المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أصفهان وتاريخ إيران الحاضر



زوربا
09-11-2009, 10:41 AM
د. مصطفى اللباد - الجريدة

http://www.aljarida.com/AlJarida/Resources/AuthorsPictures/د.%20مصطفى%20اللباد_thumb.jpg


info@aljarida.com

تسافر بالطائرة مدة ساعة من العاصمة طهران قبل أن تهبط في مطار أصفهان الدولي الواقع في شمال شرق أصفهان، والذي يربط بين المدينة وبقية المدن الإيرانية. على الرغم من استئثار العاصمة طهران بمظاهر الجاذبية السياسية، فإن أصفهان لا تعدم هي الأخرى جاذبيتها السياسية، وأيضاً تعاطف شرائح سكانية كبيرة بها مع التيار الإصلاحي مثلها مثل طهران. تمتاز أصفهان بلطف المناخ لأنها تقع بجوار سلسلة جبال زاغروس الضخمة، ويصب نهر زاينده رود (النهر الخالد) إلى الشرق منها، مناخها لطيف ومعتدل، وهطول الأمطار فيها قليل. وتحوي أصفهان، بالإضافة إلى مزارعها الخضراء، مصانع مهمة للصناعات النفطية، ومصانع النسيج، وتشتهر بسجادها الفاخر الرقيق السماكة والغالي السعر، يبلغ عدد سكان المحافظة أربعة ملايين شخص، في حين يبلغ عدد سكان عاصمتها حوالي مليوني شخص. تناهز مساحة أصفهان حوالي مئة ألف كيلومتر مربع، وهي المدينة الثانية من حيث العدد السكاني والأهمية الاقتصادية والسياسية بعد العاصمة طهران. وهي مركز نشيط للاقتصاد وسكانها مشهورون بين الإيرانيين بالحرص على الأموال وادخارها.

تتجاور في أسباهان أو أصفهان، التي اشتهرت بوصفها 'نصف جهان' (نصف العالم بالفارسية) الديانات السماوية الثلاث الإسلامية والمسيحية واليهودية، بالإضافة إلى الزرادشتية، والأخيرة هي ديانة إيران القديمة قبل الإسلام. سميت المدينة بمدينة الفوارس، وهذا اللفظ لا يبعد عن كلمة 'أسب' المكونة للشق الأول من اسم المدينة والتي تعني بالفارسية الحصان. ويقال أيضاً إن كلمة أصفهان أو إسباهان مشتقة من كلمة 'سباه' التي تعني الجيش الضخم، مما يدل على أن المدينة كانت قلعة ومعقلاًً للجيوش منذ الحكم الإشكاني والساساني قبل الفتح الإسلامي.

غزاها الإسكندر الأكبر المقدوني عام 334 قبل الميلاد، واعتبر الإسكندر نفسه خليفة للملوك الأخمينيين فحاول محاكاة البلاط الفارسي وعاداته، مثلما حاول تكوين ثقافة جديدة خلطت ومزجت بين الحضارتين الهيلينية والفارسية. ولكن منذ انتصار الفاتحين العرب على كسرى يزدجرد الثالث، آخر ملوك الساسانيين، حوالي عام 20 هجرية، أي بعد فتح القدس بثلاث سنوات، فقد تقدمت أصفهان لتحتل مكانها بين المدن الإيرانية المختلفة، حيث يفتخر سكان أصفهان بأن الصحابي الجليل سلمان الفارسي كان من مدينتهم. يقول مولانا محيي الدين بن عربي، قطب العرفان الأشهر عن أصفهان:

من بنات الملوك من دار فرس

من أجل البلاد من أصبهان

هي بنت العراق بنت إمامي

وأنا ضـــدها ســليل يمـاني

وذهب الرحالة الإيراني الأشهر ناصر خسرو إلى القول: 'لم أجد في أرض فارس مدينة أكثر جمالاً وعمراناً من أصفهان'.

أصفهان هي الحاضرة الكبيرة الواقعة في وسط الجغرافيا الإيرانية بين مدينتي طهران وشيراز، ومرد أهمية المدينة أنها الوعاء التاريخي الأقرب إلى الوجدان الفارسي، وهي الحاوية لآثار الدولة الصفوية التي حكمت إيران منذ مطلع القرن السادس عشر حتى الثلث الأول من القرن الثامن عشر. وكانت أصفهان عاصمة الصفويين الأثيرة باعتبارها، وكما تقول المصادر التاريخية، 'لسان الزمان وبهجة المكان'.

وإذ شيدت مدينة أصفهان العريقة عام 500 قبل الميلاد، لكن معناها التاريخي المتجدد ودلالاتها السياسية باعتبارها عاصمة الصفويين مازال حاضراً في الذاكرة الوطنية الإيرانية بالرغم من زوال الدولة الصفوية قبل حوالي ثلاثمئة عام. وربما لم تترك سلالة حاكمة طابعها وتأثيرها على إيران مثلما فعلت الدولة الصفوية، فمنذ الفتح الإسلامي حتى قيام تلك الدولة لم تنهض إيران حاضرة كبيرة في محيطها الجغرافي مثلما نهضت في عصر الصفويين. ومنذ زوال دولة الصفويين لم تعد لأصفهان مكانتها وتميزها، حيث فقدت دورها كعاصمة لمصلحة نيسابور أولاً ثم طهران لاحقاً.

يعود السبب في اختيار الصفويين لأصفهان عاصمة لملكهم بدلا من مدينة قزوين التي بدأوا بها كعاصمة، إلى أن أصفهان تبعد عن الإمبراطورية العثمانية مقارنة بقزوين، وهو اعتبار له أهميته الاستراتيجية الفائقة، لأن ذلك سيجعل عاصمة الصفويين بمنأى عن الغزوات العثمانية، كما أن أصفهان تقع في حضن الجبل وبحيث يصعب فتحها، مقارنة بمدينة قزوين عاصمتهم الأولى، وأخيراً لأن المدينة تقع على طريق القوافل التجارية إلى الهند. تقول المراجع التاريخية إن منجِّمي ذلك الزمان اعتقدوا بكارثة ستحل على مدينة قزوين؛ فأخبروا الشاه عباس الذي قرر نقل العاصمة بعيداً عن قزوين، ولكن الاعتبارات الاستراتيجية والتجارية تبدو عند تقليب النظر في الأمور الأساس لانتقال العاصمة إلى أصفهان. ولم يكتف الصفويون بتغيير العاصمة فقط، بل ذهب خيالهم إلى أبعد من ذلك بكثير حتى وصل إلى رمزية العلم الإيراني وتصميمه المميز. صحيح أنه منذ عصر ظهور قبيلتي 'بارس' و'ماد' فقد اتخذتا 'الشمس' و'الأسد' علماً لهما ولم يكن اختراعاً صفوياً، فالرمزان يتناغمان مع عقائد المنجِّمين الإيرانيين؛ حيث الشمس وفقاً لمعتقدات الإيرانيين القدماء هي حلقة الاتصال بين الإله والكائنات، مثلما يعد الأسد علامة لانتصار الحياة على الموت وانتصار فصل الربيع على فصل الشتاء.

نرى ملوك الأساطير الإيرانية في 'الشاهنامه'- ملحمة فردوسي الأشهر- قد صمموا أعلامهم بالشمس والأسد الذي يمسك بيده سيفاً. وعندما جاء الشاه عباس الكبير الصفوي إلى حكم إيران وانتقلت عاصمة الملك إلى أصفهان؛ أعاد الاعتبار إلى العلم الإيراني، فاختار الشمس والأسد مرة أخرى. ويرتبط هذان الرمزان بمدينة أصفهان حتى اليوم؛ وهو ما تجده منقوشاً بوضوح على الصنائع اليدوية الأصفهانية الجميلة. ومثلما كان إعلان التشيع مذهباً رسمياً لإيران، وانتقال إيران من مذهب السُنّة إلى مذهب الشيعة بقرار من الشاه الصفوي، يستهدف تكريس التناقض مع الإمبراطورية العثمانية، فقد كان اختيار الشاه الصفوي أيضاً الشمس رمزاً للعلم الفارسي بهدف سياسي عميق، وذلك حتى يرسِّخ التصادم الرمزي مع القمر الذي زيَّن علم الدولة العلية العثمانية.

مازال التاريخ حاضراً في أصفهان، وسيجد كل من يريد التمهل عند منعطفات تاريخ إيران الكثير من العبر والدروس الصالحة للاستزادة منها حتى في وقتنا الراهن!

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة.