الدكتور عادل رضا
09-03-2004, 01:01 PM
سليم مطر ـ جنيف 1999
النزعة الاستشراقية العنصرية في فكر الحداثة :
علي الوردي وبداوة المجتمع العراقي!
((اننا لا نريد من دراسة الثقافة البدوية ان نتسلى باحاديثها واقاصيصها ، بل نريد ان نفهم انفسنا))علي الوردي [1]
المؤرخ العراقي المعروف (علي الوردي ) ترك رصيدا مهما من الكتابات التاريخية والاجتماعية التي لا زالت تمارس تأثيرا كبيرا على الفكر العراقي . انه يعتبر من اكثر المثقفين العراقيين زخما في الانتاج ووضوحا في موقفه وتفكيره (الحداثي) ، اذ ألف العديد من الكتب المعروفة التي سجل فيها بكل صراحة واسهاب آرائه في التاريخ والفكر والسياسة والمجتمع . انه يتميز بقدرته الكبيرة على التعبير الممتع واتقان الاسلوب السلس وسرد الحكايات والامثلة التاريخية ، لهذا فأن تأثير هذا المثقف الرائد بلغ حتى المستويات الشعبية وشبه المتعلمة والفئات المحافظة والدينية والحكومية . بل يمكن القول انه في السنوات الأخيرة ، مع بداية عودة العراقيين الى الذات ومحاولة ترميم الهوية الوطنية ، بدأت ايضا عودة وإعادة اكتشاف لكتابات هذا المثقف الكبير .
علي الوردي له كتب في مختلف المجالات الثقافية ، لكن هنالك مجالين بارزين تخصص فيهما : التاريخ وعلم الاجتماع . ويبقى التاريخ هو المجال الأول والاكبر الذي ابدع به ، وخصوصا من خلال عمله الكبير:( لمحات عن تاريخ العراق الحديث) المكون من ثمان اجزاء ، سجل فيها تاريخ العراق طيلة الحقبة العثمانية وما بعدها. [2]
اما بخصوص آراء الوردي في المجتمع العراقي فأننا نجدها منتثرة في كل كتبه ، لكن كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) هو اكثر الكتب التي خصصها بصورة مباشرة لطرح آراه في المجتمع العراقي . لهذا فأننا اعتمدنا هذا الكتاب كمرجع اساسي لتوضيح آراء ونظرياته الخاصة بمجتمعنا .
بصورة عامة يمكن تحديد المميزات التالية لفكر علي الوردي :
1ـ انه يدعو بصراحة الى النظام الديمقراطي ، وله كلام اقرب الى التنبوء قاله في كتابه هذا ، أي في عام 1965 :(( ان هذه فرصة يجب علينا انتهازها، فالعراق الآن يقف على مفترق الطريق، وهذا هو أوان البدء بتحقيق النظام الديمقراطي فيه، فلو فلتت هذه الفرصة من ايدينا لضاعت منا امدا طويلا)).ص382
2ـ تأكيده على الخصوصية الوطنية العراقية ورفضه العموميات القومية العروبية. تراه يرد على اولئك العروبيين الذين بلغت بهم السذاجة القومية الى حد نكران أي واقع وطني وإدانتهم له باعتباره " ميل قطري" خطر! يقول الوردي ردا على انتقادهم له لأنه كتب عن العراق وليس عن الوطن العربي:(( اني اخالفهم في هذا الرأي مخالفة كبيرة. اود ان اسألهم هنا : كيف يمكن دراسة المجتمع الكبير من غير دراسة الأجزاء الصغيرة منه..)). ص8
3ـ من خلال مجمل كتاباته ، يمكن القول ان الوردي مثقف حداثي لكنه غير يساري ، بل هو اقرب الى التيار الليبرالي بمعناه الامريكي تقريبا، بحكم دراسته لعلم الاجتماع في امريكا . وهو يدعو بصراحة الى التمثل بالنموذج الحضاري والاجتماعي الغربي من ناحية الايمان بالعقلانية العلمية وتقديس التطور العصري والتحديث . لقد بين الوردي بوضوح في كتابه( مهزلة العقل البشري) [3] انه من الناحية الفكرية الفلسفية اقرب الى المدرسة المتشككة المنفتحة التي ترفض الجزم واليقين المطلق على الطريقتين الدينية والمادية الماركسية .
4ـ صحيح انه يدعوالى الثورة في الثقافة والفكر كما عبر بصراحة في كتابيه (وعاظ السلاطين ومهزلة العقل البشري) ، الا انه يرفض بشدة كل الميول الثورية في السياسة، خصوصا فيما يتعلق بالشعب العراقي . انه يعتبر كل الانتفاضات والثورات العراقية (مثل ثورة العشرين) ردود فعل قبائلية وامزجة فردية! ان مشكلة الوردي انه لا يعترض فقط على اساليب العنف الثورية المتبعة ، وهذه مسألة يمكننا ان نتفق بها معه ، بل المشكلة انه يعترض اساسا على امكانية وجود اسباب واقعية وانسانية تدفع العراقيين الى التمرد والثورة ! انه بكل صراحة يحكم على العراقيين بفقدانهم لأبسط النزعات الطبيعية الموجود في كل المجتمعات البشرية ، اي (حب الحرية والاستقلال) ، تراه يقول :(( الواقع ان القبائل العراقية بوجه خاص ، واهل العراق بوجه عام ، لم يكونوا يعرفون هذه النزعة ـ الحرية والاستقلال ـ او يدركون لها معنى . فهي نزعة حديثة لم تظهر في العراق الا في عهد متأخر جدا ، وذلك بعد اتصال العراق بالحضارة الحديثة واقتباس بعض مفاهيمها ومصطلحاتها ))!! ص172.
الحقيقة ان موقف الوردي هذا ليس نابعا من موقف اساسي ضد الثورة ، بقدرما هو نابع من موقفه بالذات من المجتمع العراقي ، حيث اعتبر كل سلوك وعقلية هذا المجتمع متأتية من روح البداوة المتأصلة فيه . وهذه هي بالضبط الاشكالية الكبرى التي سنعالجها في دراستنا هذه .
فكر الحداثة والآيدلوجية الاستشراقية
رغم التناقضات والصراعات بين التيارات السياسيةـ الثقافية العراقية المعروفة: الليبرالية والماركسية والقومية، الا ان جميع هذه التيارات تجتمع على قاسم مشترك واحد اسمه (الحداثة)! بمعنى النقد الشديد للميراث الديني والشعبي باعتباره (ظلاميا وعثمانيا ومتخلفا ) وتقديس الثورة العلمية والتكنلوجية وعموم الثقافة الاوربية بتياراتها وتنوعاتها المختلفة ، مع الاختلاف في التفاصيل والمسميات والاساليب ودرجة النقد والرفض . لقد شكلت هذه التيارات الثلاثة : (الليبرالية والماركسية والقومية) بمجموعها ( ثقافة الحداثة)، التي قادت الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية في العراق المعاصر منذ اكثر من قرن وحتى والآن .
لهذا فأن دراستنا لفكر علي الوردي ماهي الا محاولة لدراسة احد رموز فكر الحداثة ، من اجل معرفة دور هذا الفكر في تكوين (العقلية العراقية ) المعاصرة وفي صناعة التاريخ الوطني الحديث بمشاريعه وتطوراته المأساوية الكوراثية.
ان الخاصية الأساسية الجامعة لكل تنوعات وتيارات فكر الحداثة ، هي ((الرؤية الاستشراقية)) المستنسخة والمترجمة حرفيا من ((الرؤية الغربية)) عن الشرق العربي: البدوي المتخلف المتعصب دينيا الذي يميل الى الروحانيات بحكم طبعه السامي البدوي الصحراوي !!
ان تأثير هذه الرؤية وتغلغلها في تلافيف الفكر من القوة بحيث ان المثقف يمارسها من دون ان ينتبه لوجودها ولا يشعر بتناقضها مع مبادئه(الوطنية الليبرالية اوالقومية او الاممية) المعلنة . من الطريف مثلا ، ان ترى علي الوردي يأسف لأن المجتمع العراقي لا يبتدع ثقافته بل يستوردها من الخارج : (( انه الآن لا يبتدع المذاهب المستحدثة كما كان يفعل اسلافه، بل هو يستوردها من الخارج ويتنازع عليها. والظاهر ان رقي الحضارة الحديثة التي جاءت اليه جعلت منه "مصبا" للمذاهب ، لا "منبعا" لها )). ص368 لكن ادراك هذه الحقيقة لم يمنع الوردي نفسه من ارتكاب نفس الخطيئة بتبني الرؤية الغربية الاستشراقية في دراسة المجتمع العراقي ، كما سنرى !
ان حجر الزاوية والاساس الذي تستند عليه هذه الرؤية الاستشراقية الغربية في دراسة وتقييم المجتمعات العربية ، هي الفكرة ( العرقية القبائلية) القائلة بأن هذه المجتمعات هي سليلة اصيلة للقبائل العربية البدوية . أي خلق القطيعة التامة بين هذه المجتمعات ووجودها الجغرافي الارضي الوطني وربطها بحقيقة عرقية ازلية لا تؤثر فيها كل تطورات التاريخ ومتغيرات الجغرافيا . بالاعتماد على اساس (البداوة) هذا تم تفسير وشرح كل مكونات الفكر والعادات والسلوك والابداع وكل الميراث الحضاري والعقلي ! ان الخطوة الكبرى التي تم انجازها في اوائل هذا القرن من اجل تعزيز هذه الرؤية ، تمثلت باعادة كتابة تاريخ الحضارة العربية الاسلامية على اساس عرقي قومي طائفي اعتبر ان المصدر ((العربي)) الوحيد لهذه الحضارة هوالقرآن والميراث البدوي الجاهلي، اما المصادر الاساسية لهذه الحضارة فهي يونانية وفارسية وهندية، وليس بالصدفة ان هذه المصادر كلها (هندواوربية) [4] ! باعتبار العقل الشرقي(السامي ـالحامي) بدوي روحاني بطبعه غير قادر على تقبل المنطق العلمي والفلسفي ! وهذه الفكرة نجدها مكررة في الاغلبية الساحقة من الكتب المؤلفة من قبل المستشرقين او العرب انفسهم .( يمكن مطالعة أي كتاب تاريخي عن الحضارة العربية الاسلامية )!
بناء على هذه الرؤية القومية العرقية تم الالغاء التام لكل الميراث الحضاري للمجتمعات الاصلية في العراق والشام ومصر وشمال افريقيا ، باعتبار هذه المجتمعات عربية قحة ، وبالتالي هي منقطعة بدنيا وحضاريا ، أي عرقيا وقبائليا ، عن كل ميراثاتها السابقة للأسلام ولا تحمل غير الميراث البدوي ! لقد نجح المستشرقون الغربيون ومؤسساتهم التبشيرية والجامعية ، ولغايات تاريخية ودينية واستعمارية ، بفرض هذه الرؤية الاستشراقية التوراتية العنصرية على النخب المثقفة العربية (والعراقية طبعا) ، بحيث اتفقت عليها جميع التيارات، كل حسب طريقته وآيدلوجيته . الليبراليون والماركسيون اعتبروا البدواة سبب تعصبنا وتخلفنا وموقفنا المعادي للتنظيم وللانفتاح على الحضارة الغربية بنوعيها الرأسمالي او الاشتراكي . بل ان الماركسيون ابتدعوا تبريرا تاريخيا لهذه العنصرية من خلال مفهوم (الاستبداد الآسيوي ) بأعتبار النظام الاستبدادي خاصية آسيوية بينما الديمقراطية خاصية اوربية ( يونانية رومانية ) ! اما العروبيون فأنهم اعتبروا البداوة دليلا ساطعا على اصالتنا القومية ونقاوة دمائنا العربية ، وان الابتعاد عنها هو ابتعاد عن العروبة الحقة ، على حد تعبير احد كبار مفكري العروبة (زكي الارزوسي) [5] . لكن مع هذا التقديس للبداوة من قبل العروبيين فأن تقديسهم للحداثة الغربية جعلهم في النهاية يتفقون مع التيارين الليبرالي والماركسي بأعتبار البداوة سبب تخلفنا .
بأسم رفض ميراث البداوة والعشائرية والتخلف ، وتقديس ثقافة العلم والتحديث (بشكليه الرأسمالي او الاشتراكي) ، اتفقت تيارات الحداثة بمختلف مسمياتها وميولها، على احتقار ثقافة المجتمع والسخرية من تقاليده ومحاربة اسسه الروحية والدينية وتراثه الوطني والمحلي . ان أي دارس لفكر الحداثة في بلداننا يتوصل الى نتيجة مفادها ان هذا الفكر تمكن من اختصار كل تاريخ مجتمعاتنا وتطوراتها واشكالياتها بثنائية واحدة وحيدة : ( صراع الحضارة والبداوة ، أو التقدم والتخلف) ، مع اختلافات سياسية بين هذه التيارات حول الاشتراكية والرأسمالية والثورة الصناعية والعلمية وعن السوريالية والبنوية والدادئية، الى آخره من التفاصيل والمسميات، مع الاتفاق التام حول المشروع التحديثي الغربي والرؤية الاستشراقية لمجتمعاتنا .
الوردي مؤرخ كبير وعالم اجتماع سيء
قبل كل شيء ، ولكي نتجنب ظلم هذا المثقف العراقي الكبير ، يتوجب التأكيد على مقدرته الفائقة كمؤرخ وموثق كبير انتج اوسع المؤلفات عن تاريخ العراقي العثماني ، وهو ايضا باحث جريء طرق مواضيعا اجتماعية (تاريخية وشعبية) طالما ترفع المثقفون عن التطرق اليها . ثم انه حكواتي مبدع يمتلك اسلوبا ممتعا وجذابا بقدر ما هو غني وعميق لم يجاريه به أي مثقف آخر. ثم ان الوردي من الناحية الفكرية الفلسفية له طروحاته التي ترفض الانحياز الاعمى لمنهج معين وتدعوا للإنفتاح على كل الافكار والفلسفات والتمسك ببعض الشك ازاء كل منها تجنبا للتعصب والمغالات. اننا حاليا احوج ما نكون الى مثل هذا المنهج الفكري المتنوع والديناميكي.
لكن مع الأعتراف بكل هذه الأيجابيات الكبيرة والكثيرة لدى الوردي ، الا اننا نضطر للاعتراف ايضا بالجانب الآخر النقيض ، أي منهجه الاجتماعي المعتمد كليا على نظرية ( صراع البداوة والحضارة ) بتفسيرها الاستشراقي ، والتي لعبت ولا زالت تلعب دورا سلبيا كبيرا في تكوين العقل العراقي ، وزيادة التعتيم على حقيقة الشخصية الوطنية بمستويها الاجتماعي والتاريخي.
يعتبر مفهوم ( صراع البداوة والحضارة) المأخوذ عن العلامة المغاربي (ابن خلدون) الاساس الاول والمنطلق الذي اعتمده باحثنا في تحليله لطبيعة المجتمع العراقي وتاريخه خلال القرون الاخير. والمشكلة لا تكمن في نظرية ابن خلدون المعروفة هذه ، بل في اضطرار باحثنا الوردي ، الى تشويه هذه النظرية من اجل مراعاة الرؤية الاستشراقية الغربية التي كانت ولا زالت مسيطرة على فكر الحداثة بكل خطوطه وتنوعاته . لقد بين الوردي صراحة في جميع كتبه التاريخية والاجتماعية والفكرية عن تبنيه لهذا المفهوم . يعتبر بحثه هذا المعنون (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) اكثر الكتب اعتمادا على مفهوم (صراع البداوة والحضارة ) ، إذ تراه منذ الصفحات الاولى قد لخص بصورة واضحة منهجه التحليلي ، قائلا :
(( لقد اجمع علماء الآثار ان العراق كان مهبط حضارة تعد من اقدم الحضارات في العالم ... وظلت الحضارة تراود العراق حينا بعد حين ... ونجد العراق من الناحية الاخرى واقعا على حافة منبع فياض من منابع البداوة ، هو منبع الجزيرة العربية . فكان العراق منذ بداية تاريخه حتى يومنا هذا يتلقى الموجات البدوية واحدة بعد الاخرى ... هنا نجد الشعب العراقي واقعا بين نظامين متناقضين من القيم الاجتماعية : قيم البداوة الآتية اليه من الصحراء المجاورة ، وقيم الحضارة المنبعثة من تراثه الحضاري القديم ... قد يجوز ان نصف الشعب العراقي بأنه شعب حائر ، فقد انفتح امامه طريقان متعاكسان وهو مضطر ان يسير فيهما فيآن واحد . فهو يمشي في هذا الطريق حينا ثم يعود ليمشي في الطريق الآخر حينا آخر ...))ص11ـ12
على اساس هذه الرؤية شرع باحثنا بدراسة المجتمع العراقي وتاريخه في القرون الاخيرة من اجل اثبات بأن اخلاق البداوة هذه ظلت ولا زالت تعيش بالتنافس مع اخلاق الحضارة . بناء على هذا التناقض بين عقلية الحضارة وعقلية البداوة فأن الانسان العراقي يعاني من ازدواجية في الشخصية: ((ان الكثيرين منهم هم متحضرون في الظاهر ، ولكنهم بدويون في الباطن . وهذا الذي جعل بعض معالم الشخصية المزدوجة واسعة الانتشار بينهم ))..ص81 . لقد اطلق ايضا على نظريته تسمية: ((التناشز الاجتماعي )) ، أي تصادم القيم البدوية مع الظروف الواقعية في الريف . ص214
يحدد الباحث للأخلاق البدوية ثلاثة خصائص : اولا، روح العصبية ، أي التعصب للقبيلة والمشيخة والثأر والفخر بالنسب وحفظ العرض ..الخ . ثانيا، روح الغزو، أي الافتخار بالقوة والقتال والغنيمة والعزة والصراحة والاباء واحتقار المهن المختلفة ..الخ . ثالثا، روح المروءة ، أي الافتخار بالضيافة والكرم وحماية الدخيل والجار والرفيق والحليف وكل ضعيف ...ص115.ان:((الفرد البدوي يريد ان يغلب بقوة قبيلته اولا، وبقوته الشخصية ثانيا، وبمروءته أي بتفضله على الغير ثالثا)).ص38
وهو يؤكد على ان الميزة الاساسية لدى البدو هي روح القتال والغزو أي ما يسميه بروح الغلبة :(( اذا رأينا البدو يتركون الغزو والقتال ، فمعنى ذلك انهم سائرون في سبيل التخلص من ثقافتهم البدوية ، والدخول في عالم الحضارة )).ص79
ان التمايز بين الحضارة والبداوة يتمثل باختلاف الميول بين الاثنين:
ـ البدوي ميال للغزو والنهب ولكنه يحب المرؤة والكرم ، فمثلا ان عجيل الياور اصبح زعيم قبيلة شمر لأنه (( كان يغزو وينجح في غزواته ، ثم يوزع ما يغنمه في بيوت شمر)) ص83
ـ البدوي لا يميل الى الادخار والتوفير ، بينما الحضري يؤمن بالمبدأ القائل ((القرش الابيض ينفع في اليوم الأسود)) ص 84
ـ البدوي يميل للوفاء ورد الفضل ولكنه لا يحب ان يرى احدا قد تفضل عليه ، وهو قد يبغض من يتفضل عليه ويحمل في نفسه الحسد او الحقد عليه . ص86
ـ ان البدوي ، اكثر بكثير من الحضري ، يميل الى الحسد لأنه يجهل التمايزات الطبقية ولا يتقن تقاليد المجاملة والنفاق الاجتماعي ، ويعيش منغلقا مع افراد قبيلته حيث يكثر التحاسد والمنافسة.ص87
البداوة والتفسير القسري
لو تمعنا جيدا بالخواص اعلاه التي ينسبها الوردي للبدو، لوجدنا ان المشكلة ليس في صحة او عدم صحة هذه النسبة، بل في قناعة الوردي المطلقة بأن هذه الخواص لا يمكن ان توجد الا في المجتمع البدوي واستحالة وجودها في المجتمع الحضري ، وإن وجدت فأنها ، لامحال متأتية من البداوة!؟ ولهذا تراه في كل كتابه يفتش عن الامثلة مهما كانت لها صلة بهذه الصفات لكي يبرهن على الاصول البدوية للشخصية العراقية .هنا نسجل بعض التساؤلات الاولية عن مدى صحة تلك الصفات البدوية المفترضة :
ـ اذا كانت روح الغزو خاصة بالبدو ، فكيف يمكن تفسير كل هذا العدد الذي لا يحصى من الغزوات والحروب التي خاضتها البشرية منذ وجودها وحتى الآن . هل يمكن ارجاع الفتوحات الاستعمارية الاوربية الى (روح البداوة!) . وهل هتلر مثلا ، عندما (غزى) اوربا قد تأثر بالبداوة؟ اذا صدقنا مثلا ان صدام عندما غزى الكويت قد تأثر بروح البداوة العراقية، فكيف نفسر إذن غزو امريكا للمنطقة ، بل هنالك سيادة(لروح الغزو) والاستحواذ لدى الانظمة الغربية على كل الاصعدة الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية ؟
ـ هل صحيح حقا بأن البدوي لا يميل الى الادخار والتوفير ؟ ان هذه الفرضية قد يصح جزءا منها ، لأن البدوي مثل كل الجماعات المتنقلة التي تعيش في مناطق شبه قاحلة ، من الصعب عليه جمع الممتلكات والثروات . لكن هذا لا يمنعه من جمع المواشي التي يعيش عليها مباشرة . ثم ان البدو ، وخصوصا نسائهم ، يميلون اكثر من الحضر لجمع المصاغات الذهبية والافتخار بامتلاكها والتزين بها في المناسبات . اذا رأينا كل هذا فأن (روح الزهد والتبذير) المفترضة تغدو نسبية جدا .
ـ اذا كان صحيحا ان البدوي يميل الى الحسد وعدم الوفاء لمن يتفضل عليه ، هل يعني هذا ان الحضري اقل حسدا ؟ الا يمكن ان نعكس الفرضية بالقول ان الحضري ، وخصوصا في مجتمع المدينة ، بحكم تعقيدات الحضارة وكثرة وسائل الاثارة والتنافس فأنه عرضة اكثر لدوافع الغيرة والحسد.
ان نقطة الضعف الاساسية في نظريةالوردي ، ليس لأنها خاطئة تماما ، بل لأنه تم اعتبارها هي الطريقة الوحيدة لرؤية المجتمع العراقي وتقييمه . ان خطأ الوردي ، مثل خطأ معظم المثقفين (والسياسيين طبعا) ، انه فضل اللجوء لأسهل الحلول أي الاعتماد على (نظارة) ملونة واحدة تضفي لونا موحدا على كل الموجودات ، من دون أي تمييز . وهذا الأحادية في التفكير والتحليل من اكبر عيوب العقلية العراقية المعاصرة ، وهو عيب تعاني منه جميع المجتمعات الضعيفة المستهلكة للأفكار المستوردة والمستنسخة . لنا اوضح مثال هي النظرية الماركسية التي تم مسطرتها بصورة كاريكاتورية على مجتمعاتنا ، بحيث تم ارجاع كل ظاهرة وموقف وسلوك اجتماعي او ثقافي او سياسي الى مسببات (طبقية اقتصادوية )، من دون أي تمييز ولا ديناميكية. كذلك النظرية القومية ( بطبعاتها العروبية والكردوية والتركمانوية والآشورية ) التي حاولت ان تستنسخ حرفيا التجارب القومية الالمانية والايطالية ، فتم اعتبار عدم تحقيق ( الوحدة القومية الكبرى ) سبب لكل المشاكل والخطايا !
بناء على هذا الوضع الفكري الوحداني الاستسهالي السائد، فانه بدى امرا طبيعيا للوردي اعتماده الكلي على( عامل البداوة) في تشريح المجتمع العراقي ، مع تجاهل تام لكل العوامل والمسببات الاخرى .
خلال معظم صفحات كتابه يحاول الوردي بذاكرته الغنية واسلوبه الروائي الشيق ان يمنحنا الامثلة الحياتية عن المجتمع العراقي من اجل تأكيد صحة نظريته عن صراع الحضارة والبداوة ، وهذه بعض النماذج :
ـ يحدثنا عن مجتمع جنوب العراق (منطقة الاهوار) وكيف ان : (( هناك اربع فئات محتقرة في الريف . واكثر هذه الفئات احتقارا هم الحاكة ، ويأتي بعدهم الحساوية أي الذين يزرعون الخضر ، ثم البربرة أي الذين يصيدون السمك بالشبكة. واخيرا يأتي المعدان وهم الذين يعيشون على تربية الجاموس... ان هذه الاعمال في نظرهم معيبة جدا ، إذ هي تجعل اصحابها كالبقالين المتجولين الذين يحملون بضائعهم في القرى والاسواق لبيعها )) ص158
ومن اجل اثبات فرضيته تراه يقسر تفسير اجوبة الفلاحين ويقحم عامل البداوة بصورة تبسيطية مناقضا لمنهجه العلمي :(( سألت احد شيوخ القبائل في الفرات الاوسط : لماذا تحتقرون البقال ؟ فقال : ان البقال يعيش على الميزان ، وهذا عيب! يبدو ان الشيخ اراد ان يقول : ان البقال يحمل الميزان بدلا من السلاح وهذا مخالف لخصال الرجولة والشجاعة)) ص158. بدل ان يأخذ الوردي كلام الرجل بما يكفي من الجدية ويحاول ان يبحث بما يعنيه (الميزان) لدى الريفي العراقي في تلك الحقبة وفي الحقب السالفة، الا انه يسارع ومن دون أي تحليل ولا فحص ، الى الجزم بأن الميزان مناقض للسلاح رمز الرجولة ( البدوية ) !
السؤال الذي يفرض نفسه هنا : هل احتقار عملية البيع والشراء ، بالضرورة نابع من موقف(بدوي!) . ان احتقار بعض المهن امر معروف في كل ثقافات الشعوب. من المعروف انه في الديانة الهندوسية هنالك تحريم لبعض المهن الفنية والتجارية، لا تمارسها الا الطبقات السفلى [6] . ان احتقار السلوك التجاري حالة تسود الكثير من الجماعات الريفية وخصوصا تلك المعزولة في ظروف بيئية خاصة بعيدا عن المدن ، ولأنها تعاني من سوء علاقتها مع المدن واجهزة الدولة التي تتركز فيها . ثم من يقول ان البدو يحتقرون التجارة . كلنا نعرف ان البدو هم اكثر الجماعات التي تمارس التجارة تبعا لتنقلها بين الحواضر والاوطان. بل ان هنالك من الباحثين من يعتقد بأن مهنة التجارة هي من اختراع القبائل الرعوية المتنقلة ، لأنها نقيضة لمهنة الزراعة والاستقرار. [7] ثم ان المعلومات المتوفرة عن بدو الجزيرة العربية تؤكد انهم لم يؤثروا ، مثلا، على مجتمع مكة قبل الاسلام والذي كان مجتمعا تجاريا بكل معنى الكلمة !
ان الوردي باحث بارع جدا في تجميع المعلومات والتقاط الامثلة ، لكن مشكلته انه يضطر في معظم الاحيان ان يضحي بهذه الامكانيات العلمية التي يتمتع بها ، من اجل ارضاء (الأرادة الاستشراقية العليا ) المهيمنة على عالم البحث والفكر ، سواء في العراق او في غيره . تراه مثلا ، بخصوص سبب احتقار مهنة الحائك في الريف ، يستشهد الوردي بالجواب التالي وهو ذا دلائل غنية جدا، حيث يقول احد الريفيين:((ان الحاكة مغموزون في نسبهم ، ويكذبون كثيرا ، وهم ناقصوا الذمة فقد سرقوا اقراط الحسين وشهدو على مريم عندما ولدت ، وفعلوا امورا مكروهة حفظها التاريخ ))ص159. ان هذا الجواب الذي يحمل معاني تاريخية وانثربولوجية غنية جدا وعميقة في اصولها التاريخية البعيدة ، إذ تتضمن في داخلها ، ليس التراث الشيعي العراقي فقط : (سرقة اقراط الحسين ) ، بل كذلك التراث المسيحي السابق: (شهدوا على مريم ام المسيح) ، حيث ان هذا الدين كان منتشرا في كل العراق قبل الاسلام ، وظل لقرون في الريف العراقي بعد الاسلام . بدل من التفسير التاريخي الانثربولوجي المطلوب ، ترى باحثنا الوردي يقسر التحليل كعادته(الاستشراقية) ، بقوله :(( يبدو ان هذه اعذار مصطنعة جاءت بها القبائل لتبرير احتقارها للحائك . والواقع ان احتقار الحائك تراث بدوي قديم ))ص159 ! وطبعا انه لا يمنحنا اي مثال او توثيق عن فكرة احتقار الحائك من قبل البدو ..هكذا!
من الملاحظ ان الوردي في كل كتاباته يستخدم تسمية (قبيلة) التي توحي مباشرة بمعنى القبائل البدوية ، ويتجنب استخدام التسمية العراقية الشائعة (العشيرة) لأنها لا توحي بما يكفي من البداوة !
ـ
النزعة الاستشراقية العنصرية في فكر الحداثة :
علي الوردي وبداوة المجتمع العراقي!
((اننا لا نريد من دراسة الثقافة البدوية ان نتسلى باحاديثها واقاصيصها ، بل نريد ان نفهم انفسنا))علي الوردي [1]
المؤرخ العراقي المعروف (علي الوردي ) ترك رصيدا مهما من الكتابات التاريخية والاجتماعية التي لا زالت تمارس تأثيرا كبيرا على الفكر العراقي . انه يعتبر من اكثر المثقفين العراقيين زخما في الانتاج ووضوحا في موقفه وتفكيره (الحداثي) ، اذ ألف العديد من الكتب المعروفة التي سجل فيها بكل صراحة واسهاب آرائه في التاريخ والفكر والسياسة والمجتمع . انه يتميز بقدرته الكبيرة على التعبير الممتع واتقان الاسلوب السلس وسرد الحكايات والامثلة التاريخية ، لهذا فأن تأثير هذا المثقف الرائد بلغ حتى المستويات الشعبية وشبه المتعلمة والفئات المحافظة والدينية والحكومية . بل يمكن القول انه في السنوات الأخيرة ، مع بداية عودة العراقيين الى الذات ومحاولة ترميم الهوية الوطنية ، بدأت ايضا عودة وإعادة اكتشاف لكتابات هذا المثقف الكبير .
علي الوردي له كتب في مختلف المجالات الثقافية ، لكن هنالك مجالين بارزين تخصص فيهما : التاريخ وعلم الاجتماع . ويبقى التاريخ هو المجال الأول والاكبر الذي ابدع به ، وخصوصا من خلال عمله الكبير:( لمحات عن تاريخ العراق الحديث) المكون من ثمان اجزاء ، سجل فيها تاريخ العراق طيلة الحقبة العثمانية وما بعدها. [2]
اما بخصوص آراء الوردي في المجتمع العراقي فأننا نجدها منتثرة في كل كتبه ، لكن كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) هو اكثر الكتب التي خصصها بصورة مباشرة لطرح آراه في المجتمع العراقي . لهذا فأننا اعتمدنا هذا الكتاب كمرجع اساسي لتوضيح آراء ونظرياته الخاصة بمجتمعنا .
بصورة عامة يمكن تحديد المميزات التالية لفكر علي الوردي :
1ـ انه يدعو بصراحة الى النظام الديمقراطي ، وله كلام اقرب الى التنبوء قاله في كتابه هذا ، أي في عام 1965 :(( ان هذه فرصة يجب علينا انتهازها، فالعراق الآن يقف على مفترق الطريق، وهذا هو أوان البدء بتحقيق النظام الديمقراطي فيه، فلو فلتت هذه الفرصة من ايدينا لضاعت منا امدا طويلا)).ص382
2ـ تأكيده على الخصوصية الوطنية العراقية ورفضه العموميات القومية العروبية. تراه يرد على اولئك العروبيين الذين بلغت بهم السذاجة القومية الى حد نكران أي واقع وطني وإدانتهم له باعتباره " ميل قطري" خطر! يقول الوردي ردا على انتقادهم له لأنه كتب عن العراق وليس عن الوطن العربي:(( اني اخالفهم في هذا الرأي مخالفة كبيرة. اود ان اسألهم هنا : كيف يمكن دراسة المجتمع الكبير من غير دراسة الأجزاء الصغيرة منه..)). ص8
3ـ من خلال مجمل كتاباته ، يمكن القول ان الوردي مثقف حداثي لكنه غير يساري ، بل هو اقرب الى التيار الليبرالي بمعناه الامريكي تقريبا، بحكم دراسته لعلم الاجتماع في امريكا . وهو يدعو بصراحة الى التمثل بالنموذج الحضاري والاجتماعي الغربي من ناحية الايمان بالعقلانية العلمية وتقديس التطور العصري والتحديث . لقد بين الوردي بوضوح في كتابه( مهزلة العقل البشري) [3] انه من الناحية الفكرية الفلسفية اقرب الى المدرسة المتشككة المنفتحة التي ترفض الجزم واليقين المطلق على الطريقتين الدينية والمادية الماركسية .
4ـ صحيح انه يدعوالى الثورة في الثقافة والفكر كما عبر بصراحة في كتابيه (وعاظ السلاطين ومهزلة العقل البشري) ، الا انه يرفض بشدة كل الميول الثورية في السياسة، خصوصا فيما يتعلق بالشعب العراقي . انه يعتبر كل الانتفاضات والثورات العراقية (مثل ثورة العشرين) ردود فعل قبائلية وامزجة فردية! ان مشكلة الوردي انه لا يعترض فقط على اساليب العنف الثورية المتبعة ، وهذه مسألة يمكننا ان نتفق بها معه ، بل المشكلة انه يعترض اساسا على امكانية وجود اسباب واقعية وانسانية تدفع العراقيين الى التمرد والثورة ! انه بكل صراحة يحكم على العراقيين بفقدانهم لأبسط النزعات الطبيعية الموجود في كل المجتمعات البشرية ، اي (حب الحرية والاستقلال) ، تراه يقول :(( الواقع ان القبائل العراقية بوجه خاص ، واهل العراق بوجه عام ، لم يكونوا يعرفون هذه النزعة ـ الحرية والاستقلال ـ او يدركون لها معنى . فهي نزعة حديثة لم تظهر في العراق الا في عهد متأخر جدا ، وذلك بعد اتصال العراق بالحضارة الحديثة واقتباس بعض مفاهيمها ومصطلحاتها ))!! ص172.
الحقيقة ان موقف الوردي هذا ليس نابعا من موقف اساسي ضد الثورة ، بقدرما هو نابع من موقفه بالذات من المجتمع العراقي ، حيث اعتبر كل سلوك وعقلية هذا المجتمع متأتية من روح البداوة المتأصلة فيه . وهذه هي بالضبط الاشكالية الكبرى التي سنعالجها في دراستنا هذه .
فكر الحداثة والآيدلوجية الاستشراقية
رغم التناقضات والصراعات بين التيارات السياسيةـ الثقافية العراقية المعروفة: الليبرالية والماركسية والقومية، الا ان جميع هذه التيارات تجتمع على قاسم مشترك واحد اسمه (الحداثة)! بمعنى النقد الشديد للميراث الديني والشعبي باعتباره (ظلاميا وعثمانيا ومتخلفا ) وتقديس الثورة العلمية والتكنلوجية وعموم الثقافة الاوربية بتياراتها وتنوعاتها المختلفة ، مع الاختلاف في التفاصيل والمسميات والاساليب ودرجة النقد والرفض . لقد شكلت هذه التيارات الثلاثة : (الليبرالية والماركسية والقومية) بمجموعها ( ثقافة الحداثة)، التي قادت الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية في العراق المعاصر منذ اكثر من قرن وحتى والآن .
لهذا فأن دراستنا لفكر علي الوردي ماهي الا محاولة لدراسة احد رموز فكر الحداثة ، من اجل معرفة دور هذا الفكر في تكوين (العقلية العراقية ) المعاصرة وفي صناعة التاريخ الوطني الحديث بمشاريعه وتطوراته المأساوية الكوراثية.
ان الخاصية الأساسية الجامعة لكل تنوعات وتيارات فكر الحداثة ، هي ((الرؤية الاستشراقية)) المستنسخة والمترجمة حرفيا من ((الرؤية الغربية)) عن الشرق العربي: البدوي المتخلف المتعصب دينيا الذي يميل الى الروحانيات بحكم طبعه السامي البدوي الصحراوي !!
ان تأثير هذه الرؤية وتغلغلها في تلافيف الفكر من القوة بحيث ان المثقف يمارسها من دون ان ينتبه لوجودها ولا يشعر بتناقضها مع مبادئه(الوطنية الليبرالية اوالقومية او الاممية) المعلنة . من الطريف مثلا ، ان ترى علي الوردي يأسف لأن المجتمع العراقي لا يبتدع ثقافته بل يستوردها من الخارج : (( انه الآن لا يبتدع المذاهب المستحدثة كما كان يفعل اسلافه، بل هو يستوردها من الخارج ويتنازع عليها. والظاهر ان رقي الحضارة الحديثة التي جاءت اليه جعلت منه "مصبا" للمذاهب ، لا "منبعا" لها )). ص368 لكن ادراك هذه الحقيقة لم يمنع الوردي نفسه من ارتكاب نفس الخطيئة بتبني الرؤية الغربية الاستشراقية في دراسة المجتمع العراقي ، كما سنرى !
ان حجر الزاوية والاساس الذي تستند عليه هذه الرؤية الاستشراقية الغربية في دراسة وتقييم المجتمعات العربية ، هي الفكرة ( العرقية القبائلية) القائلة بأن هذه المجتمعات هي سليلة اصيلة للقبائل العربية البدوية . أي خلق القطيعة التامة بين هذه المجتمعات ووجودها الجغرافي الارضي الوطني وربطها بحقيقة عرقية ازلية لا تؤثر فيها كل تطورات التاريخ ومتغيرات الجغرافيا . بالاعتماد على اساس (البداوة) هذا تم تفسير وشرح كل مكونات الفكر والعادات والسلوك والابداع وكل الميراث الحضاري والعقلي ! ان الخطوة الكبرى التي تم انجازها في اوائل هذا القرن من اجل تعزيز هذه الرؤية ، تمثلت باعادة كتابة تاريخ الحضارة العربية الاسلامية على اساس عرقي قومي طائفي اعتبر ان المصدر ((العربي)) الوحيد لهذه الحضارة هوالقرآن والميراث البدوي الجاهلي، اما المصادر الاساسية لهذه الحضارة فهي يونانية وفارسية وهندية، وليس بالصدفة ان هذه المصادر كلها (هندواوربية) [4] ! باعتبار العقل الشرقي(السامي ـالحامي) بدوي روحاني بطبعه غير قادر على تقبل المنطق العلمي والفلسفي ! وهذه الفكرة نجدها مكررة في الاغلبية الساحقة من الكتب المؤلفة من قبل المستشرقين او العرب انفسهم .( يمكن مطالعة أي كتاب تاريخي عن الحضارة العربية الاسلامية )!
بناء على هذه الرؤية القومية العرقية تم الالغاء التام لكل الميراث الحضاري للمجتمعات الاصلية في العراق والشام ومصر وشمال افريقيا ، باعتبار هذه المجتمعات عربية قحة ، وبالتالي هي منقطعة بدنيا وحضاريا ، أي عرقيا وقبائليا ، عن كل ميراثاتها السابقة للأسلام ولا تحمل غير الميراث البدوي ! لقد نجح المستشرقون الغربيون ومؤسساتهم التبشيرية والجامعية ، ولغايات تاريخية ودينية واستعمارية ، بفرض هذه الرؤية الاستشراقية التوراتية العنصرية على النخب المثقفة العربية (والعراقية طبعا) ، بحيث اتفقت عليها جميع التيارات، كل حسب طريقته وآيدلوجيته . الليبراليون والماركسيون اعتبروا البدواة سبب تعصبنا وتخلفنا وموقفنا المعادي للتنظيم وللانفتاح على الحضارة الغربية بنوعيها الرأسمالي او الاشتراكي . بل ان الماركسيون ابتدعوا تبريرا تاريخيا لهذه العنصرية من خلال مفهوم (الاستبداد الآسيوي ) بأعتبار النظام الاستبدادي خاصية آسيوية بينما الديمقراطية خاصية اوربية ( يونانية رومانية ) ! اما العروبيون فأنهم اعتبروا البداوة دليلا ساطعا على اصالتنا القومية ونقاوة دمائنا العربية ، وان الابتعاد عنها هو ابتعاد عن العروبة الحقة ، على حد تعبير احد كبار مفكري العروبة (زكي الارزوسي) [5] . لكن مع هذا التقديس للبداوة من قبل العروبيين فأن تقديسهم للحداثة الغربية جعلهم في النهاية يتفقون مع التيارين الليبرالي والماركسي بأعتبار البداوة سبب تخلفنا .
بأسم رفض ميراث البداوة والعشائرية والتخلف ، وتقديس ثقافة العلم والتحديث (بشكليه الرأسمالي او الاشتراكي) ، اتفقت تيارات الحداثة بمختلف مسمياتها وميولها، على احتقار ثقافة المجتمع والسخرية من تقاليده ومحاربة اسسه الروحية والدينية وتراثه الوطني والمحلي . ان أي دارس لفكر الحداثة في بلداننا يتوصل الى نتيجة مفادها ان هذا الفكر تمكن من اختصار كل تاريخ مجتمعاتنا وتطوراتها واشكالياتها بثنائية واحدة وحيدة : ( صراع الحضارة والبداوة ، أو التقدم والتخلف) ، مع اختلافات سياسية بين هذه التيارات حول الاشتراكية والرأسمالية والثورة الصناعية والعلمية وعن السوريالية والبنوية والدادئية، الى آخره من التفاصيل والمسميات، مع الاتفاق التام حول المشروع التحديثي الغربي والرؤية الاستشراقية لمجتمعاتنا .
الوردي مؤرخ كبير وعالم اجتماع سيء
قبل كل شيء ، ولكي نتجنب ظلم هذا المثقف العراقي الكبير ، يتوجب التأكيد على مقدرته الفائقة كمؤرخ وموثق كبير انتج اوسع المؤلفات عن تاريخ العراقي العثماني ، وهو ايضا باحث جريء طرق مواضيعا اجتماعية (تاريخية وشعبية) طالما ترفع المثقفون عن التطرق اليها . ثم انه حكواتي مبدع يمتلك اسلوبا ممتعا وجذابا بقدر ما هو غني وعميق لم يجاريه به أي مثقف آخر. ثم ان الوردي من الناحية الفكرية الفلسفية له طروحاته التي ترفض الانحياز الاعمى لمنهج معين وتدعوا للإنفتاح على كل الافكار والفلسفات والتمسك ببعض الشك ازاء كل منها تجنبا للتعصب والمغالات. اننا حاليا احوج ما نكون الى مثل هذا المنهج الفكري المتنوع والديناميكي.
لكن مع الأعتراف بكل هذه الأيجابيات الكبيرة والكثيرة لدى الوردي ، الا اننا نضطر للاعتراف ايضا بالجانب الآخر النقيض ، أي منهجه الاجتماعي المعتمد كليا على نظرية ( صراع البداوة والحضارة ) بتفسيرها الاستشراقي ، والتي لعبت ولا زالت تلعب دورا سلبيا كبيرا في تكوين العقل العراقي ، وزيادة التعتيم على حقيقة الشخصية الوطنية بمستويها الاجتماعي والتاريخي.
يعتبر مفهوم ( صراع البداوة والحضارة) المأخوذ عن العلامة المغاربي (ابن خلدون) الاساس الاول والمنطلق الذي اعتمده باحثنا في تحليله لطبيعة المجتمع العراقي وتاريخه خلال القرون الاخير. والمشكلة لا تكمن في نظرية ابن خلدون المعروفة هذه ، بل في اضطرار باحثنا الوردي ، الى تشويه هذه النظرية من اجل مراعاة الرؤية الاستشراقية الغربية التي كانت ولا زالت مسيطرة على فكر الحداثة بكل خطوطه وتنوعاته . لقد بين الوردي صراحة في جميع كتبه التاريخية والاجتماعية والفكرية عن تبنيه لهذا المفهوم . يعتبر بحثه هذا المعنون (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) اكثر الكتب اعتمادا على مفهوم (صراع البداوة والحضارة ) ، إذ تراه منذ الصفحات الاولى قد لخص بصورة واضحة منهجه التحليلي ، قائلا :
(( لقد اجمع علماء الآثار ان العراق كان مهبط حضارة تعد من اقدم الحضارات في العالم ... وظلت الحضارة تراود العراق حينا بعد حين ... ونجد العراق من الناحية الاخرى واقعا على حافة منبع فياض من منابع البداوة ، هو منبع الجزيرة العربية . فكان العراق منذ بداية تاريخه حتى يومنا هذا يتلقى الموجات البدوية واحدة بعد الاخرى ... هنا نجد الشعب العراقي واقعا بين نظامين متناقضين من القيم الاجتماعية : قيم البداوة الآتية اليه من الصحراء المجاورة ، وقيم الحضارة المنبعثة من تراثه الحضاري القديم ... قد يجوز ان نصف الشعب العراقي بأنه شعب حائر ، فقد انفتح امامه طريقان متعاكسان وهو مضطر ان يسير فيهما فيآن واحد . فهو يمشي في هذا الطريق حينا ثم يعود ليمشي في الطريق الآخر حينا آخر ...))ص11ـ12
على اساس هذه الرؤية شرع باحثنا بدراسة المجتمع العراقي وتاريخه في القرون الاخيرة من اجل اثبات بأن اخلاق البداوة هذه ظلت ولا زالت تعيش بالتنافس مع اخلاق الحضارة . بناء على هذا التناقض بين عقلية الحضارة وعقلية البداوة فأن الانسان العراقي يعاني من ازدواجية في الشخصية: ((ان الكثيرين منهم هم متحضرون في الظاهر ، ولكنهم بدويون في الباطن . وهذا الذي جعل بعض معالم الشخصية المزدوجة واسعة الانتشار بينهم ))..ص81 . لقد اطلق ايضا على نظريته تسمية: ((التناشز الاجتماعي )) ، أي تصادم القيم البدوية مع الظروف الواقعية في الريف . ص214
يحدد الباحث للأخلاق البدوية ثلاثة خصائص : اولا، روح العصبية ، أي التعصب للقبيلة والمشيخة والثأر والفخر بالنسب وحفظ العرض ..الخ . ثانيا، روح الغزو، أي الافتخار بالقوة والقتال والغنيمة والعزة والصراحة والاباء واحتقار المهن المختلفة ..الخ . ثالثا، روح المروءة ، أي الافتخار بالضيافة والكرم وحماية الدخيل والجار والرفيق والحليف وكل ضعيف ...ص115.ان:((الفرد البدوي يريد ان يغلب بقوة قبيلته اولا، وبقوته الشخصية ثانيا، وبمروءته أي بتفضله على الغير ثالثا)).ص38
وهو يؤكد على ان الميزة الاساسية لدى البدو هي روح القتال والغزو أي ما يسميه بروح الغلبة :(( اذا رأينا البدو يتركون الغزو والقتال ، فمعنى ذلك انهم سائرون في سبيل التخلص من ثقافتهم البدوية ، والدخول في عالم الحضارة )).ص79
ان التمايز بين الحضارة والبداوة يتمثل باختلاف الميول بين الاثنين:
ـ البدوي ميال للغزو والنهب ولكنه يحب المرؤة والكرم ، فمثلا ان عجيل الياور اصبح زعيم قبيلة شمر لأنه (( كان يغزو وينجح في غزواته ، ثم يوزع ما يغنمه في بيوت شمر)) ص83
ـ البدوي لا يميل الى الادخار والتوفير ، بينما الحضري يؤمن بالمبدأ القائل ((القرش الابيض ينفع في اليوم الأسود)) ص 84
ـ البدوي يميل للوفاء ورد الفضل ولكنه لا يحب ان يرى احدا قد تفضل عليه ، وهو قد يبغض من يتفضل عليه ويحمل في نفسه الحسد او الحقد عليه . ص86
ـ ان البدوي ، اكثر بكثير من الحضري ، يميل الى الحسد لأنه يجهل التمايزات الطبقية ولا يتقن تقاليد المجاملة والنفاق الاجتماعي ، ويعيش منغلقا مع افراد قبيلته حيث يكثر التحاسد والمنافسة.ص87
البداوة والتفسير القسري
لو تمعنا جيدا بالخواص اعلاه التي ينسبها الوردي للبدو، لوجدنا ان المشكلة ليس في صحة او عدم صحة هذه النسبة، بل في قناعة الوردي المطلقة بأن هذه الخواص لا يمكن ان توجد الا في المجتمع البدوي واستحالة وجودها في المجتمع الحضري ، وإن وجدت فأنها ، لامحال متأتية من البداوة!؟ ولهذا تراه في كل كتابه يفتش عن الامثلة مهما كانت لها صلة بهذه الصفات لكي يبرهن على الاصول البدوية للشخصية العراقية .هنا نسجل بعض التساؤلات الاولية عن مدى صحة تلك الصفات البدوية المفترضة :
ـ اذا كانت روح الغزو خاصة بالبدو ، فكيف يمكن تفسير كل هذا العدد الذي لا يحصى من الغزوات والحروب التي خاضتها البشرية منذ وجودها وحتى الآن . هل يمكن ارجاع الفتوحات الاستعمارية الاوربية الى (روح البداوة!) . وهل هتلر مثلا ، عندما (غزى) اوربا قد تأثر بالبداوة؟ اذا صدقنا مثلا ان صدام عندما غزى الكويت قد تأثر بروح البداوة العراقية، فكيف نفسر إذن غزو امريكا للمنطقة ، بل هنالك سيادة(لروح الغزو) والاستحواذ لدى الانظمة الغربية على كل الاصعدة الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية ؟
ـ هل صحيح حقا بأن البدوي لا يميل الى الادخار والتوفير ؟ ان هذه الفرضية قد يصح جزءا منها ، لأن البدوي مثل كل الجماعات المتنقلة التي تعيش في مناطق شبه قاحلة ، من الصعب عليه جمع الممتلكات والثروات . لكن هذا لا يمنعه من جمع المواشي التي يعيش عليها مباشرة . ثم ان البدو ، وخصوصا نسائهم ، يميلون اكثر من الحضر لجمع المصاغات الذهبية والافتخار بامتلاكها والتزين بها في المناسبات . اذا رأينا كل هذا فأن (روح الزهد والتبذير) المفترضة تغدو نسبية جدا .
ـ اذا كان صحيحا ان البدوي يميل الى الحسد وعدم الوفاء لمن يتفضل عليه ، هل يعني هذا ان الحضري اقل حسدا ؟ الا يمكن ان نعكس الفرضية بالقول ان الحضري ، وخصوصا في مجتمع المدينة ، بحكم تعقيدات الحضارة وكثرة وسائل الاثارة والتنافس فأنه عرضة اكثر لدوافع الغيرة والحسد.
ان نقطة الضعف الاساسية في نظريةالوردي ، ليس لأنها خاطئة تماما ، بل لأنه تم اعتبارها هي الطريقة الوحيدة لرؤية المجتمع العراقي وتقييمه . ان خطأ الوردي ، مثل خطأ معظم المثقفين (والسياسيين طبعا) ، انه فضل اللجوء لأسهل الحلول أي الاعتماد على (نظارة) ملونة واحدة تضفي لونا موحدا على كل الموجودات ، من دون أي تمييز . وهذا الأحادية في التفكير والتحليل من اكبر عيوب العقلية العراقية المعاصرة ، وهو عيب تعاني منه جميع المجتمعات الضعيفة المستهلكة للأفكار المستوردة والمستنسخة . لنا اوضح مثال هي النظرية الماركسية التي تم مسطرتها بصورة كاريكاتورية على مجتمعاتنا ، بحيث تم ارجاع كل ظاهرة وموقف وسلوك اجتماعي او ثقافي او سياسي الى مسببات (طبقية اقتصادوية )، من دون أي تمييز ولا ديناميكية. كذلك النظرية القومية ( بطبعاتها العروبية والكردوية والتركمانوية والآشورية ) التي حاولت ان تستنسخ حرفيا التجارب القومية الالمانية والايطالية ، فتم اعتبار عدم تحقيق ( الوحدة القومية الكبرى ) سبب لكل المشاكل والخطايا !
بناء على هذا الوضع الفكري الوحداني الاستسهالي السائد، فانه بدى امرا طبيعيا للوردي اعتماده الكلي على( عامل البداوة) في تشريح المجتمع العراقي ، مع تجاهل تام لكل العوامل والمسببات الاخرى .
خلال معظم صفحات كتابه يحاول الوردي بذاكرته الغنية واسلوبه الروائي الشيق ان يمنحنا الامثلة الحياتية عن المجتمع العراقي من اجل تأكيد صحة نظريته عن صراع الحضارة والبداوة ، وهذه بعض النماذج :
ـ يحدثنا عن مجتمع جنوب العراق (منطقة الاهوار) وكيف ان : (( هناك اربع فئات محتقرة في الريف . واكثر هذه الفئات احتقارا هم الحاكة ، ويأتي بعدهم الحساوية أي الذين يزرعون الخضر ، ثم البربرة أي الذين يصيدون السمك بالشبكة. واخيرا يأتي المعدان وهم الذين يعيشون على تربية الجاموس... ان هذه الاعمال في نظرهم معيبة جدا ، إذ هي تجعل اصحابها كالبقالين المتجولين الذين يحملون بضائعهم في القرى والاسواق لبيعها )) ص158
ومن اجل اثبات فرضيته تراه يقسر تفسير اجوبة الفلاحين ويقحم عامل البداوة بصورة تبسيطية مناقضا لمنهجه العلمي :(( سألت احد شيوخ القبائل في الفرات الاوسط : لماذا تحتقرون البقال ؟ فقال : ان البقال يعيش على الميزان ، وهذا عيب! يبدو ان الشيخ اراد ان يقول : ان البقال يحمل الميزان بدلا من السلاح وهذا مخالف لخصال الرجولة والشجاعة)) ص158. بدل ان يأخذ الوردي كلام الرجل بما يكفي من الجدية ويحاول ان يبحث بما يعنيه (الميزان) لدى الريفي العراقي في تلك الحقبة وفي الحقب السالفة، الا انه يسارع ومن دون أي تحليل ولا فحص ، الى الجزم بأن الميزان مناقض للسلاح رمز الرجولة ( البدوية ) !
السؤال الذي يفرض نفسه هنا : هل احتقار عملية البيع والشراء ، بالضرورة نابع من موقف(بدوي!) . ان احتقار بعض المهن امر معروف في كل ثقافات الشعوب. من المعروف انه في الديانة الهندوسية هنالك تحريم لبعض المهن الفنية والتجارية، لا تمارسها الا الطبقات السفلى [6] . ان احتقار السلوك التجاري حالة تسود الكثير من الجماعات الريفية وخصوصا تلك المعزولة في ظروف بيئية خاصة بعيدا عن المدن ، ولأنها تعاني من سوء علاقتها مع المدن واجهزة الدولة التي تتركز فيها . ثم من يقول ان البدو يحتقرون التجارة . كلنا نعرف ان البدو هم اكثر الجماعات التي تمارس التجارة تبعا لتنقلها بين الحواضر والاوطان. بل ان هنالك من الباحثين من يعتقد بأن مهنة التجارة هي من اختراع القبائل الرعوية المتنقلة ، لأنها نقيضة لمهنة الزراعة والاستقرار. [7] ثم ان المعلومات المتوفرة عن بدو الجزيرة العربية تؤكد انهم لم يؤثروا ، مثلا، على مجتمع مكة قبل الاسلام والذي كان مجتمعا تجاريا بكل معنى الكلمة !
ان الوردي باحث بارع جدا في تجميع المعلومات والتقاط الامثلة ، لكن مشكلته انه يضطر في معظم الاحيان ان يضحي بهذه الامكانيات العلمية التي يتمتع بها ، من اجل ارضاء (الأرادة الاستشراقية العليا ) المهيمنة على عالم البحث والفكر ، سواء في العراق او في غيره . تراه مثلا ، بخصوص سبب احتقار مهنة الحائك في الريف ، يستشهد الوردي بالجواب التالي وهو ذا دلائل غنية جدا، حيث يقول احد الريفيين:((ان الحاكة مغموزون في نسبهم ، ويكذبون كثيرا ، وهم ناقصوا الذمة فقد سرقوا اقراط الحسين وشهدو على مريم عندما ولدت ، وفعلوا امورا مكروهة حفظها التاريخ ))ص159. ان هذا الجواب الذي يحمل معاني تاريخية وانثربولوجية غنية جدا وعميقة في اصولها التاريخية البعيدة ، إذ تتضمن في داخلها ، ليس التراث الشيعي العراقي فقط : (سرقة اقراط الحسين ) ، بل كذلك التراث المسيحي السابق: (شهدوا على مريم ام المسيح) ، حيث ان هذا الدين كان منتشرا في كل العراق قبل الاسلام ، وظل لقرون في الريف العراقي بعد الاسلام . بدل من التفسير التاريخي الانثربولوجي المطلوب ، ترى باحثنا الوردي يقسر التحليل كعادته(الاستشراقية) ، بقوله :(( يبدو ان هذه اعذار مصطنعة جاءت بها القبائل لتبرير احتقارها للحائك . والواقع ان احتقار الحائك تراث بدوي قديم ))ص159 ! وطبعا انه لا يمنحنا اي مثال او توثيق عن فكرة احتقار الحائك من قبل البدو ..هكذا!
من الملاحظ ان الوردي في كل كتاباته يستخدم تسمية (قبيلة) التي توحي مباشرة بمعنى القبائل البدوية ، ويتجنب استخدام التسمية العراقية الشائعة (العشيرة) لأنها لا توحي بما يكفي من البداوة !
ـ