المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حكايات الغدر والموت والدم....ثعلب الصحراء في فخّ هتلر...المارشال رومل يغتال نفسه!



2005ليلى
09-18-2009, 02:35 PM
http://www.aljarida.com/AlJarida/Resources/ArticlesPictures/2009/09/18/129173_romel-7_small.jpg



القاهرة - صـلاح الإمـام

المارشال إيرفين رومل أحد أعظم القادة العسكريين الذين برزوا خلال القرن العشرين في الحرب العالمية الثانية. كان يلقب بـ{ثعلب الصحراء» لبراعته في فنون القتال الحديث بالدبابات، ودقة خططه العسكرية وسرعة حركته التي قل نظيرها، ومفاجأته الخصم كالصاعقة. كان قائداً عسكرياً لامعاً خلال معارك الحرب العالمية الثانية في شمال إفريقيا والعلمين.

طريقة اغتيال رومل غريبة وفريدة من نوعها، حتى أن قوائم الاغتيالات الشهيرة تخلو من اسمه، على أساس أنه انتحر، وتلك مغالطة تاريخية تشمل تزييفاً لوقائع التاريخ، وكسراً لعنق الحقيقة، إذ كانت مأساة نهايته بمثابة دراما غير مسبوقة في التاريخ.

ولد إيرفين رومل في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1891 في مدينة هايدنهايم، وسط أربعة أشقاء. كان والده يعمل مدرساً في إحدى المدارس الثانوية. شغف رومل بصناعة المناطيد والهندسة وأراد أن يحقق نفسه وطموحه في هذا المجال، لكن والده عارض ذلك، ما جعله يغير مساره ويتجه إلى المجال العسكري الذي دخله في عام 1910، وحصل على رتبة ملازم في الجيش الإمبراطوري الألماني وهو في الخامسة والعشرين، ودرّب المجندين في سلاح المشاة في إحدى البلدات الصغيرة جنوب ألمانيا.

شارك رومل في الحرب العالمية الأولى في عام 1914، وحصل على وسام الصليب الحديدي في عام 1915، وعقب انتهاء الحرب ووقوع الهزيمة تم توقيع معاهدة «فرساي» التي حددت عدد الجيش الألماني بمئة ألف رجل.

ظل في المجال العسكري، لكن في مجال التدريس، وفي عام 1920 أصبح محاضراً في مدرسة تدريب المشاة، ثم رقي ليصبح محاضراً في علم الحروب التكتيكي في المدرسة الحربية.

صعد هتلر إلى الحكم في يناير (كانون الثاني) عام 1933، وعرف رومل بإخلاصه الشديد له، وفي عام 1938 وهو برتبة عقيد كان أحد المسؤولين عن حرسه الخاص، وقد أثار إعجابه فأصدر أوامره بتعيينه على قيادة الجيش في كل من النمسا وتشيكوسلوفكيا عام 1939، وفي عام 1940 حقق رومل إنجازاً عسكرياً آخر عندما تمكن من اجتياح فرنسا، وأحرزت القوات الألمانية انتصارات كثيرة على الساحة الأوروبية، خلال معارك الحرب العالمية الثانية في أوروبا.

في العلمين

رأى هتلر في رومل القائد المناسب لإرساله إلى شمال إفريقيا لمساعدة حلفائه الإيطاليين في حماية مستعمرتهم الليبية ضد الهجمات البريطانية، فعينه في فبراير (شباط) عام 1941 قائداً أعلى للجيش الألماني في شمال إفريقيا، فانتقل من فرنسا ليبدأ مهمة جديدة في الصحراء الإفريقية، وكانت مهمته إيقاف التقدم البريطاني.

خاض رومل في شمال إفريقيا عدداً من المعارك الناجحة التي ظهرت فيها براعته كقائد ومناور عسكري، وهذا ما منحه لقبه الأشهر «ثعلب الصحراء»... تمكن من استرداد ليبيا من بين أنياب البريطانيين، واستسلمت القوات البريطانية في طبرق في ليبيا ووقع حوالي 30 ألف جندي بريطاني في الأسر، وأتاح هذا النصر لرومل فرصة التقدم بقواته والزحف وراء البريطانيين إلى مصر التي كانت مركزاً للوجود البريطاني في المنطقة، وتقديراً لانتصاراته الباهرة منحه هتلر لقب مارشال في 22 يونيو (حزيران) عام 1942، ليصبح أصغر ضابط ألماني يحصل على هذه الرتبة.

استمر تقدم رومل في اتجاه مصر مكبداً الجانب البريطاني خسائر كبيرة، حتى وصل إلى مرسى مطروح ولم يبق على الوصول إلى الإسكندرية سوى 150 كيلومتراً بعد انسحاب البريطانيين، وكان من الواضح أنه لم يبق الكثير أمام رومل وجنوده للوصول إلى العاصمة المصرية القاهرة، فتوقف على أبواب العلمين، وانتظر الإمدادات لمتابعة طريقه نحو القاهرة وقناة السويس، لكن هتلر آنذاك كان فتح الجبهة الروسية وكرّس إمكاناته لها، فحرم رومل من التعزيزات المطلوبة.

جاءت معركة العلمين لتشهد تغيراً جوهرياً في خط سير الحرب، فعقب سقوط طبرق أعلنت أميركا عن مشاركتها في الحرب فأرسلت إمداداتها إلى القوات البريطانية في شمال إفريقيا، وغيرها من إمدادات قوات الحلفاء، فأصبح التفاوت كبيراً بين القوات الألمانية والبريطانية، إذ حصلت الأخيرة على إمدادات كثيرة، وسيطر الحلفاء على الحرب جواً وبراً، إضافة إلى تمكنهم من اختراق الشفرات الألمانية وكشف خططهم، وانقلبت الحال بالنسبة إلى الجانب الألماني ولم يتمكن رومل من صد الهجوم البريطاني وبدأ التراجع، وعلى رغم ذلك كان هتلر مصراً على التوسع وإتمام الحرب حتى آخر جندي، دافعاً برومل إلى الاستمرار، وتوالت المواجهات العنيفة بين الأخير ومونتغمري قائد الجيش الثامن البريطاني، الذي كان مجهزاً بأحدث الأسلحة، فضلاً عن تفوقه بعدد الجنود، فقد استطاعت القوات البريطانية الحصول على إمدادات هائلة قبل معركة العلمين فيما كانت القوات الألمانية تفتقد حتى إلى الكميات الكافية من الوقود اللازم لتسيير المركبات والمدرعات، ما قيّد حرية رومل في ممارسة هوايته المفضلة وهي المناورات السريعة والمفاجئة، فكانت النتيجة هزيمة الألمان في معركة العلمين، لتتخذ معارك شمال إفريقيا اتجاهاً معاكساً.

توالت هزائم الألمان واضطروا إلى التراجع إلى ليبيا، لكن القوات البريطانية واصلت الضغط على قوات رومل، فتراجع إلى الصحراء التونسية حيث اشتبك في معركة مع قوات الحلفاء في منطقة ميدنين التونسية، انتهت بهزيمته أيضاً، فأمر هتلر بإعادته إلى ألمانيا، خصوصاً بعدما ترددت أنباء عن انتقادات رومل لقيادة هتلر.

محاولة اغتيال الفوهرر

في 20 يوليو (تموز) عام 1944 كان هتلر، القائد المطلق الصلاحية للرايخ الثالث الألماني، يرأس اجتماعاً عسكرياً في إحدى القاعات المحصنة جيداً في مقر القيادة العامة في رستنبرغ، وتغيب عن الاجتماع اثنان من كبار قادته، وبدأ الاجتماع قبل موعده بساعة كي يلحق هتلر بموعده مع موسوليني بعد ظهر ذلك اليوم.

أثناء الاجتماع توارى خلسة الكولونيل كلاز فون ستفنبرغ تاركاً حقيبة يده أسفل طاولة الاجتماع، وبعد مضي خمس دقائق على مغادرته المكان، وحينما كانت عقارب الساعة تشير إلى الدقيقة 42 بعد الساعة 12 ظهراً، انفجرت عبوة ناسفة كانت داخل الحقيبة أدت إلى تحطيم المقاعد وزجاج النوافذ، وطارت أشلاء بعض الجثث، وامتلأت القاعة بدخان كثيف، ومن بين القتلى والجرحى انتصب هتلر واقفاً وثيابه ممزقة ووجهه أسود، لكنه كان سليماً معافى! إلا من بعض الجروح البسيطة.

في السادسة مساءً، بثت الإذاعة الألمانية خبر محاولة اغتيال الفوهرر، وطمأنت الشعب على صحته معلنة فشل المحاولة.

كان رومل يستقل سيارة مرسيدس مكشوفة في طريقه إلى نورماندي للمرور على قادة الفرق المرابضة بها، وكان ميزان القوى بدأ يميل ناحية الحلفاء، فكانت طائراتهم تسيطر على الأجواء الألمانية وتمطر المدن بالقنابل المدمرة بما في ذلك الطرقات والجسور والحقول والمزارع.

كان الطيران الإنكليزي يحلق من دون انقطاع في سماء المنطقة، وكانت سيارة رومل ترفع على مقدمتها راية الجيش الألماني فكانت هدفاً ثميناً، إذ كانت طائرتان إنكليزيتان تحلقان فوق السيارة على ارتفاع حوالي 30 متراً فقط، وأطلقوا النار عليها، فأصيب رومل بإصابات بالغة.

كان رومل في غرفته في المستشفى في شبه غيبوبة تحيط برأسه وأطرافه الضمادات والأربطة، حتى عينيه كانتا معصوبتين، وعلم وهو في هذه الحالة بخبر محاولة اغتيال هتلر الفاشلة.

رومل في الفخ

كان رومل كتب بنفسه تقريراً بتاريخ 17 يوليو (تموز) قبل ذهابه إلى جبهة نورماندي، تضمن تحليلاً صريحاً وواضحاً لوضع القوات الألمانية المنخرطة في قتال مرير وميؤوس منه على الجبهة الغربية، ومما جاء فيه:

«الحلفاء سيحتلون لا محالة جبهة نورماندي خلال الأيام القليلة المقبلة، وليست للرايخ الثالث الإمكانات اللازمة لإيقاف زحف جيوش العدو ومنع انتشارها على نهر الراين واحتلالها الأراضي الألمانية، فقواتنا تتراجع على جبهة المانش وعلى الجبهة الروسية»... وأنهى رومل تقريره بهذه الجملة: «لقد خسرنا الحرب».

في أسفل التقرير المطبوع على الآلة الكاتبة، أضاف رومل بخط يده عبارة كانت سبب إدانته الرئيس: {من الضروري فوراً اتخاذ القرار المناسب نتيجة هذا الوضع، إن واجبي كعسكري يدعونني إلى مصارحتك وإلى قول الحقيقة...».

بعد محاولة اغتيال هتلر، كان من بين المتهمين بالمشاركة في المؤامرة الجنرال اسبيدل، ولما قبض عليه اعترف لدى استجوابه بأن رومل بعد انتهائه من وضع تقريره، قال له: «هذه هي فرصته الأخيرة (يقصد هتلر) وإذا لم يعمل بنصيحتي فعلينا يا اسبيدل التصرّف لإنقاذ ألمانيا»... وصلت المعلومات إلى الفوهرر فأسرها في نفسه ولم يغفر لرومل، فقد رأى فيه قائداً ثائراً يشكل خطراً عليه، ويجب إزالته من الوجود.

بعد محاولة اغتيال هتلر وقبل أن تذيعها الإذاعة على الملأ، كان جهاز الغستابو قد ألقي القبض على الآلاف من الألمان ممن يظن أن لهم يداً في العملية، وشمل ذلك عدداً من القادة العسكريين، ورجال السياسة، وتم إيداعهم السجون، وأعدم الكثير منهم بلا محاكمة في غضون ساعات، فمنهم من لقي حتفه خنقاً، أو شنقاً، أو ذبحاً، أو بالغاز، أو بالرصاص، وبمختلف طرق الموت والتعذيب.

أعدمت أجهزة هتلر المئات ممن اشتبه في تورطهم في المؤامرة، لكن واحداً له أهمية كبرى كان ما زال حياً في أحد سجون برلين يقاسي أشد أنواع التعذيب، إنه العقيد كلاز فون ستيفنبرغ الذي وضع العبوة الناسفة في الاجتماع، وتحت ضغوط رجال الغستابو التي لا توصف اعترف ستيفنبرغ بما نسب إليه، وأدلى بأسماء عدد من الشخصيات ممن ساهموا في المؤامرة، وورد في عداد تلك الأسماء اسم شهير لم ينسه هتلر أبداً.. ورومل.

استمرت الحرب بضراوة، وفي أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1944، وضمن إحدى الخزائن المصفحة داخل مقر قيادة الفوهرر، كان هتلر يحتفظ بين الوثائق السرية بملف قديم من أجل صفحة واحدة فيه كانت تدين رومل، إنه محضر استجواب العقيد كلاز فون ستيفنبرغ، الذي أشار فيه إلى اسم رومل كأحد المشاركين في مؤامرة اغتيال هتلر.

في 7 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1944 كان رومل في منزله الريفي حينما وصلته برقية من مكتب الفوهرر تطلب منه التوجه إلى برلين، فقرر عدم الذهاب، وقال لزوجته لوسي ماريا: «لست معتوهاً كي أقع في الفخ الذي نصبه لي هتلر، فإن كان يريد رأسي فليأتي ويأخذه هنا»، وسمع مساعده النقيب ألدنجر ما قاله لزوجته فتدخل معهما في الحديث قائلاً: «اسمح لي يا سيدي المارشال أن أغالطك في الرأي، فأنت تتمتع بشعبية كبرى، فلا يجرؤ أحد على التعرض لك، وأي مساس بك قد يثير ضجة كبرى في الأوساط العسكرية والسياسية والاجتماعية»... لكن رومل قال لمساعده: «أنت على خطأ يا ألدنجر، فهذا المجنون والمهووس لا يتراجع أمام أي شيء، وما يهمه هو الانتقام من الذين لفتوا انتباهه إلى الواقع المرير الذي نحن فيه، وممن عملوا على إنقاذ ألمانيا من الفوضى والاندحار».

ويبدو أن ما دعاه إلى هذا القول ما آل إليه رئيس أركانه الجنرال هانس سبيدل الذي ألقي القبض عليه ثم أُعدم في أوائل سبتمبر (أيلول) عام 1944، وهتلر لن ينسى التقرير الذي كتبه رومل وأعلن فيه أن النازيين يقودون ألمانيا إلى الخراب.

وبعد وقت قصير قال رومل لمساعده: «اتصل لي ببرلين، فأنا أريد أن أشاطرك الرأي، وأن أكون ولو لفترة وجيزة حسن النية».

اتصل المساعد بالقيادة العامة في برلين، وبعد لحظات جاءه صوت الجنرال ويلهلم بورجدورف رئيس جهاز الأفراد في الجيش الألماني، وهو معروف بطبعه الفظ، قال لرومل إن الفيلد ماريشال كايتل (رئيس الأركان ومستشار هتلر) تلقى أمراً من الفوهرر ليتناقش معك بشأن تعيينك في الجبهة التي ترغب في قيادتها وحدد لك موعداً في العاشر من الشهر الجاري، فردّ رومل مذكراً محدثه بأنه لا يزال معفياً من كل عمل عسكري ولمدة أشهر، وأن أطباءه منعوه من السفر والحركة لخطورة ذلك على صحته.

وأمام إصرار محدثه على الحضور إلى برلين أجاب رومل: «نقاهتي لن تنتهي قريباً، وسأخضع لفحوص طبية جديدة في الأسبوع المقبل».

قطع ويلهلم بورجدروف الاتصال الهاتفي مع رومل بعد هذه الجملة، لكن الأخير بقي بعدها، حسبما صرح ألدنجر لاحقاً، قلقاً ومضطرب الأعصاب، ومنزعج الخاطر، وراح يقطع الغرفة ذهاباً وإياباً متسائلاً عن القيادة التي سيسندها إليه هتلر... إنها من دون شك الجبهة الشرقية، ودار حديث قصير بينه ومساعده بشأن أهمية الجبهة الشرقية التي يقف عليها الجيش الروسي ومدى خطورتها.

فيما كانت أفكار رومل تتجه نحو الجبهة الشرقية وتنشر خطورتها على أوروبا كلها، كان في مقر القيادة العامة ثلاثة أشخاص يرأسهم بوجدروف يخططون لتنفيذ ما انتواه هتلر بشأن القضاء على رومل من دون إثارة ضجة.

محاصرة منزل المارشال

بعد مكالمة رومل مع بورجدروف مرت أربعة أيام هادئة لا تحمل جديداً بالنسبة إليه، حتى جاء صباح الخميس 12 أكتوبر 1944، إذ طرق باب بيته زائر صديق هو الأدميرال فريدريش الذي كان معاونه البحري في جبهة فرنسا، وخلال حديثهما قال رومل: «هتلر ذلك الرجل المعجون بالكذب قد أصبح مجنوناً... يريد التخلص مني وسيعمل جهده لتحقيق ذلك، لكني لن أمكنه»، فكان رد صديقه بطريقة أقرب إلى السخرية: «هذا إذا كان بإمكانك الإفلات منه... وإذا كانت ثمة فرصة لمشاهدته وهو ما زال حياً».

في مساء اليوم نفسه تلقى رومل برقية من ثلاث كلمات تقول: «بورجدروف آت لعندكم».

في صباح اليوم التالي (13 أكتوبر) بينما رومل يصطحب ابنه الوحيد منفريد ويتمشيان في حديقة المنزل، كان رجال الأمن من جهاز الغستابو يترجلون من شاحنات عسكرية ويحاصرون منزل رومل، حيث وزعت قوات على مداخل البلدة كافة، وتمركزت على مفارق الطرقات المهمة، وسدّت المنافذ لإجهاض أي محاولة للهروب أو المقاومة.

في حوالي الساعة الحادية عشرة صعد رومل إلى غرفته في الطابق الأول، وعاد بعد قليل إلى مكتبه مرتدياً بزة الميدان العسكرية التي كان يرتديها في حرب إفريقيا، ولم يندهش منفريد من لباسه غير المألوف، لكنه أيقن أن والده في انتظار ضيف مهم، وفي هذه الأثناء كان ألدنجر يحمل ملفاً ويلحق برئيسه في غرفة المكتب واختليا ببعضهما بعض الوقت.

عندما دقت الساعة الثانية عشرة، كانت سيارة مكشوفة خضراء اللون يقودها أحد رجال الغستابو، تتوقف أمام مدخل منزل رومل الرئيس، وفوراً ترجّل منها جنرالان ثم دخلا المنزل مسرعين، ومن خلف زجاج إحدى النوافذ كان ألدنجر يراقب القادمين، فعرفهما، لقد كانا الجنرال بورجدروف ومعاونه الجنرال إرنست مازيل.

دخل الجنرالان قاعة الاستقبال وكان فيها رومل وزوجته وابنه، وفوراً طلبا الاختلاء برومل.

مرت ساعة كاملة على تلك الخلوة، ثم انفتح باب قاعة الاستقبال، حيث خرج رومل وصعد السلم وتوقف أمام زوجته التي كانت مذعورة من ملامح وجهه الشاحبة، ووقف أمامها كالصنم وهو يقول: «بعد ربع ساعة سأكون في عالم الأموات»... صرخت زوجته وانفجرت في البكاء، وفي تلك اللحظة حضر منفريد وسمع والده يقول لأمه: «لقد خيروني بين السم أو العار... يريدونني أن انتحر»، ثم التفت نحو ابنه وقال له: «يا منفريد يا ابني الحبيب، لمصلحتك ولمصلحة والدتك أريد ذلك... وبصفتي جندياً يتمسك بمبادئ الشرف ليس أمامي أي مخرج آخر غير الموت».

سمع منفريد ما تفوه به والده، فدارت الدنيا به، ورأى الحياة كالسراب أو كحلم يتبخر مع طلوع الفجر، ولاشعورياً أخذت مخيلته تسجل كل واقعة وكل حركة وكل كلمة.

الموت أو الموت!

في الطابق السفلي، كان الجنرالان، «رسولا الموت»، يجوبان القاعة بخطاهما ذهاباً وإياباً، وهما في حالة قلق ينظران تارة إلى ساعتهما، وتارة إلى الطابق العلوي منتظرين بفارغ الصبر عودة رومل الذي كان طلب 10 دقائق فقط لتوديع زوجته وابنه.

كان الجنرالان خلال ساعة اختلائهما برومل واجهاه بقرار الفوهرر بالتخلص منه، على أساس أنه متآمر عليه، وخيراه بين الانتحار وحفظ تاريخه العسكري، أو أن المحاكمة ستحكم عليه بالإعدام ويضيع تاريخه كله، فقبل رومل بالحل الأول، وعندها تقدم بوجدروف نحو رومل وقال له: «كلفني الجنرال كايتل بأن أضع تحت تصرفك هذا الأنبوب من السم»، ثم أضاف الجنرال إرنست مازيل: «لهذا السم مفعول صاعق، إنه يقضي على الإنسان في أقل من ثلاث ثوانٍ!».

ودع رومل زوجته وابنه ومساعده ألدنجر، وخرج برفقة جلاديه نحو السيارة بخطى ثابتة، مرفوع الرأس عالي الجبين، يقبض تحت إبطه بعصا المارشالية المصنوعة من الذهب الخالص والقطيفة الحمراء المزينة برسوم النسور والصلبان المعقوفة، وألقى نظرة أخيرة على منزله ثم استقل السيارة المعدة لنقله من دون أن يلتفت إلى الوراء، بينما كانت زوجته تلاحقه بنظراتها من خلف النافذة.

جلس رومل على مقعد السيارة الخلفي بجوار جلاديه، وقاد السيارة سائق من الغستابو اسمه دوز، واجتازت السيارة إحدى الغابات، وبعد حوالي ثلاثة كيلومترات توقفت، وكان رومل تناول السم.

ترجل الجنرالان والسائق وابتعدوا سيراً على الأقدام، وعادوا بعد حوالي خمس دقائق، ووجدوا رومل جالساً ونصفه الأعلى منحنياً إلى الأمام، وعصاه المارشالية ملقاة بين رجليه. كان يلهث وتتخلّل لهاثه شهقات رهيبة تهز جسده هزاً، وبقي على هذه الحال أكثر من 10 دقائق، لقد كان مفعول السم بطيئاً على غير ما قالوا له.

انطلقت السيارة بجثمان رومل إلى المستشفى العسكري في مدينة أولم، وعاين أحد الأطباء الجثة، وبناء على طلب الجنرال بورجدروف كتب الطبيب تقريره الذي أكد فيه أن الوفاة حدثت نتيجة نزيف في الدماغ بفعل كسور أصابت جمجمة المتوفي في حادث نومانديا!

تطبيقاً للخطة المرسومة، نعت الدولة رومل رسمياً في الإذاعة والصحف، وأقامت له مأتماً كبيراً يليق بالأبطال، ومشي في جنازته كبار رجال الدولة وقادة الجيش، وممثلو الدول، وتقدمت النعش فرق الموسيقى العسكرية، وارتفعت أمامه رايات الجيوش والفرق والألوية التي كان له شرف قيادتها، وواكبته وحدات عسكرية منكسة السلاح، حتى ووري في التراب، وأقيمت له مقبرة تليق باسمه وبتاريخه.


http://www.aljarida.com/AlJarida/Resources/ArticlesPictures/2009/09/18/129173_romel-3.jpg
وسط جنوده

http://www.aljarida.com/AlJarida/Resources/ArticlesPictures/2009/09/18/129173_romel-4.jpg
رومل أثناء معركة العلمين

http://www.aljarida.com/AlJarida/Resources/ArticlesPictures/2009/09/18/129173_romel-2.jpg
صورة تجسد معركة العلمين