زهير
10-09-2009, 12:12 PM
اياد زيعور - السفير
استاذ جامعي
لما اجتاحت جيوش نابليون أراضي بروسيا في بداية القرن التاسع عشر، أصيب الألمان بإحباط شديد وتدمرت معنوياتهم، فلم تكن تلك هي الهزيمة الأولى أمام نابليون. من قلب هذا الاحباط ظهر صوت ذو موهبة خطابية عالية اعاد الأمل الى الالمان: إنه صوت الفيلسوف يوهان فخته(Johann Fichte) . ففي كتابه الأهم «نداءات الى الأمة الألمانية» (Reden au die deutsche nation)، يؤكد فختة ان الهزائم المتتالية لالمانيا سببها فساد المجتمع الألماني المنهك آنذاك بالطبقية والتشتت. الحل عند فختة كان معرفيا تعليميا حيث دعا الى اعادة تثقيف وتربية كاملة للمجتمع على المبادئ العلمية عبر المؤسسات التعليمية. لاحقا، ساهم فختة شخصيا في تأسيس جامعة برلين سنة 1810 وعين رئيسا لها.
نداءات فيخته وحلوله أثبت التاريخ صحتها: حين خرجت المانيا مدمرة بالكامل من الحرب العالمية الثانية، لم تحتج الى أكثر من عشر سنين لتصبح أحد أقوى اقتصادات أوروبا، واليوم هي البلد المصدر الاول في العالم للصناعات.
كيف انتقلت المانيا التي لا تملك الموارد أو الثروات الطبيعية في عشر سنين، من بلد تبحث النساء فيه عن الطعام في القمامة، الى بلد تستورد العمالة من بلاد لم تمسها الحرب؟ العبرة واضحة: هناك ثروات تضيع بلمح البصر وأخرى لا تقبل الضياع.
[[[
في عالم اليوم الذي تحدد فيه البورصات المجنونة قيمة كل شيء، وحتى قيمة العملة نفسها, لم يعد هناك أي ملاذ آمن للثروات المادية. كل ما نملك تخضع قيمته لاهواء المضاربين، حتى العملة التي لا تقهر، الدولار، أصبحت المخاطر حولها جدية. منذ الأزمة الاقتصادية الاخيرة ومطابع العملة الاميركية تعمل بكل طاقتها: تطبع الدولارات دون أي غطاء سوى غطاء الثقة بقوة الاقتصاد الاميركي. لكن هذه الثقة تتدهور بسرعة, ولم يعد مستبعدا أن نستيقظ يوما لنجد أن ثرواتنا بالعملة الخضراء اصبحت لا تساوي الورق الذي طبع عليها. هكذا في عالم البورصات كل الانهيارات تحدث سريعا وتفاجئ الجميع: في أقل من يوم تضمحل ثروات و تنشأ أخرى.
[[[
الثروات المعرفية لا تقبل الضياع ومنها مؤسسة الجامعة. الجامعة في العقل الغربي هي أكثر بكثير من مكان تعطى فيه الشهادات، انها رأس هرم المجتمع وآلة صنع حضارته.
سلم االغربي عنقه للعلم ولمؤسسته الأم: الجامعة. يندر أن نجد باحثا أو حاملا لجائزة نوبل غير مرتبط بجامعة. انها المرجعية العليا للمجتمع التي تحدد له ماذا يأكل، وكيف يدير سياسته واقتصاده.
تكبر الجامعة كثيرا في وجدان الغربي. انها ترتبط بكل ما هو سام وقيم. حتى اذا ارادت أمة أن تكرم شخصية فلا مكان أرقى من الجامعة (دكتوراه فخرية)، ولطالما كان اعطاء كرسي الفلسفة الجامعي يمثل اعترافا من الحكومات بالمرجعيات الفكرية.
في الغرب تحتضن كل مدينة جامعتها بشكل حميمي، كما يحتضن كل حي عندنا جامعه. وفي احيان أخرى تأتي الجامعة أولا وتلحق بها المدينة. جامعة واترلو الكندية بنيت في منطقة ريفية معزولة. اليوم واترلو أصبحت مدينة عامرة تستقطب الكفاءات بسبب المشاريع الانتاجية التي أنشأها المتخرجون حول جامعتهم.
في بلادنا تصغر الجامعة كثيرا لتصبح تكملة للمدرسة الثانوية كما يكمل الصف الثاني الصف الأول، أو لتتحول الى معهد لتخريج أصحاب المهن. تستورد العلم من الغرب كما هو معلبا دون بحث أو تطوير.
[[[
وسط هذا الواقع السوداوي هناك نقاط ضوء يجب التوقف عندها، افتتاح جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا (كاوست) انجاز كبير يبشر بالخير لسببين :
أولا، الرعاية المميزة لهذا الحدث، لدرجة اعتباره انجازا وطنيا يدعى اليه الرؤساء، تعكس إدراكا من المستوى السياسي لأهمية ودور هذا الصرح. ولتكن الامور واضحة، لا يمكن لجامعة أن تلعب لعبة الحضارة (بدلا من لعبة التجارة) من دون دعم حكومي سخي، إنها مسؤولية سياسية بإمتياز.
البحث العلمي مكلف، انه استثمار كبير وطويل الامد، لكنه في النهاية مربح جدا. ميزانية جامعة هارفارد الأمريكية تقارب الاربعين مليار دولار اي تقريبا ضعف ميزانية دولة مثل لبنان. في الغرب، الإنفاق العلمي يحسب كنسبة من الدخل القومي GDP)). من العادي، مثلا، أن يملك استاذ واحد ميزانية بحث سنوية تفوق المليون دولار.
ثانيا، واضح أن هيكلية الجامعة نفسها تتعدى دور التعليم لتقارب هيكلية ما يطلق عليه في الغرب center of excellence أو مركز للتفوق الذي يكون دوره عادة تطوير قدرات البلاد في علوم وصناعات استراتيجية. ويلفت في هذا المجال الاهتمام بالابحاث ذات القيمة المحلية مثل تحلية المياه والطاقة الشمسية. الأهم هو قيام الجامعة بتأمين بيئة متكاملة راعية ومحفزة للابداع كمركز حضانة الأفكار Incubation للمساعدة على تحويل الأفكار الى منتجات تجارية commercialization.
رعاية الابداع تمثل أحدث وأهم التوجهات والاولويات الغربية الاقتصادية. لقد ادرك الغرب أن القيمة الاقتصادية الحقيقية لا تكمن في الاقتصاد المادي كالمنشآت وحتى المصانع التي تخلى عنها للصين، بل هي تكمن في الاقتصاد المعرفي القائم على الابداع.
وفي النقاش الذي يدور حول مستقبل تفوق أميركا امام الاقتصادات الناشئة تبدو كل المؤشرات مقلقة للأميركيين. وحدها الجامعة التي أصبحت خط الدفاع الأخير عن تفوق أميركا تخفف من قلقهم. لكن الجامعة هذه لتكون قادرة على لعب هذا الدور الاقتصادي الريادي يجب أن تكون ذات قدرة على اجتذاب والاحتفاظ بالطاقات البشرية المتميزة من انحاء العالم. والأهم أن يكون هناك تكامل مع المجتمع والاقتصاد المحلي. وبالتحديد أن تكون هناك القدرة على صناعة القيمة الأقتصادية وليس الاكتفاء بالعلم للعلم.
انتقال المعرفة من المختبر أو من مخيلة المبدعين الى السوق ما زال تحديا تبذل الحكومات الغربية جهدا كبيرا لتحقيقه. ويشكل النموذج الأمريكي، الأكثر تقبلا للمغامرة عبر المشاركة في الرأسمال venture capitalist نقطة تفوق في مواجهة النموذج الأوروبي الاكثر محافظة والمبني على قروض المصارف. واليه يرجع الفضل في هيمنة أميركا على الصناعات الناشئة كالبرمجيات والانترنت.
خطوة «كاوست» تبقى محاولة جدية للانضمام الى عجلة التقدم من افضل أبوابه. ونجاح تجربة هذه الجامعة سيؤكد أن الحديث عن فجوة لا يمكن ردمها مع الغرب في التكنولوجيا هو حديث نظري يشبه النكتة عن الذي يشكو الى الله لماذا لا يربح في اليانصيب وهو لم يشتر ورقة واحدة قط. ورقة اليانصيب هذه، في ظل توفر الموارد والارادة، حظوظها كبيرة في الربح بإذن الله رغم التحديات القائمة وأهمها قدرة الجامعة على التكامل مع الاقتصاد والمجتمع المحليين.
[[[
من وحي التجربة الالمانية، هذا نداء للامة العربية: ثرواتكم في المصارف والبورصات والحجارة على كف عفريت، قد تلتهمها نيران الرأسمالية في أي وقت. وحده الاستثمار في الانسان ورصيده المعرفي هو الكنز الذي لا يضيع... ما أعظم حكمة من قال: «العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال».
[ (أستاذ جامعي)
استاذ جامعي
لما اجتاحت جيوش نابليون أراضي بروسيا في بداية القرن التاسع عشر، أصيب الألمان بإحباط شديد وتدمرت معنوياتهم، فلم تكن تلك هي الهزيمة الأولى أمام نابليون. من قلب هذا الاحباط ظهر صوت ذو موهبة خطابية عالية اعاد الأمل الى الالمان: إنه صوت الفيلسوف يوهان فخته(Johann Fichte) . ففي كتابه الأهم «نداءات الى الأمة الألمانية» (Reden au die deutsche nation)، يؤكد فختة ان الهزائم المتتالية لالمانيا سببها فساد المجتمع الألماني المنهك آنذاك بالطبقية والتشتت. الحل عند فختة كان معرفيا تعليميا حيث دعا الى اعادة تثقيف وتربية كاملة للمجتمع على المبادئ العلمية عبر المؤسسات التعليمية. لاحقا، ساهم فختة شخصيا في تأسيس جامعة برلين سنة 1810 وعين رئيسا لها.
نداءات فيخته وحلوله أثبت التاريخ صحتها: حين خرجت المانيا مدمرة بالكامل من الحرب العالمية الثانية، لم تحتج الى أكثر من عشر سنين لتصبح أحد أقوى اقتصادات أوروبا، واليوم هي البلد المصدر الاول في العالم للصناعات.
كيف انتقلت المانيا التي لا تملك الموارد أو الثروات الطبيعية في عشر سنين، من بلد تبحث النساء فيه عن الطعام في القمامة، الى بلد تستورد العمالة من بلاد لم تمسها الحرب؟ العبرة واضحة: هناك ثروات تضيع بلمح البصر وأخرى لا تقبل الضياع.
[[[
في عالم اليوم الذي تحدد فيه البورصات المجنونة قيمة كل شيء، وحتى قيمة العملة نفسها, لم يعد هناك أي ملاذ آمن للثروات المادية. كل ما نملك تخضع قيمته لاهواء المضاربين، حتى العملة التي لا تقهر، الدولار، أصبحت المخاطر حولها جدية. منذ الأزمة الاقتصادية الاخيرة ومطابع العملة الاميركية تعمل بكل طاقتها: تطبع الدولارات دون أي غطاء سوى غطاء الثقة بقوة الاقتصاد الاميركي. لكن هذه الثقة تتدهور بسرعة, ولم يعد مستبعدا أن نستيقظ يوما لنجد أن ثرواتنا بالعملة الخضراء اصبحت لا تساوي الورق الذي طبع عليها. هكذا في عالم البورصات كل الانهيارات تحدث سريعا وتفاجئ الجميع: في أقل من يوم تضمحل ثروات و تنشأ أخرى.
[[[
الثروات المعرفية لا تقبل الضياع ومنها مؤسسة الجامعة. الجامعة في العقل الغربي هي أكثر بكثير من مكان تعطى فيه الشهادات، انها رأس هرم المجتمع وآلة صنع حضارته.
سلم االغربي عنقه للعلم ولمؤسسته الأم: الجامعة. يندر أن نجد باحثا أو حاملا لجائزة نوبل غير مرتبط بجامعة. انها المرجعية العليا للمجتمع التي تحدد له ماذا يأكل، وكيف يدير سياسته واقتصاده.
تكبر الجامعة كثيرا في وجدان الغربي. انها ترتبط بكل ما هو سام وقيم. حتى اذا ارادت أمة أن تكرم شخصية فلا مكان أرقى من الجامعة (دكتوراه فخرية)، ولطالما كان اعطاء كرسي الفلسفة الجامعي يمثل اعترافا من الحكومات بالمرجعيات الفكرية.
في الغرب تحتضن كل مدينة جامعتها بشكل حميمي، كما يحتضن كل حي عندنا جامعه. وفي احيان أخرى تأتي الجامعة أولا وتلحق بها المدينة. جامعة واترلو الكندية بنيت في منطقة ريفية معزولة. اليوم واترلو أصبحت مدينة عامرة تستقطب الكفاءات بسبب المشاريع الانتاجية التي أنشأها المتخرجون حول جامعتهم.
في بلادنا تصغر الجامعة كثيرا لتصبح تكملة للمدرسة الثانوية كما يكمل الصف الثاني الصف الأول، أو لتتحول الى معهد لتخريج أصحاب المهن. تستورد العلم من الغرب كما هو معلبا دون بحث أو تطوير.
[[[
وسط هذا الواقع السوداوي هناك نقاط ضوء يجب التوقف عندها، افتتاح جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا (كاوست) انجاز كبير يبشر بالخير لسببين :
أولا، الرعاية المميزة لهذا الحدث، لدرجة اعتباره انجازا وطنيا يدعى اليه الرؤساء، تعكس إدراكا من المستوى السياسي لأهمية ودور هذا الصرح. ولتكن الامور واضحة، لا يمكن لجامعة أن تلعب لعبة الحضارة (بدلا من لعبة التجارة) من دون دعم حكومي سخي، إنها مسؤولية سياسية بإمتياز.
البحث العلمي مكلف، انه استثمار كبير وطويل الامد، لكنه في النهاية مربح جدا. ميزانية جامعة هارفارد الأمريكية تقارب الاربعين مليار دولار اي تقريبا ضعف ميزانية دولة مثل لبنان. في الغرب، الإنفاق العلمي يحسب كنسبة من الدخل القومي GDP)). من العادي، مثلا، أن يملك استاذ واحد ميزانية بحث سنوية تفوق المليون دولار.
ثانيا، واضح أن هيكلية الجامعة نفسها تتعدى دور التعليم لتقارب هيكلية ما يطلق عليه في الغرب center of excellence أو مركز للتفوق الذي يكون دوره عادة تطوير قدرات البلاد في علوم وصناعات استراتيجية. ويلفت في هذا المجال الاهتمام بالابحاث ذات القيمة المحلية مثل تحلية المياه والطاقة الشمسية. الأهم هو قيام الجامعة بتأمين بيئة متكاملة راعية ومحفزة للابداع كمركز حضانة الأفكار Incubation للمساعدة على تحويل الأفكار الى منتجات تجارية commercialization.
رعاية الابداع تمثل أحدث وأهم التوجهات والاولويات الغربية الاقتصادية. لقد ادرك الغرب أن القيمة الاقتصادية الحقيقية لا تكمن في الاقتصاد المادي كالمنشآت وحتى المصانع التي تخلى عنها للصين، بل هي تكمن في الاقتصاد المعرفي القائم على الابداع.
وفي النقاش الذي يدور حول مستقبل تفوق أميركا امام الاقتصادات الناشئة تبدو كل المؤشرات مقلقة للأميركيين. وحدها الجامعة التي أصبحت خط الدفاع الأخير عن تفوق أميركا تخفف من قلقهم. لكن الجامعة هذه لتكون قادرة على لعب هذا الدور الاقتصادي الريادي يجب أن تكون ذات قدرة على اجتذاب والاحتفاظ بالطاقات البشرية المتميزة من انحاء العالم. والأهم أن يكون هناك تكامل مع المجتمع والاقتصاد المحلي. وبالتحديد أن تكون هناك القدرة على صناعة القيمة الأقتصادية وليس الاكتفاء بالعلم للعلم.
انتقال المعرفة من المختبر أو من مخيلة المبدعين الى السوق ما زال تحديا تبذل الحكومات الغربية جهدا كبيرا لتحقيقه. ويشكل النموذج الأمريكي، الأكثر تقبلا للمغامرة عبر المشاركة في الرأسمال venture capitalist نقطة تفوق في مواجهة النموذج الأوروبي الاكثر محافظة والمبني على قروض المصارف. واليه يرجع الفضل في هيمنة أميركا على الصناعات الناشئة كالبرمجيات والانترنت.
خطوة «كاوست» تبقى محاولة جدية للانضمام الى عجلة التقدم من افضل أبوابه. ونجاح تجربة هذه الجامعة سيؤكد أن الحديث عن فجوة لا يمكن ردمها مع الغرب في التكنولوجيا هو حديث نظري يشبه النكتة عن الذي يشكو الى الله لماذا لا يربح في اليانصيب وهو لم يشتر ورقة واحدة قط. ورقة اليانصيب هذه، في ظل توفر الموارد والارادة، حظوظها كبيرة في الربح بإذن الله رغم التحديات القائمة وأهمها قدرة الجامعة على التكامل مع الاقتصاد والمجتمع المحليين.
[[[
من وحي التجربة الالمانية، هذا نداء للامة العربية: ثرواتكم في المصارف والبورصات والحجارة على كف عفريت، قد تلتهمها نيران الرأسمالية في أي وقت. وحده الاستثمار في الانسان ورصيده المعرفي هو الكنز الذي لا يضيع... ما أعظم حكمة من قال: «العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال».
[ (أستاذ جامعي)