سيد مرحوم
09-04-2004, 05:30 AM
العتبات الحيدرية.. الرمز والموقف (1)
اخبار الخليج : محمد كاظم الشهابي
قبيل منتصف ابريل الماضي كتبت على مدى ثلاثة أيام ثلاث مداخلات تحت عنوان «خذلوك يا مقتدى« وكانت بداياتها جميعا «خذلوك كما خذلوا من قبل ابن عمك وأباك« وتناولت فيها التاريخ الجهادي لآل الصدر الكرام وخاصة الشهيدين الأول المرجع السيد محمد باقر الصدر والشهيد الثاني الحجة السيد محمد صادق الصدر وما لقياه
من بطش النظام السابق من جهة ومن الجهة الأخرى خذلان «مؤسسة« المرجعية الحوزوية وظلم التيار التقليدي في النجف، وقد وثقت ذلك البطش والخذلان والظلم كتب عديدة من أهمها كتاب الباحث العراقي عادل رؤوف بعنوان «الصدر بين دكتاتوريتين« وقد دوّن فيه بدقة بالغة التجربة المرة للمرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر وكان يشير في عنوانه إلى دكتاتورية صدام حسين ودكتاتورية بعض القوى المتنفذة في البيئة الحوزوية، وكتاب «الشاهد والشهيد« حول معاناة الشهيد الثاني المرجع السيد محمد صادق الصدر للأستاذ مختار الأسدي، وأثارت تلك المداخلات الثلاث في حينها لغطا كبيرا لدى كثير من القراء، وتلقيت إثر نشرها ردودا كثيرة معظمها اتسمت بالانفعال والفهم المبتسر في حين كان بعضها أقرب إلى التفاؤل والبحث عن تبرير مقنع لموقف المرجعية وسكوتها الغير مفهوم، وقمت بعرض هذا الرأي كما وردني تحت عنوان «يا محمد ما هكذا تورد الإبل«، ونظرا إلى تجدد محاولات الاحتلال الأمريكي القضاء على التيار الصدري وتكرار موقف الصمت من قبل البعض مما دفع بتيار ديني معروف بمطالبة كوادر «جيش المهدي« بصفاقة استثنائية أن يخلوا مدينة النجف الأشرف فعاودت تناول هذه القضية الحساسة في بداية شهر مايو في مداخلتين تحت عنوان «عار عليكم«، فأثار ذلك مجددا حفيظة البعض. الآن وبعد تكرار محاولات الاحتلال للمرة الثالثة تصفية التيار الصدري وبعد تكشف المخطط الخبيث حيث جرى الترتيب لإخلاء النجف الأشرف من كل الرموز، فكل المراجع تم تسفيرهم إلى خارج العراق بحجج وذرائع شتى، في حين هرعت الزعامات التي طالبت بإخراج كوادر «جيش المهدي« إلى العاصمة بغداد حيث بدأ مؤتمر «السقيفة«، الآن كيف يرى بعض المكابرين الموقف في حاضرة أمير المؤمنين عليه السلام؟ وهناك لا شك أسباب تقليدية مختلفة لحساسية البعض المفرطة تجاه هذه القضية من بينها: 1: بعض القراء يبنون مواقفهم على أساس فرضيات ثابتة لا تقبل المناقشة وقائمة على التسليم بصحة كل ما يصدر عن رموز دينية من مواقف سياسية دون التمعن في فهم خلفياتها وأبعادها والظروف المحيطة بها والملابسات التي تكتنف الكثير منها، وأبرزها في تقديري التنافس الخفي الذي تدور رحاه في بيئة شديدة الخصوصية والحساسية حيث تسود في الظاهر أساليب المجاملات والاحترام والتقديس، وفي الخفاء تكثر الدسائس والحذر المفرط في العلاقات داخل البيئة الحوزوية، وفي الغالب يكون مصدر هذه الممارسات ليس في قمة الهرم الحوزوي حيث يتبوأ المراجع الصدارة، ورغم أنهم جميعا معرضون للخطأ والضعف باعتبارهم بشرا يعتريهم ما يعتري الجميع من قصور، إلا أن معظمهم يتسم بقدر كبير من التقى والورع والنزاهة رغم اتفاق الجميع على ظاهرة خطيرة جدا بين المراجع وهي عدم التزاور مع أنهم جيران أحيانا! مما يعمق حالة الجفاء بينهم ويعيق عملية التفاهم فضلا عن الحوار، ولكن جوهر المشكلة يكمن غالبا في دوائر البطانة والحواشي وحواشي الحواشي كما يقول الباحث العراقي عادل رؤوف. 2: اللافت في «المؤسسة« الحوزوية كما يذكر ذلك أحد كبار مراجع الشيعة في لبنان أن هناك وضعا شاذا فيما يتعلق بمسألة المعايير، فكل المؤسسات في العالم على اختلاف أنواعها مهنية كانت أو علمية أو اجتماعية تخرج نوابغ متميزين، وآخرين ناجحين بمستويات متباينة، وأخيرا هناك بعض من يفشل أيضا، ولكن الأمر الغريب أن لا وجود للفاشلين في الحوزة!!، فهل يعقل أن كل من ينخرط في «المؤسسة« الحوزوية هم من الصفوة التي لا تعرف الفشل؟! وهنا أجد من المناسب الاستشهاد برواية لسماحة السيد كامل الهاشمي نقلا عن سماحة السيد حسين الشاهرودي نجل «المرجع« السيد محمود الشاهرودي رحمه الله يصنف فيها المرجعيات إلى ثلاثة أقسام، «الأول يعتمد على نبوغ المرجع كشخص بالإضافة إلى مصداقية من حوله ويضرب لذلك مثلا بمرجعية الإمام الخميني رحمه الله ويؤكد أن هذا أحد أسباب نجاحه، وهي أحسن الحالات، والثانية يكون فيها المرجع نابغا ولكن في دائرة عقيمة أو فاسدة فيمنعه ذلك الفساد من الإصلاح ويستشهد على هذا النوع من المرجعيات بمرجعية السيد الخوئي رحمه الله، ويضيف أن والده المرجع السيد محمود الشاهرودي ينتسب إلى النوع الثالث والأخير حيث لا هو رحمه الله، ولا حاشيته يفقهون ما حولهم«. 3: يلتبس الأمر على كثير من الناس فيتصورون أن كل المراجع يمتلكون القدرة على ممارسة دور سياسي بمجرد كونهم فقهاء مهما كانت الظروف دقيقة وحرجة، وحتى إذا كانت تنقصهم الخبرة أو الرغبة في ممارسة العمل القيادي في المعترك السياسي كما ينقل عن سماحة المرجع السيد علي السيستاني، فكما ينقل عن سماحته طوال الفترة الماضية منذ سقوط الطاغية وحتى وقت قريب أنه لا يجد لديه الاستعداد للتصدي لقيادة الأمة سياسيا، وهذا الموقف يؤكد شدة ورعه ويزيد في مصداقيته ويُحسب له وليس العكس، ولكن هناك من يريد إقحام سماحته كواجهة مرجعية سياسية ليبحث من خلف الواجهة عن دور سياسي.
العتبات الحيدرية.. الرمز والموقف (2)
محمد كاظم الشهابي
في حديث نبوي شريف قال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين«، وفي رواية أخرى «فإن فيها هلاك الظالمين«، وقيل أيضا «رب ضارة نافعة« .
خلال الأسبوع الماضي قرأت وتابعت الكثير من الحوارات حول الشأن العراقي عموما، وبشكل خاص حول الوضع الراهن في النجف الأشرف بعد مؤامرة إخلائها من كل الرموز لرفع الحرج عنهم، تمهيدا للقضاء على «جيش المهدي« كونه أبرز وأكبر الأصوات الرافضة للاحتلال ، بالتزامن مع المضي قدما في مهزلة ما يسمى بـ «المؤتمر الوطني العراقي« في محاولة أمريكية غاشمة وغشيمة لترتيب مستقبل العراق السياسي، وخلافا للغالبية ممن قرأت لهم وتابعت حواراتهم النازعة نحو التشاؤم إلى أبعد الحدود، فالرؤية المستقبلية التي خرجت بها لتطورات الأوضاع السياسية هناك تبعث إلى حد ما على التفاؤل الحذر، إن لم يكن على المدى القريب فسنرى بوادر هذا التفاؤل على المدى المتوسط، أرجح ذلك على ضوء المعطيات السياسية، ورغم شدة الظروف الراهنة واحتمال وقوع كارثة في النجف الأشرف في أية لحظة كنتيجة طبيعية لحالة التهور والتخبط والفشل الأمريكي ، وهذا خلاف ما نتمناه قطعا، إلا أن الأمور تسير بالوضع النجفي نحو كل الاحتمالات ومن بينها الكارثة التي إن وقعت فستكون غير مسبوقة ، فما هي إذًا مبررات التفاؤل في هذه الأجواء المنذرة بالخطر الشديد؟ أولا: يبدو أن قيادات التيار الصدري بزعامة السيد مقتدى، ومعظمهم من الشباب ممن تنقصهم الخبرة السياسية والتجربة، وينطلقون في مناهضتهم للاحتلال بعفوية وطنية ومشاعر دينية قد بدأوا يتعلمون شيئا من أساليب المناورات السياسية، وكسبوا الرهان الشعبي بالتأكيد في مقابل الطبقة السياسية العراقية من النخبة المتعلمة في الغرب والتي بدأ حضورها السياسي يهتز لا بل يتراجع كثيرا في أوساط المجتمع العراقي بسبب علاقات غالبية رموزها بأجهزة المخابرات الغربية وخاصة الأمريكية منها، ولم يعد هذا سرا فمعظم الصحف والدوريات الغربية تحمل في صدر صفحاتها عناوين تكشف التاريخ السري لأعضاء الحكومة العراقية المؤقتة وفي مقدمتهم رئيس الوزراء إياد علاوي، والجزء الآخر من طبقة النخبة السياسية العراقية بمن فيهم بعض الإسلاميين لم يتمكنوا من مد الجسور مع الناس البسطاء فخسروا الشارع العراقي، وأغراهم الاحتلال بأدوار محدودة في الواجهة السياسية على حساب مبادئهم فوجدوا أنفسهم بالنهاية بعيدا عن شعبهم وأقرب كثيرا للأجنبي المحتل، وهكذا فقدوا مصداقيتهم في مقابل تنامي التأييد للتيار الصدري رغم ضعف خطابه السياسي. ثانيا: لا شك أن اختيار التيار الصدري لمدينة النجف الأشرف كملاذ آمن نسبيا لمناصريه ولكوادره المقاومين من «جيش المهدي« وتحصنهم بمقام الإمام علي عليه السلام ومحيط العتبات الحيدرية يؤكد بعد نظر ورؤية استراتيجية عندهم، فقد أكسبهم هذا الملاذ نوعا من الحصانة والتعاطف الديني في العراق وخارجه لما يتمتع به المكان من روحانية وقدسية عند عموم المسلمين، وهذا ما صعب بالتالي مهمة الاحتلال في استئصالهم، فلو كانوا محتشدين في معاقلهم الأساسية فقط كالكوفة ومدينة الصدر ومدن الجنوب العراقي لربما أقدمت قوات الاحتلال على مجزرة تاريخية كبرى بإبادتهم ولو على مراحل، وهذا ليس مستبعدا على همجية المحتلين ورعونتهم، ولكنهم الآن مضطرون لإعادة النظر في خططهم أكثر من مرة لأنهم يعرفون أن إقدامهم على ضرب التيار الصدري في النجف الأشرف سيفتح عليهم أبواب الجحيم في كل العراق وربما خارجه ايضا، فمن يعرف جغرافية البناء في النجف يدرك أن القضاء على «جيش المهدي« المتحصن في العتبات الحيدرية بالإضافة إلى بيوت المدينة المقدسة وسراديبها وأزقتها المتراصة مستحيل إلا بمحو المدينة تماما، وليس واردا أن يجري في داخل المدينة القديمة أي نوع من الكر والفر أو قتال شوارع، ولا نتصور أبدا أن تغامر قوات الاحتلال فتقذف بالمارينز في أتون معركة محكومة بالخسارة، والبديل الوحيد أن يقذف بالعراقيين ليذبحوا بعضهم بعضا، وهذه مغامرة أيضا فيحتمل جدا أن تتردد قوات عراقية في خوض حرب أهلية، وقد ينقلب السحر على الساحر فيقف العراقيون في صف إخوانهم من التيار الصدري، وهذا الاحتمال لا شك وارد في حسابات المحتلين، ولعل هذا ما يفسر عروض الترهيب والترغيب، ومسرحيات التفاوض التي تهدف فقط إلى كسر شوكة التيار الصدري تمهيدا لاستدراجه خارج النجف ومن ثم القضاء عليه. ثالثا: من المؤشرات الداعية للتفاؤل على المدى المتوسط هو عجز الاحتلال عن تقديم أي حل سياسي وتخبطه الواضح للعيان، ويكفي أن نلقي نظرة عابرة للمشاركين فيما يسمى زورا وبهتانا «المؤتمر الوطني العراقي« باعتباره الخطوة السياسية التي يراهن عليها الاحتلال بعد شرعنته فنلاحظ غياب أبرز القوى في المجتمع العراقي عن التمثيل فيه، ومن مختلف الطوائف سنة وشيعة وتركمانا، كما انسحبت منه تشكيلات سياسية أخرى يوم افتتاحه، ولا شك أن تعويل الاحتلال الأمريكي على «مؤتمر« بهذا المستوى المتواضع من التمثيل يؤكد جملة أمور من بينها أولا قلة الحيلة وعدم الجدية، فلو كان لدى الاحتلال أدنى رغبة في تأسيس نظام ديمقراطي لكانت أمامه خيارات أخرى غير هذا «المؤتمر« المسخ الذي لا يعرف أحد حتى آلية اختيار أعضائه، ولا يشكل انتداب ممثل للسيد كوفي عنان لحضور جلساته قيمة تذكر في غياب أصحاب الشأن ، ناهيك عن كيفية اختيار أمانته العامة التي من بين أعضائها السيد حسين الصدر، وهو رجل دين منبوذ وله مواقف مخزية ليس أقلها تقبيله أنف وزير الخارجية الامريكي «كولن باول« قبل شهور عندما دعاه لتناول الغذاء في بيته.
العتبات الحيدرية.. الرمز والموقف (3 من 3)
محمد كاظم الشهابي
ليس سرا أن أقوى التحديات التي تواجه التيار الصدري تتمثل في مراكز قوى شيعية نجفية، ورغم اختلافها فإن ما يجمع بينها هو معاداة التيار الصدري بامتداداته الواسعة مما يهدد النفوذ التاريخي لبعض تلك القوى التقليدية منها، ويمنع بروز قوى أخرى عاشت في المنافي وكان لبعضها تاريخ نضالي عريق إلا أن قياداتها قد ارتبطت بعلاقات مشبوهة وتورطت في لعبة القبول بالاحتلال تحت مسوغات هزيلة، وإغراءات بمناصب القليل منها تحقق والكثير مازال رهن الوعود، ولولا ظلم ذوي القربى لما تمادى الأجنبي المحتل في غطرسته إلى التصريح من خلال وكلائه وأزلامه بعزمه على اكتساح النجف الأشرف وابادة المدافعين عنها عن بكرة أبيهم.
هذا التحزب المرتكز إلى ترسانة الأحقاد القديمة والغضب الشعوري كما يقول الكاتب العراقي الأستاذ علاء اللامي قد ذهب إلى أقصى مداه في معركة النجف والتي هي أقرب إلى المجزرة وحمام الدم - إن وقعت - منها إلى المواجهة العسكرية بين قوتين ليس بينهما شيء من التكافؤ، فبعض أزلام الاحتلال يتناسى بلؤم أن المهاجمين أجانب يحتلون العراق كله ويساندهم عسكر مأجورون لحكومة نصبها الاحتلال أيضا وأن المدافعين عن المدينة المقدسة هم عراقيون ومن أهل المدينة فما معنى المطالبة بطردهم إلى خارج الصحن الحيدري وما حوله حسب مبادرة ما يسمى بـ «المؤتمر الوطني العراقي«، وخارج النجف نهائيا كما يطالب أعضاء حكومة علاوي؟ والذاكرة العراقية لاتزال مثقلة بكوارث حملات التهجير الصدامي، وأية مصداقية ستبقى لحكومة علاوي وهي تعلن في بيان رسمي أن المقاومين من التيار الصدري (ينتهكون الأعراض والحرمات في مدينة النجف) في محاولة مفضوحة للنيل من التيار الصدري، والعالم كله يعرف من هم الذين ينتهكون الأعراض؟ هل هم المقاومون المضحون بأرواحهم من أجل وطنهم وشعبهم ومقدساتهم؟ أم هم أصدقاء وأولياء النعمة الأمريكان؟ وأرشيف الأدلة من سجن أبوغريب فقط يكفي لكشف حقيقة مثل هذه الاتهامات التي يقصد بها قلب الحقائق. الموقف الراهن: يبدو من خلال الكم القليل من المعلومات التي تصل إلى العالم بعد الحصار الإعلامي المضروب على النجف أن قوات الاحتلال قد أخفقت في تحقيق تقدم حقيقي بعد نحو أسبوعين من بداية الجولة الأخيرة، وبعد أن قامت بحرث مقبرة وادي السلام حيث توجد أكثر كثافة للقبور على مستوى العالم كله ورغم ذلك فقد انتهكت حرمتها قوات المارينز لتعلن في نهاية المطاف أنها سيطرت على المقبرة وعلى وسط مدينة النجف، ولا أحد يشك في أن المارينز وحلفاءهم المحليين قد أحرزوا نصرا محدودا حتى بعد انسحابهم التكتيكي من وسط المدينة، لا بل إن «جيش المهدي« بحسب تصريحات الشيخ حسن الزرقاني مسئول العلاقات الخارجية في التيار الصدري للصحافة اللبنانية قد أكد أن قيادة التيار الصدري لم تكن تفكر في الانتصار عسكريا على أعظم قوة في العالم برشاشات الكلاشنكوف وقذائف الآر بي جي ، ولكن في المقابل فإن تطويرا لحالة المقاومة قد حدث وأن تقدما سياسيا نسبيا نحو تحقيق الهدف المركزي ألا وهو إجبار الاحتلال على الانسحاب واستعادة السيادة العراقية قد بدأ، وهكذا يمكن القول: إن نصرا استراتيجيا للأمريكان لم يتحقق، كما أن هزيمة للمقاومين لم تحدث بالرغم من البون الشاسع في طبيعة التجهيزات بين الفريقين، ولا مجال للمقارنة بين تسليح أعتى قوة عسكرية في العالم ومتطوعين يدافعون بأسلحة شخصية في الغالب. مما يؤكد هذه الحقيقة، بالإضافة إلى ما يكتنف الموقف الأمريكي من حرج بالغ في هذه المواجهة، هو الاتجاه للتفاوض بإيفاد مستشار الأمن الوطني موفق الربيعي إلى النجف بورقة طرحت كأساس للنقاش حسب تصريح عدنان الذرفي، وكانت المفاجأة في رد الفعل من قبل التيار الصدري بورقة مضادة من عشر نقاط تنسف معظم التقدم الذي حققه المحتلون وحلفاؤهم المحليون على الأرض، بل ترفع السقف السياسي الذي كان قائما قبل بداية الجولة الأخيرة من المعارك، وتحديدا فيما يتعلق بمطلب جدولة انسحاب القوات المحتلة من العراق وهذا ما أثار حفيظة الأمريكان فجن جنونهم، وكذلك المطالبة باعتبار المدينة القديمة وهي المباني المحيطة بالعتبات الحيدرية المقدسة محمية حوزوية بحراسة حرس شعبي يخضع للمرجعية الدينية النجفية حصرا على حد تعبير الورقة الصدرية بما يعني سحب البساط من تحت أقدام القوى التقليدية التي سبقت الإشارة إليها في بداية المداخلة، واللافت للنظر تزامن هذا الطرح مع الرحيل المثير للمرجع الديني السيد علي السيستاني إلى لندن مع بداية المعارك الأخيرة، وما لبث الصدريون أن أطلقوا بالون اختبار جريء آخر حين طالبوا باستقالة حكومة علاوي، وهذا ما أفقدهم صوابهم وهو شعار رفعته المظاهرات الحاشدة التي انطلقت في أغلب محافظات العراق تضامنا مع التيار الصدري. لقد تبنى الصدريون هذا المطلب وهم يراقبون بارتياح صعود المزاج الشعبي المناهض لاقتحام النجف واقتراب الوضع العام من الانفجار الشامل خصوصا بعد مجزرة الكوت الدامية التي استخدم فيها الأمريكان القنابل العنقودية فأودوا بحياة العشرات من الشهداء. وأخيرا فهناك معلومات من مصادر وثيقة الصلة تؤكد أن جولة المفاوضات التي قادها موفق الربيعي كان هدفها الحقيقي اختطاف السيد مقتدى الصدر بوصفه الرمز البارز للتيار بواسطة الفرقة المرافقة لموفق الربيعي والمكلفة بحمايته أثناء جلسات التفاوض، وقد أبدى الربيعي مرونة ملحوظة أثناء سير المفاوضات، وكان يوحي بأنه على استعداد للتوقيع، إلا أنه كان في نفس الوقت يتمنى حضور السيد مقتدى لمباركة الاتفاق، وعندما شعر بأن الاحتياطات الأمنية المتخذة غير قابلة للاختراق، وجرى الاتصال ببغداد صدر القرار بقطع المفاوضات. من وجهة نظري الشخصية أجد فيما تقدم لا يدعو للتفاؤل، أليس كذلك؟
اخبار الخليج : محمد كاظم الشهابي
قبيل منتصف ابريل الماضي كتبت على مدى ثلاثة أيام ثلاث مداخلات تحت عنوان «خذلوك يا مقتدى« وكانت بداياتها جميعا «خذلوك كما خذلوا من قبل ابن عمك وأباك« وتناولت فيها التاريخ الجهادي لآل الصدر الكرام وخاصة الشهيدين الأول المرجع السيد محمد باقر الصدر والشهيد الثاني الحجة السيد محمد صادق الصدر وما لقياه
من بطش النظام السابق من جهة ومن الجهة الأخرى خذلان «مؤسسة« المرجعية الحوزوية وظلم التيار التقليدي في النجف، وقد وثقت ذلك البطش والخذلان والظلم كتب عديدة من أهمها كتاب الباحث العراقي عادل رؤوف بعنوان «الصدر بين دكتاتوريتين« وقد دوّن فيه بدقة بالغة التجربة المرة للمرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر وكان يشير في عنوانه إلى دكتاتورية صدام حسين ودكتاتورية بعض القوى المتنفذة في البيئة الحوزوية، وكتاب «الشاهد والشهيد« حول معاناة الشهيد الثاني المرجع السيد محمد صادق الصدر للأستاذ مختار الأسدي، وأثارت تلك المداخلات الثلاث في حينها لغطا كبيرا لدى كثير من القراء، وتلقيت إثر نشرها ردودا كثيرة معظمها اتسمت بالانفعال والفهم المبتسر في حين كان بعضها أقرب إلى التفاؤل والبحث عن تبرير مقنع لموقف المرجعية وسكوتها الغير مفهوم، وقمت بعرض هذا الرأي كما وردني تحت عنوان «يا محمد ما هكذا تورد الإبل«، ونظرا إلى تجدد محاولات الاحتلال الأمريكي القضاء على التيار الصدري وتكرار موقف الصمت من قبل البعض مما دفع بتيار ديني معروف بمطالبة كوادر «جيش المهدي« بصفاقة استثنائية أن يخلوا مدينة النجف الأشرف فعاودت تناول هذه القضية الحساسة في بداية شهر مايو في مداخلتين تحت عنوان «عار عليكم«، فأثار ذلك مجددا حفيظة البعض. الآن وبعد تكرار محاولات الاحتلال للمرة الثالثة تصفية التيار الصدري وبعد تكشف المخطط الخبيث حيث جرى الترتيب لإخلاء النجف الأشرف من كل الرموز، فكل المراجع تم تسفيرهم إلى خارج العراق بحجج وذرائع شتى، في حين هرعت الزعامات التي طالبت بإخراج كوادر «جيش المهدي« إلى العاصمة بغداد حيث بدأ مؤتمر «السقيفة«، الآن كيف يرى بعض المكابرين الموقف في حاضرة أمير المؤمنين عليه السلام؟ وهناك لا شك أسباب تقليدية مختلفة لحساسية البعض المفرطة تجاه هذه القضية من بينها: 1: بعض القراء يبنون مواقفهم على أساس فرضيات ثابتة لا تقبل المناقشة وقائمة على التسليم بصحة كل ما يصدر عن رموز دينية من مواقف سياسية دون التمعن في فهم خلفياتها وأبعادها والظروف المحيطة بها والملابسات التي تكتنف الكثير منها، وأبرزها في تقديري التنافس الخفي الذي تدور رحاه في بيئة شديدة الخصوصية والحساسية حيث تسود في الظاهر أساليب المجاملات والاحترام والتقديس، وفي الخفاء تكثر الدسائس والحذر المفرط في العلاقات داخل البيئة الحوزوية، وفي الغالب يكون مصدر هذه الممارسات ليس في قمة الهرم الحوزوي حيث يتبوأ المراجع الصدارة، ورغم أنهم جميعا معرضون للخطأ والضعف باعتبارهم بشرا يعتريهم ما يعتري الجميع من قصور، إلا أن معظمهم يتسم بقدر كبير من التقى والورع والنزاهة رغم اتفاق الجميع على ظاهرة خطيرة جدا بين المراجع وهي عدم التزاور مع أنهم جيران أحيانا! مما يعمق حالة الجفاء بينهم ويعيق عملية التفاهم فضلا عن الحوار، ولكن جوهر المشكلة يكمن غالبا في دوائر البطانة والحواشي وحواشي الحواشي كما يقول الباحث العراقي عادل رؤوف. 2: اللافت في «المؤسسة« الحوزوية كما يذكر ذلك أحد كبار مراجع الشيعة في لبنان أن هناك وضعا شاذا فيما يتعلق بمسألة المعايير، فكل المؤسسات في العالم على اختلاف أنواعها مهنية كانت أو علمية أو اجتماعية تخرج نوابغ متميزين، وآخرين ناجحين بمستويات متباينة، وأخيرا هناك بعض من يفشل أيضا، ولكن الأمر الغريب أن لا وجود للفاشلين في الحوزة!!، فهل يعقل أن كل من ينخرط في «المؤسسة« الحوزوية هم من الصفوة التي لا تعرف الفشل؟! وهنا أجد من المناسب الاستشهاد برواية لسماحة السيد كامل الهاشمي نقلا عن سماحة السيد حسين الشاهرودي نجل «المرجع« السيد محمود الشاهرودي رحمه الله يصنف فيها المرجعيات إلى ثلاثة أقسام، «الأول يعتمد على نبوغ المرجع كشخص بالإضافة إلى مصداقية من حوله ويضرب لذلك مثلا بمرجعية الإمام الخميني رحمه الله ويؤكد أن هذا أحد أسباب نجاحه، وهي أحسن الحالات، والثانية يكون فيها المرجع نابغا ولكن في دائرة عقيمة أو فاسدة فيمنعه ذلك الفساد من الإصلاح ويستشهد على هذا النوع من المرجعيات بمرجعية السيد الخوئي رحمه الله، ويضيف أن والده المرجع السيد محمود الشاهرودي ينتسب إلى النوع الثالث والأخير حيث لا هو رحمه الله، ولا حاشيته يفقهون ما حولهم«. 3: يلتبس الأمر على كثير من الناس فيتصورون أن كل المراجع يمتلكون القدرة على ممارسة دور سياسي بمجرد كونهم فقهاء مهما كانت الظروف دقيقة وحرجة، وحتى إذا كانت تنقصهم الخبرة أو الرغبة في ممارسة العمل القيادي في المعترك السياسي كما ينقل عن سماحة المرجع السيد علي السيستاني، فكما ينقل عن سماحته طوال الفترة الماضية منذ سقوط الطاغية وحتى وقت قريب أنه لا يجد لديه الاستعداد للتصدي لقيادة الأمة سياسيا، وهذا الموقف يؤكد شدة ورعه ويزيد في مصداقيته ويُحسب له وليس العكس، ولكن هناك من يريد إقحام سماحته كواجهة مرجعية سياسية ليبحث من خلف الواجهة عن دور سياسي.
العتبات الحيدرية.. الرمز والموقف (2)
محمد كاظم الشهابي
في حديث نبوي شريف قال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين«، وفي رواية أخرى «فإن فيها هلاك الظالمين«، وقيل أيضا «رب ضارة نافعة« .
خلال الأسبوع الماضي قرأت وتابعت الكثير من الحوارات حول الشأن العراقي عموما، وبشكل خاص حول الوضع الراهن في النجف الأشرف بعد مؤامرة إخلائها من كل الرموز لرفع الحرج عنهم، تمهيدا للقضاء على «جيش المهدي« كونه أبرز وأكبر الأصوات الرافضة للاحتلال ، بالتزامن مع المضي قدما في مهزلة ما يسمى بـ «المؤتمر الوطني العراقي« في محاولة أمريكية غاشمة وغشيمة لترتيب مستقبل العراق السياسي، وخلافا للغالبية ممن قرأت لهم وتابعت حواراتهم النازعة نحو التشاؤم إلى أبعد الحدود، فالرؤية المستقبلية التي خرجت بها لتطورات الأوضاع السياسية هناك تبعث إلى حد ما على التفاؤل الحذر، إن لم يكن على المدى القريب فسنرى بوادر هذا التفاؤل على المدى المتوسط، أرجح ذلك على ضوء المعطيات السياسية، ورغم شدة الظروف الراهنة واحتمال وقوع كارثة في النجف الأشرف في أية لحظة كنتيجة طبيعية لحالة التهور والتخبط والفشل الأمريكي ، وهذا خلاف ما نتمناه قطعا، إلا أن الأمور تسير بالوضع النجفي نحو كل الاحتمالات ومن بينها الكارثة التي إن وقعت فستكون غير مسبوقة ، فما هي إذًا مبررات التفاؤل في هذه الأجواء المنذرة بالخطر الشديد؟ أولا: يبدو أن قيادات التيار الصدري بزعامة السيد مقتدى، ومعظمهم من الشباب ممن تنقصهم الخبرة السياسية والتجربة، وينطلقون في مناهضتهم للاحتلال بعفوية وطنية ومشاعر دينية قد بدأوا يتعلمون شيئا من أساليب المناورات السياسية، وكسبوا الرهان الشعبي بالتأكيد في مقابل الطبقة السياسية العراقية من النخبة المتعلمة في الغرب والتي بدأ حضورها السياسي يهتز لا بل يتراجع كثيرا في أوساط المجتمع العراقي بسبب علاقات غالبية رموزها بأجهزة المخابرات الغربية وخاصة الأمريكية منها، ولم يعد هذا سرا فمعظم الصحف والدوريات الغربية تحمل في صدر صفحاتها عناوين تكشف التاريخ السري لأعضاء الحكومة العراقية المؤقتة وفي مقدمتهم رئيس الوزراء إياد علاوي، والجزء الآخر من طبقة النخبة السياسية العراقية بمن فيهم بعض الإسلاميين لم يتمكنوا من مد الجسور مع الناس البسطاء فخسروا الشارع العراقي، وأغراهم الاحتلال بأدوار محدودة في الواجهة السياسية على حساب مبادئهم فوجدوا أنفسهم بالنهاية بعيدا عن شعبهم وأقرب كثيرا للأجنبي المحتل، وهكذا فقدوا مصداقيتهم في مقابل تنامي التأييد للتيار الصدري رغم ضعف خطابه السياسي. ثانيا: لا شك أن اختيار التيار الصدري لمدينة النجف الأشرف كملاذ آمن نسبيا لمناصريه ولكوادره المقاومين من «جيش المهدي« وتحصنهم بمقام الإمام علي عليه السلام ومحيط العتبات الحيدرية يؤكد بعد نظر ورؤية استراتيجية عندهم، فقد أكسبهم هذا الملاذ نوعا من الحصانة والتعاطف الديني في العراق وخارجه لما يتمتع به المكان من روحانية وقدسية عند عموم المسلمين، وهذا ما صعب بالتالي مهمة الاحتلال في استئصالهم، فلو كانوا محتشدين في معاقلهم الأساسية فقط كالكوفة ومدينة الصدر ومدن الجنوب العراقي لربما أقدمت قوات الاحتلال على مجزرة تاريخية كبرى بإبادتهم ولو على مراحل، وهذا ليس مستبعدا على همجية المحتلين ورعونتهم، ولكنهم الآن مضطرون لإعادة النظر في خططهم أكثر من مرة لأنهم يعرفون أن إقدامهم على ضرب التيار الصدري في النجف الأشرف سيفتح عليهم أبواب الجحيم في كل العراق وربما خارجه ايضا، فمن يعرف جغرافية البناء في النجف يدرك أن القضاء على «جيش المهدي« المتحصن في العتبات الحيدرية بالإضافة إلى بيوت المدينة المقدسة وسراديبها وأزقتها المتراصة مستحيل إلا بمحو المدينة تماما، وليس واردا أن يجري في داخل المدينة القديمة أي نوع من الكر والفر أو قتال شوارع، ولا نتصور أبدا أن تغامر قوات الاحتلال فتقذف بالمارينز في أتون معركة محكومة بالخسارة، والبديل الوحيد أن يقذف بالعراقيين ليذبحوا بعضهم بعضا، وهذه مغامرة أيضا فيحتمل جدا أن تتردد قوات عراقية في خوض حرب أهلية، وقد ينقلب السحر على الساحر فيقف العراقيون في صف إخوانهم من التيار الصدري، وهذا الاحتمال لا شك وارد في حسابات المحتلين، ولعل هذا ما يفسر عروض الترهيب والترغيب، ومسرحيات التفاوض التي تهدف فقط إلى كسر شوكة التيار الصدري تمهيدا لاستدراجه خارج النجف ومن ثم القضاء عليه. ثالثا: من المؤشرات الداعية للتفاؤل على المدى المتوسط هو عجز الاحتلال عن تقديم أي حل سياسي وتخبطه الواضح للعيان، ويكفي أن نلقي نظرة عابرة للمشاركين فيما يسمى زورا وبهتانا «المؤتمر الوطني العراقي« باعتباره الخطوة السياسية التي يراهن عليها الاحتلال بعد شرعنته فنلاحظ غياب أبرز القوى في المجتمع العراقي عن التمثيل فيه، ومن مختلف الطوائف سنة وشيعة وتركمانا، كما انسحبت منه تشكيلات سياسية أخرى يوم افتتاحه، ولا شك أن تعويل الاحتلال الأمريكي على «مؤتمر« بهذا المستوى المتواضع من التمثيل يؤكد جملة أمور من بينها أولا قلة الحيلة وعدم الجدية، فلو كان لدى الاحتلال أدنى رغبة في تأسيس نظام ديمقراطي لكانت أمامه خيارات أخرى غير هذا «المؤتمر« المسخ الذي لا يعرف أحد حتى آلية اختيار أعضائه، ولا يشكل انتداب ممثل للسيد كوفي عنان لحضور جلساته قيمة تذكر في غياب أصحاب الشأن ، ناهيك عن كيفية اختيار أمانته العامة التي من بين أعضائها السيد حسين الصدر، وهو رجل دين منبوذ وله مواقف مخزية ليس أقلها تقبيله أنف وزير الخارجية الامريكي «كولن باول« قبل شهور عندما دعاه لتناول الغذاء في بيته.
العتبات الحيدرية.. الرمز والموقف (3 من 3)
محمد كاظم الشهابي
ليس سرا أن أقوى التحديات التي تواجه التيار الصدري تتمثل في مراكز قوى شيعية نجفية، ورغم اختلافها فإن ما يجمع بينها هو معاداة التيار الصدري بامتداداته الواسعة مما يهدد النفوذ التاريخي لبعض تلك القوى التقليدية منها، ويمنع بروز قوى أخرى عاشت في المنافي وكان لبعضها تاريخ نضالي عريق إلا أن قياداتها قد ارتبطت بعلاقات مشبوهة وتورطت في لعبة القبول بالاحتلال تحت مسوغات هزيلة، وإغراءات بمناصب القليل منها تحقق والكثير مازال رهن الوعود، ولولا ظلم ذوي القربى لما تمادى الأجنبي المحتل في غطرسته إلى التصريح من خلال وكلائه وأزلامه بعزمه على اكتساح النجف الأشرف وابادة المدافعين عنها عن بكرة أبيهم.
هذا التحزب المرتكز إلى ترسانة الأحقاد القديمة والغضب الشعوري كما يقول الكاتب العراقي الأستاذ علاء اللامي قد ذهب إلى أقصى مداه في معركة النجف والتي هي أقرب إلى المجزرة وحمام الدم - إن وقعت - منها إلى المواجهة العسكرية بين قوتين ليس بينهما شيء من التكافؤ، فبعض أزلام الاحتلال يتناسى بلؤم أن المهاجمين أجانب يحتلون العراق كله ويساندهم عسكر مأجورون لحكومة نصبها الاحتلال أيضا وأن المدافعين عن المدينة المقدسة هم عراقيون ومن أهل المدينة فما معنى المطالبة بطردهم إلى خارج الصحن الحيدري وما حوله حسب مبادرة ما يسمى بـ «المؤتمر الوطني العراقي«، وخارج النجف نهائيا كما يطالب أعضاء حكومة علاوي؟ والذاكرة العراقية لاتزال مثقلة بكوارث حملات التهجير الصدامي، وأية مصداقية ستبقى لحكومة علاوي وهي تعلن في بيان رسمي أن المقاومين من التيار الصدري (ينتهكون الأعراض والحرمات في مدينة النجف) في محاولة مفضوحة للنيل من التيار الصدري، والعالم كله يعرف من هم الذين ينتهكون الأعراض؟ هل هم المقاومون المضحون بأرواحهم من أجل وطنهم وشعبهم ومقدساتهم؟ أم هم أصدقاء وأولياء النعمة الأمريكان؟ وأرشيف الأدلة من سجن أبوغريب فقط يكفي لكشف حقيقة مثل هذه الاتهامات التي يقصد بها قلب الحقائق. الموقف الراهن: يبدو من خلال الكم القليل من المعلومات التي تصل إلى العالم بعد الحصار الإعلامي المضروب على النجف أن قوات الاحتلال قد أخفقت في تحقيق تقدم حقيقي بعد نحو أسبوعين من بداية الجولة الأخيرة، وبعد أن قامت بحرث مقبرة وادي السلام حيث توجد أكثر كثافة للقبور على مستوى العالم كله ورغم ذلك فقد انتهكت حرمتها قوات المارينز لتعلن في نهاية المطاف أنها سيطرت على المقبرة وعلى وسط مدينة النجف، ولا أحد يشك في أن المارينز وحلفاءهم المحليين قد أحرزوا نصرا محدودا حتى بعد انسحابهم التكتيكي من وسط المدينة، لا بل إن «جيش المهدي« بحسب تصريحات الشيخ حسن الزرقاني مسئول العلاقات الخارجية في التيار الصدري للصحافة اللبنانية قد أكد أن قيادة التيار الصدري لم تكن تفكر في الانتصار عسكريا على أعظم قوة في العالم برشاشات الكلاشنكوف وقذائف الآر بي جي ، ولكن في المقابل فإن تطويرا لحالة المقاومة قد حدث وأن تقدما سياسيا نسبيا نحو تحقيق الهدف المركزي ألا وهو إجبار الاحتلال على الانسحاب واستعادة السيادة العراقية قد بدأ، وهكذا يمكن القول: إن نصرا استراتيجيا للأمريكان لم يتحقق، كما أن هزيمة للمقاومين لم تحدث بالرغم من البون الشاسع في طبيعة التجهيزات بين الفريقين، ولا مجال للمقارنة بين تسليح أعتى قوة عسكرية في العالم ومتطوعين يدافعون بأسلحة شخصية في الغالب. مما يؤكد هذه الحقيقة، بالإضافة إلى ما يكتنف الموقف الأمريكي من حرج بالغ في هذه المواجهة، هو الاتجاه للتفاوض بإيفاد مستشار الأمن الوطني موفق الربيعي إلى النجف بورقة طرحت كأساس للنقاش حسب تصريح عدنان الذرفي، وكانت المفاجأة في رد الفعل من قبل التيار الصدري بورقة مضادة من عشر نقاط تنسف معظم التقدم الذي حققه المحتلون وحلفاؤهم المحليون على الأرض، بل ترفع السقف السياسي الذي كان قائما قبل بداية الجولة الأخيرة من المعارك، وتحديدا فيما يتعلق بمطلب جدولة انسحاب القوات المحتلة من العراق وهذا ما أثار حفيظة الأمريكان فجن جنونهم، وكذلك المطالبة باعتبار المدينة القديمة وهي المباني المحيطة بالعتبات الحيدرية المقدسة محمية حوزوية بحراسة حرس شعبي يخضع للمرجعية الدينية النجفية حصرا على حد تعبير الورقة الصدرية بما يعني سحب البساط من تحت أقدام القوى التقليدية التي سبقت الإشارة إليها في بداية المداخلة، واللافت للنظر تزامن هذا الطرح مع الرحيل المثير للمرجع الديني السيد علي السيستاني إلى لندن مع بداية المعارك الأخيرة، وما لبث الصدريون أن أطلقوا بالون اختبار جريء آخر حين طالبوا باستقالة حكومة علاوي، وهذا ما أفقدهم صوابهم وهو شعار رفعته المظاهرات الحاشدة التي انطلقت في أغلب محافظات العراق تضامنا مع التيار الصدري. لقد تبنى الصدريون هذا المطلب وهم يراقبون بارتياح صعود المزاج الشعبي المناهض لاقتحام النجف واقتراب الوضع العام من الانفجار الشامل خصوصا بعد مجزرة الكوت الدامية التي استخدم فيها الأمريكان القنابل العنقودية فأودوا بحياة العشرات من الشهداء. وأخيرا فهناك معلومات من مصادر وثيقة الصلة تؤكد أن جولة المفاوضات التي قادها موفق الربيعي كان هدفها الحقيقي اختطاف السيد مقتدى الصدر بوصفه الرمز البارز للتيار بواسطة الفرقة المرافقة لموفق الربيعي والمكلفة بحمايته أثناء جلسات التفاوض، وقد أبدى الربيعي مرونة ملحوظة أثناء سير المفاوضات، وكان يوحي بأنه على استعداد للتوقيع، إلا أنه كان في نفس الوقت يتمنى حضور السيد مقتدى لمباركة الاتفاق، وعندما شعر بأن الاحتياطات الأمنية المتخذة غير قابلة للاختراق، وجرى الاتصال ببغداد صدر القرار بقطع المفاوضات. من وجهة نظري الشخصية أجد فيما تقدم لا يدعو للتفاؤل، أليس كذلك؟