المهدى
09-03-2004, 07:55 AM
خالص جلبي
يوجد في كثير من جمهوريات العالم الثالث دستور معلن لا ينقصه إشراق البيان ودقة العبارة، ولكن الدستور (الحقيقي) الخفي، والمعمول به، قابل للتزييف والتعطيل والتأويل الفاسد، والاخفاء على يدي السلطة ومقربيها.
وعندما تكلم القرآن عن أمراض أهل الكتاب، قال إن أعظم النصوص يمكن أن تعطل، فيمارس الظلم بنصوص نزلت ضد الظلم، مقابل ثمن قليل فبئسما يشترون. وهنا تبقى اللغة ويطير المعنى. فيكسب القاموس لفظة ويخسر الواقع حقيقة.
وكمال أتاتورك فعل بمكر ما هو أنكى من العرب، كما يقول المؤرخ (توينبي)، حينما نقل معركة الكلمات والمعاني إلى أرض مختلفة، فقتل التراث بضربة واحدة، ومسح ذاكرة الأمة بأشد من المغناطيس لصفحات الكمبيوتر، بنقل الحرف من العربي إلى اللاتيني، مما جعل التراث يموت على الرفوف تحت طبقة كثيفة من الغبار، بدون الحاجة إلى قتل اللغة وتغيير «الدستور العثماني».
أو إحراق الكتب في الساحات العامة. ولكنه على كل حال أيقظهم من أحلام «ملا نصر الدين»، فهم يسبقون العرب حاليا بنصف قرن. ويستطيع رئيس دولتهم أن يقول سوف أستشير شعبي، ولن أسمح للقوات الأمريكية بغزو البلد.
ولم تكن مشكلة عيسى بن مريم مع الكتبة والفريسيين في النصوص، بل في التطبيق. وكان يقول لتلاميذه إن كل ما قاله الكتبة افعلوه ففعلوه، ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا. «لأنهم يحزمون أثقالا عسيرة، ولا يحركون قشة بإصبعهم».
وفي دساتير الدول العربية أن كرامة الإنسان محفوظة، ولكن لا توجد أي ضمانة لقط أو طير أو إنسان أو شيء في أي زمان ومكان؟ فقد استحال معظم العالم العربي إلى سفاري تسرح فيها الضواري، زاد عليها ديناصور أمريكي.
وفي بلد عربي، تم مد فترة الرئاسة باللعب في الدستور بأكثر من كرة القدم. ولم يكن هذا في مصلحة أحد، ولكن الحماقة داء أعيت من يداويها.
والبشرية تمضي في رحلة نضج وتكامل سياسي وصولا الى التجمعات الضخمة، كما في الاتحاد الأوروبي. ونحن نتبع هذا السير، وندخل المرحلة الصحيحة متأخرين ألف سنة. والديموقراطية رصيدها الوعي أكثر من صناديق الانتخابات.
وحتى نفهم هذه التحولات الضخمة فلا يكفي النظر في علم السياسة، بل لعلم النفس السيكولوجي الاجتماعي.
وعندما ينال مرشح واحد لرئاسة الجمهورية 97% من الأصوات، فهذا معناه أن الأمة انضغطت إلى حجم 3%. وعندما دفع صدام المصدوم النسبة إلى 100%، فمعناه أن الأمة خسف بها إلى الصفر. ترحب بقدوم أي غاز بعد أن استفحل الطغيان.
وهناك في العالم العربي اليوم الكثير ممن يترحم على أيام الاستعمار، فالخدعة في الاستقلال كانت كبيرة. فمن كان مستعدا للاستبداد، استبدل الاستعمار الخارجي باستعمار داخلي أدهى وأمر. ولذا فنحن لم نذق طعم الاستقلال. واستبدلنا الاحتلال بالاستبداد مثل من بدل السل بالإيدز. فلم يبق سوى حطام أمة جاهز للابتلاع، في بطن أمة أخرى، مثل ذوبان ضفدع في بطن أفعى الاناكوندا.
وكما يقول غاندي: إنني لا أريد أن استبدل طاغوت بريطاني بطاغوت هندي، فالطاغوت ملة واحدة وملة الأنبياء ملة واحدة.
ويبدو أن الأمة العربية فقدت «قدرة تقرير المصير»، فأصبحت ريشة في مهب الريح. وهي متوقفة في الزمن على قرع طبول القبلية والطائفية والحزبية. وبينها وبين تشكيل أمة مسافة سنة ضوئية.
والأمريكيون كانوا مبدعين حينما نصوا على ولايتين رئاسيتين لا يزيد مجموعها عن ثماني سنوات. فإذا انقضى الأجل، فلا عدوان على الأمة، وينصرف الرئيس إلى بيته راشدا بدون انقلاب واغتيال أو سجن. وفي عالم العربان، تسحب السنوات سبعا عجافا، تتلوها سبع، دون أن تلحقها سبع سمان.
ومن دخل نفق الديكتاتورية فقد البصر، فتكيف مع ظلمة الأنفاق السفلية مثل حياة الجرذان. كما جاء في قصة ابن خلدون مع الوزير وابنه الذي عاش في المحبس مع والده، ولم ير إلا الفئران، فكان والده يشرح له عن صفات الحيوانات، وفي كل شرح كان يسأل نفس السؤال: أتراه كالفأر يا أبت. ونحن حينما فقدنا قدرة الإبصار السياسية أصبحنا عميانا لا نبصر.
وهناك من رد على وصفي للحجاج بن يوسف أنه مجرم أن اعتبره من عباد الله الصالحين، لأنه أرسى العدل والأمن. وليس هناك مكان أكثر هدوءا وديموقراطية مثل المقابر! فهنا يستوي الكل ويصفر الهواء فوق البلى.
ولكن مشكلة العرب أن شتاء العولمة فاجأهم، وهم يرتدون جلابيات الصيف فهم يرعشون. وفي تجارب علم الجينات التهمت كرموسومات الفأر كروموسومات الإنسان فلم يولد سوى الفأر.
كان الطبيب النفسي ملتن. هـ. ايريكسون في حيرة من أمره مع مريض نفسي يدعي أنه المسيح. كان المريض يتلفع بقطع من الثياب، ويتحدث بقصص غامضة، ويتمتم بكلمات غير مفهومة. ويلقي على الموظفين والممرضات في المصح النفسي مواعظ لا تنتهي.
وبدا أنه ليس إلى شفائه من سبيل. حتى اهتدى الدكتور ايركسون إلى حل فقال له ذات يوم: «لقد فهمت أنه كانت لك تجربة كنجار؟» وبما أن المريض كان يعتقد أنه المسيح ابن يوسف النجار فقد كان عليه أن يقول نعم.
وبدأ الدكتور ميلتون إلى تشغيله بعمل خزائن كتب وأشياء أخرى مفيدة، وسمح له بارتداء ثياب المسيح المزعوم أثناء العمل. وعلى مدى أسابيع، اندمج الرجل في هذه المشاريع، وصار ذهنه أقل انشغالاً بخيالاته عن المسيح، وأكثر تركيزا على العمل. ومع إعطاء الأولوية إلى النجارة، حدث تحول نفسي في داخله. فقد تراجعت خيالاته الدينية إلى الخلف، مما سمح للرجل بالاندماج في المجتمع. وهذه الآلية في علم النفس يطلق عليها آلية المرآة العاكسة.
والعرب اليوم، مع قصة التلاعب بالدساتير، مثل قصة هذا الرجل، فهم بحاجة لعلاج سيكولوجي حتى يدخلوا المنظومة الدولية.
kjalabi@hotmail.com
يوجد في كثير من جمهوريات العالم الثالث دستور معلن لا ينقصه إشراق البيان ودقة العبارة، ولكن الدستور (الحقيقي) الخفي، والمعمول به، قابل للتزييف والتعطيل والتأويل الفاسد، والاخفاء على يدي السلطة ومقربيها.
وعندما تكلم القرآن عن أمراض أهل الكتاب، قال إن أعظم النصوص يمكن أن تعطل، فيمارس الظلم بنصوص نزلت ضد الظلم، مقابل ثمن قليل فبئسما يشترون. وهنا تبقى اللغة ويطير المعنى. فيكسب القاموس لفظة ويخسر الواقع حقيقة.
وكمال أتاتورك فعل بمكر ما هو أنكى من العرب، كما يقول المؤرخ (توينبي)، حينما نقل معركة الكلمات والمعاني إلى أرض مختلفة، فقتل التراث بضربة واحدة، ومسح ذاكرة الأمة بأشد من المغناطيس لصفحات الكمبيوتر، بنقل الحرف من العربي إلى اللاتيني، مما جعل التراث يموت على الرفوف تحت طبقة كثيفة من الغبار، بدون الحاجة إلى قتل اللغة وتغيير «الدستور العثماني».
أو إحراق الكتب في الساحات العامة. ولكنه على كل حال أيقظهم من أحلام «ملا نصر الدين»، فهم يسبقون العرب حاليا بنصف قرن. ويستطيع رئيس دولتهم أن يقول سوف أستشير شعبي، ولن أسمح للقوات الأمريكية بغزو البلد.
ولم تكن مشكلة عيسى بن مريم مع الكتبة والفريسيين في النصوص، بل في التطبيق. وكان يقول لتلاميذه إن كل ما قاله الكتبة افعلوه ففعلوه، ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا. «لأنهم يحزمون أثقالا عسيرة، ولا يحركون قشة بإصبعهم».
وفي دساتير الدول العربية أن كرامة الإنسان محفوظة، ولكن لا توجد أي ضمانة لقط أو طير أو إنسان أو شيء في أي زمان ومكان؟ فقد استحال معظم العالم العربي إلى سفاري تسرح فيها الضواري، زاد عليها ديناصور أمريكي.
وفي بلد عربي، تم مد فترة الرئاسة باللعب في الدستور بأكثر من كرة القدم. ولم يكن هذا في مصلحة أحد، ولكن الحماقة داء أعيت من يداويها.
والبشرية تمضي في رحلة نضج وتكامل سياسي وصولا الى التجمعات الضخمة، كما في الاتحاد الأوروبي. ونحن نتبع هذا السير، وندخل المرحلة الصحيحة متأخرين ألف سنة. والديموقراطية رصيدها الوعي أكثر من صناديق الانتخابات.
وحتى نفهم هذه التحولات الضخمة فلا يكفي النظر في علم السياسة، بل لعلم النفس السيكولوجي الاجتماعي.
وعندما ينال مرشح واحد لرئاسة الجمهورية 97% من الأصوات، فهذا معناه أن الأمة انضغطت إلى حجم 3%. وعندما دفع صدام المصدوم النسبة إلى 100%، فمعناه أن الأمة خسف بها إلى الصفر. ترحب بقدوم أي غاز بعد أن استفحل الطغيان.
وهناك في العالم العربي اليوم الكثير ممن يترحم على أيام الاستعمار، فالخدعة في الاستقلال كانت كبيرة. فمن كان مستعدا للاستبداد، استبدل الاستعمار الخارجي باستعمار داخلي أدهى وأمر. ولذا فنحن لم نذق طعم الاستقلال. واستبدلنا الاحتلال بالاستبداد مثل من بدل السل بالإيدز. فلم يبق سوى حطام أمة جاهز للابتلاع، في بطن أمة أخرى، مثل ذوبان ضفدع في بطن أفعى الاناكوندا.
وكما يقول غاندي: إنني لا أريد أن استبدل طاغوت بريطاني بطاغوت هندي، فالطاغوت ملة واحدة وملة الأنبياء ملة واحدة.
ويبدو أن الأمة العربية فقدت «قدرة تقرير المصير»، فأصبحت ريشة في مهب الريح. وهي متوقفة في الزمن على قرع طبول القبلية والطائفية والحزبية. وبينها وبين تشكيل أمة مسافة سنة ضوئية.
والأمريكيون كانوا مبدعين حينما نصوا على ولايتين رئاسيتين لا يزيد مجموعها عن ثماني سنوات. فإذا انقضى الأجل، فلا عدوان على الأمة، وينصرف الرئيس إلى بيته راشدا بدون انقلاب واغتيال أو سجن. وفي عالم العربان، تسحب السنوات سبعا عجافا، تتلوها سبع، دون أن تلحقها سبع سمان.
ومن دخل نفق الديكتاتورية فقد البصر، فتكيف مع ظلمة الأنفاق السفلية مثل حياة الجرذان. كما جاء في قصة ابن خلدون مع الوزير وابنه الذي عاش في المحبس مع والده، ولم ير إلا الفئران، فكان والده يشرح له عن صفات الحيوانات، وفي كل شرح كان يسأل نفس السؤال: أتراه كالفأر يا أبت. ونحن حينما فقدنا قدرة الإبصار السياسية أصبحنا عميانا لا نبصر.
وهناك من رد على وصفي للحجاج بن يوسف أنه مجرم أن اعتبره من عباد الله الصالحين، لأنه أرسى العدل والأمن. وليس هناك مكان أكثر هدوءا وديموقراطية مثل المقابر! فهنا يستوي الكل ويصفر الهواء فوق البلى.
ولكن مشكلة العرب أن شتاء العولمة فاجأهم، وهم يرتدون جلابيات الصيف فهم يرعشون. وفي تجارب علم الجينات التهمت كرموسومات الفأر كروموسومات الإنسان فلم يولد سوى الفأر.
كان الطبيب النفسي ملتن. هـ. ايريكسون في حيرة من أمره مع مريض نفسي يدعي أنه المسيح. كان المريض يتلفع بقطع من الثياب، ويتحدث بقصص غامضة، ويتمتم بكلمات غير مفهومة. ويلقي على الموظفين والممرضات في المصح النفسي مواعظ لا تنتهي.
وبدا أنه ليس إلى شفائه من سبيل. حتى اهتدى الدكتور ايركسون إلى حل فقال له ذات يوم: «لقد فهمت أنه كانت لك تجربة كنجار؟» وبما أن المريض كان يعتقد أنه المسيح ابن يوسف النجار فقد كان عليه أن يقول نعم.
وبدأ الدكتور ميلتون إلى تشغيله بعمل خزائن كتب وأشياء أخرى مفيدة، وسمح له بارتداء ثياب المسيح المزعوم أثناء العمل. وعلى مدى أسابيع، اندمج الرجل في هذه المشاريع، وصار ذهنه أقل انشغالاً بخيالاته عن المسيح، وأكثر تركيزا على العمل. ومع إعطاء الأولوية إلى النجارة، حدث تحول نفسي في داخله. فقد تراجعت خيالاته الدينية إلى الخلف، مما سمح للرجل بالاندماج في المجتمع. وهذه الآلية في علم النفس يطلق عليها آلية المرآة العاكسة.
والعرب اليوم، مع قصة التلاعب بالدساتير، مثل قصة هذا الرجل، فهم بحاجة لعلاج سيكولوجي حتى يدخلوا المنظومة الدولية.
kjalabi@hotmail.com