الدكتور عادل رضا
09-03-2004, 12:56 PM
- علي الوردي: صوت الحقيقة - مفكر عَرّف السؤال بالقوة والاستفسار بالضعف - حميد المطبعي
عرفته في 1958 في النجف عندما لازمته في زيارة له للامام محسن الحكيم، وكان يسأل المجتهد الأكبر عن مرافقته للعلامة محمد سعيد الحبوبي في حرب (الشعيبة) بالبصرة بعد الحرب الأولي، وكان يسأل ويتجنب التعليق حتي انتهت الساعة المخصصة له، فعرفته من تلك المحاورة: سائلا وليس مستفسرا، فالسؤال غير الاستفسار كما قال لي في طريق العودة، لماذا دكتور، قال: السؤال قوة والاستفسار ضعف، (في السؤال تستفز به الخواطر وتحصل علي المخبوء، أما في الاستفسار فانت طالب وليس أستاذاً اي ليس مؤرخا.
وعرفت بعد ذلك أن الوردي يؤلف كتبه عن طريق الأسئلة التي تحرك البواطن، وكان سقراط قد جمع ثروته الكلامية من مجموع الأسئلة التي وجهها إلي تلاميذه، والوردي علي منواله دخل الميدان المفتوح وراح يسأل الناس عن طبيعة الأحداث التي وقعت في أزمانها، فاذا شك في جواب السؤال كرر السؤال بصيغة أخري حتي يزول شكه ويدون الصحيح، وثلاثة أرباع مؤلفاته من هذا القبيل: شك وسؤال وتحريك الأوتار الداخلية، وطبيعة العراقي لا يجيب عن شيء مهم: لا إذا استفزت خواطره، وعلم الاجتماع حيث اختص فيه الوردي كان يطلب منذ تأسيسه، تقليب أوجه السؤال والشك في كل جواب والحيادية (الموضوعية) في عرض الأجوبة ..! أما دور الوردي فبالأسلوب، وهو أسلوب المفكرين كافة، يقرأ الحادثة ويخضعها للمختبر، ويوازنها في عقله، ويربطها بحادثة أقدم، ثم يعطي النتيجة وكأنها ليست له، أنما من بنات أفكار المختبر الاجتماعي، وغايته من ذلك أما تفنيد رواية! حداثية أو ترجيح رواية جديدة، واما جعل تدوينه مقبولا بين التخطئة والترجيح، والقارئ العام يفضل الحيادية هذه في أسلوب الوردي لأنها تمنحه الحرية في رحلة قراءة الأيام، وتمنحة أيضا الامناع في استقراء التاريخ... والمفكر، كالوردي، لابد أن يكتب بأسلوب بلاغي عام، لأنه وجد للشرائح كافة فكان إلي قوة مضامينه ثمة سلاسة في إيقاعاته الأسلوبية وبساطة في تخريجاته اللفظية، مؤلفا قاموسا خاصا به هو قاموس علم اجتماع الوردي، فيه الدفقة بقدر اللمزة، والحسية الباطنية بقدر التحليل الاستقرائي، حتي بدأ الناس جميعا يقرأونه: مأمور الشرطة ونقيب الأطباء وشيخ القبيلة والمطربة المشهورة، وأكاديمي خصمه ورجل دين من أخصامه إذ لم يترك قارئا إلا وسحبه إلي كتبه، حبا أو إكراها، بغضا أو عاطفة ما، إنما جاء يؤسس القراءة العامة..! أما عقله المفكر فكان قائما علي:
1 ــ التواضع، فهو لم يقل أني مبتكر نظرية خاصة بعلم الاجتماع، إنما قال: تلك بضاعتي فان قرأت، قرأت، أنما الحقيقة هي أن الوردي حاول تفسير ظواهر المجتمع العراقي في ضوء ثلاث فرضيات ليست له وهي: (ازدواج الشخصية، واقتبسها من (مكايفر) والثانية (صراع البداوة والحضارة) واقتبسها من (أبن خلدون) والثالثة (التناشز الاجتماعي) واقتبسها من (أو كبرن) والوردي لم ينسخ هذه الفرضيات نسخا في تحليله المجتمع العراقي، بل جهد واجتهد في أن يحورها ويعيد تراكيبها ويجعلها تتسق وطبيعة الفرد العراقي
2 ــ الديمقراطية، وكانت سمة تفكيره ولم تنقطع عنه حتي وفاته، ولم أكتشف كاتبا في العراق يقبل بديمقراطية الرأي الأخر كالوردي، فهو كما أعتقد خلق في طبع رقيق التجاذب، ويتسامح إذا خدش في رأيه ويستقبل الخصومة لعلة في طبعه، لأنها تلبي له حاجة عقلية حيث لا يستقيم عقله ألا بردة فعل أو بتعارض استنباطي، فإذا اكتشف أن رأيا ما صحح له اجتهاده أعاد وصحح اجتهاده وركن الي العلم واستقر فرحا، وكان يفحص العالم بالديمقراطية، وبها ترك النقاد يناقشون بأمرهم حول أمره، وهو راض قنوع بما جري ..!
3 ــ الجدلية، وكان عقله جدلي الحركة، فانعكس ذلك علي تفكيره، ثم انعكس علي كتاباته، فتلمس الجدل المفتوح في كل كتبه، فلا انفعال في حكمه، ولا ابتزاز ولا يرسل هرطقات، فكان يرد علي خصومه بروحية الخصم العقلي، أو بروحية المجتهد الباحث عن اكتشاف الحقيقة من ركام الحقيقة، ولم يغضب أو يتهيج أو يتبرم من نقد غاضب أو يتكبر، فقد ناقش حتي صاحب الهوية المجهولة أو الاسم المستعار وحتي تلاميذه أولئك تتلمذوا له في الجامعة، ويقول لهم في مستهل نقاشه لهم: (التلميذ أستاذ ونصف) إكراما لمعني الجدل وحبا بجدل يثري العقول ويلهم الحواس المفكرة، وكان في كل ذلك يتواضع كي يجادل ويجادل كي يتسع، وباتساعه برهن علي أن عالم الاجتماع لابد أن يكون ديمقراطي النزعة..! ولم تجره الدنيا إلي زخارفها، واكتفي بتعليم الأجيال في الجامعة، فعلي مدي ثلاثة عقود تخرج به جيل علمه حرفة (أنا رأي مستقل) وجيل آخر علمه (فن الحوار الجدلي) بعيدا عن سفسطائية الصالونات،وجيل آخر جعله يهتدي من الحرية إلي الوطن وقال له (لاتمد عينا هناك ولا عينا هناك) وكأنه أراد أن يقول للأجيال التي تخرجت بعقله: (العلم والحرية والوطن) هي أعمدة الشخصية العراقية التي تدخل المستقبل، وكان الوردي إذا جلس في شرفة البرلمان العراقي ويسجل صيحات النواب وينشرها بتعليقاته تباعا، يأتي أليه نوري السعيد في اليوم الثاني مازحا: (هذا الغسيل لماذا ؟)، ويبتسم الوردي: (شعبي يحب الغسيل) وفي نهاية الحوار يطلب السعيد من الوردي أن يشغل وزارة ويترك الهرج والمرج، فيرده الوردي: (باشا: الكتابة لا تجتمع مع الوظيفة) وبقي للكتابة سيفا مرهفا يدوي في ردهات التاريخ، وبقي يصنع تاريخه بحرية السيف من يوم ولد في الكاظمية 1913 إلي يوم رحيله 1995 وعندما تخرج في الماجستير 1948 والدكتوراه 1950 في جامعة تكساس الأمريكية قال له رئيس الجامعة عند تقديم الشهادة له: (أيها الدكتور الوردي ستكون الأول في مستقبل علم الاجتماع) ومضي يكتب ويؤلف ولم يلتفت إلي المستقبل ولو التفت أليه لفشل في صنعه، إنما راح يتعب ويجتهد، وفي هذه المعاناة وحدها رأي المستقبل يصنع بين يديه ..! ومن عام 1950 أصدر: (شخصية الفرد العراقي) و(خوارق اللاشعور) و(وعاظ السلاطين) و(مهزلة العقل البشري) و(أسطورة الأدب الرفيع) وكتبا أخري، ودورة بعدة أجزاء بعنوان (لمحات اجتماعية ....) وترجمت كتبه إلي اكثر من عشر لغات حية، وأطروحته نشرت في أمريكا 1981، ومازالت دور النشر عربية وأجنبية تطبع وتعيد طبع مؤلفاته، وما زال الناس تحن له وتود لو أن مفكرا مثله يولد ويبلسم لهم جراحاتهم، مثل ما كان أجداده السادة العلويون المشهورون في كرخ بغداد بآل أبي الورد يبلسمون جراحات الفقراء والمظلومين...!
عرفته في 1958 في النجف عندما لازمته في زيارة له للامام محسن الحكيم، وكان يسأل المجتهد الأكبر عن مرافقته للعلامة محمد سعيد الحبوبي في حرب (الشعيبة) بالبصرة بعد الحرب الأولي، وكان يسأل ويتجنب التعليق حتي انتهت الساعة المخصصة له، فعرفته من تلك المحاورة: سائلا وليس مستفسرا، فالسؤال غير الاستفسار كما قال لي في طريق العودة، لماذا دكتور، قال: السؤال قوة والاستفسار ضعف، (في السؤال تستفز به الخواطر وتحصل علي المخبوء، أما في الاستفسار فانت طالب وليس أستاذاً اي ليس مؤرخا.
وعرفت بعد ذلك أن الوردي يؤلف كتبه عن طريق الأسئلة التي تحرك البواطن، وكان سقراط قد جمع ثروته الكلامية من مجموع الأسئلة التي وجهها إلي تلاميذه، والوردي علي منواله دخل الميدان المفتوح وراح يسأل الناس عن طبيعة الأحداث التي وقعت في أزمانها، فاذا شك في جواب السؤال كرر السؤال بصيغة أخري حتي يزول شكه ويدون الصحيح، وثلاثة أرباع مؤلفاته من هذا القبيل: شك وسؤال وتحريك الأوتار الداخلية، وطبيعة العراقي لا يجيب عن شيء مهم: لا إذا استفزت خواطره، وعلم الاجتماع حيث اختص فيه الوردي كان يطلب منذ تأسيسه، تقليب أوجه السؤال والشك في كل جواب والحيادية (الموضوعية) في عرض الأجوبة ..! أما دور الوردي فبالأسلوب، وهو أسلوب المفكرين كافة، يقرأ الحادثة ويخضعها للمختبر، ويوازنها في عقله، ويربطها بحادثة أقدم، ثم يعطي النتيجة وكأنها ليست له، أنما من بنات أفكار المختبر الاجتماعي، وغايته من ذلك أما تفنيد رواية! حداثية أو ترجيح رواية جديدة، واما جعل تدوينه مقبولا بين التخطئة والترجيح، والقارئ العام يفضل الحيادية هذه في أسلوب الوردي لأنها تمنحه الحرية في رحلة قراءة الأيام، وتمنحة أيضا الامناع في استقراء التاريخ... والمفكر، كالوردي، لابد أن يكتب بأسلوب بلاغي عام، لأنه وجد للشرائح كافة فكان إلي قوة مضامينه ثمة سلاسة في إيقاعاته الأسلوبية وبساطة في تخريجاته اللفظية، مؤلفا قاموسا خاصا به هو قاموس علم اجتماع الوردي، فيه الدفقة بقدر اللمزة، والحسية الباطنية بقدر التحليل الاستقرائي، حتي بدأ الناس جميعا يقرأونه: مأمور الشرطة ونقيب الأطباء وشيخ القبيلة والمطربة المشهورة، وأكاديمي خصمه ورجل دين من أخصامه إذ لم يترك قارئا إلا وسحبه إلي كتبه، حبا أو إكراها، بغضا أو عاطفة ما، إنما جاء يؤسس القراءة العامة..! أما عقله المفكر فكان قائما علي:
1 ــ التواضع، فهو لم يقل أني مبتكر نظرية خاصة بعلم الاجتماع، إنما قال: تلك بضاعتي فان قرأت، قرأت، أنما الحقيقة هي أن الوردي حاول تفسير ظواهر المجتمع العراقي في ضوء ثلاث فرضيات ليست له وهي: (ازدواج الشخصية، واقتبسها من (مكايفر) والثانية (صراع البداوة والحضارة) واقتبسها من (أبن خلدون) والثالثة (التناشز الاجتماعي) واقتبسها من (أو كبرن) والوردي لم ينسخ هذه الفرضيات نسخا في تحليله المجتمع العراقي، بل جهد واجتهد في أن يحورها ويعيد تراكيبها ويجعلها تتسق وطبيعة الفرد العراقي
2 ــ الديمقراطية، وكانت سمة تفكيره ولم تنقطع عنه حتي وفاته، ولم أكتشف كاتبا في العراق يقبل بديمقراطية الرأي الأخر كالوردي، فهو كما أعتقد خلق في طبع رقيق التجاذب، ويتسامح إذا خدش في رأيه ويستقبل الخصومة لعلة في طبعه، لأنها تلبي له حاجة عقلية حيث لا يستقيم عقله ألا بردة فعل أو بتعارض استنباطي، فإذا اكتشف أن رأيا ما صحح له اجتهاده أعاد وصحح اجتهاده وركن الي العلم واستقر فرحا، وكان يفحص العالم بالديمقراطية، وبها ترك النقاد يناقشون بأمرهم حول أمره، وهو راض قنوع بما جري ..!
3 ــ الجدلية، وكان عقله جدلي الحركة، فانعكس ذلك علي تفكيره، ثم انعكس علي كتاباته، فتلمس الجدل المفتوح في كل كتبه، فلا انفعال في حكمه، ولا ابتزاز ولا يرسل هرطقات، فكان يرد علي خصومه بروحية الخصم العقلي، أو بروحية المجتهد الباحث عن اكتشاف الحقيقة من ركام الحقيقة، ولم يغضب أو يتهيج أو يتبرم من نقد غاضب أو يتكبر، فقد ناقش حتي صاحب الهوية المجهولة أو الاسم المستعار وحتي تلاميذه أولئك تتلمذوا له في الجامعة، ويقول لهم في مستهل نقاشه لهم: (التلميذ أستاذ ونصف) إكراما لمعني الجدل وحبا بجدل يثري العقول ويلهم الحواس المفكرة، وكان في كل ذلك يتواضع كي يجادل ويجادل كي يتسع، وباتساعه برهن علي أن عالم الاجتماع لابد أن يكون ديمقراطي النزعة..! ولم تجره الدنيا إلي زخارفها، واكتفي بتعليم الأجيال في الجامعة، فعلي مدي ثلاثة عقود تخرج به جيل علمه حرفة (أنا رأي مستقل) وجيل آخر علمه (فن الحوار الجدلي) بعيدا عن سفسطائية الصالونات،وجيل آخر جعله يهتدي من الحرية إلي الوطن وقال له (لاتمد عينا هناك ولا عينا هناك) وكأنه أراد أن يقول للأجيال التي تخرجت بعقله: (العلم والحرية والوطن) هي أعمدة الشخصية العراقية التي تدخل المستقبل، وكان الوردي إذا جلس في شرفة البرلمان العراقي ويسجل صيحات النواب وينشرها بتعليقاته تباعا، يأتي أليه نوري السعيد في اليوم الثاني مازحا: (هذا الغسيل لماذا ؟)، ويبتسم الوردي: (شعبي يحب الغسيل) وفي نهاية الحوار يطلب السعيد من الوردي أن يشغل وزارة ويترك الهرج والمرج، فيرده الوردي: (باشا: الكتابة لا تجتمع مع الوظيفة) وبقي للكتابة سيفا مرهفا يدوي في ردهات التاريخ، وبقي يصنع تاريخه بحرية السيف من يوم ولد في الكاظمية 1913 إلي يوم رحيله 1995 وعندما تخرج في الماجستير 1948 والدكتوراه 1950 في جامعة تكساس الأمريكية قال له رئيس الجامعة عند تقديم الشهادة له: (أيها الدكتور الوردي ستكون الأول في مستقبل علم الاجتماع) ومضي يكتب ويؤلف ولم يلتفت إلي المستقبل ولو التفت أليه لفشل في صنعه، إنما راح يتعب ويجتهد، وفي هذه المعاناة وحدها رأي المستقبل يصنع بين يديه ..! ومن عام 1950 أصدر: (شخصية الفرد العراقي) و(خوارق اللاشعور) و(وعاظ السلاطين) و(مهزلة العقل البشري) و(أسطورة الأدب الرفيع) وكتبا أخري، ودورة بعدة أجزاء بعنوان (لمحات اجتماعية ....) وترجمت كتبه إلي اكثر من عشر لغات حية، وأطروحته نشرت في أمريكا 1981، ومازالت دور النشر عربية وأجنبية تطبع وتعيد طبع مؤلفاته، وما زال الناس تحن له وتود لو أن مفكرا مثله يولد ويبلسم لهم جراحاتهم، مثل ما كان أجداده السادة العلويون المشهورون في كرخ بغداد بآل أبي الورد يبلسمون جراحات الفقراء والمظلومين...!