الدكتور عادل رضا
09-03-2004, 12:51 AM
الشهـادة
الشهيد د.علي شريعتي
فلسفة الموقف الحسيني
الشهادة تعني: الحضور، والإبصار، والإخبار، والشهود، والصدق، والأمانة، والوعي للشخص الذي تتطلع إليه العيون، وهي تعني أخيراً: القدوة والنموذج.
الشهادة في قاموسنا ليست حادثاً دامياً منغصاً كما هي عند بعض الأمم في تاريخها، مجرد تضيحة يقدم عليها أحد الأبطال إذ يُقتل بيد عدوه في ساحة القتال؛ فيكون موته مبعث ألم ويكون اسمه "شهيداً" وموته "شهادة"!
لا!! الشهادة في معارفنا ليست موتاً يفرضه العدو على (المجاهد) بل الشهادة اختيار واعٍ يقدم عليه المجاهد بكل طواعية ووعي وإدراك ويختاره بدافع ذاتي بعيد!
ذاك هو الحسين، فيه وبموقفه تمثلت الشهادة وتمثل الشهيد!!
لقدترك مدينته وخرج من بيته نافضاً يديه من الحياة مختاراً الموت حيث كان لا يملك في مواجهة عدوه سوى هذا السلاح العظيم، الموت. وبهذا السلاح واجه العدو وفضحه وهتك أقنعته، وهو إن لم يكن في مقدوره قهر العدو وهزيمته في ساحة القتال، ففي مقدوره، عبر الموت، أن يفضح هذا العدو. إنه كإنسان أعزل، وحيد، وفي نفس الوقت مدرك لمسؤوليته، لم يكن يملك إلا سلاحه الواحد: تلك الموتة الحمراء!
إن "حسينيته" تضعه في موقع المسؤولية للنضال ضد كل أنواع الاضطهاد والإذلال. ولما لم يكن لديه من سلاح سوى وجوده فقد حمله على راحتيه وبرز به إلى مقتله، ثم بخطى واعية ثابتة دقيقة التنظيم كانت مسيرته إلى تلك الشهادة، وعقب كل مرحلة كان يقطعها وهو يحثّ السير إلى هدفه كان يشير ويوضح إلى أنصاره، أولئك الذين رافقوه ليموتوا معه، ثم إلى أهل بيته ـ الذين هم كل ما يمتلكه من الحياة ـ إلى هؤلاء جميعاً الذين جاء بهم ليضحي بهم على محراب الشهادة، كان يشير ويوضح معنى مسيرته ومغزى أهدافها ومعنى الموت الذي هو وهم، في الطريق الآن إليه!!
ولقد قال الحسين يومذاك كلمته وأدى دوره!!
النهضة الحسينية
لقد كان الإيمان الذي يتعرض للانهيار ومصير الناس الذين وقعوا أسرى ظلم واضطهاد أشد مما كانا في الجاهلية والذين يطمحون إلى الحرية والعدل، هؤلاء كلهم كانوا ينظرون ماذا سيصنعه البطل!! أما هذا البطل الذي كان وحيداً أعزل بلا سلاح، فقد أظهر ببطولة نادرة حين جاء بكيانه ووجوده وحياته، وجاء بأهل بيته وأعز الناس على قلبه، ليشهد ويشهدهم أنّه أدى ما عليه في عصر كان الحق فيه مثله، بلا سلاح ولا دفاع: "اشهدوا فإني لا أقدر على أكثر مما فعلت"! وعلى هذا فهو في اليوم العاشر من محرم يتلقى دم طفله الذبيح بيده فيصعده إلى السماء قائلاً: "انظر واشهد وتقبل هذا القربان"، وفي عصر كهذا فإن "موت رجل" يكون ضماناً لحياة أمة وأساساً لبقاء عقيدة، وتكون "شهادته" إثباتاً لجريمة كبرى وهتكاً لأقنعة الخداع والزيف ولأقنعة الظلم والقسوة الحاكمة وإدانة لسحق القيم ومحوها من الأذهان، بل إنه احتجاج أحمر على التحكم الأسود وصرخة غضب في صمت قطع الحناجر!
إن الشهادة هي الشيء الذي يتغلغل في أعماق التاريخ لتكون قدوة لمن يأتي ويريد أن يكون، وهي إدانة لهذا العصر الذي يمضي بصمت، ثم أنها الطريق الوحيد وشكل المقاومة الوحيد وعلامة الحضور والدفاع عن العدل والصدق والحق الذي جرّده، بالخيانة والباطل والظلم، نظام هذا العصر من سلاحه ثم دكّ قلاعه وقواعده وأباد أنصاره وطلاّبه وهدد الإنسانية كلها بخطر الموت النهائي. كل هذه المعاجز تنبثق من "الشهادة" وفي كل هذا العصر لا بد من مصلح منتظر، والسنة الستون تطلب هذا المصلح المنتظر، بل لا بد من "قائم" في أطلال هذه المقبرة السوداء الصامتة!!
ولقد كان الحسين يعي أهمية هذه الرسالة التي وضعها مصير الإنسان على عاتقه، لذلك بادر بالخروج من مكة إلى مصرعه وهو يعلم أنّ التاريخ ينتظر وينظر إليه، وأن الزمن الذي يعود إلى الوراء على يد الرجعية يتطلع إليه ليتقدم، والناس المستسلمون للأسر بدون مقاومة في حاجة إلى نهوضه وإلى صرخته، وأخيراً فإن "رسالة الله" التي وقعت في أيدي الشياطين تريد منه أن يشهد "على هذه الجريمة" بموته، وذلك معنى قوله: "شاء الله أن يراني قتيلاً".
الشهادة والشهيد
والشهادة في منهجنا العلمي لها مفهوم خاص وهو: أن الإنسان من حيث تكوينه هو مزيج من نزعات ربانية وأخرى شيطانية، من "حمأ" وروح، ثم هو خليط من "أسمى السمو" و"أقصى الانحطاط". أما تأثيرات الدين والعبادة والرياضة الروحية وفعل الأخير فهي لصالح السمو وردع عناصر الإنحطاط وإضعاف للنـزعات الشيطانية لصالح النـزعات الإلهية... وأما الشهادة، فهي عمل مفاجىء يُحدِث تحوّلاً ربانياً في الجانب الحقير والمنحط من الإنسان إثر عملية توهج واحتراق في نار العشق والإيمان، ليصبح ذلك الإنسان طاقة نورانية إلهية محضة.
من هنا، كان الشهيد لا يُغسّل ولا يُكفّن، ولا يحاسب يوم القيامة، لأن ذنوبه كانت قبل الشهادة وهو ضحى قبل أن يموت و"حضر الآن". لذلك كان الحسين(ع) ليلة العاشر من محرم يتنظّف ويستحم ويلبس أفضل الثياب ويسكب أفضل الطيب، وكان في أشد ساعات القتل والدم والإبادة والتأهب للموت وتكدّس أجساد الشهداء من حوله، تتلألأ ملامحه وتضيء أساريره ويخفق قلبه بشوق أكبر لأنه يعلم أن ثمة فاصلاً قليلاً بينه وبين الحضور، لأن الشهادة حضور أيضاً.
ثم أنّ الشهادة تختلف في نظرنا عما هي عليه في تاريخ الأمم من أنها مصير محتوم بالموت للبطل (تراجيديا). الشهادة في قاموسنا "درجة" فهي ليست وسيلة إنما هي هدف، إنها أصالة وتكامل وسمو، إنها مسؤولية كبرى وصعود من أقصر الطرق إلى معارج الإنسانية، إنها منهج، وفي جميع العصور، إذا ما هُددت عقيدة بالإنهيار، فإن أنصارها يدافعون عنها بالجهاد ويضمنون استمرارهم واستمرارها بقوة الدفاع والنضال، أما إذا عجزوا عن المقاومة ولم يمتلكوا وسائل الدفاع وضعفت لديهم الإمكانيات، فإنهم سيحافظون على إيمانهم وعزتهم ومستقبل تاريخهم "بالشهادة". فالشهادة دعوة لكل الأجيال في كل العصور، إذا استطعت إنتزع الحياة وإلاّ فقدتها!
ماذا بعد الشهادة؟
ماذا نحن، ومن نحن، وكيف نحن، بعد الشهادة!!
الآن.. مات الشهداء ونحن الأموات.. أحياء!
لقد قال الشهداء كلمتهم ونحن الصم المخاطبون!
الشهداءالذين كانت لديهم الشجاعة على اختيار الموت ما داموا غير قادرين على الحياة!
الشهداء الذين أدوا رسالتهم وأنهوا مهماتهم ومضوا بهدوء بعد ما بذلوا وما ضحّوا على أكمل وجه، فاختاروا موتاً مليئاً بالحياة وبروعة الجمال!
جميعهم بدون استثناء، المعلم والمؤذن، والشيخ والشاب، الكبير والصغير، المرأة والخادم، السيد والشريف، كلهم أعطوا دروساً وأصبحوا قدوة لمن جاء بعدهم، من طفل الحسين إلى إخوته، ومنه إلى غلامه، ومن قارىء القرآن إلى معلم أطفال الكوفة، ومن المؤذن إلى القريب والبعيد، ثم من الشريف المبرز في مجتمعه إلى المحروم من كل مركز اجتماعي، كلهم وقفوا متكاتفين بين يدي الشهادة ليقولوا لجميع الرجال والنساء والأطفال والشيوخ والشبان، على مدى الأيام، كيف يعيشون إذا قدروا، وكيف يموتون إذا لم يقدروا على الحياة. وتلك كان مهمتهم الأولى التي أدوها...
أما المهمة الثانية فهي شهادتهم في محكمة التاريخ...
وهي شهادة بالدم لا بالكلمة..
لقد شهدوا جميعاً ـ وكل منهم شهد ممثلاً لطبقته ـ بأن نظاماً واحداً كان يحكم تاريخ البشرية ويتحكم بهذا التاريخ.
نظامٌ سخّر السياسة والاقتصاد والدين والفن والفكر والفلسفة والأخلاق والذوق والبشرية، ليصنع من ذلك كله قواعد لدولة الظلم والجور والجريمة، مضحّياً بالإنسان على مذبح مطامعه ثم متحكماً بهذا الإنسان وقيمه.
وعلى رأس هذا النظام، يتحكم بقيم الإنسانية ويحكم التاريخ بالقسر، جلاد راحت ضحية سيفه آمال جيل من الشباب وانطفأت في ظله أماني أمة، وتلونت تحت سياطه جنوب النساء. ومن أجل أن يرضي رغباته ويعمر حياته: أباد وأجاع واستعبد رجالاً ونساء، أبطالاً وأطفالاً، ومؤذنين ومعلمين في جميع الأزمان ومن كل الأجيال.
نظام أسود مثل هذا النظام كان يجب أن ينهار ولا بد من أن ينهار! ولهذا جاء الحسين!
جاء بوجوده ودمه وحياته ليشهد في محكمة التاريخ على شاطىء الفرات، للمعذّبين والمقهورين والمحكومين بسيف هذا الجلاد.
ثم يشهد بعلي(ع) فيعطي الشهادة للأبطال كيف يموتون في مملكة الجريمة ونظامها.
ويشهد بنفسه ثم بزينب ثم بطفله الرضيع، كيف يموت هو فداء للقيم، وكيف تنتهي زينب بقية للشهداء وحارسة ركب الأسرى، وكيف يصعد دم طفله الرضيع قرباناً إلى الله، وكيف أن الأطفال في ظل أنظمة القهر والقسوة لم تدركهم رحمة الجلادين والقساة!
من رحل ومن بقي؟
هؤلاء هم الشهداء العظام الذين رحلوا وبقينا...
فانظروا من رحل وانظروا من بقي..
رحل الكبار وبقي الصغار..
رحل الأحياء وبقي الأموات..
رحل الأعزاء وبقي الأذلاء..
بقينا نحن، صور الذل والحقارة، نبكي على الحسين وزينب، أمثلة الحياة العزيزة، ونكتفي من البكاء على الحسين وزينب بالمزيد من البكاء..
فإذا كان الظلم والبطش والقمع والقهر، وكل ألوان الاستعباد والإذلال، قد ظلمت الحسين وزينب ومن رافقهما من الشهداء الأبرار، أليس بكاؤنا وتخاذلنا نحن اليوم هو ظلم آخر من ظلم التاريخ يمارس عليهم مرة أخرى؟
لقد وقّع الشهداء في يوم كربلاء ميثاقهم بدمائهم وجلسوا على الأرض مواجهين لنا يدعون مُقْعَدي التاريخ للقيام!!
وإننا المقعدون وهم الثوّار
ونحن الأذلاء وهم الأعزاء
ونحن البكاؤون وهم الأبطال
فمن أين للحسين ورفاقه العزاء إذا كنا نحن المعزين؟
إن نظرة إلى واقع الشهادة وإلى واقعنا، بعد الشهادة، تثبت هذا الفارق الكبير ما بين قيم الشهادة ومبادىء التشيع، وبين ما نحن عليه من تخاذل وتراجع وإذلال..
أما "الشهادة" فقد أوردنا قيمها وصورها ومعالمها، وأكدنا أن معنى "الشهادة" هو اختيار الموت بديلاً عن حياة مهيضة في ظل الظلم والجور..
التشيع الأصيل
وأما مدرسة "التشيع" فتبقى بواقعها الصورة الأمثل لما نحن عليه من تخلف وفرقة وتخاذل ومذلة..
بينما في معارفنا ومذهبنا وتاريخنا أن التشيع هو أغلى جوهرة أبدعتها البشرية، إنه الحيوية التي تهزّ التاريخ وتحرّك الحياة، والمدرسة التي أعطت أبلغ الدروس الإلهية..
إن مبررات هذه المدرسة وكنوزها هي اليوم أيدينا نحن! نحن ورثة أعز أمانة أوجدتها الشهادات والنضالات وأفضل القيم في تاريخ الإنسانية.
نحن ورثة ذلك كله، المسؤولون عن خلق أمة تكون قدوة للبشرية: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} [البقرة:143].
نحن المخاطبون، نحن المكلفون بأن نصنع، بميراث شهدائنا ومجاهدينا وأئمتنا وقادتنا وإيماننا وكتابنا، أمة تكون شاهدة على الناس، تكون قدوة للعالم ويكون الرسول قدوتها!
فأي أسى أن تكون رسالة بهذه الأهمية، رسالة تهب الحياة والحركة للبشرية، في عهدتنا نحن العاجزين حتى عن ممارسة حياتنا اليومية؟
وفي حين أن في مدرسة التشيع دروساً كبيرة ورسالة أكبر وقيم إلهية قادرة على أن تحرّك حياة وتبني تاريخ أمة، وأن فيها ما هو عظيم وغالٍ من القيم في تاريخ البشرية وهو "الشهادة".
في حين أن مدرسة التشيع هذه هي صورتها، وهذا هو مثالها، وتلك هي قيمها وشهودها ومبادئها وتعاليمها، لننظر نحن ورثة هذا الميراث التاريخي الأعظم، ما نحن عليه من واقع.
لقد انصرفنا عن كل هذه القيم والمعاني والمبادىء والتعاليم والدروس، إلى ما يتناقض ومعنى "الشهادة"، فنحن كما يقول أحد شهدائنا: "منذ أن نسينا الشهادة واتجهنا إلى مقابر الشهداء، فقد أسلمنا رقابنا للموت الأسود، ومنذ أن نسينا أن نتشيع لعلي والحسين وزينب، نسينا أن نقتدي بالشهداء وجلس نساؤنا ورجالنا للعزاء، وأصبحنا في مأتم دائم"!
وذلك كان أكبر انتصار ليزيد وما يمثّله يزيد.
ذلك أننا نعزّي ونحزن لرجال ونساء وأطفال أثبتوا في كربلاء حضورهم في التاريخ وبين يدي الله وفي محاريب الحرية، ونكتفي من ذلك بالبكاء، وكأننا أصبحنا شركاء ليزيد.. أليس يريد يزيد التقاعس عن ظلمه والتخاذل عن صدّه والتراجع عن مقارعته.. والاكتفاء بالبكاء؟! أليس يزيد هو نفسه من يتمنى ويريد لنا مثل هذه النهاية؟!
سرعان ما قلبوا بذكاء، والمقصود نحن، رسالة الحسين وأنصاره الأوفياء، رسالتهم الموجهة إلى الإنسانية جمعاء، فأساؤوا لذلك النداء الذي نادى به الحسين بعد مقتل أنصاره ولم يعد أمامه سوى سيوف الأعداء ورماحهم وحقدهم: "هل من ناصر ينصرني"؟!
وحين أطلق ذلك النداء كان الحسين يعلم أن لا ناصر في ذلك اليوم ولا مؤيد أو منتقم بعد ما قُتل جميع الأهل والأنصار، لكنه كان يوجه نداءه. السؤال إلى تاريخ البشرية الآتي، إلى أجيال المستقبل القادمة، إنه سؤال ينتظر الجواب لمن يؤدي رسالة الشهادة ويوصلها إلى من يعظمها ويكبر دورها.الأحياء والأموات
لكن مثل هذا النداء، الدعوة، مثل هذا الانتظار، مثل هذا التوقع الذي يطلب شيعة وأنصاراً يسيرون على درب الشهادة ويكملون الرسالة، عمدنا نحن إليه فأطفأنا وهجه حين قلنا للناس، إن الحسين لا يطلب سوى الدموع والصراخ والبكاء ولا يطلب منا رسالة، إنه مجرد ميت ينتظر إقامة المأتم وليس شهيداً حاضراً في كل مكان وزمان طالباً أتباعاً وأنصاراً ومؤيدين.
نعم! هكذا قالوا ويقولون لنا، لكننا نقول العكس ونرد عليهم: كل ثورة لها وجهان: "الدم" و"الرسالة".
أما الذين اختاروا الميتة الحمراء بأيديهم دليلاً على حبهم للحقيقة المهددة بالاندثار، واستعملوا سلاح النضال الوحيد والفاعل ليحافظوا على قيم عزيزة مهددة بالمسخ، هؤلاء هم رجال حاضرون وشهود مبصرون عند الله وعند الخلائق وفي كل أرض وعصر وجيل.
أما أولئك الذين يمدون الذل طلباً للعيش الرخيص فهم موتى التاريخ المهانون.
ولنقرر، مَن هم الأحياء؟! أولئك الذين بذلوا أنفسهم بسخاء واختاروا الموت مع الحسين مع أن كل شيء كان يغريهم ويدعوهم للحياة والخلاص، أم هؤلاء الذين اختاروا إذلال يزيد وعار التخلي عن الحسين؟
إن الذي لا يرى الحياة جثة تتحرك، هو وحده الذي يرى الحسين وحضوره وكامل وجوده ويحس موت أولئك الذين صافحوا الذل لمجرد أن يبقوا على قيد الحياة!!
الشهداء وحدهم الأحياء.
الشهداء هم الذين يعطون الإشارة ويعلمون وينادون قائلين: لا، الجهاد لا يتم بالقدرة، والنصر ليس هو تحقيق الغلبة. لا، إنّ الموت هو طريق الجهاد وهو وسيلته متى انتفت القدرة على الغلبة بواسطة السلاح، وبالموت يتم الانتصار على الأعداء. إن الشهيد هو قلب التاريخ النابض بالحياة. وكما يَهِب القلب الحياة والدم للشرايين اليابسة، تكون الشهادة دماً يجري في شرايين مجتمع يسرع نحو الموت ويفقد أبناؤه الثقة والإيمان بالقيم، مجتمع آثر الاستسلام وتناسى المسؤولية والإيمان بالإنسان وتلاشت حيويته وحركته وتجمد إبداعه..
إن "الشهادة" تعطي مثل هذا المجتمع دماً وولادة وحركة جديدة، وأكبر معاجز الشهادة هي إيصال الحياة والدماء إلى الأجزاء الميتة من ذلك المجتمع من أجل ولادةجيل جديد وإيمان جديد!!
الشهيد الحاضر
ثم، متى كان الشهيد غائباً؟
ومن قال إن حضور المرء إنما يكون بجثمانه لا بالقيم التي يخلفها؟ لا، الشهيد حاضر وخالد.. لقد أعطانا الحسين درساً أكبر من دروس شهادته عندما ترك الحج المندوب وتوجه إلى الشهادة. لقد تخلّى عن هذه المناسك التي ناضل من أجلها جده وأبوه، فتركها وذهب إلى الشهادة التي فضّلها واختارها.
لقد حلّ نفسَه من إحرامها ونفض يديه من مناسك الحج ليعلن للحجاج والمصلين والطائفين والمؤمنين بسنة إبراهيم: إن صلاتهم وطوافهم حول البيت دون قيادة وإمامة وهدف، وفي ظل يزيد بعيداً عن الحسين، ما هو إلا دوران وثنيّ جاهلي حول الكعبة والأصنام تملأها!!
إن قوماً ممن تركهم الحسين في الكعبة، حين خرج إلى الشهادة، منهمكين في طوافهم حولها، هؤلاء القوم كانوا في طوافهم هذا لا فرق بينهم وبين أولئك الذين كانوا يطوفون حول "القبة الخضراء" لقصر يزيد في دمشق!!
لأن الشهيد يحضر حيث الحضور واجب وأكيد ولازم. الشهيد حاضر في جميع ساحات الحق، وهو شاهد على نضال العدل ضد الظلم والجور، حاضر ويريد حضوره هذا أن يؤدي رسالته للإنسانية كلها، حتى إذا طلبته وجدته على جميع الساحات، بل وفي الساحة التي طلبته فيها!
ذلك أن "الشهادة" هي أولاً وأخيراً "حضور" دائم في ساحة المعركة التاريخية الناشبة بين الحق والباطل!
الأحياء الغائبون
وأولئك الذين غابوا عن الحضور والمشاركة يوم حضر الحسين "للشهادة" وتركوه وحيداً، كانوا كلهم بفرقهم الثلاث سواء:
ـ الذين صاروا آلة في يد يزيد وأُجراء عنده.
ـ والذين جذبهم حب الجنة فاعتزلوا في الصوامع وزوايا العبادة متخلين عن المسؤولية.
ـ وأخيراً الذين أصاب قلوبهم الهلع من المعركة فاندحروا خائفين مرتعدين في بيوتهم.
هؤلاء كلهم سواء، لأن من غاب عن الحسين في عصره ثم غاب عن كل العصور والساحات التي يحضرها الحسين، فله أن يكون حيثما يشاء، له أن يكون قائماً لصلاة أو جالساً لشراب، وله أن يكون إما كافراً مجرماً أو عابداً مؤمناً، فالنتيجة سواء!!
أما الحسين فقد كان حاضراً في كل العصور والساحات، ولقد مات في كربلاء ليعلن عن بعثه ووجوده إلى جميع الأجيال في كل العصور!!
وتلك هي أصول التشيّع!
وهي أصول تعني أن قيمة كل عمل إنما هي مرتبطة بالإمامة، بالولاية ولا جود لها، كما هو حاصل اليوم، دون هذا الارتباط، وعلينا جميعاً أن نأسف ونبكي لأننا لم نحضر حين حضر الحسين وحيث حضر!
زينب الرسول
نعم! لكل ثورة وجهان: "الدم" و"الرسالة". أما الرسالة فقد أدّاها "الحسين" وأصحابه، وكان أداؤها بالدم، فوصل إلى مسامع العالم صوت الدم ونداء الأجساد الهامدة بين "الأموات المتحركين"!!
أما الرسالة الثانية فكان واجب أدائها على عاتق امرأة رقيقة تركت منزل زوجها وأسرعت تحثّ الخطى خلف أخيها في رحلته إلى الدم والشهادة!...
تلك المرأة النبيلة العظيمة هي: "زينب". المرأة التي تعلّم الرجال من سيرتها معاني الرجولة. ولقد كان واجب "زينب" وكان مسؤوليتها التاريخية الكبرى هي إكمال الرسالة وإتمام المسيرة.
فالآن وبعدما أقدم الأبطال على أمر عظيم هو اختيار الموت، كانت مهمة من تبقّى بعدهم أشق وأصعب. ولقد بقيت "زينب" ووراءها قافلة من الأسرى وأمامها صفوف العدو تملأ الأفق وتسد طريقها.
بقيت "زينب" وحدها تحمل على عاتقها رسالة أخيها. لقد غادرت الساحة تاركة خلفها حدائق الشهادة الحمراء، ساطع من أكمامها عطر الورد الأحمر، فدخلت مدينة الجريمة، عاصمة القهر والقسوة، وهناك رفعت صوتها المدوي!..
كانت "زينب" رسول الشهداء الخالدين، وبقية من استشهد، فكانت لساناً لمن قَطعتْ ألسنتهم سيوف الجلادين، وهي رأت أنه إذا لم تكن للدم رسالة ولم يكن له رسل لبقي صوتاً أخرس في التاريخ، وإذا لم يوصل الدم رسالته إلى جميع الأجيال فسيحاصره الجلادون ويسجنونه في زنزانة عصر واحد.
وعلى هذا رفعت "زينب" الصوت، فدخلت مزهوّة منتصرة إلى عاصمة الجلاد والمستبدين، وأطلقت رسالتها إلى كل من لهم عهد مع أهل هذا البيت، وكل من آمنوا برسالة محمد في كل عصر وجيل وأرض.
رسالة زينب(ع)
فكّروا واختاروا واسمعوا نداء شهداء كربلاء. إسمعوهم فإنهم قالوا: من أراد أن يعرف كيف يحيا جيداً فليعرف كيف يموت جيداً.
يا من آمنوا برسالة التوحيد والقرآن وأخذوا بطريقة علي وأهل بيته، أيها الآتون من بطون الغيب بعدنا، إن أهل هذا البيت كما علّموا الناس كيف يحيون، علموهم أيضاً كيف يموتون، فإن كل إنسان سيموت كما عاش.
إن رسالتهم إلى البشرية، إذا كان لكم دين "فالدين" وإذا لم يكن لكم دين فالحرية أمانة في أعناقكم، وليكن إنسانكم "المتدين" أو "الحر" شاهد عصره عند اعتراك الحق والباطل في ساحات النضال، فإن شهداءنا حاضرون أبداً، يحيون مثلاً وقدوة وشهوداً على الحق والباطل وعلى قضية الإنسان ومصيره!
وتلك هي معاني "الشهادة"!! وذلك هو كان موقف "زينب" العظيم، فلو لم تعاود إطلاق رسالة "كربلاء" لكانت هذه الرسالة حُبست في التاريخ وحُرم منها أولئك الذين هم في حاجة إليها، ولما سمعت الأجيال صوت أولئك الذين تحدثوا إليهم بلغة الدم..
ولقد كانت رسالة "زينب" شاقة وثقيلة فهي موجهة للإنسانية جمعاء، لأولئك الذين يبكيهم مقتل الحسين.. وأولئك الذين خفضوا رؤوسهم أمام عظمة الحسين.. وأخيراً أولئك الذين علمهم الحسين، إن الحياة إن هي إلا عقيدة وجهاد..
نعم، كل ثورة لها وجهان: "الدم" و"الرسالة".. وإن كل من تحمل مسؤولية قبول الحق واختارها.. كل من عرف معنى ومسؤولية التشيع.. ومعنى مسؤولية حرية الإنسان.. عليه أن يعلم أنه في معركة التاريخ الدائمة، في كل العصور والأزمان، وفي كل موقع من الأرض..
فإن كل ساحة هي كربلاء.. وكل شهر هو محرم.. وكل الأيام هي عاشوراء.. عليه أن يختار: إما الدم أو الرسالة.. إما دور الحسين أو دور زينب.. إما تلك الموتة أو هذه الحياة.. فإذا لم يكن كذلك فهو "غائب" عن الساحة.. إن ما أحب أن أقوله بعبارة موجزة حول رسالة زينب بعد الشهادة فهو: إن الذين مضوا كان عملهم حسينياً.. والذين هم أحياء ينبغي أن يكون عملهم زينبياً.. وإلا فهم يزيديون...
الشهيد د.علي شريعتي
فلسفة الموقف الحسيني
الشهادة تعني: الحضور، والإبصار، والإخبار، والشهود، والصدق، والأمانة، والوعي للشخص الذي تتطلع إليه العيون، وهي تعني أخيراً: القدوة والنموذج.
الشهادة في قاموسنا ليست حادثاً دامياً منغصاً كما هي عند بعض الأمم في تاريخها، مجرد تضيحة يقدم عليها أحد الأبطال إذ يُقتل بيد عدوه في ساحة القتال؛ فيكون موته مبعث ألم ويكون اسمه "شهيداً" وموته "شهادة"!
لا!! الشهادة في معارفنا ليست موتاً يفرضه العدو على (المجاهد) بل الشهادة اختيار واعٍ يقدم عليه المجاهد بكل طواعية ووعي وإدراك ويختاره بدافع ذاتي بعيد!
ذاك هو الحسين، فيه وبموقفه تمثلت الشهادة وتمثل الشهيد!!
لقدترك مدينته وخرج من بيته نافضاً يديه من الحياة مختاراً الموت حيث كان لا يملك في مواجهة عدوه سوى هذا السلاح العظيم، الموت. وبهذا السلاح واجه العدو وفضحه وهتك أقنعته، وهو إن لم يكن في مقدوره قهر العدو وهزيمته في ساحة القتال، ففي مقدوره، عبر الموت، أن يفضح هذا العدو. إنه كإنسان أعزل، وحيد، وفي نفس الوقت مدرك لمسؤوليته، لم يكن يملك إلا سلاحه الواحد: تلك الموتة الحمراء!
إن "حسينيته" تضعه في موقع المسؤولية للنضال ضد كل أنواع الاضطهاد والإذلال. ولما لم يكن لديه من سلاح سوى وجوده فقد حمله على راحتيه وبرز به إلى مقتله، ثم بخطى واعية ثابتة دقيقة التنظيم كانت مسيرته إلى تلك الشهادة، وعقب كل مرحلة كان يقطعها وهو يحثّ السير إلى هدفه كان يشير ويوضح إلى أنصاره، أولئك الذين رافقوه ليموتوا معه، ثم إلى أهل بيته ـ الذين هم كل ما يمتلكه من الحياة ـ إلى هؤلاء جميعاً الذين جاء بهم ليضحي بهم على محراب الشهادة، كان يشير ويوضح معنى مسيرته ومغزى أهدافها ومعنى الموت الذي هو وهم، في الطريق الآن إليه!!
ولقد قال الحسين يومذاك كلمته وأدى دوره!!
النهضة الحسينية
لقد كان الإيمان الذي يتعرض للانهيار ومصير الناس الذين وقعوا أسرى ظلم واضطهاد أشد مما كانا في الجاهلية والذين يطمحون إلى الحرية والعدل، هؤلاء كلهم كانوا ينظرون ماذا سيصنعه البطل!! أما هذا البطل الذي كان وحيداً أعزل بلا سلاح، فقد أظهر ببطولة نادرة حين جاء بكيانه ووجوده وحياته، وجاء بأهل بيته وأعز الناس على قلبه، ليشهد ويشهدهم أنّه أدى ما عليه في عصر كان الحق فيه مثله، بلا سلاح ولا دفاع: "اشهدوا فإني لا أقدر على أكثر مما فعلت"! وعلى هذا فهو في اليوم العاشر من محرم يتلقى دم طفله الذبيح بيده فيصعده إلى السماء قائلاً: "انظر واشهد وتقبل هذا القربان"، وفي عصر كهذا فإن "موت رجل" يكون ضماناً لحياة أمة وأساساً لبقاء عقيدة، وتكون "شهادته" إثباتاً لجريمة كبرى وهتكاً لأقنعة الخداع والزيف ولأقنعة الظلم والقسوة الحاكمة وإدانة لسحق القيم ومحوها من الأذهان، بل إنه احتجاج أحمر على التحكم الأسود وصرخة غضب في صمت قطع الحناجر!
إن الشهادة هي الشيء الذي يتغلغل في أعماق التاريخ لتكون قدوة لمن يأتي ويريد أن يكون، وهي إدانة لهذا العصر الذي يمضي بصمت، ثم أنها الطريق الوحيد وشكل المقاومة الوحيد وعلامة الحضور والدفاع عن العدل والصدق والحق الذي جرّده، بالخيانة والباطل والظلم، نظام هذا العصر من سلاحه ثم دكّ قلاعه وقواعده وأباد أنصاره وطلاّبه وهدد الإنسانية كلها بخطر الموت النهائي. كل هذه المعاجز تنبثق من "الشهادة" وفي كل هذا العصر لا بد من مصلح منتظر، والسنة الستون تطلب هذا المصلح المنتظر، بل لا بد من "قائم" في أطلال هذه المقبرة السوداء الصامتة!!
ولقد كان الحسين يعي أهمية هذه الرسالة التي وضعها مصير الإنسان على عاتقه، لذلك بادر بالخروج من مكة إلى مصرعه وهو يعلم أنّ التاريخ ينتظر وينظر إليه، وأن الزمن الذي يعود إلى الوراء على يد الرجعية يتطلع إليه ليتقدم، والناس المستسلمون للأسر بدون مقاومة في حاجة إلى نهوضه وإلى صرخته، وأخيراً فإن "رسالة الله" التي وقعت في أيدي الشياطين تريد منه أن يشهد "على هذه الجريمة" بموته، وذلك معنى قوله: "شاء الله أن يراني قتيلاً".
الشهادة والشهيد
والشهادة في منهجنا العلمي لها مفهوم خاص وهو: أن الإنسان من حيث تكوينه هو مزيج من نزعات ربانية وأخرى شيطانية، من "حمأ" وروح، ثم هو خليط من "أسمى السمو" و"أقصى الانحطاط". أما تأثيرات الدين والعبادة والرياضة الروحية وفعل الأخير فهي لصالح السمو وردع عناصر الإنحطاط وإضعاف للنـزعات الشيطانية لصالح النـزعات الإلهية... وأما الشهادة، فهي عمل مفاجىء يُحدِث تحوّلاً ربانياً في الجانب الحقير والمنحط من الإنسان إثر عملية توهج واحتراق في نار العشق والإيمان، ليصبح ذلك الإنسان طاقة نورانية إلهية محضة.
من هنا، كان الشهيد لا يُغسّل ولا يُكفّن، ولا يحاسب يوم القيامة، لأن ذنوبه كانت قبل الشهادة وهو ضحى قبل أن يموت و"حضر الآن". لذلك كان الحسين(ع) ليلة العاشر من محرم يتنظّف ويستحم ويلبس أفضل الثياب ويسكب أفضل الطيب، وكان في أشد ساعات القتل والدم والإبادة والتأهب للموت وتكدّس أجساد الشهداء من حوله، تتلألأ ملامحه وتضيء أساريره ويخفق قلبه بشوق أكبر لأنه يعلم أن ثمة فاصلاً قليلاً بينه وبين الحضور، لأن الشهادة حضور أيضاً.
ثم أنّ الشهادة تختلف في نظرنا عما هي عليه في تاريخ الأمم من أنها مصير محتوم بالموت للبطل (تراجيديا). الشهادة في قاموسنا "درجة" فهي ليست وسيلة إنما هي هدف، إنها أصالة وتكامل وسمو، إنها مسؤولية كبرى وصعود من أقصر الطرق إلى معارج الإنسانية، إنها منهج، وفي جميع العصور، إذا ما هُددت عقيدة بالإنهيار، فإن أنصارها يدافعون عنها بالجهاد ويضمنون استمرارهم واستمرارها بقوة الدفاع والنضال، أما إذا عجزوا عن المقاومة ولم يمتلكوا وسائل الدفاع وضعفت لديهم الإمكانيات، فإنهم سيحافظون على إيمانهم وعزتهم ومستقبل تاريخهم "بالشهادة". فالشهادة دعوة لكل الأجيال في كل العصور، إذا استطعت إنتزع الحياة وإلاّ فقدتها!
ماذا بعد الشهادة؟
ماذا نحن، ومن نحن، وكيف نحن، بعد الشهادة!!
الآن.. مات الشهداء ونحن الأموات.. أحياء!
لقد قال الشهداء كلمتهم ونحن الصم المخاطبون!
الشهداءالذين كانت لديهم الشجاعة على اختيار الموت ما داموا غير قادرين على الحياة!
الشهداء الذين أدوا رسالتهم وأنهوا مهماتهم ومضوا بهدوء بعد ما بذلوا وما ضحّوا على أكمل وجه، فاختاروا موتاً مليئاً بالحياة وبروعة الجمال!
جميعهم بدون استثناء، المعلم والمؤذن، والشيخ والشاب، الكبير والصغير، المرأة والخادم، السيد والشريف، كلهم أعطوا دروساً وأصبحوا قدوة لمن جاء بعدهم، من طفل الحسين إلى إخوته، ومنه إلى غلامه، ومن قارىء القرآن إلى معلم أطفال الكوفة، ومن المؤذن إلى القريب والبعيد، ثم من الشريف المبرز في مجتمعه إلى المحروم من كل مركز اجتماعي، كلهم وقفوا متكاتفين بين يدي الشهادة ليقولوا لجميع الرجال والنساء والأطفال والشيوخ والشبان، على مدى الأيام، كيف يعيشون إذا قدروا، وكيف يموتون إذا لم يقدروا على الحياة. وتلك كان مهمتهم الأولى التي أدوها...
أما المهمة الثانية فهي شهادتهم في محكمة التاريخ...
وهي شهادة بالدم لا بالكلمة..
لقد شهدوا جميعاً ـ وكل منهم شهد ممثلاً لطبقته ـ بأن نظاماً واحداً كان يحكم تاريخ البشرية ويتحكم بهذا التاريخ.
نظامٌ سخّر السياسة والاقتصاد والدين والفن والفكر والفلسفة والأخلاق والذوق والبشرية، ليصنع من ذلك كله قواعد لدولة الظلم والجور والجريمة، مضحّياً بالإنسان على مذبح مطامعه ثم متحكماً بهذا الإنسان وقيمه.
وعلى رأس هذا النظام، يتحكم بقيم الإنسانية ويحكم التاريخ بالقسر، جلاد راحت ضحية سيفه آمال جيل من الشباب وانطفأت في ظله أماني أمة، وتلونت تحت سياطه جنوب النساء. ومن أجل أن يرضي رغباته ويعمر حياته: أباد وأجاع واستعبد رجالاً ونساء، أبطالاً وأطفالاً، ومؤذنين ومعلمين في جميع الأزمان ومن كل الأجيال.
نظام أسود مثل هذا النظام كان يجب أن ينهار ولا بد من أن ينهار! ولهذا جاء الحسين!
جاء بوجوده ودمه وحياته ليشهد في محكمة التاريخ على شاطىء الفرات، للمعذّبين والمقهورين والمحكومين بسيف هذا الجلاد.
ثم يشهد بعلي(ع) فيعطي الشهادة للأبطال كيف يموتون في مملكة الجريمة ونظامها.
ويشهد بنفسه ثم بزينب ثم بطفله الرضيع، كيف يموت هو فداء للقيم، وكيف تنتهي زينب بقية للشهداء وحارسة ركب الأسرى، وكيف يصعد دم طفله الرضيع قرباناً إلى الله، وكيف أن الأطفال في ظل أنظمة القهر والقسوة لم تدركهم رحمة الجلادين والقساة!
من رحل ومن بقي؟
هؤلاء هم الشهداء العظام الذين رحلوا وبقينا...
فانظروا من رحل وانظروا من بقي..
رحل الكبار وبقي الصغار..
رحل الأحياء وبقي الأموات..
رحل الأعزاء وبقي الأذلاء..
بقينا نحن، صور الذل والحقارة، نبكي على الحسين وزينب، أمثلة الحياة العزيزة، ونكتفي من البكاء على الحسين وزينب بالمزيد من البكاء..
فإذا كان الظلم والبطش والقمع والقهر، وكل ألوان الاستعباد والإذلال، قد ظلمت الحسين وزينب ومن رافقهما من الشهداء الأبرار، أليس بكاؤنا وتخاذلنا نحن اليوم هو ظلم آخر من ظلم التاريخ يمارس عليهم مرة أخرى؟
لقد وقّع الشهداء في يوم كربلاء ميثاقهم بدمائهم وجلسوا على الأرض مواجهين لنا يدعون مُقْعَدي التاريخ للقيام!!
وإننا المقعدون وهم الثوّار
ونحن الأذلاء وهم الأعزاء
ونحن البكاؤون وهم الأبطال
فمن أين للحسين ورفاقه العزاء إذا كنا نحن المعزين؟
إن نظرة إلى واقع الشهادة وإلى واقعنا، بعد الشهادة، تثبت هذا الفارق الكبير ما بين قيم الشهادة ومبادىء التشيع، وبين ما نحن عليه من تخاذل وتراجع وإذلال..
أما "الشهادة" فقد أوردنا قيمها وصورها ومعالمها، وأكدنا أن معنى "الشهادة" هو اختيار الموت بديلاً عن حياة مهيضة في ظل الظلم والجور..
التشيع الأصيل
وأما مدرسة "التشيع" فتبقى بواقعها الصورة الأمثل لما نحن عليه من تخلف وفرقة وتخاذل ومذلة..
بينما في معارفنا ومذهبنا وتاريخنا أن التشيع هو أغلى جوهرة أبدعتها البشرية، إنه الحيوية التي تهزّ التاريخ وتحرّك الحياة، والمدرسة التي أعطت أبلغ الدروس الإلهية..
إن مبررات هذه المدرسة وكنوزها هي اليوم أيدينا نحن! نحن ورثة أعز أمانة أوجدتها الشهادات والنضالات وأفضل القيم في تاريخ الإنسانية.
نحن ورثة ذلك كله، المسؤولون عن خلق أمة تكون قدوة للبشرية: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} [البقرة:143].
نحن المخاطبون، نحن المكلفون بأن نصنع، بميراث شهدائنا ومجاهدينا وأئمتنا وقادتنا وإيماننا وكتابنا، أمة تكون شاهدة على الناس، تكون قدوة للعالم ويكون الرسول قدوتها!
فأي أسى أن تكون رسالة بهذه الأهمية، رسالة تهب الحياة والحركة للبشرية، في عهدتنا نحن العاجزين حتى عن ممارسة حياتنا اليومية؟
وفي حين أن في مدرسة التشيع دروساً كبيرة ورسالة أكبر وقيم إلهية قادرة على أن تحرّك حياة وتبني تاريخ أمة، وأن فيها ما هو عظيم وغالٍ من القيم في تاريخ البشرية وهو "الشهادة".
في حين أن مدرسة التشيع هذه هي صورتها، وهذا هو مثالها، وتلك هي قيمها وشهودها ومبادئها وتعاليمها، لننظر نحن ورثة هذا الميراث التاريخي الأعظم، ما نحن عليه من واقع.
لقد انصرفنا عن كل هذه القيم والمعاني والمبادىء والتعاليم والدروس، إلى ما يتناقض ومعنى "الشهادة"، فنحن كما يقول أحد شهدائنا: "منذ أن نسينا الشهادة واتجهنا إلى مقابر الشهداء، فقد أسلمنا رقابنا للموت الأسود، ومنذ أن نسينا أن نتشيع لعلي والحسين وزينب، نسينا أن نقتدي بالشهداء وجلس نساؤنا ورجالنا للعزاء، وأصبحنا في مأتم دائم"!
وذلك كان أكبر انتصار ليزيد وما يمثّله يزيد.
ذلك أننا نعزّي ونحزن لرجال ونساء وأطفال أثبتوا في كربلاء حضورهم في التاريخ وبين يدي الله وفي محاريب الحرية، ونكتفي من ذلك بالبكاء، وكأننا أصبحنا شركاء ليزيد.. أليس يريد يزيد التقاعس عن ظلمه والتخاذل عن صدّه والتراجع عن مقارعته.. والاكتفاء بالبكاء؟! أليس يزيد هو نفسه من يتمنى ويريد لنا مثل هذه النهاية؟!
سرعان ما قلبوا بذكاء، والمقصود نحن، رسالة الحسين وأنصاره الأوفياء، رسالتهم الموجهة إلى الإنسانية جمعاء، فأساؤوا لذلك النداء الذي نادى به الحسين بعد مقتل أنصاره ولم يعد أمامه سوى سيوف الأعداء ورماحهم وحقدهم: "هل من ناصر ينصرني"؟!
وحين أطلق ذلك النداء كان الحسين يعلم أن لا ناصر في ذلك اليوم ولا مؤيد أو منتقم بعد ما قُتل جميع الأهل والأنصار، لكنه كان يوجه نداءه. السؤال إلى تاريخ البشرية الآتي، إلى أجيال المستقبل القادمة، إنه سؤال ينتظر الجواب لمن يؤدي رسالة الشهادة ويوصلها إلى من يعظمها ويكبر دورها.الأحياء والأموات
لكن مثل هذا النداء، الدعوة، مثل هذا الانتظار، مثل هذا التوقع الذي يطلب شيعة وأنصاراً يسيرون على درب الشهادة ويكملون الرسالة، عمدنا نحن إليه فأطفأنا وهجه حين قلنا للناس، إن الحسين لا يطلب سوى الدموع والصراخ والبكاء ولا يطلب منا رسالة، إنه مجرد ميت ينتظر إقامة المأتم وليس شهيداً حاضراً في كل مكان وزمان طالباً أتباعاً وأنصاراً ومؤيدين.
نعم! هكذا قالوا ويقولون لنا، لكننا نقول العكس ونرد عليهم: كل ثورة لها وجهان: "الدم" و"الرسالة".
أما الذين اختاروا الميتة الحمراء بأيديهم دليلاً على حبهم للحقيقة المهددة بالاندثار، واستعملوا سلاح النضال الوحيد والفاعل ليحافظوا على قيم عزيزة مهددة بالمسخ، هؤلاء هم رجال حاضرون وشهود مبصرون عند الله وعند الخلائق وفي كل أرض وعصر وجيل.
أما أولئك الذين يمدون الذل طلباً للعيش الرخيص فهم موتى التاريخ المهانون.
ولنقرر، مَن هم الأحياء؟! أولئك الذين بذلوا أنفسهم بسخاء واختاروا الموت مع الحسين مع أن كل شيء كان يغريهم ويدعوهم للحياة والخلاص، أم هؤلاء الذين اختاروا إذلال يزيد وعار التخلي عن الحسين؟
إن الذي لا يرى الحياة جثة تتحرك، هو وحده الذي يرى الحسين وحضوره وكامل وجوده ويحس موت أولئك الذين صافحوا الذل لمجرد أن يبقوا على قيد الحياة!!
الشهداء وحدهم الأحياء.
الشهداء هم الذين يعطون الإشارة ويعلمون وينادون قائلين: لا، الجهاد لا يتم بالقدرة، والنصر ليس هو تحقيق الغلبة. لا، إنّ الموت هو طريق الجهاد وهو وسيلته متى انتفت القدرة على الغلبة بواسطة السلاح، وبالموت يتم الانتصار على الأعداء. إن الشهيد هو قلب التاريخ النابض بالحياة. وكما يَهِب القلب الحياة والدم للشرايين اليابسة، تكون الشهادة دماً يجري في شرايين مجتمع يسرع نحو الموت ويفقد أبناؤه الثقة والإيمان بالقيم، مجتمع آثر الاستسلام وتناسى المسؤولية والإيمان بالإنسان وتلاشت حيويته وحركته وتجمد إبداعه..
إن "الشهادة" تعطي مثل هذا المجتمع دماً وولادة وحركة جديدة، وأكبر معاجز الشهادة هي إيصال الحياة والدماء إلى الأجزاء الميتة من ذلك المجتمع من أجل ولادةجيل جديد وإيمان جديد!!
الشهيد الحاضر
ثم، متى كان الشهيد غائباً؟
ومن قال إن حضور المرء إنما يكون بجثمانه لا بالقيم التي يخلفها؟ لا، الشهيد حاضر وخالد.. لقد أعطانا الحسين درساً أكبر من دروس شهادته عندما ترك الحج المندوب وتوجه إلى الشهادة. لقد تخلّى عن هذه المناسك التي ناضل من أجلها جده وأبوه، فتركها وذهب إلى الشهادة التي فضّلها واختارها.
لقد حلّ نفسَه من إحرامها ونفض يديه من مناسك الحج ليعلن للحجاج والمصلين والطائفين والمؤمنين بسنة إبراهيم: إن صلاتهم وطوافهم حول البيت دون قيادة وإمامة وهدف، وفي ظل يزيد بعيداً عن الحسين، ما هو إلا دوران وثنيّ جاهلي حول الكعبة والأصنام تملأها!!
إن قوماً ممن تركهم الحسين في الكعبة، حين خرج إلى الشهادة، منهمكين في طوافهم حولها، هؤلاء القوم كانوا في طوافهم هذا لا فرق بينهم وبين أولئك الذين كانوا يطوفون حول "القبة الخضراء" لقصر يزيد في دمشق!!
لأن الشهيد يحضر حيث الحضور واجب وأكيد ولازم. الشهيد حاضر في جميع ساحات الحق، وهو شاهد على نضال العدل ضد الظلم والجور، حاضر ويريد حضوره هذا أن يؤدي رسالته للإنسانية كلها، حتى إذا طلبته وجدته على جميع الساحات، بل وفي الساحة التي طلبته فيها!
ذلك أن "الشهادة" هي أولاً وأخيراً "حضور" دائم في ساحة المعركة التاريخية الناشبة بين الحق والباطل!
الأحياء الغائبون
وأولئك الذين غابوا عن الحضور والمشاركة يوم حضر الحسين "للشهادة" وتركوه وحيداً، كانوا كلهم بفرقهم الثلاث سواء:
ـ الذين صاروا آلة في يد يزيد وأُجراء عنده.
ـ والذين جذبهم حب الجنة فاعتزلوا في الصوامع وزوايا العبادة متخلين عن المسؤولية.
ـ وأخيراً الذين أصاب قلوبهم الهلع من المعركة فاندحروا خائفين مرتعدين في بيوتهم.
هؤلاء كلهم سواء، لأن من غاب عن الحسين في عصره ثم غاب عن كل العصور والساحات التي يحضرها الحسين، فله أن يكون حيثما يشاء، له أن يكون قائماً لصلاة أو جالساً لشراب، وله أن يكون إما كافراً مجرماً أو عابداً مؤمناً، فالنتيجة سواء!!
أما الحسين فقد كان حاضراً في كل العصور والساحات، ولقد مات في كربلاء ليعلن عن بعثه ووجوده إلى جميع الأجيال في كل العصور!!
وتلك هي أصول التشيّع!
وهي أصول تعني أن قيمة كل عمل إنما هي مرتبطة بالإمامة، بالولاية ولا جود لها، كما هو حاصل اليوم، دون هذا الارتباط، وعلينا جميعاً أن نأسف ونبكي لأننا لم نحضر حين حضر الحسين وحيث حضر!
زينب الرسول
نعم! لكل ثورة وجهان: "الدم" و"الرسالة". أما الرسالة فقد أدّاها "الحسين" وأصحابه، وكان أداؤها بالدم، فوصل إلى مسامع العالم صوت الدم ونداء الأجساد الهامدة بين "الأموات المتحركين"!!
أما الرسالة الثانية فكان واجب أدائها على عاتق امرأة رقيقة تركت منزل زوجها وأسرعت تحثّ الخطى خلف أخيها في رحلته إلى الدم والشهادة!...
تلك المرأة النبيلة العظيمة هي: "زينب". المرأة التي تعلّم الرجال من سيرتها معاني الرجولة. ولقد كان واجب "زينب" وكان مسؤوليتها التاريخية الكبرى هي إكمال الرسالة وإتمام المسيرة.
فالآن وبعدما أقدم الأبطال على أمر عظيم هو اختيار الموت، كانت مهمة من تبقّى بعدهم أشق وأصعب. ولقد بقيت "زينب" ووراءها قافلة من الأسرى وأمامها صفوف العدو تملأ الأفق وتسد طريقها.
بقيت "زينب" وحدها تحمل على عاتقها رسالة أخيها. لقد غادرت الساحة تاركة خلفها حدائق الشهادة الحمراء، ساطع من أكمامها عطر الورد الأحمر، فدخلت مدينة الجريمة، عاصمة القهر والقسوة، وهناك رفعت صوتها المدوي!..
كانت "زينب" رسول الشهداء الخالدين، وبقية من استشهد، فكانت لساناً لمن قَطعتْ ألسنتهم سيوف الجلادين، وهي رأت أنه إذا لم تكن للدم رسالة ولم يكن له رسل لبقي صوتاً أخرس في التاريخ، وإذا لم يوصل الدم رسالته إلى جميع الأجيال فسيحاصره الجلادون ويسجنونه في زنزانة عصر واحد.
وعلى هذا رفعت "زينب" الصوت، فدخلت مزهوّة منتصرة إلى عاصمة الجلاد والمستبدين، وأطلقت رسالتها إلى كل من لهم عهد مع أهل هذا البيت، وكل من آمنوا برسالة محمد في كل عصر وجيل وأرض.
رسالة زينب(ع)
فكّروا واختاروا واسمعوا نداء شهداء كربلاء. إسمعوهم فإنهم قالوا: من أراد أن يعرف كيف يحيا جيداً فليعرف كيف يموت جيداً.
يا من آمنوا برسالة التوحيد والقرآن وأخذوا بطريقة علي وأهل بيته، أيها الآتون من بطون الغيب بعدنا، إن أهل هذا البيت كما علّموا الناس كيف يحيون، علموهم أيضاً كيف يموتون، فإن كل إنسان سيموت كما عاش.
إن رسالتهم إلى البشرية، إذا كان لكم دين "فالدين" وإذا لم يكن لكم دين فالحرية أمانة في أعناقكم، وليكن إنسانكم "المتدين" أو "الحر" شاهد عصره عند اعتراك الحق والباطل في ساحات النضال، فإن شهداءنا حاضرون أبداً، يحيون مثلاً وقدوة وشهوداً على الحق والباطل وعلى قضية الإنسان ومصيره!
وتلك هي معاني "الشهادة"!! وذلك هو كان موقف "زينب" العظيم، فلو لم تعاود إطلاق رسالة "كربلاء" لكانت هذه الرسالة حُبست في التاريخ وحُرم منها أولئك الذين هم في حاجة إليها، ولما سمعت الأجيال صوت أولئك الذين تحدثوا إليهم بلغة الدم..
ولقد كانت رسالة "زينب" شاقة وثقيلة فهي موجهة للإنسانية جمعاء، لأولئك الذين يبكيهم مقتل الحسين.. وأولئك الذين خفضوا رؤوسهم أمام عظمة الحسين.. وأخيراً أولئك الذين علمهم الحسين، إن الحياة إن هي إلا عقيدة وجهاد..
نعم، كل ثورة لها وجهان: "الدم" و"الرسالة".. وإن كل من تحمل مسؤولية قبول الحق واختارها.. كل من عرف معنى ومسؤولية التشيع.. ومعنى مسؤولية حرية الإنسان.. عليه أن يعلم أنه في معركة التاريخ الدائمة، في كل العصور والأزمان، وفي كل موقع من الأرض..
فإن كل ساحة هي كربلاء.. وكل شهر هو محرم.. وكل الأيام هي عاشوراء.. عليه أن يختار: إما الدم أو الرسالة.. إما دور الحسين أو دور زينب.. إما تلك الموتة أو هذه الحياة.. فإذا لم يكن كذلك فهو "غائب" عن الساحة.. إن ما أحب أن أقوله بعبارة موجزة حول رسالة زينب بعد الشهادة فهو: إن الذين مضوا كان عملهم حسينياً.. والذين هم أحياء ينبغي أن يكون عملهم زينبياً.. وإلا فهم يزيديون...