المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السيستاني.. سؤال لم تكتمل الإجابة عليه ..!



جمال
08-31-2004, 10:06 AM
علي الدباغ *
* خبير في المرجعية الشيعية


يطالعك بوجهه الهادئ ، ونظراته العميقة بأن وراءهما جبلاً من الغموض، ، فيدفعك الفضول لأن تستنطقه لتكتشف بماذا يفكر الرجل؟ وماذا يريد ؟ وكيف يقلب الأمر في رأسه الذي امتلأ بأكثر من ستين سنة بعلوم تبدو أحياناً انها لا تترابط مع بعضها، ابتدأها بالقرآن ولم ينته من القراءة منها ، وهو معصوب من احدى عينيه عند اجراء عمليه جراحية لها مؤخرا في لندن ، وينظر بواحدة كفاءتها أقل من 70% ، وهذا الرجل ينام قليلاً ، ويقرأ اكثر مما ينام ، ويفكر أكثر مما يقرأ، فبماذا يفكر؟

ليس من السهل أن تفك رموز هذا الغموض لأنك تحتاج الى ان تتسلح بعدة ادوات، هذه الادوات هي الغوص في تاريخ الف سنة من الحوزة الشيعية برجالها ، واسلوب التدريس فيها ، ومراحل الصعود فيها، ومناهج التدريس والجلوس على الأرض، والعيش في حياة متقشفة يُجبر عليها من يطلب هذا العلم ، لأن كل ما يصل يديه من مال لا يكفي غير رغيف خبز ، وبعض من نبات الأرض ، ولا يؤكل فيها اللحم الاّ في المناسبات أو الولائم . وان كان هذا التقشف ليس زهداً ولا اختياراً، لكنه في النتيجه يروض النفس في يوغا إلزامية أشبه بالحرمان ، لتنتج قوة نفس تعاند الهوى والترف ، وتنتج روحاً خفيفة تقترب من الشفافية ، وأحيانا تلامسها .

ومع هذه الروح يصل الرجل منهم الى بحوث من العلم متقدمة لا يرقى اليها قبل سن الأربعين ، فاذا اجتمعت شفافية الروح واكتساب العلم ، فانه يصبح آية الله . والقليل منهم يرتقي لآية الله العظمى ، وباقي القليل يطلق عليهم «فضلاء» ، وكثير منهم يسقط في رياضة النفس ولا يستطيع ان يعاند ويخالف هواه ، وبذلك يبقى في موضعه يدور ولا يرتقي الى العظمى ، بل يبقى استاذاً في الحوزة العلمية.

آية الله العظمى هذا يتبعه مقلدون واتباع يأخذون فقه العبادات والمعاملات من كتاب يوزعه يطلق عليه اسم «الرسالة العملية»، ويدفعون له 20% من مالهم، ويجتهد فيها في موارد لم ترد فيها نصوص. ولا يقترب من الشأن السياسي بل يتركه لأهل السياسة، وهذا تقليد فرضه غياب الامام المعصوم «المهدي المنتظر» الذي غاب عام 329 هـ، ، وينتظر الشيعة ظهوره من بعد غياب. أما السنة فعندهم انه أحد الاشخاص الموجودين على الأرض وقت ان يأذن الله.

هذا السيستاني يعود الى مدرسة تقليدية ابتعدت عن الممارسة اليومية للسياسة ، وظلت تراقب الوضع عن بعد ولا تتدخل . ولكنها عندما ترفع يدها، معترضة على سلوك الحاكم ، فمعنى ذلك ان الأمر قد تجاوز حداً لا يمكن السكوت معه، واذا وجد ان الأمر لا يجدي معه رفع الصوت ، أو ان صوته احياناً يكون غير مسموع ، فيحني رأسه للعاصفة وينكفئ ليحافظ على ما تبقى له من قوة، لذلك فهو يمارس أقسى درجات الضبط في حديثه ، وفي رأيه ، لئلا يفسر كلامه على نحو لا يريده .

ولكنه عندما يتكلم في الشأن العام فانه يتكلم احياناً في عموميات تستطيع ان تجد لها تفاسير مختلفة ليبقي لنفسه منفذاً يخرج منه. هذه الرمادية في القول أنقذت هذه المدرسة من بطش الحكام و تربصهم لأن ينزلوا ضربة قاضية بهم.

هذا السيستاني الذي لا يقبل ان يتم تصويره ، ولا يخرج على الملأ ليخاطب العموم أو كما يسمونهم العوام ، يبقي هذا الغموض صنو حركته، وسكوته صنو حديثه، أعطاه قوة اضافية لم تمنح لأولئك الذين يظهرون ويتحدثون عبر الشاشات الصغيرة.

هذا السيستاني امتنع عن الخروج لعتبة بيته احتجاجاً على المحتل الذي قدم العراق . ورفض ان يلتقي ممثل المحتل حتى لدقائق معدودة عادة ما يلتقي بها زواره ، فأشاع نمطاً جديداً في مفهوم المقاومة وهي المقاومة المدنية التي استعار فيها من المهاتما غاندي ، الذي يعجبه نموذج مقاومته للانكليز في توجيه الشيعة في العراق لمقاومة محتل لم يفهم ثقافة شعب عريق ، اجتمعت فيه كثير من مقومات الحضارة . وقد ظل يكرر على زائريه اسألوا جنود هذا المحتل متى تغادرون ارضنا ؟ في موازنة متعقلة وحكيمة وواعية ، توازن متطلبات مقاومة الاحتلال أو الانزلاق لفوضى اقتتال لا تعرف نهاياته وسط عدم تكافؤ في القوة.

هذا الذي يبدو صامتاً ، تفاجأ ان تم نقل القتال اليه والى مدينته التي يعتبرها الشيعة عاصمتهم الروحية، لوجود زوج فاطمة وابن عم رسول الله في جنباتها ، ووجود انبياء الله آدم و نوح يتقاسمون قبره ، وهود وصالح يجاورونه ، وفيها اكبر مقبرة في العالم يحرص الشيعة على أن يناموا نومتهم الابدية تحت ترابها لينجوا من حساب القبر.

هذه المفاجأة التي داهمت الرجل عند ابواب بيته ، من شاب في مقتبل عمره ، اسمه مقتدى محمد صادق الصدر ، يجاهد لأن يأخذ شكل آية الله، ويعبر كل حلقات الدرس ويختزل زمنها بثورية عنيفة توظف اسم الأب والعائلة والزي الديني ، ومفردات الحوزة الناطقة في مشروع لا تتضح معالمه. ويبدو انه بدون نهايات ، حيث نهاياته مفتوحه لاحتمالات شتى ليس منها بناء الامة أو بناء الوطن. وهذه المفاجأة لم يقرأها السيستاني في تاريخ النجف ، لانها لم تكتب ولم تحصل ، فكيف يتعامل معها؟ وهذا الشاب يدعي انه يأتمر بأمر المرجعية ، ولا يصرح من هي تلك المرجعية . هل هي التي تبعد عنه أمتاراً حيث يجلس ، أو تلك النائية في قم تنظر (كاظم الحائري) ، وهي جالسة على أريكة مريحة ، تعتقد بأنها تملك بعضاً من المفاتيح لأقفال غير موجودة على أبواب من الوهم.

هذا الشاب جاء بلحمه ودمه يطرق باب السيستاني ، يلوذ به في أكتوبر 2003 لينقذ مجموعة من أتباعه أرادت أن تأخذ حرمين في كربلاء ، لهما مثل قدسية حرم النجف وهما حرم الحسين والعباس ولدَي علي بن ابي طالب، لكنه رجع بيد خالية لم تسعفه لأن ينتمي فيها الى هذا الصرح العالي ، يجالس فيه آيات الله، فعاد يجول ويصول ليسمع صوته لبغداد التي أدارت له ظهرها بمجلس حكمها ومحتلها . وظل يقول ويقول، ثم يقول ويضرب ، ثم بدأ يضرب ويضرب الى ان كبر حجمه وامتد جنوباً وجنوباً ، وجاء ثانية في ايار 2004 الى السيستاني شاكراً ، وابناً يريد أن يطيع ما يأمره به أبوه ، فوجد النصيحة تحرمه من صولجان يخطف البصر، ومال يتدفق على أعتابه من الجار والأخ، ورباط خيل لم يعهده من قبل ودفع للمقاومة والجهاد من هذا الجار لموت يٌشترى بورق من الدولار.

ودارت رحى قتال لا يبقي ولا يذر ، بين وزير دفاع يستهويه عرض عضلات خاوية ، ويبدو حازماً وهو يحمل من الحزم اسماً فقط ، وبين مقتدى الصدر، والسيستاني يحزم حقائبه ليصلح شرياناً انغلق في قلبه ، وليس له الا لندن لتفتح له هذا الشريان ، وعين امتلأت بماء أبيض لم يعد يرى بها ، واضطر معها لأن يغادر مدينة النجف التي بدأ فيها الحريق ، مما فتح شهية تأويلات خصبة عن سبب هذا السفر، لم يرقَ أي منها الى كبد الحقيقة التي آلمه ان يسمعها وهو يدخل الى غرفة العمليات.

وفتح عينه بعدها يسأل من حوله عن النجف وعن العراق ومتى يستطيع ان يرجع اليها ما دام قد خرج من تلك الغرفة ، وجلس في دارة متواضعة بعيدة عن الانظار والعيون ، يرى عبر شاشة صغيرة لهيب النار تقترب من ذلك الحرم العلوي الذي كان سبب قدومه للعراق . ويطلب من بغداد ان تحترمه وان لا تجتاحه ، وان لا تصبغ أرضه بالدم.

وانتظر اياماً وليالي يبدو من خارج ذلك البيت وكأنه ساكت لا يكترث. وعندما فحصه الطبيب آخر مرة سأله: هل سأعود اليك ثانية ؟ فقال له كلا ، بل ترتاح في بيتك . وعندها قال : اريد الرجوع وفوراً وبدون تردد ، وبقرار كان يقلبه في ليل لا ينام منه الا سويعات قليلة ، ويحسب فيه كيف ينقذ ما يمكن انقاذه . وأراد ان يكون رجوعه صرخة مدوية ، وصوتاً يجمع فيه الفقراء الذين طحنهم موت يومي ، ويوقف زحف الدبابة التي تزأر في شوراع النجف الوديعة، ويقول لعلاوي إن الحل عنده وان الصبر قد نفد.

ولكن يبقى جرح العراق ينزف في أنحاء جسده المتعب، لأن العلاج هو حبوب مهدئة فقط لا تبرئ ولا تشفي.. ويبقى السيستاني سؤالا لم تكتمل الإجابة عنه.