المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نظرة في التجربة الصدرية.........(مقال من أجزاء)......................عبدالكريم الخليل



سيد مرحوم
09-08-2004, 09:41 AM
نظرة في التجربة الصدرية

ارض السواد : عبد الكريم الخليل

الحلقة الأولى


http://www.iraqsawad.net/sawadbannar.jpg

التيار الصدري اليوم يملأ وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة..

وإذا كانت سمة التحدي هي السمة البارزة فيه فإن لغطاً كثيراً يدور حوله وحول عناصره ورموزه..

وإذا كنا نريد حقاً التعرف على حقيقة هذا التيار لاسيما مع بوادر التفاوض معه فينبغي قبل كل شيء معرفة نشأته ثم التعرف على مراحل تطوره ورصد مسيرته وتحولاته وربما انحرافاتهه..

من هنا كانت هذه النظرة السريعة التي تُعنى بالرمز الأول لهذا التيار وهو الشهيد الصدر الثاني الذي يُعد رائد الحركة الإسلامية المعاصرة في العراق وهو حالة فريدة أثّرت في مسار الحركة الإسلامية للجيل الثالث وأكسبتها خصائص جديدة في المواجهة والثبات. ثم نستمر عبر حلقات لملاحقة المسيرة الصدرية ورصد تحولاتها المؤثرة في الساحة العراقية..

حياة الإمام محمد محمد صادق الصدر

إن أسرة الصدر معروفون بالفضل والعلم والتقى ومكارم الأخلاق وقد انحدروا من السلالة العلوية وكانوا مركزاً للزعامة والمرجعية الدينية. وكان مولد السيد محمد في 17 ربيع الأول 1362 الموافق 23 آذار 1943م.

انضم السيد محمد بن محمد صادق الصدر منذ شبابه إلى تحرير مجلة الأضواء سنة 1960م ونشر فيها عدداً من البحوث والدراسات وكتب الشعر كما كتب الرواية والقصة القصيرة.

دخل كلية الفقه في النجف الأشرف في دورتها الأولى وتخرج عام 1964م. ودرس لدى الإمام الخميني والشهيد محمد باقر الصدر والسيد الخوئي وآخرين. وكان من المتفوقين في الدروس الحوزوية وعُرف بزهده وتواضعه واحتفظ لنفسه بسلوكية خاصة، إذ رفض طيلة حياته أن يقبّل يده أحد.

وكان من الطلبة الأفذاذ في مرحلة البحث الخارج عند الشهيد محمد باقر الصدر. وقد أصدر موسوعة عن الإمام المهدي جاء في تقديمها من كلام السيد محمد باقر الصدر: (موسوعة لم يسبق لها نظير في تاريخ التصنيف الشيعي حول المهدي بإحاطتها وشمولها لقضية الإمام المهدي من كل جوانبها). والحقيقة انها محاولة لتغطية الموضوع من كل جوانبه من طالب مجتهد، لكن هذا المديح يكشف عن فراغ شديد في هذا الموضوع لدى الشيعة.

اعتقل محمد الصدر أول مرة في سنة 1972م، واعتقل ثانية في سنة 1974م مع عدد من تلامذة الإمام محمد باقر الصدر وأعضاء حزب الدعوة الإسلامية. وفي هذا الاعتقال عذّب تعذيباً شديداً، وركّز المحقّقون معه على أمرين: علاقته بحزب الدعوة الإسلامية، وعلاقته بالسيد باقر الصدر. وقد أعدم من هذه المجموعة عدد من المعتقلين كان أبرزهم الشيخ عارف البصري(1). ثم اعتقل ضمن الحملات التي رافقت إعدام أستاذه العلامة الشهيد محمد باقر الصدر عام 1980م.

واعتقل الصدر مرة أخرى مع أكثر من مئة من علماء الدين بعد الانتفاضة الشعبانية عام 1991م واتّهم بإصداره بياناً مؤيداً للانتفاضة.

باشر بتدريس الفقه الاستدلالي أول مرة(2) في عام 1977م، لكن الاعتقال منع من استمراره وبعد مدة من خروجه باشر بإلقاء أبحاثه العالية في الفقه والأصول (البحث الخارج) عام 1410هـ -1990م.

مؤلفاته:

تنوعت مؤلفات السيد الصدر بين المطولة والمختصرة كما تنوعت في مواضيعها، وفيما يلي بعضها:

1. نظرات إسلامية في إعلان حقوق الإنسان.

2. فلسفة الحج.

3. القانون الإسلامي: وجوده، صعوباته، منهجه.

4. موسوعة الإمام المهدي: الغيبة الصغرى، الغيبة الكبرى، الظهور، اليوم الموعود.

5. ما وراء الفقه (موسوعة فقهية استدلالية في عشرة أجزاء).

6. فقه الأخلاق.

7. فقه الفضاء.

8. فقه العشائر

9. منة المنان في الدفاع عن القرآن .

10. أضواء على ثورة الإمام الحسين .

بالإضافة إلى رسالته الفقهية (منهج الصالحين) وكتب وأبحاث أخرى.

يتضح من قائمة الكتب بعض اهتمام الشهيد الصدر بالفقه المعاصر وفي مقدمة فقه الفضاء يقول (انه يبرز مواكبة الفقه الإسلامي للتصور الحديث والعلم الحديث).

تصدره للمرجعية

بعد انتفاضة شعبان/آذار 1991م وفي خضم التحديات الجديدة أصبحت السلطة في العراق تشعر بأنها أكثر حاجة لعلاقة أفضل مع المؤسسة الدينية لتهدئة الشارع بعد دورات عنيفة من القسوة وموجات القتل والإعدام التي مارستها أثناء الانتفاضة، وربما فكرت السلطة باستراتيجية جديدة لإبعاد الحركة الإسلامية عن الجمهورية الإسلامية في إيران.

إن رغبة السلطة بتحسين العلاقة مع المؤسسة الدينية مثلت فرصة للسيد محمد الصدر استثمرها في تصدره للمرجعية، ولم يحسب أحد في حينه أن هذه المرجعية ستخلق ظاهرةَ تحوّلٍ كبيرة وتُوجد أنماطاً جديدة من علاقة المرجع بالسياسة وعلاقته بالسلطة وعلاقته بالأمة.

مشاكل المسيرة

بمجرد أن تصدر الصدر الثاني للمرجعية فإن كمّاً هائلاً من الإشكالات والعراقيل وضع أمامه، وإن غباراً كثيفاً أثير بوجهه، ولقد تحوّل كل ذلك إلى ضغط داخلي شكّل مع طبيعة السلطة كمّاشة ضغط ثنائية. ان قرار تصدر الصدر الثاني للحوزة في ظل الظروف والملابسات فرضت عليه مسيرة محفوفة بالآلام والمخاطر والمتاعب، حيث:

1. واجه تهمة أولية بأنه صنيعة السلطة.

2. إن الحوزة بظروفها وتراكماتها وسياقاتها لا تتقبّل الصدر الثاني الذي كان يخبئ مشروعاً إصلاحياً.

3. قضية تحييد السلطة قضية صعبة إذا ما أريد عدم إعطاء أي فرصة لها للاستفادة من المرجعية لا بتصريح ولا بمديح ولا باستجابة لطلباتهم.

4. انه يعمل في ظل أوضاع أمنية خانقة ويقف أمام نظام دموي لطالما حارب الإسلام والمسلمين وتجرّأ على إهدار دم العلماء والمراجع.

5. الخوض في هذه المجازفة يعني قراراً استشهادياً، وهذا ما أدركه الصدر منذ البداية.

إن إصرار السيد محمد الصدر على توليه أمر المسلمين في العراق وادعاءه الأعلمية بين العلماء المعروفين والتفاف وكلاءٍ بعضهم تدور حوله الشبهات والملاحظات في مناطق مختلفة من العراق، بدأ يثير موجة من التساؤلات التي تؤدي إلى عدم قناعة بعض المثقفين المتدينين، حيث يرون ان مثل هذا الجو وهذا الوضع يَصب في صالح الدولة الظالمة التي وجدت الطريقة المثلى لإرساء قواعد دين بلا سياسة من خلال هذا المرجع، بل لمحاربة الدين بالدين نفسه.

وفي هذا السبيل نجد صحيفة (المبلغ الرسالي) التي يصدرها صدر الدين القبانجي في إيران والتي تمثل لسان حال مجلس الثورة الإسلامية كتبت عن الصدر انه صنيعة صدام وولايته في العراق تعد مهزلة(3).

ومن الجدير بالذكر ان السيد الصدر حاول أن يفتح مكتباً له في مدينة قم [ا1] وأرسل السيد جعفر الصدر لهذه المهمة لكنه منع من ذلك لآن السيد الصدر يعلن الولاية العامة في العراق وهذا يخالف ما ترتئيه الجمهورية الإسلامية من ان ولاية الخامنئي ليست محدودة في إيران.

وهكذا حاولت بعض الأوساط الحوزوية إسقاط مرجعية الصدر، حتى وصل الأمر بالصدر لأن يقول لأحد زواره: (لقد كانوا من قبل يقولون للناس لا تذهبوا إلى بيت السيد محمد الصدر لأن من يذهب يقتل في عتبة الباب، والآن صاروا يقولون لا تذهبوا إلى بيت السيد محمد الصدر لأنه عميل للحكومة) يقول الزائر فحبست دمعة ترقرقت في عيني(4).

وعلى الرغم من ذلك فإن مرجعية الصدر كانت ذات فعالية ميدانية متسارعة ومتواصلة ومتكاملة شقت طريقها وسط هذه الصعوبات البالغة والمتاعب والاعتراضات. ان مؤهلاته الفقهية والفكرية وخبرته بالواقع وقرار الاستشهاد وسلوكه المطابق لقوله شكل جميعاً مادة انطلاقته في الشروع بمشروعه التغييري. وللإفلات من وطأة القيود الداخلية والخارجية أحكم الصدر الثاني مقدّمات انطلاقته الإسلامية من خلال تحييد السلطة لحين إنجاز الخطوات الأساسية في جهوده التغييرية. ولقد مثّل هذا التحييد موضوعاً جديداً في ملف إشكالية العلاقة بين الفقيه والسلطة.

الولاية والقيادة

إن الفقه الشيعي تطوّر عبر التاريخ إزاء موضوع السلطة حتى جاء الشيخ محمد النراقي (ت1249هـ) المؤسّس الأول لولاية الفقيه المطلقة. ولا شك في ان الدور المرجعي الثوري كان واضحاً في ثورة العراق الكبرى سنة 1920م؛ لكنه لم يواصل حركته على نفس الوتيرة، إذ بعد نفي بعض رجال الدين وعودتهم المشروطة بعدم التدخّل في السياسة، حصلت الانعطافة الخطيرة وانتقلت أفكار المرجعية من ذلك الدور الخطير إلى دور المدرّس المحصور في الحوزة والمتعلق بالإفتاء في المسائل الشرعية كالطهارة والصلاة وبعض العبادات والحقوق الشرعية، أما باقي أحكام الإسلام فإنها ركنت جانباً مثل الجهاد والولاية والقضاء وترك الشارع العراقي للمحتلين وخططهم التغريبية ولمّن ادعّوا مناوأتهم -صدقاً أو كذباً- من قوى التيارات الأخرى.

وبعد ذلك جاء دور جديد تمثل بالحركة الإسلامية التي قادها الشهيد الصدر الأول التي أثرت في الوعي الإسلامي كله وجددت الثقة فيه، لكن هذه المسيرة كانت مقرونة بالدم الذي خُتم بمأساة مؤلمة وخسارة جسيمة بفقد القائد وتصفية القاعدة من الجيل الأول للحركة الإسلامية العراقية المعاصرة. وفي تلك الأثناء أقام الإمام الخميني الدولة الإسلامية ليطبّق هذه النظرية من خلال تجربة واقعية في إيران.

كل ذلك بالإضافة إلى انتفاضة شعبان الشعبية عام 1991م التي سُحق فيها الجيل الثاني جعلت الإمام محمد الصدر واعياً لحقائق المرحلة التي يعيش فيها. وهكذا خاض الصدر الثاني تجربة جديدة للفقيه السياسي الذي يرى ان العلاقة بين الدين والسياسة لا يمكن بأي حال من الأحوال فصلها والذي يرى أيضاً وجوب السعي إلى إقامة الدولة الإسلامية بالإضافة إلى انه (ليس كل أمور الولاية العامة موقوفة) حتى في ظل الدولة الغصبية، فالمحاكم الشرعية وصلاة الجمعة هما مثال لما يراه الصدر الثاني من وجوب إقامتهما في ظل السلطة غير الشرعية.

ملامح من مشروع الإمام الصدر ومنجزاته

لعل أول خطوة قام بها السيد الصدر كانت الزيادة العددية لطلاب الحوزة فقد انخفض عدد أفراد الحوزة من 7 آلاف إلى 700 شخص في ظل نظام البعث خلال مرجعية الإمام الخوئي عبر سلسلة من نكبات الحركة الإسلامية. وفي هذا الصدد يقول الصدر: (ان مجرد زيادة عدد المعممين في هذا الظرف هو نجاح لهدفنا ويدخل في مشروعنا)(5).

ثم أخذ يهتم بالمناهج الدراسية وأدخل نظام الاختبارات لتحديد المستوى الدراسي. وقد أنشأ جامعة الصدر التي تم التركيز فيها على إعداد أناس ذوي كفايات فقهية وعلمية في آن واحد وإنمائهم بالخبرات والتجارب لتحقيق التواصل العلمي ومواكبة التطور المعرفي. وشجع على استعمال الكمبيوتر ودافع عنه، وشجع على تأسيس مكتبة صوتية.

ومن اللافت للانتباه ان السيد الصدر اختار حاشيته من طبقة الشباب لاسيما ذوي التحصيل الأكاديمي المسبق الذين يشكلون جزء حيوياً من شروط التفاعل مع أجيال الأمة، وركز في اختياره على أشخاص أشداء يتمتعون بالشجاعة استعداداً لمواجهة وسط أمنى واستبدادي خطر. يقول الشيخ طالب السنجري عن ذكرياته مع الشهيد الصدر: (إن هديته الأولى لي كانت كفناً)(6).

ومن خلال التمهيدات السابقة وما سيأتي من تواصل مع المجتمع طمح الإمام الصدر أن يعالج أكثر من خلل قائم في واقع الشارع العراقي وعلاقته بالوعي الديني. إن صناعة هذا الوعي لا يمكن أن تأتي إلا عبر هزّة عنيفة وكبيرة لأسس ومنظومات الوعي التقليدية فكانت صلاة الجمعة وكان تشكيل المحاكم الشرعية الذي يدخل في فهمه العام لعدم تعليق الإسلام وأحكامه مهما كانت الظروف وكان فقه العشائر وكانت تنظيراته نحو دور الحوزة ومواصفات القيادة الإسلامية. كل هذه الأعمال شكلت ظاهرة الشهيد الثاني ومشروعه التغييري. ويمكن القول إن السيد محمد الصدر استطاع أن ينجح في استنهاض الأمة إذ انه انطلق في خطابه الاجتماعي من واقع الشعب العراقي وظروفه وشجونه وطموحاته.

وعلى الرغم من أن السيد الصدر انطلق من قاعدة عدم التدخل في السياسة إلا انه مارس في الواقع شأناً سياسياً تحت عناوين اجتماعية ودينية وأخلاقية متعددة، ليضع أرضية الانطلاقة السياسية؛ كما انه مارس خطاباً سياسياً في موضوعات سياسية بحتة تخصّ الحصار وتحديات إسرائيل والعدوان الأمريكي، ثم تحوّل كل شيء في تجربته إلى صِدام سياسي صريح وعلني مع السلطة والى معركة سياسية قادها إلى النهاية. لقد رأى الصدر أن التقية لا مسوغ لها عندما تؤدي إلى التعايش مع الانحراف والسكوت عنه. لكنه بدأ بشكل غير استفزازي، ففي رده على سؤال بشأن قيادة الأمة يقول محمد الصدر: (أنا مع مبدأ الفصل بين القيادتين شرط أن يَجعل الحاكم السياسة في خدمة الدين لا أن يُسخّر الدين في خدمة السياسة)(7). ومن هذا المنطلق نجد ان إجابات السيد الصدر على المسائل الحساسة والخطيرة جعلت الجماهير تلجأ إليه حتى من غير مقلديه وذلك بسبب عدم حصولهم على إجابة من مراجعهم ولعلمهم بأن السيد الصدر لا يتردد في الخوض في كل الأمور.

مع العشائر

بعد حرب الكويت عاد نظام صدام لاستخدام الورقة العشائرية وأعطاها جزءاً من السلطة التي فقدتها من أجل استخدامها في تثبيت النظام حيث فقد السيطرة الأمنية التي كان يوفرها له عملاؤه وجواسيسه ومنظمات حزبه بعد انتفاضة شعبان الشعبية.

ومن جهة أخرى نجد ان ضعف علاقة المرجع بالعشيرة العراقية تضاعف بعد مجيء الحزب البعث الحاكم للسلطة. لكن السيد الصدر اقترب من العشائر ولم يكتفِ بإرسال الوكلاء إلى القرى أو بناء المساجد فيها، بل عمل على توجيه العشائر نحو الوعي الديني الصحيح. ومن الجدير بالذكر بعد أن كانت العشيرة تعطي الحقوق المالية للمرجع لم يستلم هو هذه الحقوق منها، إنما أمرهم بتوزيعها وصرفها داخل العشيرة؛ فأوجد حالة جديدة من التعاطي بين المرجع والعشيرة. وهكذا سحب الورقة العشائرية من يد السلطة وأصبح شيوخ العشائر يأخذون نفوذهم داخل عشائرهم من خلال صلاتهم به.


********

إلى هنا تنتهي حلقتنا الأولى..

وفي الحلقة التالية سوف نتحدث عن أهم إنجاز قدمه الصدر في الساحة الشيعية العراقية.. ألا وهو صلاة الجمعة.. فإلى اللقاء..



ملاحظة: هذه الدراسة مستخلصة من كتاب مرجعية الميدان للأستاذ عادل رؤوف بالإضافة إلى معايشة الواقع وفيما يلي إرشاد إلى بعض مواضع الاقتباس والتوثيق:

(1)ص92، (2)ص74، (3)ص380، (4)ص227، (5)ص169، (6)ص317، (7)ص32



عبد الكريم الخليل alkalyl@maktoob.com

31/8/2004م

سيد مرحوم
09-08-2004, 09:48 AM
نظرة في التجربة الصدرية ..

أرض السواد - عبدالكريم الخليل

الحلقة الثانية


http://www.iraqsawad.net/sawadbannar.jpg

في الحلقة السابقة ذكرنا ملامح نهضة الشهيد محمد الصدر الإسلامية ومشروعه التغييري.. وفي هذه الحلقة سنتمم اللمحة السريعة للرمز الأول للتيار الصدري تمهيداً لرصد المسيرة الصدرية بعد فقدها لمؤسسها..

الإمام الصدر و صلاة الجمعة

صلاة الجمعة التي تتألف من ركعتين تسبقهما خطبتان وعظيتان، تقام في لبنان وفي أماكن أخرى لتواجد الشيعة في العالم وتقام أيضاً في إيران منذ انتصار الثورة الإسلامية فيها. وهناك الكثير من الفقهاء الشيعة الذين يرون وجوب إقامتها (لاستقصاء الأدلة الشرعية لدى الشيعة راجع كتاب الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة للبحراني)، ويُعتبر السيد الصدر أحد هؤلاء الفقهاء إلا ان الإنجاز الصدري تجسد في جرأة هذا العمل ميدانياً في ظروف قاهرة. ومن خلال هذه الصلاة بدأ الصدر يغيّر واقع الأمة ويجتث سلبيات المجتمع وينشر الوعي الديني الصحيح. وسنرى فيما بعد كيف ان الدولة حاربت هذه الشعيرة بكل ما لديها من قوة حتى بعد قتلها للصدر.

إن الشيعة في العراق كما هو معروف لا يقيمون صلاة الجمعة وقد أقامها الشيخ محمد الخالصي ووالده مهدي الخالصي في الكاظمية فاتّهما بإحداث البدعة. لكن الصدر استطاع أن يقيم الصلاة في أكثر من 70 بقعة من العراق ويصل الحضور في بعض أماكن هذه الصلاة إلى أكثر من 50 ألف شخص. أقام السيد الصدر في تشرين الأول 1997 صلاة الجمعة في بعض المناطق في العراق وبعد نحو ستة أشهر أقام صلاة الجمعة في مسجد الكوفة الكبير بنفسه وذلك بعد عيد الغدير من سنة 1418هـ وخرج في أول صلاة جمعة يقيمها مرتدياً الكفن. لقد مثلت الجمعة جسراً تواصلياً بين المرجع والأمة من خلال لقاء دوري شمولي عام وليس لقاءً خاصاً شخصياً مع المرجع. وكانت صلاة الجمعة في 15 شعبان 1419 التي حضرها أكثر من مليوني شخص(8) في السهلة بمدينة النجف بمناسبة الذكرى السنوية لقيام صلاة الجمعة تظهر مدى الشعبية التي كان يتمتع بها السيد الشهيد.

وقفة مع مدينة الصدر

هذه المدينة المكتظة بالسكان (نحو ثلاثة ملايين) ذات الأغلبية الشيعية (98%) والتي عانت ما عانت من الجور والظلم الصدّامي استجابت لخطاب الصدر استجابة فريدة.. فالشباب المثقف وجد ضالته في الصدر الذي يرفض الخرافات.. والشباب المتمرد وجد الشجاعة والجرأة والتحدي.. والشيوخ وجدوا فيه النسل النبوي الطاهر الذي يتباركون به..

وفي ثاني جمعة تقام في المدينة تجد الشارع الرئيس إلى جانب جامع المحسن الذي هيئ لاستقبال المصلين مكتظاً وتنظر إلى الجموع فتراها امتدت على مرمى البصر.. في هكذا لقاء أسبوعي طرق الوعظ الديني المتميز سمع الشباب والشيوخ والأطفال..

مقتطفات من خطب الجمعة

تناول السيد الصدر في خطبه التي ألقاها في الكوفة، الشأن الاجتماعي العام وعالج ظواهر اجتماعية قائمة ضمن خطة أو تجربة متدرجة جاءت من تراكم وعي بأهمية نزول المرجع والحوزة إلى الوسط الاجتماعي والاحتكاك به، وفيما يلي بعض المقتطفات:

الخطبة 1 حول صلاة الجمعة

قال: (يجب أن لا نفرّط بصلاة الجمعة لأنها تربطنا ببعضنا البعض.. إن صلاة الجمعة ضرورية)(9).

الخطبة 4 الوضع العالمي

قال: (من جملة المشاكل التي مرّ بها المجتمع العراقي خاصّة والمجتمع في العالم عامة، القصف الأمريكي الذي تعرّض له المجتمع هنا). ثم بين بعض النتائج والعبر المتعلقة بالموضوع(10):

1. إنّ هذا الوضع العالمي القائم على أنقاض ما كان يسمّى بالاتحاد السوفيتي والذي تسميه أمريكا بالنظام العالمي الجديد إنما هو نظام استعماري مشؤوم قائم على تفرّد أمريكا بالعالم والهيمنة عليه وفرض إرادتها على كل جهاته وهي تكيل له الصاع صاعين..

2. إن أمريكا وإن زعمت انها قد أحكمت سيطرتها على العالم.. إلا انها لن تستطيع أن تزيل الإيمان من قلوب الشجعان المؤمنين المجاهدين، وهي ان استطاعت السيطرة على أجسادنا فإنها لن تستطيع السيطرة على أرواحنا وقلوبنا.

3. إنها إنما تتدرّع بالسلاح الدنيوي الذي مهما بدا لنا مهمّاً وعظيماً، فإنه مؤقت وزائل.. أما المؤمنون فناصرهم الله كما قال الله في كتابه الكريم (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم).

4. إن أمريكا تحاول تسخير أكبر عدد من الدول تحت إرادتها وسيطرتها، وكل من وافق على ذلك وتعاون معها فهو لعبة في يدها..

5. إننا نعتقد ان هذا النظام الظالم غير دائم بل هو إلى زوال لا محالة.. إنها الآن وبكل وضوح موكولة إلى نفسها وملتفة إلى جبروتها فتكون مصداقاً واضحاً لقول الله تعالى (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْس).. إننا نعتقد ان مستقبل البشرية إلى خير وصلاح وعدالة عندما يظهر القائد المنتظر فيملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً..

6. إن الأمر بالهجوم على أية دولة مرهون إلى القرار الذي يصدره الرئيس الأمريكي. وهذا يعني ان القرار الظالم سوف يعود على نفس الظالم والوبال عليه للخسران كما سبق أن حصل لكارتر وبوش [الأب] لما فعلاه في الشرق المسلم..

7. من الواضح بالتجربة ان كل حروب أمريكا ومؤامراتها تجارية تفتعلها لأجل استنزاف الشعوب البائسة وإيفاء النقائص التي تحصل في ميزانيتها. وبالطبع فكلما كان الأمر يجرّ لها نفعاً اندفعت نحوه وورّطت نفسها فيه سواء مع أعدائها أم مع أصدقائها وتعود النتائج السلبية على الشعوب المظلومة عامة.

الخطبة 6 النهي عن البدع

قال: (هناك جملة من الجهلة جعلوا من حرم الحسين كعبة ومن الساحة بين الحرمين الشريفين في كربلاء ساحة للتلبية.. وهذا حرام وأنا أنهى عن ذلك)(12).

الخطبة 7 الانقياد لأمر المرجعية والمسير إلى كربلاء

قال: (تعرّضنا في الجمعة السابقة حول المسيرة راجلين إلى كربلاء المقدسة. وأنا قلت لكم انكم إذا مُنعتم فامتنعوا.. وأنا حسب علمي أن المنع حصل [أي من السلطة]، وإنشاء الله تكونون على مستوى المسؤولية الدينية تجاه الله والحوزة بحيث إذا قيل لكم قفوا تقفون وإذا قيل لكم اذهبوا تذهبون.. وستحصلون على الثوابين: ثواب إطاعة الحوزة وعلمائها وثواب نية المسير إلى كربلاء وأحياء الشعائر)(13).

خطبة 11 حول أسلوب المرجعية

قال: (إن للمرجعية أسلوبين معروفين، أستطيع أن أسمّي الأول أسلوب السكوت والانعزال والآخر أسلوب النشاط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلماذا جماعة من المراجع اتخذوا أسلوب السكوت للحفاظ على حياتهم وترك ما في ذمتهم؟ والذي نفهم فالساكت قتل (يقصد البرجردي والغروي) والناطق بقي حياً (يقصد نفسه) رغماً عن أنف الذي لا يرضى. سبحان الله فهل أفاد الساكتين سكوتهم، فمن لم يمت بالسيف مات بغيره فخاب فعل من يريد التقصير فيما
يمكنه فعله شرعاً)(14).

الخطبة 13 تحويل الرمزية نحو الأسمى

قال: (في زيارة الأربعين الأخيرة (للحسين) أنا نهيتكم عن الزيارة فانتهيتم، وأنا آمركم بالزيارة في يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. كل من يستطيع من شيعة العراق أن يحضر إلى النجف الأشرف ولا ضرر عليه فليزر أمير المؤمنين سلام الله عليه بهذه المناسبة)(15).

الخطبة 42 حول المعتقلين ومسجد الكوفة

طالب الصدر بإطلاق وكلائه المعتقلين من خلال هتافات أمر المصلين بترديدها قبل الخطبة (نريد نريد نريد.. فوراً فوراً فوراً.. إطلاق سراح المعتقلين) وتطرق إلى أمر السلطة في ترميم المسجد وقال (هناك فكرة لإنشاء بناء في مسجد الكوفة ليعيق المصلين في يوم الجمعة، ولأجل استنكار هذه الفكرة الخبيثة الصلاة على محمد وآل محمد)(16).

الخطبة 45 الأخيرة

قال: (لا شك ان أفضل ما تفعله دولة لمجتمعها وشعبها هو إعطاء الحرية للتصرّف والقيام بشعائرها الدينية والتنفيس عن قناعاتها النفسية والعقلية بالشكل الذي لا يضرّ الدولة أصلاً ولا يمتّ إلى سياستها وكيانها بأية صلة)(17).

الشعارات

مارس السيد الصدر كل الأساليب التي تكسر أي حاجز تفريقي بين الفقيه والأمة ومن ذلك أسلوب ترديد الشعار، حيث استخدم السيد الصدر الشعار بطريقة خاصة ووظفه في مشروعه التغييري. ويلاحظ ان شعاره اتصف بسهولة الخطاب والمضمون الفاعل والهتاف المشترك. مثال ذلك:

كلا كلا للباطـل كلا كلا لأمريكـا

كلا كلا لإسرائيل كلا كلا للاستعمار

الرمز الفني

في الذكرى السنوية لإقامة صلاة الجمعة في وسط العراق وجنوبه خاطب السيد الصدر أهل الفن لتجسيم هذه الذكرى قائلاً: (يحسن على من يستطيع منكم من أهل الفن والاختصاص أن يجعل لنا ويفكر لنا بوجود مجسّمة رمزية تمثل صلاة الجمعة)(18). وطلب ان تقدم النماذج ضمن مدة محددة لانتخاب النماذج المتميزة وإعطاء جائزة لمن يقوم بذلك.

مع المجاهدين


من خلال كل ما تقدم يتّضح وعي الصدر الثاني لأوليات التغيير. فأي تغيير لا يمكن أن يحصل دون أدوات وقاعدة شعبية وإصلاح ذاتي مجتمعي حوزوي ومراحل من التأهيل. ورغم انه انفتح على الجماهير من أوسع الأبواب لكنه لم يترك دعمه للمجاهدين وأتباع الحركات الإسلامية، فكان يفتيهم ويعطيهم الإجازة الشرعية بالأموال ويشجعهم على العمل في العراق. ومن الجدير بالذكر أن وفداً من فيلق بدر زار السيد الصدر في النجف سراً وأعلن أغلبية منتسبي الفيلق البيعة الرسمية للإمام(19). وقد أصدر بعض الفتاوى الشفهية ذات الطابع الخاص، منها فتواه لأحد كوادر فيلق بدر ان الذي يُقتل من المجاهدين أثناء المواجهة هو شهيد(20).

سلبيات رافقت الإنجازات

وقبل الانتقال إلى أحداث المواجهة بين السلطة وبين الصدر وأتباعه لابد من الإشارة إلى ان المسيرة الصدرية التي أنجزت الكثير رافقتها بعض السلبيات منها التوتر إزاء الفقهاء الآخرين مما سبب إيجاد جو من الخلاف أو الخصومة أو صراعاً بين مواقع فقهية، كما حصل مثلاً في قضية مدرسة آل الحكيم التي استعملها السيد الصدر لأنها مدرسة إسلامية معطلة إلا ان هذا الإجراء تحول إلى خلاف ونزاع أوصله الطرف الآخر إلى رئاسة الحكم الجائر للحصول على المدرسة. ولعل سلبيات أخرى غطت عليها إيجابيات أكبر كما في اختياره لبعض وكلائه الشباب فقد ظهر فيهم شخصيات أساءت إلى المسيرة فيما برزت شخصيات فذة استكملوا مسيرة الثبات على الحق (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).

التضييق

بدأت السلطة بالتضييق على الصدر وحاولت تحجيم مرجعيته فسحبت منه حق التأييد لطلبة الحوزة العلمية لغير العراقيين في النجف الأشرف في الحصول على الإقامة، وتجاهلت التأييدات التي يقدمها لطلبة الحوزة لتأجيل موعد الخدمة العسكرية. كما بدأت تحاربه بشكل غير مباشر. فقد قامت عناصر مسلحة باغتيال الشيخ البرجردي (67عاماً) في 21 نيسان 1998 بإطلاق النار عليه وهو عائد إلى بيته من تأدية الصلاة. وكذلك اغتيل الشيخ الغروي (68عاماً) في 18 حزيران على الطريق بين كربلاء والنجف [قال درستويل المكلف من الأمم المتحدة بشأن حقوق الإنسان في العراق انها (جرائم سياسية تستهدف المعارضة وتكميم الأفواه) وأضاف ان السلطات العراقية لم تحقق في الملابسات]. وربما كان ذلك في سبيل إسقاط مرجعية الصدر من خلال تهمة الصدر بأنه عميل للسلطة، ولذلك لم يُقتل رغم جرأته على الدولة، فقد اعتبر السيد عبد مجيد الخوئي أن اغتيال المرجع البرجردي تمّ في إطار تصفية المنافسين المحتملين لمرشح السلطة مرجعاً دينياً أعلى(21). وفي الوقت نفسه كانت هذه الاغتيالات رسالة لتحذير الصدر من التمادي في جرأته على السلطة. لكن الإمام الصدر زاد تمسكه بفضح السلطة ومواجهته لها.

من جهة أخرى كانت السلطة تحاول أن تحصل من السيد الصدر وغيره على فتاوى سياسية ودينية تخدم النظام الجائر. وفي هذا السياق طلبت السلطة من العلماء إدانة العدوان الأمريكي العسكري في ما أسمته أمريكا بعملية ثعلب الصحراء، ورغم أن السيد الصدر تطرّق إلى الموضوع في خطبة الجمعة وسمّى العملية بخنزير الصحراء إلا انه قال في نهاية كلامه (اللهم اشغل الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين) ولم يصدر عن السيد الصدر أي بيان في موضوع الضربة العسكرية الأمريكية حيث نشرت بيانات في الإذاعة والتلفزيون عن معظم العلماء الموجودين في النجف ومنهم السيد السيستاني.

بداية الأزمة

لقد استطاع السيد الصدر بمواقفه الصلبة الثابتة أن يرسّخ جذور روح التحدي والمقاومة في قلوب المؤمنين، ومن جهة أخرى بدأ النظام من أواسط شهر رمضان يبث جوّاً من الرعب والإرهاب خلال صلوات الجمعة لمنع الجماهير من الحضور والمشاركة. ومهّدت السلطة لجريمتها بإبلاغ منظماتها الحزبية بمراقبة تجمعات الصلاة وقامت بإغلاق مكتب الصدر في مدينة العمارة واعتقال وكلائه. وحدثت بعض التصعيدات، ففي الناصرية استاء خطيب الجمعة أوس الخزرجي من استفزاز بعض أزلام النظام ووجودهم حول جموع المصلين فقال: (هذا المكان ل صلاة والواجب طرد الكلاب النجسة منه) وتطورت المواجهة إلى صدامات سقط فيها عدد من الشهداء واعتقلت السلطة عدداً من وكلاء السيد. وهكذا اشتدّ الصراع وبات السيد الصدر يشعر بأنه مهدّد من السلطة ولكنه قرّر أن لايلين لها ولا يعطيها شيئاً مما تريد لأنه يعلم ان النتيجة واحدة. وقد عرضت عليه بعض المنظمات السرية حمايتها له، لكنه طلب كشف تنظيمها له، فاعتذروا عن ذلك فرفض حمايتهم.

وجاء محافظ النجف محمد حمزة الزبيدي بأمر من صدام إلى السيد الصدر قبل يومين من عملية الاغتيال يطلب فتوى لتحرير الكعبة وأخرى لتأييد دعوة صدام الشعوب العربية للإطاحة بحكامها وأخرى لإعلان الجهاد بما يتوافق وسياسات صدام. لكن السيد الصدر وكزه بعصاه وطرده. ثم حاولت السلطة منع صلاة الجمعة في الكوفة، لكن السيد الصدر أمّ المصلين دون خوف ودعا في خطبتي الصلاة إلى عدم الاكتراث بتهديدات السلطة والمواظبة على صلاة الجمعة، وطالب بإطلاق المعتقلين وأكّد على الناس ضرورة مسير المواكب إلى كربلاء على الرغم من تحذيرات السلطة.

بعد صلاة الجمعة الأخيرة اتّصل صدام بالصدر هاتفياً وطلب منه منع التحرك فرفض الإمام ذلك(22).

تمهيد الاغتيال

ان سلطات بغداد تريد دائماً ان تستبق الظواهر الداخلية التي ستشكل خطراً لاحقاً عليها. وفي هذا السبيل وضعت كافة قوات الحرس الجمهوري في حالة استعداد قصوى تحت غطاء مشروع تدريبي تضمن ممارسة تنقلات استراتيجية.
وفي ليلة تنفيذ العملية كانت القوات في حالة انتشار قتالي مهّد للسيطرة المبكرة على الوضع كأحد أساليب الردع المسبق. وفور حصول عملية الاغتيال كثفت الوحدات الخاصة انتشارها ضمن مناطق المسؤولية المحددة، وأطلقت النار على تجمعات شعبية في مدينة النجف والثورة وكربلاء خرجت معبرة عن سخطها لمقتل آية الله الصدر قبل إذاعة البيان الحكومي. وبعد وقوع الحادث تمّ اعتقال أكثر من 2000 شخص ضمن إجراءات خطط الطوارئ.

وقائع الاغتيال

كان من عادة السيد الصدر أن يقيم مجلساً في مكتبه مساء الجمعة ينتهي الساعة 8.30 وبعدها يخرج مع ولديه حيث يوصلانه إلى بيته في منطقة الحنانة ثم يعودان إلى داريهما. وفي تلك الليلة وكعادته خرج من المكتب مع ابنيه بسيارة (ميتسوبيشي) وفيما كانوا يقطعون الطريق وبعد انعطافهم من ساحة ثورة العشرين إلى الشارع المؤدي إلى بيته، كانت عناصر أمنية تقف في رأس الشارع منعت دخول السيارات فيه. وكانت هنالك سيارة متوقفة وفيها عناصر مسلحة أطلقوا النار على سيارة السيد فانحرفت السيارة عن الطريق واصطدمت بشجرة، ثم جاءت سيارة (اولدزموبيل) ونزل منها مجموعة من عناصر السلطة وفتحوا النار على سيارة السيد فقتل ولداه على الفور وأصيب سماحته برأسه ورجليه. وبعد كل ذلك جاءت سيارة إسعاف ونُقل وهو على قيد الحياة إلى المستشفى وأحاطت بعض قوات الأمن بها ومنع الناس من دخول المستشفى وبقي السيد قرابة الساعة بالمستشفى وفي هذه الأثناء دخل محمد حمزة الزبيدي إلى غرفة الإنعاش؟؟! ليخرج وهو يقول (إنا لله وإنا إليه راجعون) وهكذا قضى الصدر نحبه شهيداً (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).

وبعد استشهاده حضر جمع من مسؤولي السلطة إلى المستشفى وذهب آخرون إلى بيته ولم يسمح بتجمهر المعزّين أو الراغبين بتشييع جنازته، لذا قام ولده السيد مقتدى الصدر بتشيع الشهيد محمد الصدر وابنيه الشهيدين مصطفى ومؤمل ليلاً ومعهم ثمانية رجال وبعض النساء حيث تمّ دفنهم في المقبرة الجديدة في وادي الغري.

إلى هنا ينتهي الحديث عن حياة الشهيد محمد الصدر ومسيرته الدينية السياسية المتميزة..

ونود الإشارة إلى ان المواجهة بين الصدر والسلطة كانت حتمية، ولكنه استطاع بحنكته وسياسته تأجيل المواجهة ثماني سنوات استطاع فيها بث الوعي الديني المعتدل وحث الناس على الالتزام بالمبادئ الإسلامية مع تركيزه على الأخلاق الحميدة والقيم الإنسانية.

وربما يمكن القول انه اضطر للمجابهة بعد ان انجرّ إليها وكلاؤه بسرعة وتم اعتقالهم.. فكان لابد من المواجهة بدل الموت بصمت.

وفي الحلقة القادمة سنبدأ برصد مسيرة التيار الصدري بعد استشهاد قائده وفقده..


*****

تنبيه: نظرتنا هذه تعبر عن قراءة للواقع مستندة إلى الحقائق التاريخية، وتوجد نظرة مناقضة يمكن الاطلاع عليها في قراءات آخرين، لكن ينبغي الحذر من الالتفاف على الحقائق التاريخية.

تنبيه 2: هذه الدراسة مستخلصة من كتاب مرجعية الميدان للأستاذ عادل رؤوف بالإضافة إلى معايشة الواقع وفيما يلي إرشاد إلى بعض مواضع الاقتباس والتوثيق:

(8)ص150، (9)ص153، (10)ص210، (11)ص13، (12)ص132، (13)ص139، (14)ص186، (15)ص133،
(16)ص252، (17)ص255، (18)ص156، (19)ص402، (20)ص216، (21)ص65، (22)ص255
alkalyl@maktoob.com

3/9/2004م

سيد مرحوم
09-08-2004, 09:55 AM
نظرة في التجربة الصدرية ..

أرض السواد - عبدالكريم الخليل

الحلقة الثالثة


http://www.iraqsawad.net/sawadbannar.jpg

ذكرنا في الحلقة السابقة وقائع اغتيال السيد محمد الصدر وفاتنا ان نشير إلى ان الشارع الرئيس المؤدي إلى بيته قد تم إبلاغ أصحاب المتاجر والدكاكين فيه بإغلاق محالهم لضرورة أمنية تتعلق بمرور وفد مهم من هذا الطريق

وفي أعقاب عملية الاغتيال ولغرض التهرب من مسؤولية الاغتيال أمام ردود الأفعال الداخلية الغاضبة، اعتقلت السلطة عدداً من طلبة وعلماء الحوزة واتهمتهم باغتيال السيد الصدر مستغلة مواقف الخلاف. ومنهم الشيخ حسن الكوفي والشيخ على كاظم حماز والطالبان أحمد الأردبيلي وحيدر علي حسين وتم تنفيذ الإعدام بهم بعد ان صَوّروا في تمثيلية تلفازية هزيلة اعترافهم بأنهم قاموا بعملية الاغتيال وكتقليد ثابت قامت حكومة صدام باتهام إيران
بأنها وراء الجريمة وانها هي التي دعمت المنفذين

ردود الأفعال الداخلية

إن مظاهر الحب التي يُكنها الناس للسيد محمد محمد صادق الصدر تحولت إلى دموع وحسرات تفوق الوصف، لقد رحل حبيبهم وقائدهم وأملهم.. فماذا يفعلون وكيف يتلقون هذا المصاب الأليم والفاجع لقلوبهم ونفوسهم

كان الوضع في النجف متوتراً فالدبابات والأسلحة الثقيلة تطوّق المدينة بشكل لم يحصل من قبل، وكانت دوريات السلطة تملأ الأزقة والشوارع التي كانت شبه خالية من الناس , وإثر وصول النبأ إلى أنحاء العراق يوم السبت حدثت ردّة فعل قوية لاسيما في بغداد وبالتحديد في مدينة الثورة (الصدر الآن)؛ فاندلعت من جامع المحسن تظاهرات صاخبة ورفعت شعارات ضد صدام وندّدت باغتيال الصدر. ومن جهة أخرى كانت قوات الطوارئ والمؤسسات الأمنية الأخرى مستعدة للردّ فأحاطت سيارات البيكب المزودة بالرشاشات المتوسطة وأطلقت نيرانها نحو الجماهير وسقط أكثر من خمسين شهيداً تركت جثثهم في الشوارع وجرح الكثيرون فيما سقط 17 قتيلاً في صفوف القوات الأمنية. وجرت بعدها مداهمة للبيوت القريبة بحثاً عن الأسلحة والجرحى(23
وكذلك اندلعت تظاهرات ومواجهات في مدينة الناصرية أدّت إلى سقوط بعض المراكز الحساسة للنظام ليوم كامل. وشهدت بعض المدن الأخرى مثل كربلاء والعمارة اضطرابات مماثلة تمكّنت السلطة من تطويقها وقمعها بالحديد والنار. لقد كانت السلطة على أهبة الاستعداد لمواجهة الردود المحتملة لاسيما في المناطق ذات التركيز الشيعي. ومن اللافت للانتباه امتداد الاضطرابات إلى مناطق السنة خصوصاً مدينة سامراء بالإضافة منطقة الأعظمية في بغداد

بعد هذه الانتفاضة المحدودة حدثت عدة أعمال ثأرية مختلفة وامتاز الوضع العام بالتحدّي للسلطة وعدم الخنوع لتحذيراتها من إقامة الجمعة فتوّجه الناس لأداء الصلاة رغماً عن السلطة
نشرت السلطة قواتها وبلّغت الناس عبر المنظمات الحزبية بمنع صلاة الجمعة واستطاع السلطة ان توقف أفواج الناس من الوصول إلى الكوفة لأداء الصلاة في مسجد الكوفة
وفي البصرة أخذت ردود الأفعال سيراً تصاعدياً وشكّلت عمليات يوم 19 آذار 1999م مفاجأة للسلطة؛ وذلك عندما سقطت المدينة عدة ساعات بيد الثوار، وتم فيها قتل محافظ البصرة ومدير الأمن ومجموعة من جلاوزة صدام(24

أما في بغداد فقد أغلقت القوات الأمنية مسجد المحسن بعد التظاهرات التي خرجت يوم السبت فتوجّه الناس إلى مسجد الحكمة لإقامة الصلاة هناك
أقام السيد عبد الهادي الشوكي الصلاة رغم كلّ التهديدات، ولكنه حاول تهدئة النا وذكّرهم ببعض وصايا السيد الصدر لاسيما المحافظة على صلاة الجمعة. وعند انتهاء الصلاة اعتقلت السلطة الشوكي واعتقلت أعداداً غفيرة من المصلين

وفي الجمعة الثانية أقام الشيخ علي الكعبي الصلاة وأمر الناس بالتزام السكينة وضبط النفس. وأمام هذا الإصرار الشديد من قبل الناس وتلامذة الصدر على مواصلة أداء فرض الجمعة، قامت السلطة من خلال منظماتها الحزبية بإبلاغ الناس منع الصلاة وأخذ التعهدات الخطية من أهالي المناطق القريبة من المسجد. لكن الشيخ على الكعبي أقام الجمعة وحاول الالتفاف على الموضوع فأبلغ الناس بأن هذه البلاغات الحزبية شخصية وليست أوامر السلطة،
ونسب هذه المعلومات إلى مصدر مقرّب من الدولة. وفي المساء جاءت مجموعة من عناصر الأمن للتحقيق معه في هذا الادعاء؛ فأجابهم بأن هذه الأوامر لا يمكن أن تصدر من السلطة، وانه أراد أن يوفق بين الناس وبين موقف السلطة. وهكذا أقام الكعبي الجمعة الثالثة قبل أن يعتقل على طريق النجف عند ذهابه لحضور مراسيم الأربعين لوفاة الشهيد الصدر
ولم ينثنِ الناس عن مواصلة الالتزام بالجمعة فانتدبوا الشيخ الساعدي إمام منطقة الأمين [من بغداد] لإقامة الصلاة في جامع الحكمة في مدينة الصدر. وبعد أن اعتلى المنبر طلب من الناس أن يلتزموا بالهدوء وضبط النفس أمام قوات الأمن المحيطة بهم. وقبل أن تقام الصلاة وقفت مجموعة من المسلحين أمام المصلين وبدؤوا بإطلاق النار فوق حشود المصلين؛ فوقف بعض المصلين مدهوشين وهم يهتفون الله أكبر ولا اله إلا الله بوجه هذه القوات (إِنَّهُمْ
كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ). عند ذلك بدأت القوات برمي الصف الأول ثم الصف الثاني (وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ). وهكذا سقطت كوكبة من الشهداء (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

وإنها لجريمة يندى لها جبين التاريخ، فهل فعل الصهاينة أكثر من ذلك في القدس الشريف؟ ولكن (مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ

ردود الأفعال الخارجية

لم يحصل في تاريخ تواجد العراقيين في الخارج ردّ فعل لهم على حدث معيّن مهما كان هذا الحدث، مثلما حصل في موقفهم إزاء خبر استشهاد السيد الصدر الثاني. فقد أصدرت معظم الأحزاب العراقية والوطنية بياناً مشتركاً استنكارياً وذلك بتأريخ 22 / 2 / 1999 وقعت عليه من الأحزاب الوطنية كل من الحزب الاشتراكي في العراق، الحزب الاشتراكي الديمقراطي الكردستاني، اتحاد الديمقراطيين العراقيين، حزب البعث العربي الاشتراكي المنشق، التجمع
الوحدوي الناصري، الحركة الاشتراكية العربية، الحركة الديمقراطية الآشورية، حزب كادحي كردستان، الاتحاد الوطني الكردستاني، الحزب الشيوعي العراقي بالإضافة إلى الأحزاب والحركات والتجمعات الإسلامية(25). وبالإضافة إلى بيانات الاستنكار التي أصدرتها الحركات والأحزاب العراقية بمختلف اتجاهاتها الفكرية والسياسية فإن المسيرات
والتظاهرات الاحتجاجية التي اندلعت في إيران وسورية ولبنان والأردن ودول أوربية وأمريكا وأستراليا وأماكن أخرى من العالم كانت من الشمولية والتحدي ما أظهر لأول مرة حضوراً عراقياً مؤثراً ومتفاعلاً مع ما يحصل داخل العراق

في إيران

وفي طهران قام العراقيون الغاضبون بمسيرات اتجهت إلى مقرّ الأمم المتحدة وكذلك إلى السفارة العراقية التي رشقوها بالحجارة وحطموا نوافذها رغم الحراسة الإيرانية المشددة
ومن جهة أخرى بعد أن سمعت الجالية العراقية في قم عصر يوم السبت 3 ذي القعدة 1419 (20 شباط) نبأ استشهاد السيد محمد الصدر على يد جلاوزة صدام، تجمّع العراقيون مقابل منزل السيد جعفر الصدر (ابن الصدر الأول ووكيل الصدر الثاني) ويقدر عددهم بثلاثة آلاف شخص. ثم تحرّكوا نحو مرقد السيدة فاطمة وردّدوا شعارات تندّد باغتيال السيد الصدر. وخلال المسيرات التي جرت في مدينة قم عبرت الجماهير عن درجة الحب والتقدير للشهيد الصدر مستحضرة بعض المواقف غير الإيجابية تجاهه، مما دفع البعض إلى إطلاق الشعارات ضد مجلس الثورة الإسلامية وقائده محمد باقر الحكيم

وفي مساء يوم 4 ذي القعدة (20 شباط) أقام الإمام علي الخامنئي مجلس العزاء على روح الشهيد الصدر في مدينة قم المقدسة. وجرت أحداث مشابهة وقد طلب السيد جعفر الصدر من الجماهير الغاضبة أن يكفّوا عن ذلك، لكن بعضاً منهم استمرّ بالهتاف ضد الحكيم وتصاعد الموقف وازداد اضطراباً واعتدى بعضهم عليه مما أدّى إلى اعتقال عدد كبير منهم، أطلقوا فيما بعد(26

ردود غير العراقيين

تم استنكار هذا العمل من قبل الجمهورية الإسلامية في إيران ومن مراكز عديدة للشيعة في العالم. وفي لبنان حالت هذه الجريمة دون استقبال رئيس المجلس النيابي نبيه بري لمحمد سعيد الصحاف وزير خارجية العراق الذي كان يقوم بجولة في عدد من الدول العربية(27
واشنطن
أما واشنطن التي تبحث عن بديل لصدام على مدى سنوات فقد كانت ترصد نمو الظاهرة الإسلامية في العراق التي قادها وأسسها الشهيد الصدر. شعرت أمريكا بأن السيد الصدر قد سحب البساط من تحت المشروع الأمريكي في الساحة العراقية فيما حقق كسباً ضخماً لصالح المشروع الإسلامي والوطني العراقي وانطلاقاً من سلبيتها إزاء الإسلاميين والمعارضة العراقية الإسلامية التي تجلت في محطات مهمة من تاريخ الأزمة العراقية كانتفاضة شعبان آذار عام 1991م وحصار السلطة للشعب في الأهوار والتفرج على إبادتهم، وخلق معارضات عراقية تعرقل عمل المعارضة الإسلامية وتخفف من لونها؛ فإن شعورها إزاء ظاهرة الصدر الثاني ومشروعه التغييري كان شعوراً متسماً بالخوف على مصالحها من تطور هذه الظاهرة ونجاحها ولقد تجسد هذا الخوف الأمريكي السلبي من خلال موقفها المتفرج على عملية اغتيال الصدر الثاني

لقد كان اغتيال الصدر مطلباً مزدوجاً بين صدام وأمريكا، ورسالة قدّمها صدام إلى أمريكا لإقناعها بأنه ما زال ضرورة وخندقاً متقدماً لحماية المصالح الأمريكية في العراق والمنطقة فالاغتيال يحقق هدفا أمريكياً ينفّذه النظام كعادته

إن الولايات المتحدة وقبل اغتيال الصدر بأربعة أشهر متواصلة تردد بأنها تريد إسقاط النظام الحاكم في العراق عبر سبل متعددة الانتفاضة، الانقلاب، الضغط الخارجي، إلا انها بقيت متفرجة إزاء قمع ردود الفعل الداخلية لأنها تعلم ان الجيل الصدري لن يكون أداة لأي تحرك أمريكي ولا ورقة يمكن توظيفها لصالحها
ويمكننا القول بثقة لو كان الأمام الصدر حياً لما تجرّأت أمريكا على غزو العراق، لكن تصفيات السلطة للعلماء تركت الساحة شبه فارغة

بعد التصفيات قامت السلطة بحملة تصفية جسدية لنشطاء مكاتب الشهيد الصدر وكان في مقدمتهم الشهيد علي الكعبي الذي امتاز بحنكة سياسية فائقة ولباقة متميزة بالإضافة إلى شجاعة وجرأة شهد لها الصدر بالتفوق. ومن المفارقات الغريبة ان عناصر الأمن المكلفين بتعذيبه كانوا لشدة إعجابهم به يحاولون عدم تعذيبه ويطلبون منه الصراخ، وعندما جاءت لجنة من مكتب قصي بن صدام لاقتياده إلى الإعدام بدا عليهم الارتباك والحزن

وقد حاول أحد كبار المراجع (وهو المرجع الوحيد من كبار المراجع الذي اعترف للصدر بحقيقة وجوب الجمعة وتعاطف معه) ان يتحمل مسؤولية مكتب الشهيد الصدر وان يقيم صلاة الجمعة، لكن السلطة منعته من إقامة الجمعة في الكوفة أول مرة ثم منعته حالته الصحية من المحاولة مرة ثانية إلى أن قضى نحبه بعد مدة قصيرة

ومن الجدير بالذكر ان الشيعة توجهوا بعد منعهم من الصلاة في مساجدهم إلى بعض مساجد السنة وقد استقبلهم أئمة السنة بالترحاب، لاسيما في مسجد الإمام أبي حنيفة في الأعظمية لكن السلطة قامت بإغلاق الشوارع التي تربط بين مدينة الصدر (الثورة سابقاً) وبين الأعظمية وبثت مفارزها الأمنية لمنع الشيعة الوافدين من الوصول إلى مسجد أبي حنيفة إلى ان انقطع أمل الشيعة بإقامة صلاة الجمعة

وبعد نحو سنة قام الشيخ اليعقوبي الذي برزت مرجعيته في ظل مرجعية الصدر، قام بمحاولة إعادة الحياة إلى قنوات التيار الصدري واستطاع الحصول على موافقة الدولة على إعادة فتح مكاتب الشهيد الصدر

وفي ظل الشيخ اليعقوبي عادت مكاتب الشهيد إلى مزاولة أعمالها الإدارية والفتوائية والإرشادية لكنه استيقن من استحالة إقامة صلاة الجمعة في ظروفها المتشابكة مع السلطة
إلى هنا تنتهي حلقتنا في الحديث عن التيار الصدري ضمن مرحلته السابقة في ظل سلطة صدام الإرهابية


****

وفي الحلقة القادمة سوف نرصد المسيرة الصدرية الحالية في ظل الاحتلال التي تكتنفها بعض الشبهات

ملاحظة: هذه الدراسة مستخلصة من كتاب مرجعية الميدان للأستاذ عادل رؤوف بالإضافة إلىمعايشة الواقع وفيما يلي إرشاد إلى بعض مواضع الاقتباس والتوثيق

(23) ص266، (24) ص 269، (25) ص281، (26) ص274، (27) ص280

*****

alkalyl@maktoob.com

7/9/2004م

بو حسين
09-13-2004, 05:31 PM
مازلنا ننتظر الحلقة القادمة :D

سيد مرحوم
09-14-2004, 08:40 AM
نظرة في التجربة الصدرية ..

أرض السواد - عبدالكريم الخليل

الحلقة الرابعة

http://www.iraqsawad.net/images/sawadbannar.gif

بدأنا في الحلقة السابقة برصد مسيرة التيار الصدري في ظل نظام صدام الجائر بعد استشهاد قائده ورمزه الأول السيد محمد الصدر، وفي هذه الحلقة سوف نتكلم عن هذا التيار في ظل الاحتلال.. وقبل الدخول في هذا الحديث لابد من تقديم حول الاحتلال.

عزم أمريكا على احتلال العراق

على الرغم من ان صدام حسين قاتل إيران ثمان سنوات نيابة عن أمريكا وليس نيابة عن التاريخ كما يقول إلا ان الدعم الذي كان يتلقاه منها ومن دول الخليج انقطع عنه بمجرد إيقاف الحرب وتحول إلى ضغط ثم حرب ثم حصار. ويمكن القول ان إسقاط صدام كان عملاً مؤجلاً وغير منجز منذ مطلع التسعينيات.

وبعد أحداث 11 أيلول 2001م والفشل الأمريكي الذريع في توفير الأمن الداخلي على الرغم من ميزانية وزارة الدفاع الهائلة بالإضافة إلى وكالة المخابرات التي تتبجح بأفلام جيمس بوند، قررت الإدارة الأمريكية تصدير فشلها إلى الخارج للهروب من المأزق الشعبي والخيبة التي أصيبت بها أعظم دولة في العالم.

بدأت الحملة في أفغانستان لكنها لم تشفِ عقدة الفشل الأمريكي، لاسيما بعد أن تمكن عناصر القاعدة من الإفلات من قبضة القوات الأمريكية بما فيهم زعيمهم أسامة بن لادن. وهنا جاء دور العراق.. ولكن لماذا العراق؟؟؟

*****

لقد كذبت الإدارة الأمريكية وحلفاؤها أربعة كذبات لا ينبغي للشعوب والدول أن تنساها:

الكذبة الأولى باتجاه الأمم المتحدة والرأي العالمي؛ فقد وصفت الإدارةُ الأمريكيةُ نظامَ صدام بأنه خطر يهدد الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط لأنه ما زال يعمل على تطوير أسلحة الدمار الشامل، خاصة وأنه خاض حربين كبيرتين مع جيرانه المسلمين وقصف مواطنيه الأكراد بالقنابل الكيمياوية.

وقد أكد توني بلير في مجلس العموم البريطاني: (إن أسلحة الدمار الشامل في العراق يمكن أن تكون جاهزة للاستعمال خلال 45 دقيقة!!) وقد سمى الكاتب ديفد ميلر هذه الكذبة بالكذبة الكبرى في كتابه الذي رصد فيه بشكل دقيق كيفية التضليل.

وعلى هذا الأساس من نسيج الكذب سعت الإدارة الأمريكية لاستصدار قرار من منظمة الأمم المتحدة يسمح لها بمهاجمة العراق ويسهل عليها استقطاب حلفاء منتظرين..

ودُعي مجلس الأمن إلى عقد جلسة خاصة بالعراق، وأعلن كولن باول أنه سيأتي إلى الجلسة ومعه الأدلة الدامغة. وجاء باول وقد سبقه عدد من الفنيين نصبوا أكثر من شاشة، وركزوا أكثر من آلة لعرض الصور من شفافيات، بحضور وزراء خارجية الدول الأعضاء في مجلس الأمن.. وصُدم جميع الحضور بعد أن توقعوا أن الأدلة هذه المرة ستكون حاسمة، لكنه لم يأتِ بأكثر من معلومات مكررة بعيدة عن الحقيقة وصور وتسجيلات ليست ذات قيمة. وخابت آمال الإدارة الأمريكية، واضطرت بعد وقفة فرنسا المبدئية الديغولية من رفض مشروع القرار اضطرت أمريكا إلى سحبه.

ومن الجدير بالذكر ان الإدارة الأمريكية مارست الضغط على رئيس المفتشين في العراق السيد هانز بليكس من أجل تأييد أكاذيبها وعند اقتراب موعد استقالته، باح بما في صدره ووصف بعض المسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية بأنهم أوغاد.

الكذبة الثانية باتجاه شعبها، وهي ان هنالك معلومات استخبارية عن تحالف النظام العراقي مع القاعدة وابن لادن مما يعني خطراً فظيعاً لا يمكن تصوره. وهذه الكذبة موجهة بالأخص للشعب الأمريكي لأن ابن لادن هو البعبع الذي تلوّح به الحكومة الأمريكية كلما أرادت تمرير قرارات وتصرفات مرفوضة، وقد تبين انه لا يوجد أي دليل على ارتباط بين صدام وابن لادن غير الأكاذيب الأمريكية الرخيصة.

وقد صعّد الرئيس بوش بطريقة متعمدة صورة هذه التهديدات عندما قال: (اننا نعرف ان العراق والقاعدة تربطهما صلات على مستوى عالٍ ترجع إلى عقد مضى... ان التحالف مع إرهابيين يمكن ان يسمح للنظام الحاكم العراقي بمهاجمة أمريكا دون ان يترك أية بصمات).

الكذبة الثالثة باتجاه الشعب العراقي المضطهد والشعوب العربية المضطهدة، وهي ان الإدارة الأمريكية عازمة على نشر القيم الديمقراطية والاهتمام بحقوق الإنسان والتنمية والرفاه ببناء نموذج متحضر يُحتذى في المنطقة، وان الحرب المزمع شنّها لن تكون إلا في صالح الشعب العراقي والشعوب العربية بالتخلّص من طاغية يهدد أمن شعبه وأمن المنطقة. وفي هذا الإطار هيأت الإدارة الأمريكية معارضةً عراقية الوجوه أمريكية الولاء كحزب الوفاق والمؤتمر واستدرجت معارضة أخرى ضحت بمبادئها ومصداقيتها لقاء سراب من المكاسب والمناصب كمجلس الثورة الإسلامية وحزب الدعوة الإسلامية.. (بزعامة اياد علاوي، أحمد الجلبي، محمد باقر الحكيم، إبراهيم الجعفري.. على الترتيب).

وقد تبين بجلاء ان الديمقراطية شعار يغطي كومة من القاذورات الأمريكية، وان أمريكا عازمة على نشر الفوضى والدمار وسلب القيم الإنسانية بأبشع الصور وسرقة ثروات العراق ببناء نموذج تابع لها يمثل القبضة الحديدية التي تسارع في سحق الشعب العراقي بكل مناسبة، وعلى من سيخلف صدام حسين ان يتبنى هموم واشنطن وتل أبيب باسم محاربة الإرهاب.

الكذبة الرابعة باتجاه الشعب الفلسطيني والشعوب العربية المتعاطفة معه، وهي الوعود الكاذبة بحل القضية الفلسطينية من خلال تبني خارطة الطريق وإنشاء دولة فلسطينية مستقلة تحقق للشعب الفلسطيني آماله وأمنياته.

ومن المعلوم ان الإدارة الأمريكية ترى قتل الشعب الفلسطيني رداً مشروعاً من الحكومة الصهيونية تجاه ما تسميه بالإرهاب الفلسطيني على الرغم من ان تاريخ الصراع الفلسطيني الصهيوني يثبت ان نسبة الضحايا الفلسطينيين إلى القتلى الصهاينة هو عشرة أضعاف إلى عهد قريب، وانه ما زالت كفة الإرهاب الصهيونية هي الراجحة، هذا بالإضافة إلى تجريف الأراضي وهدم المنازل واعتقال النساء والأطفال والشيوخ. على انه لم يحدث في أي حقبة ماضية أن تمادت الحكومة الصهيونية في القتل والترويع وتدمير البنية التحتية، وتحدت المشاعر العربية الرسمية والشعبية.. بترحيب ومباركة من الإدارة الأمريكية كما فعلت إدارة الرئيس بوش عندما أعطت الضوء الأخضر لشارون وسمحت له بأن يعامل الشعب الفلسطيني برمته على أنه منظمة إرهابية.

*****

هذه هي مجمل الأكاذيب التي سوّغت بها الإدارة الأمريكية الحرب على العراق. ولكن [وكما يقول مدير مركز الشرق المعاصر في السوربون]: (نحن نعرف بالتأكيد أنه لا الديمقراطية ولا السلام والأمن ولا التنمية من الأهداف التي تحرك الولايات المتحدة وتدفعها للتفكير بضرب النظام العراقي في سياق حرب دولية.. فالدول لا تكلف نفسها مهام تحقيق مصالح شعوب غيرها، وفي أغلب الأحيان لا تكلف نفسها حتى مهام تحقيق مصالح شعوبها أو الدفاع عنها.. إنها لا تتحرك إلا لتحقيق مصالح خاصة بها، قد تكون ستراتيجية وقد تكون سياسية أو اقتصادية أو معنوية.. كل ما تستهدفه الحرب الأميركية على العراق هو تعزيز وتدعيم مرتكزات سيطرتها في الشرق الأوسط).

وبدقة وتفصيل أكثر فإن دوافع احتلال العراق تتمحور بأربعة أمور:

أولاً: ضمان أمن إسرائيل

على الرغم من ان الحرب التي خاضها صدام ضد إيران كانت وفقاً للرغبات الأمريكية، وعلى الرغم من ان الحرب على الكويت تعني ان صدام حسين لا يؤمن بالعروبة أو الإسلام إلا كخطاب يجذب إلى جانبه العرب أو المسلمين، على الرغم من كل ذلك فإن الصهاينة كانوا يفضلون زواله لأنهم لا يأمنون قطاً هائجاً قد ينقض عليهم في لحظة حرجة.

ومعلوم ان المحافظين الجدد أو اليمين المتطرف في البيت الأبيض الذين يصوغون سياسة أمريكا معظمهم من اليهود، فلا غرابة ان يتبنوا فكرة إزالة نظام صدام المتهور لا خوفاً على إيران أو الكويت أو السعودية ولكن ضماناً لأمن إسرائيل اللقيطة. وإذا كان ما كشفته صحيفة (هاآرتس) الإسرائيلية في منتصف تشرين الثاني من عام 2002م، عن أن اليهوديين البارزين في وزارة الدفاع الأمريكية ريشارد بيرل وداخ فايت هما اللذان يرسمان صورة الشرق الأوسط الجديد ومخطط الحرب على العراق بالترتيب مع الحكومة الإسرائيلية، إذا كان ذلك غير واضح، فإن ما كشفه أخيراً السيناتور الديمقراطي ارنست هولنجز في كلمة أعلن فيها نيته بالتقاعد واضح ودقيق، فقد بيّن ان الحرب على العراق كانت (خدمة لصديقتنا إسرائيل). كما اعترف السيناتور بنفوذ اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤون العامة (إيباك)، وقال انه: (لا يوجد رئيس أمريكي سواء أكان ديمقراطياً أم جمهورياً تولى منصبه ولم يجد إيباك تملي عليه سياساته).

ثانياً: السيطرة على منابع النفط

الناتج القومي للاقتصاد الأوربي أكبر من الناتج الأمريكي وهذا يعني أن السيطرة على النفط تمثل الورقة الوحيدة التي تمكن أمريكا من السيطرة على اقتصاد الدول الأخرى، والحيلولة دون منافستها. فالنفط من أهم مصادر الطاقة، وتأمين الحصول عليه يقع ضمن دائرة الستراتيجيات السياسية والاقتصادية. وبمقارنة بسيطة بين نفط العراق المخزون (112 مليار برميل) ونفط الولايات المتحدة (22.4 مليار) نجد العراق يمتلك خمسة أضعاف ما لأمريكا كلها. وبحسب الإنتاج الحالي لأمريكا فإن مخزونها سوف يبدأ بالنضوب بعد عقد واحد من الزمن، بينما يمكن للعراق إنتاج ضعف المعدل الأمريكي ولثلاثة عقود قادمة في الوقت الذي يتزايد سعر النفط بسبب شحته في الأسواق العالمية وسيكون العراق من أكثر الدول قدرة على تلبية احتياجات السوق العالمية آنذاك تليه السعودية. علماً ان كلفة استخراج النفط العراقي من أقل الكلف في العالم مع جودته المعروفة.

هذه الثروة الهائلة من النفط يسيل لها لعاب الرأسمالية الأمريكية، وإذا أضفنا إليها ثروات معدنية أخرى كالزئبق والقصدير والفوسفات والكبريت.. إلخ ونظرنا إلى انخفاض الدولار الأمريكي أكثر من 25 بالمائة خلال عام واحد مقابل اليورو، حينئذ يبدو السيد توني بن الوزير البريطاني السابق، في وصفه لاحتلال العراق بأنه سطو مسلَّح دقيقاً جداً، ولا نحتاج بعده إلى توصيف. ومع ذلك لنستذكر خطاب بوش الأب عندما اجتاح العراق أرض الكويت: (وإذا ترك العراق يبتلع الكويت يصبح لديه عندئذ السلطة الاقتصادية والعسكرية، فضلاً عن العجرفة، لإرهاب جيرانه وقسرهم – وهم جيران يسيطرون على حصة الأسد من احتياطي النفط العالمي. ولا يمكننا ان نسمح بأن يسيطر وحش كهذا على مورد حيوي إلى هذا الحد. ولن نسمح بذلك).

ثالثاً: المصالح الذاتية

بينما يتحمل المواطن الأمريكي ضرائب إضافية لتغطية تكاليف الحروب التي تشنها الولايات المتحدة في إطار ما يسمى بمكافحة الإرهاب فإن بعض الشخصيات التي ترسم هذه السياسة لها مصالح شخصية مباشرة أو غير مباشرة في المزيد من هذه الحروب. ولاشك من ان شركات تصنيع الأسلحة في مقدمة المستفيدين، ولكن هنالك شركات أخرى لها مكاسبها في هذا المضمار. فشركة هاليبرتون التي تعمل في مجال خدمات النفط والتي أصبحت مثار العديد من المسائل الإشكالية في مجال الأعمال وتدقيق الحسابات تستفيد بشكل مباشر جداً من الحروب التي تشنها الولايات المتحدة.

يقول جبسون في كتابه أوكار الشر: (ان شركات لوكهيد مارتن، كارليل، كيلوج براون آند روت، وهاليبرتون كل منها ممثلة في إدارة بوش عبر تعيين المستخدمين السابقين في تلك الشركات ضمن الحكومة). ومن الجدير بالذكر ان ديك شيني كان في مدة سابقة رئيساً لشركة هاليبرتون، وان شركة كارليل تملكها عائلة بوش.

ولعل هذا ما يفسر لنا إصرار الإدارة الأمريكية على غزو العراق وتدميره وحصر عملية الإعمار المزعومة بالشركات الأمريكية، كما يفسر لنا عدم اكتراث الإدارة الأمريكية بقتلى الجيش الأمريكي ومحاولة إخفاء حقيقة الخسائر الكبيرة التي يتعرض لها. ولقد صرح أحد المسؤولين الأمريكيين في وقت سابق أنهم مصرون على احتلال العراق حتى لو فقدوا 65% من قوتهم المتواجدة على أرض العراق.

رابعاً: الهوس وعقدة 11 أيلول

بعد التجربة الأمريكية المنحوسة في لبنان صاغ كاسبار واينبرغر، الذي كان آنذاك وزير الدفاع، صاغ جملة من المبادئ تشكل دليلاً لأميركا في استخدام القوة العسكرية في الخارج في خطاب ألقاه في تشرين الثاني 1984. وقد كانت هذه المبادئ الستراتيجية كما يلي:

1) لا انخراط في القتال من دون مصلحة حيوية للولايات المتحدة أو حلفائها

2) لا انخراط إلا مع البوادر الواضحة للنصر

3) يجب ان تكون أهداف العمل العسكري محددة بوضوح

4) مراجعة مستمرة لشروط العمل العسكري وعلاقته بالمصالح الحيوية

5) يجب التحقق من ان الشعب الأمريكي وممثليه في الداخل يدعمون القوات في تواجدهم في
معركة وراء البحار

6) عدم التدخل عسكرياً إلا كآخر الحلول.

وبعد أحداث 11 أيلول 2001م تحولت هذه الستراتيجية إلى نقيضها تقريباً وهذا ما جعل كثير من الباحثين يعتقدون بنظرية المؤامرة وان أحداث أيلول لم تكن حدثاً طارئاً وانما كانت وسيلة مخططاً لها من قبل الحكومة لاسيما حين تقدم تعويضات لعائلات الضحايا، وتطلب إليها بالمقابل، أن تتعهد خطياً بالتنازل عن أي دعوى ضدها أمام القضاء بخصوص موضوع 11 أيلول.

المهم ان أحداث أيلول تحولت إلى حالة هستيرية استثمرتها إدارة بوش لوضع ستراتيجية جديدة من خلال نظرة إلى العالم متأثرة باعتبارات داخلية ومشتقة من هلع 11 أيلول، انها ستراتيجية الحروب الوقائية التي تعني مهاجمة أي بلد يملك أسلحة يمكن ان تهدد أمريكا.

ويصف الأستاذ نعوم شومسكي هذه الستراتيجية بقوله: (الحرب الوقائية هي بكل بساطة الجريمة المطلقة).

ووفق هذه الستراتيجية المشبوهة حولت أمريكا عقدة فشلها في حفظ أمنها الداخلي إلى حرب خارجية تحت عنوان مكافحة الإرهاب.. ذلك العنوان الذي سمح للإدارة الأمريكية بكسر حواجز كثيرة ونراهم دائماً يضغطون على زر الهلع ليتجنبوا المعارضة الشعبية لهذه السياسة.

ووفق هذه الستراتيجية تم زج الجيش الأمريكي في حرب وراء البحار لتلبية الغايات أو الدوافع الحقيقية المغطاة بالأكاذيب الرسمية. ولا ننسى استعانة بوش بالخطاب الديني والتظاهر بالتدين مع كل الشبهات التي تحوم حوله وحول إدارته في قضايا الشذوذ الجنسي والمظاهر السادية فضلاً عن سجله العسكري الملطخ وتاريخه في إدمان الخمر والعربدة. ومن الجدير بالذكر ان بابا روما والكنيستين الشرقية والغربية معاً أعلنوا رفضهم الحرب على
العراق.

*****

وبدأت الحرب وبعيداً عن تفاصيلها سقطت بغداد سريعاً وسط دهشة العالم ودهشة العرب لا بل دهشة العراقيين أيضاً، واستسلمت الموصل وكركوك وكذلك الرمادي وتكريت وما يسمى بالمثلث السني، ولكن الذي يعنينا في نظرتنا هذه هو موقف الزعامات الشيعية من الاحتلال. وقبل ان نتعرف على المواقف نبيّن للقارئ بعض الأمور المهمة حول التيارات الشيعية:



التيارات الشيعية والمرجعيات والأحزاب

يتألف العراق من أغلبية شيعية (جعفرية) تقدر بأكثر من 60% من العراقيين وهم يمثلون الثقل العربي (عرب العراق أكثر من 73% : 65% شيعة، 35% سنة) [بحسب تقديرات 1990 وكذلك 2002]، ويتركز الشيعة في الجنوب والوسط. وتعتبر النجف وكربلاء والكاظمية مراكز علمية دينية لهم فيما كانت سامراء مركزاً مهماً أيضاً في بداية القرن الماضي، ويرجع ذلك إلى احتضان هذه المدن لأضرحة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وتتوزع الحركة الشيعية ضمن خمسة تيارات رئيسة:

1. تيار الحوزة الصدرية: وهو تيار نشأ في ظل مرجعية الصدر الثاني (الإمام محمد بن محمد صادق الصدر) والذي يعتبر بدوره امتداداً لتيار الصدر الأول (الشهيد محمد باقر الصدر صاحب كتاب فلسفتنا واقتصادنا والبنك اللاربوي الملقب بفيلسوف القرن العشرين) الذي أعدمه صدام حسين عام 1980م وسحق قاعدته (مابين 1979-1982م تم إعدام أكثر من 300 ألف شخص). وقد كان لنشاط الصدر الثاني في إرشاده ونزوله إلى خضم المجتمع العراقي وإقامة صلاة الجمعة وبث الخطباء أثر كبير في جذب الشباب من مختلف المناطق الشيعية إلى هذا التيار الذي تميز بحدته ونشاطه. وقد تكلمنا في حلقتنا الأولى عن نظرية ولاية الفقيه المحدودة بالوطن التي
نظّرها الصدر الثاني.

2. تيار الحوزة التقليدية: وهو امتداد للتيار العام الذي انفرد بزعامته الخوئي بعد سحق تيار الصدر الأول، حيث بدأت زعامة الخوئي للحوزة في النجف منذ بداية السبعينات حتى وفاته عام 1992م، وقد ورث زعامة هذا التيار السيد علي السيستاني الذي كان أهم أعوان الخوئي. ويعتبر هذا التيار منغلقاً في الشؤون الفقهية وبعيداً عن السياسة، وتتركز قاعدته في داخل حوزة النجف.

3. تيار المجلس الإسلامي (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق): تشكل عام 1982م في إيران وبدعم منها برئاسة محمد باقر الحكيم، ليكون إطاراً يضم الفصائل الشيعية التي التجأت إلى الجمهورية الإسلامية في محنتهم تحت ظلم وإجرام صدام وحملات الإعدام مابين عام 1979-1982م. ويعتبر باقر الحكيم من المنضوين تحت ولاية الإمام علي الخامنئي.

4. تيار حزب الدعوة الإسلامية وحزب العمل الإسلامي: حزب الدعوة أسسه الشهيد الصدر الأول عام 1957م بشكل سري لتعزيز الدعوة والإرشاد الديني، ووضع السيد الصدر للحزب أطروحة العمل المرحلي:

- مرحلة التثقيف وتكوين الحزب وبنائه وتوعية الأمة.

- مرحلة العمل السياسي وتبنّي المواقف السياسية وجلب نظر الأمة إلى الأطروحة الإسلامية.

- مرحلة تطبيق أحكام الإسلام وإنشاء حكومة إسلامية.

وقد ترك الصدر الحزب بأمر من المرجع آنذاك السيد محسن الحكيم بسبب عدم تقبل الحوزة التقليدية لقضية التحزّب. وقد استمر الحزب في مرحلة التثقيف أكثر من عشرين سنة عندما بدأ نظام البعث باعتقال أعضائه ومؤيديه وزجّهم في السجون وإعدام الناشطين منهم، وقد جاء تحوّل الحزب إلى المرحلة السياسية بعد فوات الأوان. كما عانى حزب العمل الظروف ذاتها ويمكن القول ان الحزبين تم سحقهما في بداية الثمانينات ولم يعُد لهما ارتباطات شبكية داخل العراق. ومن جهة أخرى لم يلقَ حزب الدعوة الإسلامية الدعم الذي كان يحتاجه من إيران بسبب مواقف رئيس المجلس الاعلى السلبية منه، مما أدى إلى ضعفه وتشظّيه ويعتبر الدكتور إبراهيم الجعفري وعز الدين سليم أكبر قادته. أما حزب العمل الإسلامي فيتزعمه السيد المدرسي ومركزه في كربلاء.

5. تيار حوزة الخالصي: مركزه في الكاظمية في بغداد وهو تيار له منهجه الفقهي الخاص (فيه شيء من القرب إلى السنة) ويرجع إلى مرجعية الشيخ مهدي الخالصي الذي كان من أبرز قادة ثورة العشرين ضد الإنكليز. ويُعدّ جواد بن محمد بن مهدي الخالصي من دعاة التقريب بين الطوائف الإسلامية. وقد عانى هذا التيار من قمع السلطة ومحاصرة الحوزة التقليدية له.

هذه هي أهم التيارات الشيعية وهنالك مراجع وشخصيات لهم أهميتهم مثل المرجع السيد محمد سعيد الحكيم في النجف، والمرجع السيد البغدادي في كربلاء، ومن غير المراجع والذين كانوا خارج العراق السيد محمد باقر الحكيم (استشهد في النجف) والسيد محمد بحر العلوم والسيد حسين الصدر.

أما الولاء العلماني فهو ضعيف ومتوزع بين الأحزاب الجديدة والقديمة كما هو الحال لدى السنة العرب.

سيد مرحوم
09-14-2004, 08:42 AM
مواقف الزعامات الشيعية تجاه الاحتلال

لاشك ان الشيعة عانوا من حكم البعث ولاسيما حكم صدام معاناة شديدة من قتل وإبادة واعتقال وتعذيب وتشريد وتهجير وانتهاك للأعراض ومصادرة للأموال. وهذا ما يجعلنا نقول انه لم يكن من الممكن ان تتبنى أي من الزعامات موقفاً مدافعاً عن صدام وزمرته المجرمة. وهذا الموقف لم يكن مختصاً بالشيعة، إذ يقول الأستاذ علاء الدين المدرس -سني- في كتابه تحت رماد الحرب العاصفة: (قناعة الكثير من الإسلاميين أن الراية المرفوعة أثناء الحرب لم تكن إسلامية، وأن صداماً وحزبه لم يعطوا أي فرصة للإسلاميين للدفاع عن البلد). ولكن
الموقف العام في داخل العراق كان ضد الغزو، أما في الخارج فقد تباينت المواقف.

ولنبدأ بموقف المجلس الإسلامي بزعامة محمد باقر الحكيم، فقد قرر الانخراط بمؤتمرات المعارضة في لندن وصلاح الدين والتي كانت تدعمها أمريكا وجعلتها واجهة سياسية بديلة لنظام صدام.

ملاحظة: محمد باقر الحكيم الذي ارتأى ان يلتحق بمؤتمرات المعارضة تحت الإشراف الامريكي يتبع مرجعية الإمام علي الخامنئي، ومن المعلوم ان إيران وقفت بشدة ضد احتلال العراق لأنه يشكل يهدداً مباشراً لإيران. وإزاء هذه المعضلة وقبل ان ينخرط إلى جانب أمريكا طلب من الخامنئي أن يعطيه الضوء الأخضر فقال له: (افعل ما تراه مناسباً للعراق)، وبذلك فكَّ الحكيم ارتباطه بالمصلحة الإيرانية التي تتعارض مع غزو العراق تماماً.

وقد قرر حزب الدعوة الإسلامية أيضاً الانضمام إلى فلك المؤتمرات التي تزعمتها أمريكا، ومن الشخصيات المنضمة إلى فلك التبعية الأمريكية كل من محمد بحر العلوم وحسين الصدر وعبد المجيد الخوئي.

أما الشيخ جواد الخالصي وهو عضو في تنظيم (الحركة الإسلامية العراقية) فقد كان موقفه مناهضاً للاحتلال منذ البدء ولم يتغير موقفه بعد عودته إلى العراق بل دعا إلى خروج الاحتلال واعتبر الغزو منافياً لكل الشرائع والنظم.

وفي داخل العراق أصدر السيد علي السيستاني عند دخول القوات الأمريكية للعراق فتواه بحرمة التعاون مع الأمريكيين وحرمة التعاون مع نظام صدام. وعندما دخل عبد المجيد الخوئي إلى النجف مع قوات التحالف قدم شكره للسيد السيستاني أمام وكالات الأنباء الأجنبية لتحريمه التعاون مع نظام صدام، ولم يتطرق إلى الشق الثاني؛ مما أشاع موقفاً غير دقيق في تلك المدة. ويمكن القول ان فتوى السيد السيستاني غير واضحة وموقفه الصامت مازال ضبابياً تجاه الاحتلال.

أما التيار الصدري فقد كان موقفهم محسوماً برفض الاحتلال بسبب ما ورثوه من شعار رمزهم الأول الشهيد محمد صادق الصدر:


كلا كلا أمريكا كلا كلا إسرائيل

كلا كلا للباطل كلا كلا للشيطان

اما السيد محمد سعيد الحكيم فيبدو انه تقبل الموقف الذي اتخذه محمد باقر الحكيم زعيم المجلس الإسلامي، فيما توضح موقف السيد البغدادي الرافض للاحتلال.

هذه مجمل التوجهات التي ظهرت في بداية الاحتلال وقد كان سقوط بغداد سريعاً لم يترك للتوجهات ان تتبلور. فقد فوجئ العالم والعراقيون بذوبان الجيش وتبخر ميليشيات الحزب الحاكم واختفاء القيادة العسكرية المتمثلة بصدام وابنيه وبعض القادة الكبار.


الفوضى والنهب والتخريب بعد الغزو

في اليوم الثامن من نيسان 2003م ظهر فراغ السلطة بتبخر مليشيات الحزب الحاكم، وفيما كان الناس في صدمة معنوية وانشداه امام المشهد الواقع، تحفز اللصوص للانقضاء على مؤسسات لدولة ومخازنها المتخمة بالبضائع والمواد والآلات بينما يعيش الناس في عوز وحاجة وكفاف. ومن الجدير بالذكر ان صدام حسين كان قد أطلق السجناء بعفو عام فخرج من السجون نحو 150 ألف سجين فيهم القتلة والمجرمون والمنحرفون واللصوص وقليل من السياسيين (بقي بعض آخر من السياسيين في السجون تحت الأرض).

فراغ السلطة الذي خلقه انهيار نظام البعث انتهزته المجموعات ذات التنظيم المفكك من اللصوص وبدأت صفحة النهب والسلب والتخريب، وكانت أعمال النهب في معظمها موجهة ضد مؤسسات لدولة ومخازنها.. وفي حالات كثيرة صاحب النهب إشعال للحريق.

وتنص أنظمة لاهاي في المادة 43 على أنه: (بعد انتقال سلطة الدولة الشرعية في الحقيقة إلى أيدي دولة الاحتلال يتعين على الأخيرة اتخاذ جميع التدابير المتوافرة لديها لإعادة فرض النظام والسلامة العامة، وضمانهما إلى أقصى حد ممكن. مع احترام القوانين المعمول بها في الدولة إلا إذا منعت من ذلك) [وثيقة منظمة العفو الدولية الصادرة في نيسان 2003م]. لكن سلطة الاحتلال قامت بعمل مناقض لذلك، فقامت القوات الأمريكية باقتحام بعض المخازن والمؤسسات وفتح أبوابها لا بل اوهموا الناس بأنهم سوف يقومون بنسفها فاندفع الكثيرون لأخذ موجوداتها مع اندفاعة اللصوص وتحولت الحالة إلى هستريا لم يفق الناس منها إلا بدعوة أئمة الجوامع والخطباء والوعاظ إلى إرجاع المواد وحرمة أخذها. ولم تكتفِ سلطة الاحتلال بذلك بل حلت الشرطة وتركت الحبل على الغارب، وأخذوا يتمتعون بمناظر النهب والسلب والتخريب والانفلات الأمني حتى قال أحدهم من مقرهم في قطر :(إن ما يحدث أمر
طبيعي ونحن مرتاحون من سير العمليات).

أمام هذه الأوضاع الشاذة بدأ الناس يشكلون مجموعات خاصة لحماية مناطقهم من زحف العصابات واللصوص نحو المؤسسات الخدمية والممتلكات غير الحكومية. وقد كان دور الحوزة الصدرية في تنظيم مجاميع لحماية المؤسسات الخدمية في النجف واضحاً وكلما احتاجت مؤسسة مجموعة من الحراس كانت حوزة الصدر تتولى توفير ذلك وكان بعض المعممين يقفون بأنفسهم لحماية هذه المؤسسة أو تلك. كما قام مكتب الصدر بإعطاء بعض الرواتب للموظفين للشهر الأول والثاني بعد انهيار الدولة في النجف خاصة.

في كربلاء تم تشكيل قوات كربلاء من أهالي المدينة ولم يكن لهم ارتباط بمكتب الصدر ولكن القوات الأمريكية حلّت هذه القوات بعد ان نصّبوا مسؤولاً على المدينة فعادت أعمال السلب والنهب فاضطروا إلى إعادة هذه القوات تحت سلطة المحافِظ الجديد.

أما في مدينة العمارة فكانت الأمور هادئة بفضل حكمة المحافظ والمسؤولين السابقين حيث اجتمعوا برؤساء العشائر وأعلنوا أن المدينة تحرّرت من حكم صدام ولا حاجة لدخول قوات التحالف سلموها لبعض الشخصيات المرموقة في مجازفة كبيرة حيث تم ذلك قبل بوادر انهيار بغداد.

وفي بغداد تشكلت بعض المجاميع لحماية بعض المؤسسات والمستشفيات لاسيما في مدينة الثورة التي أصبحت تتسمى بمدينة الصدر. وقد تولى مكتب الصدر فيما بعد إدارة هذه المجاميع ودعمها. ومن المفارقات الغريبة ان هذه المدينة ذات الكثافة العالية من السكان يعيش فيها الكثير دون مستوى الكفاف وهنالك بعض اللصوص والعصابات، ولكن هؤلاء اللصوص والعصابات لم يتمكنوا من الاعتداء على المستشفيات الموجودة بداخلها بفضل التكاتف الشديد بين الخيرين من أبنائها. وفيما كانت بغداد تخلوا شوارعها بعد الساعة الخامسة مساءً أو السادسة كنت تستطيع ان تتجول بعد منتصف الليل في مدينة الصدر. ولم يلتزموا بحظر التجوال الذي كان يبدأ في الحادية عشرة.

ويقول تقرير المرصد العراقي (المؤلف من مجموعة من الباحثين الغربيين المعنيين بتاريخ الشرق الأوسط) الصادر في تموز 2003م عند الحديث عن المكتبة الوطنية: (لا بد ان نلاحظ ان الحوزة [حوزة الصدر] قد أضافت حراسها الخاصين بها، بلباسهم الموحد من القمصان والسراويل السود واللحى، إلى المكتبة.. قاموا بنقل قسم كبير من الكتب التي لم يكن بالإمكان تأمين سلامتها في المكتبة إلى مسجدهم حيث هي مخزونة في الوقت الحاضر. ويقول محمد الشيخ حاجم القائم الرئيس على رعاية هذه المجموعة انها تحتكم الآن على 300 الف مجلد.. وأثناء
زيارتنا لمسجد الحق قدرنا ان الكتب قد احتلت حيزاً من قرابة 150-200 متر مكعب).

على انه لم تخلُ هذه الجهود الطيبة من حالات سلبية، وعلى سبيل المثال الشيخ محمد الفرطوسي، أمّنه بعض الناس على مبلغ قدره 95 مليون دينار (45 ألف دولار) أنقذ من أحد المصارف في مدينة الصدر وقد أدعى تسليمها إلى مكتب الشهيد الصدر وعندما تحقق المؤمِّنون وجدوا أنه لم يسلمها، وعندما طالبه مكتب الصدر بالمبلغ هرب خارج العراق ومكانه الآن غير معلوم. فيما تم توزيع المبالغ المؤمنة الأخرى بشكل سليم على أصحابها حسب دفتر المصرف.


مقتل عبد المجيد الخوئي

عبد المجيد الخوئي ابن المرجع الشيعي الكبير ومدير مؤسسة الخوئي في لندن التي تدير مئات الملايين من الدولارات، وصاحب العلاقات الواسعة بالمؤسسات الإنسانية وبالشخصيات المختلفة من الوزراء والعلماء والمثقفين والعاملين في مجال حقوق الإنسان ومجال التقريب بين المذاهب والأديان. جاء في لحظات الحرب الأولى ليحقن دماء العراقيين المظلومين ويوفق بينهم وبين قوات الاحتلال التي كانت لحد لحظة موته تسمى قوات تحرير العراق وهو يراهم قوات صديقة!!

ولكن عبد المجيد الخوئي ذا العلاقات المهمة بشرائح مختلفة وشخصيات مؤثرة في العالم لم يلقَ ترحيباً من مراجع النجف وشخصياتها.

وحتى مرجعية السيستاني التي كانت تتمتع بعلاقات جيدة مع بيت الخوئي الذي بارك زعامة السيستاني وبالمقابل بارك السيستاني قيمومة محمد تقي الخوئي على مؤسسة الخوئي الخيرية في لندن ثم قيمومة عبد المجيد بعد مقتل أخيه عام 1994م على يد المخابرات العراقية، أشاحت مرجعية السيستاني بوجهها عن عبد المجيد الخوئي، وربما كان ذلك تخلصاً من تبعات موقف الخوئي.

ولم يجد الخوئي ترحاباً من الآخرين غير شخصية واحدة ملطخة بجرائم الحكم السابق وهو السيد حيدر الكليدار المسؤول الحكومي عن مرقد الإمام علي عليه السلام، وقد طلب منه ان يتوسط في إصدار عفو من المرجعيات عنه.

وبينما دخل الخوئي برفقة الكيلدار إلى الصحن العلوي في الساعة العاشرة صباح الخميس 10 نيسان 2003م احتشد الناس منددين بدخول الكليدار وبدأ بعض الغوغاء ينادون (اقتلوهم.. اقتلوهم..). وفي مكتب الكليدار كانت هنالك رشاشتان ومسدس. فاطلق الخوئي رصاصة لتفريق الغوغاء ولكن أمراً يبدو انه دبر، فقد دخلت مجموعة مسلحة من المجرمين أطلقت النار باتجاه مكتب الكليدار، وجرى تبادل نار لمدة ساعة ونصف. وبعد ذلك صرخ بعضهم ان مقتدى الصدر قد جاء ولكنه في الحقيقة لم يأتِ. وبعد نفاد عتاد جماعة الخوئي خرج أحد الخدم يحمل المصحف وقطعة قماش بيضاء إعلاناً بالاستسلام. وتدخل بعض الحاضرين لمنع الغوغاء من الاقتراب من الخوئي وجماعته وقالوا انهم سيصطحبونهم إلى مكتب الصدر، وعندما تم إخراجهم من الصحن انقض بعض المجرمين بالسكاكين والحراب على عبد المجيد الخوئي وحيدر الكليدار ومزقوا أجسادها.

هذا مجمل ما حدث وقد اتهم جماعة الصدر بدم الخوئي مع ان الذين قاموا بقتله ليسوا من اتباع الصدر وانما من أرباب السوابق الإجرامية وقد أطلقوا في العفو العام ثم أعيدوا إلى السجن وقد أطلقتهم سلطة الاحتلال.

هذه أول تهمة وجهت إلى مكتب الصدر وأتباعه، ويقول بعضهم ان عملية القتل كانت بتدبير من المخابرات الأمريكية حيث ان القوات الأمريكية على مقربة وان العملية استغرقت أكثر من ساعتين ولم يأتوا لنجدته، وانها عملية مقصود منها اتهام تيار الصدر. علماً ان الخوئي علاقاته القوية والمتشعبة ببريطانيا وليست بأمريكا.

وقد قام السيد كاظم الحائري المتواجد في قم بإرسال لجنة تحري وتحقيق ثبت لها براءة مكتب الصدر من العملية.

ومن الجدير بالذكر انه بعد بضعة أيام أعلن أحد وكلاء السيستاني في الكويت لوكالات الإعلام ان جماعة الصدر قاموا بمحاصرة بيت المرجع السيستاني في النجف وقاموا بتهديده لإرغامه على الخروج من العراق. وعلى اثر هذا التصريح اتجه كثير من الناس والعشائر إلى مدينة النجف ولكنهم لم يجدوا أحداً يحاصره، ومازال ذلك التصريح موضع تساؤل واستغراب.

أقول ربما كانت هذه رسالة إلى السيد مقتدى .. لا تقل ما قاله أبوك:


كلا كلا أمريكا.. كلا كلا إسرائيل..

كلا كلا للباطل.. كلا كلا للشيطان..

ونحن المحتلين سنقول .. ها قد عدنا يا صلاح الدين.

*****

وفي الحلقة القادمة سوف نتطرق إلى انضواء مقتدى الصدر تحت مرجعية الحائري، وذلك في
نظرنا هو بداية التخبط.

alkalyl@maktoob.com

13/9/2004م