مقاوم
09-16-2009, 09:19 PM
أحمد شهاب - أوان
كاتب من الكويت
2009/09/16
علي شريعتي، المولود في قرية «مزينان» التابعة لمدينة مشهد الإيرانية سنة 1933م، والمشارك الرئيس في نشاط حركة المقاومة التي أسسها آية الله زنجاني، وآية الله طالقاني، ومهدي بازركان، المناهضة لحكم الشاه، حصل على الدكتوراه في فرنسا في تاريخ الأديان وعلم الاجتماع، وذاع صيته بسبب محاضراته الشهيرة في حسينية الإرشاد، واعتبره البعض المنظر الأول للثورة الإسلامية في إيران، بسبب آرائه الثورية وقدرته على تفعيل الجماهير، واستشهد مسموما ولم يتجاوز حينها الرابعة والأربعين عاما.
لشريعتي أيضا كتاب جميل، صغير في قالبه، كبير في محتواه، بعنوان «الدعاء»، في هذا الكتاب يعرض تصوراته لأهمية الدعاء في حياة الفرد والمجتمع، ويحاول كما في أغلب كتبه ومؤلفاته التي تربو على الثلاثين مؤلفا، من أشهرها «التشيع العلوي والتشيع الصفوي»، «دين ضد الدين»، و«العودة إلى الذات»، و«النباهة والاستحمار»، وقد تُرجمت إلى 15 لغة حية، أقول حاول أن يقدم شريعتي خلالها أبعادا غير مطروقة من قبل حول موضوع البحث، وهو الدعاء.
يعرض شريعتي وجهتي نظر متباينتين حول الدعاء، الأولى تلك التي تنظر إلى الدعاء باعتباره عقارا مخدرا، وهروبا من أداء الواجبات والتكاليف في الحياة، فالدعاء لديهم حافز إلى الكسل، يغنيهم عن العمل، وبذل الجهد المطلوب للإنجاز، والتقدم على مستوى الساحة، فهو أقرب إلى التواكل منه إلى التوكل على الله، والثانية تنظر إلى الدعاء بوصفه يزيد القوة قوة إضافية، ويمنح طاقة الخير القدرة على البقاء والديمومة، فهو يأتي بعد العمل والسعي في الأرض، وليس بديلا عن ذلك، ويميل شريعتي بطبيعة الحال إلى وجهة النظر الثانية، ويستند إلى سيرة ارباب الدعاء في الاسلام، وعلى رأسهم الرسول الأكرم والإمام علي بن أبي طالب.
ما أثار رغبة شريعتي بالكلام حول هذا الموضوع بالذات، إطلاعه على كتاب «الدعاء» للفيلسوف والعالم الفرنسي الكسيس كارل (Alexis Carrel) (1873-1944م)، وميزة الكسيس كما يقول شريعتي، أنه ليس فيلسوفا حدته تأملاته إلى الدعاء، أو راهبا في الدين يخوض في ميدان المناجاة والتبتل، وإنما هو دكتور متخصص في علم التشريح وعلم الأنسجة، والحاصل على جائزة نوبل في الطب مرتين، وميدانه الأساسي هو المختبرات العلمية، ويؤكد هذا الطبيب الحاذق، في كتابه الآنف الذكر على أهمية الدعاء في بناء الصحة الجسدية والروحية للفرد، فهو يعتبر «الدعاء وظيفة طبيعية للروح والجسد في آن معاً، بحيث لا يمكن الاستغناء عنها أبداً».
ويرى الكسيس أن «المجتمع الذي يقمع في نفسه روح الحاجة إلى الدعاء، سوف لن يكون مصوناً من الفساد والزوال»، ولذا فهو يدعو إلى التعامل بأهمية بالغة مع الدعاء، بحيث يتغلغل في الأعماق، وليس مجرد كلمات تُرتل بصورة سريعة أو نمطية «فالدعاء معراج روحي للإنسان نحو الله، وبالدعاء يتغلغل الله في أعماق ذواتنا».
وهكذا يتبدى له أن الدعاء ضرورة لا يُمكن الاستغناء عنها في مسلك رُقي الإنسان وسموه نحو الأفضل والأكمل، وحسب تعبير الكسيس كارل فإن الدعاء متى ما «ضعُف في قوم وأُهملت سننه، كانت إشارة على انحطاط القوم وعجزهم، فالمجتمع متى انصرف عن التعبّد والدعاء أعد في نفسه مناخا لجراثيم الانحطاط والاضمحلال والضعف والعجز».
ينظر شريعتي إلى الدعاء بوصفه المائز بين المجتمعات العبثية والمجتمعات الهادفة، فالأولى يقتصر تفكيرها على نيل اللذة ضمن سياق فلسفي يرى الحياة عبثية وتافهة، والوجود بلا تدبير، والكون يدار بلا عقل، بينما الثانية تتطلع نحو السمو والتكامل الإنساني، وفق فلسفة تنظر إلى الحياة بجدية، ويسعى الفرد فيها إلى ربط نفسه بروح كبيرة شاملة، فالدعاء هنا يُمثل تجلي الروح إلى أبعد من اللذات المادية، وسعيا نحو إحراز الأرفع والأشمل والأكمل.
وفي أيسر تعريفاته، يَبسُط شريعتي معنى الدعاء بكلمة الإرادة، فهو بنظره تعبير عن تكرار الإرادة والاحتياج، وتلقين ما في العقيدة من أصول، والمحافظة على إرادة الانسان وعقائده المقدسة (والتعبير لشريعتي)، ويرى أن الدعاء لا يكون رفيعا إلا إذا تطلع إلى ما هو أبعد من حياتنا الدنيا هذه، فالدعاء معراج نحو الأبد، وتحليق صوب القمة المطلقة، وتصعيد في ما وراء ما هو موجود، ودون ذلك فإن الروح تبقى في قيود المادة الحقيرة المبتذلة.
فلسفة الدعاء في هذا الخصوص لا تقف عند طلب العبد من ربه استجابة دعائه، بل هي تتجلى بصورة أكبر في تفاعل العبد مع مولاه من جهة، ومع آلام الآخرين من جهة أخرى، لذا قيل أن الدُّعاء يُحقق مقصده حتى إذا لم يتحقق الطلب، لأنه فعل مطلوب لذاته، إذ إن القيمة الحقة تتجلى في أظهر صورها بألم الإنسان من أجل معاناة الآخرين وآلامهم، وتوجهه نحو منغصات عيشهم. فالدعاء عند شريعتي هو وسيلة لتلقين النفس، على أن تظل على تطلع دائم إلى الأهداف والطموحات الإنسانية السامية.
Ahmed.shehab@awan.com
كاتب من الكويت
2009/09/16
علي شريعتي، المولود في قرية «مزينان» التابعة لمدينة مشهد الإيرانية سنة 1933م، والمشارك الرئيس في نشاط حركة المقاومة التي أسسها آية الله زنجاني، وآية الله طالقاني، ومهدي بازركان، المناهضة لحكم الشاه، حصل على الدكتوراه في فرنسا في تاريخ الأديان وعلم الاجتماع، وذاع صيته بسبب محاضراته الشهيرة في حسينية الإرشاد، واعتبره البعض المنظر الأول للثورة الإسلامية في إيران، بسبب آرائه الثورية وقدرته على تفعيل الجماهير، واستشهد مسموما ولم يتجاوز حينها الرابعة والأربعين عاما.
لشريعتي أيضا كتاب جميل، صغير في قالبه، كبير في محتواه، بعنوان «الدعاء»، في هذا الكتاب يعرض تصوراته لأهمية الدعاء في حياة الفرد والمجتمع، ويحاول كما في أغلب كتبه ومؤلفاته التي تربو على الثلاثين مؤلفا، من أشهرها «التشيع العلوي والتشيع الصفوي»، «دين ضد الدين»، و«العودة إلى الذات»، و«النباهة والاستحمار»، وقد تُرجمت إلى 15 لغة حية، أقول حاول أن يقدم شريعتي خلالها أبعادا غير مطروقة من قبل حول موضوع البحث، وهو الدعاء.
يعرض شريعتي وجهتي نظر متباينتين حول الدعاء، الأولى تلك التي تنظر إلى الدعاء باعتباره عقارا مخدرا، وهروبا من أداء الواجبات والتكاليف في الحياة، فالدعاء لديهم حافز إلى الكسل، يغنيهم عن العمل، وبذل الجهد المطلوب للإنجاز، والتقدم على مستوى الساحة، فهو أقرب إلى التواكل منه إلى التوكل على الله، والثانية تنظر إلى الدعاء بوصفه يزيد القوة قوة إضافية، ويمنح طاقة الخير القدرة على البقاء والديمومة، فهو يأتي بعد العمل والسعي في الأرض، وليس بديلا عن ذلك، ويميل شريعتي بطبيعة الحال إلى وجهة النظر الثانية، ويستند إلى سيرة ارباب الدعاء في الاسلام، وعلى رأسهم الرسول الأكرم والإمام علي بن أبي طالب.
ما أثار رغبة شريعتي بالكلام حول هذا الموضوع بالذات، إطلاعه على كتاب «الدعاء» للفيلسوف والعالم الفرنسي الكسيس كارل (Alexis Carrel) (1873-1944م)، وميزة الكسيس كما يقول شريعتي، أنه ليس فيلسوفا حدته تأملاته إلى الدعاء، أو راهبا في الدين يخوض في ميدان المناجاة والتبتل، وإنما هو دكتور متخصص في علم التشريح وعلم الأنسجة، والحاصل على جائزة نوبل في الطب مرتين، وميدانه الأساسي هو المختبرات العلمية، ويؤكد هذا الطبيب الحاذق، في كتابه الآنف الذكر على أهمية الدعاء في بناء الصحة الجسدية والروحية للفرد، فهو يعتبر «الدعاء وظيفة طبيعية للروح والجسد في آن معاً، بحيث لا يمكن الاستغناء عنها أبداً».
ويرى الكسيس أن «المجتمع الذي يقمع في نفسه روح الحاجة إلى الدعاء، سوف لن يكون مصوناً من الفساد والزوال»، ولذا فهو يدعو إلى التعامل بأهمية بالغة مع الدعاء، بحيث يتغلغل في الأعماق، وليس مجرد كلمات تُرتل بصورة سريعة أو نمطية «فالدعاء معراج روحي للإنسان نحو الله، وبالدعاء يتغلغل الله في أعماق ذواتنا».
وهكذا يتبدى له أن الدعاء ضرورة لا يُمكن الاستغناء عنها في مسلك رُقي الإنسان وسموه نحو الأفضل والأكمل، وحسب تعبير الكسيس كارل فإن الدعاء متى ما «ضعُف في قوم وأُهملت سننه، كانت إشارة على انحطاط القوم وعجزهم، فالمجتمع متى انصرف عن التعبّد والدعاء أعد في نفسه مناخا لجراثيم الانحطاط والاضمحلال والضعف والعجز».
ينظر شريعتي إلى الدعاء بوصفه المائز بين المجتمعات العبثية والمجتمعات الهادفة، فالأولى يقتصر تفكيرها على نيل اللذة ضمن سياق فلسفي يرى الحياة عبثية وتافهة، والوجود بلا تدبير، والكون يدار بلا عقل، بينما الثانية تتطلع نحو السمو والتكامل الإنساني، وفق فلسفة تنظر إلى الحياة بجدية، ويسعى الفرد فيها إلى ربط نفسه بروح كبيرة شاملة، فالدعاء هنا يُمثل تجلي الروح إلى أبعد من اللذات المادية، وسعيا نحو إحراز الأرفع والأشمل والأكمل.
وفي أيسر تعريفاته، يَبسُط شريعتي معنى الدعاء بكلمة الإرادة، فهو بنظره تعبير عن تكرار الإرادة والاحتياج، وتلقين ما في العقيدة من أصول، والمحافظة على إرادة الانسان وعقائده المقدسة (والتعبير لشريعتي)، ويرى أن الدعاء لا يكون رفيعا إلا إذا تطلع إلى ما هو أبعد من حياتنا الدنيا هذه، فالدعاء معراج نحو الأبد، وتحليق صوب القمة المطلقة، وتصعيد في ما وراء ما هو موجود، ودون ذلك فإن الروح تبقى في قيود المادة الحقيرة المبتذلة.
فلسفة الدعاء في هذا الخصوص لا تقف عند طلب العبد من ربه استجابة دعائه، بل هي تتجلى بصورة أكبر في تفاعل العبد مع مولاه من جهة، ومع آلام الآخرين من جهة أخرى، لذا قيل أن الدُّعاء يُحقق مقصده حتى إذا لم يتحقق الطلب، لأنه فعل مطلوب لذاته، إذ إن القيمة الحقة تتجلى في أظهر صورها بألم الإنسان من أجل معاناة الآخرين وآلامهم، وتوجهه نحو منغصات عيشهم. فالدعاء عند شريعتي هو وسيلة لتلقين النفس، على أن تظل على تطلع دائم إلى الأهداف والطموحات الإنسانية السامية.
Ahmed.shehab@awan.com