالب علي الناس، ويحقق مقاصد الشرعية.
والإسلام المستنير ليس غريبا علي الإسلام فقد بدأ منذ نشأته الأولي. كان فهما مستنيرا لليهودية والمسيحية بعيدا عن عبادة الأحبار والرهبان وتعظيمهم واعتزازا بدور العقل في رفضه مظاهر الشرك والتعدد، وتأكيد المسؤولية الفردية، واستحقاق الإنسان بصرف النظر عن انتسابه إلي جماعة أو انتظار مخلص، اعتمادا علي الفطرة الأولي، الطيبة الطاهرة بلا وزر، لا حيلة للإنسان فيه، يتوارثه عن غيره. السلطة فيه بيعة من الناس، والأمر شوري بينهم، والعدالة الاجتماعية سارية فيهم، ومن ثم أصبح الإسلام منذ نشأته دين العقل والحرية والفردية والطبيعة والإنسان والتقدم. وهو ما عرف في الغرب بعد ذلك بفلسفة التنوير.
وقد عبرت الاتجاهات الفكرية عبر تاريخ الإسلام الطويل عن هذه الروح. ففي علم التوحيد ظهر الاعتزال مؤكدا أصل التوحيد والعدل أو أنه لا توحيد دون عدل، ولا عدل من دون توحيد، ويشمل العدل أصل الحرية والعقل، فلا عدل دون أن يكون الانسان حرا عاقلا. والحرية تأتي قبل العقل، ويتفرد بها عن غيره، ثم يأتي العقل سندا للحرية. والعقل قادر علي الفهم والتأويل، فالعقل أساس النقل. والانسان باستحقاقه، آخرته مشروطة بعمله في دنياه، الثواب والعقاب طبقا للعمل الحسن أو القبيح، وأن صلة الحاكم بالمحكوم عقد اجتماعي يبايع فيه المحكوم الحاكم ويطيعه بشرط طاعة الحاكم لشروط العقد وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب علي المحكوم قوله وواجب علي الحاكم سماعه.
وقد ظهر التنوير أيضا عند الحكماء، الفلسفة والدين شيء واحد متفقان في الهدف
وهو الوصول إلي الحكمة وفي الوسيلة وهو العقل. لذلك كثيرا ما نصت الآيات علي العقل (أفلا تعقلون) وكذلك الأحاديث النبوية (أول ما خلق الله خلق العقل ...). والنظر أول الواجبات علي المسلم، والنظر يتم بالعقل وهو شرط التكليف، فلا تكليف لصبي أو مجنون، وجود الله وخلق العالم، وخلود النفس، كل ذلك يثبت بالعقل.
بل أن الصوفية جعلوا الذوق مرادفا للعقل، وسيلتان لغاية واحدة فالصوفي يشاهد ما يعقله الفيلسوف. الفيلسوف يعقل ما يشاهده الصوفي. وحكمة الإشراق منطق ذوقي. فالكشف له منطق وقضاياه وأقيسته. والفلسفة الإلهية حكمة تعبر عن الكون الذي يشعر به الصوفي بالعقل.
أما الأصوليون فالعقل لديهم مصدر من مصادر التشريع يسمونه القياس، تعدية الحكم من
الأصل إلي الفرع لتشابه بينهما في العلة. هو الاستحسان أو الاستصحاب أو أصل العقل. والأشياء علي البراءة الأصلية قبل حكم الشرع أي أنها علي حكم العقل. وطرق استنباط العلة، تنقيح المناط، وتخريج المناط، وتحقيق المناط كلها منطق يجمع بين العقل والتجربة في فهم النص والواقع. ومن لا منطق له لا ثقة بعمله.
وأما الفقهاء، فالعقل لديهم أيضا أساس النقل كما عرضه ابن تميمة في (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول)، ومن قدح في العقل فقد قدح في النقل. ومن مبادئ المنطق الإسلامي، ما لا دليل عليه يجب نفيه، وقياس الأولي، وهي كلها أقيسة عقلية تقوم علي البداهة والاتساق.
وقد استمر التنوير في النهضة العربية المعاصرة في كل التيارات الفكرية الإصلاحية والليبرالية والعلمية. تجلي ذلك عند الأفغاني ومحمد عبده مقتربين من الاعتزال القديم. العقل قادر علي إدراك حسن الأشياء وقيمها، والإرادة مستقلة، لها حرية الاختيار، والطبيعة لها سننها، و(للكون نظامه) و(لن تجد لسنة الله تبديلا)، والإسلام حركة في التاريخ، تدفعه نحو التقدم والكمال كما عرض محمد عبده في (رسالة التوحيد). الإسلام أساس قيام المدنية، العلم والحضارة، الطبيعة والمجتمع كما بين في نقاشه مع فرح أنطون. وغياب تحكيم العقل عند الكواكبي أحد أسباب الاستبداد.
وقد أصبحت الليبرالية في عصر النهضة كما مثلها الطهطاوي وخلفاؤه: علي مبارك
وأحمد لطفي السيد وطه حسين والعقاد تعادل التنوير بل وتقتصر عليه، ويقتصر هو عليها نظرا لوجود الطهطاوي في فرنسا في عصر التنوير ورواده وتحول التنوير إلي ثورة. فأدرك أن قاعدة الحسن والقبح العقليين هما ما سماه الغرب التنوير، وأن ابن خلدون هو مونتسكيو العرب، وأن مونتسكيو هو ابن خلدون فرنسا. فلا فرق بين (المقدمة) و(روح القوانين)، بين العمران والاندوستريا، بين الفكر والوطن (فليكن هذا الوطن مكانا لسعادتنا أجمعين. فنبنيه بالحرية والفكر والمصنع). وتعليم البنات لا يقل أهمية عن تعليم البنين. والإسلام مرتبط بالأوطان ارتباط الرسول بالحجاز.
وعلي الرغم من أن التيار العلمي الذي أسسه شبلي شميل، وفرح أنطون، ويعقوب صروف،
وسلامة موسي، وإسماعيل مظهر يعتمد علي التجربة أساسا، إلا أن التجربة نفسها تعتمد علي العقل، والعقل أساس العلوم الرياضية والطبيعية علي حد السواء لمعرفة نظام الكون. العقل والطبيعة صوتان، وصوت العقل هو صوت الطبيعة، ودراسة النفس ودراسة البدن لمعرفة أسرار الكون كما كان الحال عند الحكماء، الفلاسفة الأطباء. وما سماه فرح أنطون العلمانية هو في الحقيقة تأسيس مصالح الناس علي العقل والعلم. والطبيعة كتاب مفتوح ينظر العقل فيها كما ينظر في الكتاب المدون.
السلام المستنير
والسلام المستنير أساس الثورات العربية الحديثة منذ ثورة عرابي 1881 ــ 1882 فقد كان تلميذا للأفغاني متأثرا بتعاليمه، الإسلام في مواجهة القهر في الداخل والاستعمار في الخارج. فوقف في وجه الخديوي والإنكليز (إن الله خلقنا أحرارا ولم يخلقنا عقارا، والله لا نورث بعد اليوم). وقامت ثورة 1919 علي أفكار محمد عبده الذي صاغ مبادئ الحزب الوطني بعد أن وضع الأفغاني شعار (مصر للمصريين). ومن ثنايا الثورة المصرية الثانية تأسست الجامعات وقامت النظم البرلمانية، وتمت صياغة الدستور الذي يكفل الحريات العامة.
بل إن الثورة المصرية في 1952 وفي مواثيقها وصفا لجذور النضال الوطني تشير إلي المدرسة الإصلاحية عند الأفغاني ومحمد عبده والفكر الليبرالي عند أحمد لطفي السيد وقاسم أمين. وكان نصف أعضاء مجلس قيادة الثورة من الإخوان المسلمين. وكان سيد قطب الأول قبل الصدام بين الإخوان والثورة نموذجا للإسلام المستنير جامعا بين الإصلاح والليبرالية والاشتراكية في ثلاثيته (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، و(معركة الإسلام والرأسمالية)، و(السلام العالمي والإسلام).
يستطيع الإسلام المستنير أن يحيي المشروع القومي العربي بعد أن بدأ يتفكك ويتضاءل وتبهت معالمه. أولا تحرير الأرض ضد الاحتلال في فلسطين. ثانيا، تحرير المواطن ضد صنوف القهر والطغيان والقوانين الاستثنائية وتزييف الانتخابات وبقايا نظم الحزب الواحد باسم الحزب أو القبيلة، أو الطبقة، قريش أو الجيش. ثالثا، تحقيق العدالة الاجتماعية ضد التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء. رابعا، تحقيق وحدة الأمة بدلا من التفتت والتجزؤ والتناحر علي الحدود والقضاء علي الأوطان باسم الأقليات. خامسا، الدفاع عن الهوية والأصالة ضد التغريب والتقليد. سادسا، التنمية المستقلة للموارد الطبيعية والقوي البشرية ضد التبعية والاستسلام للقوي الأجنبية. سابعا، حشد الجماهير وتجنيد قوي الشعب من أجل أن تكون حاملا لهذا المشروع القومي بدلا من أن تقوم به الدولة بلا شعب فيتضخم جهاز الدولة وتنتشر البيروقراطية، فيدير الناس ظهورهم لأهدافهم.
والإسلام المستنير قادر علي أن يكون خطابا موحدا لأنواع الخطاب السياسي القائم. فهو
موجود في الخطاب الليبرالي منذ نشأته وتبنيه الإسلام المستنير كمصدر له بالإضافة إلي المصدر الغربي. وهو موجود في الخطاب القومي، فالقومية هو الحامل للإسلام، وتحرير الجزيرة العربية أولا كان شرط انطلاق الإسلام منها شرقا إلي فارس وغربا إلي بلاد الروم. والقومية لغة العرب، والإسلام ثقافتها. وهو موجود في الخطاب الماركسي العربي في كل محاولات تأصيل الاشتراكية في مبادئ الإسلام عن العدالة الاجتماعية والمساواة. الإسلام المستنير إذن هو القاسم المشترك في الأيديولوجيات العربية المعاصرة والقادرة علي التقريب بينها في برنامج عمل وطني مشترك.
والإسلام المستنير ثقافة الناس، النخبة والجماهير والطبقات المتوسطة. تستعمله النخبة
لإعطائها شرعية التاريخ، وتستعمله الطبقات المتوسطة دفاعا عن القانون والنظام. وهو حي في الثقافة الشعبية التي تمتد إلي الناس بتصرفاتهم وقيمهم ومعاييرهم. هو أساس مشترك للجميع، يسهل الانتساب إليه والولاء له بعيدا عن الاختيارات الأيديولوجية المتنافرة والتنظيمات الحزبية المغلقة. وهو موجود في المدارس والجامعات والمساجد والصحف وأجهزة الإعلام من دون حاجة إلي منبر مستقل وجهاز إعلامي جديد وهو الرابطة بين الحاكم والمحكوم، بين الحكومة والمعارضة. ممكن الاحتكام إليه حتي لو تباينت التفسيرات. لا يرفض الحاكم أن يكون الأمر بينه وبين المحكوم شوري، وأن يحكم بالعدل، وأن يحقق العدالة الاجتماعية والمساواة وأن يستمع إلي النصح، وأن يدافع عن التغور وأن يعلم الناس،
وأن ينمي موارد البلاد. ولا يرفض المحكوم أن يتم تحقيق مصالحه باسم ثقافته حتي يتوحد ماضيه في حاضره، وحاضره في ماضيه. فلا يثور علي الحاضر باسم الماضي، ولا يثور علي الماضي باسم الحاضر.
الإسلام المستنير إذن تيار ثقافي واختيار فكري، وممارسة عملية لبناء الأوطان، وتغيير المجتمعات لما هو أفضل في إطار من الثقافة المشتركة والعمل الوطني الموحد، بعيدا عن التنازع والتناحر والقتال بين الأخوة الأعداء ففي أوقات التحديات الكبري تتوحد الجهود.
جريدة (الزمان) العدد 1306 التاريخ 2002 - 9 -7/8